جذريَّة العلاقة الجزائرية المشرقيَّة

،أنشر في زاويتي هذه، مقالة للكاتبة الجزائرية علجيَّة عيش حول جذريَّة العلاقة الجزائرية المشرقية

،ومحورها بحث لي حول الموضوع، ومنه كتابات لكارل ماركس أثناء إقامته في الجزائر خلال حكم الاستعمار الفرنسي

،وهذه مقالة قديمة لكنني عثرت عليها في الآونة الأخيرة، ورأيت أنها جديرة بإعادة النشر، لكنني مع الأسف لم أعرف في أي وسيلة إعلامية نُشرت

علجية عيش

 (الأمير عبد القادر كان همزة وصل بين الجزائر والمشرق العربي)

( كارل ماركس شوّه الكثير من الحقائق التاريخية أثناء إقامته في الجزائر)

في شهادته يقول الإعلامي اللبناني سليمان الفرزلي أن الجزائريين ما كانوا في يوم من الأيام، قبل الإستعمار وبعده، بحاجة إلى هوية أو البحث عن هوية مفقودة، ومن يعتقد ذلك فهو يحمل في طياته انحرافا تاريخيا، لأنه يسعى إلى تشويه حقيقة الثورة الجزائرية. الملاحظ في ورقة هذا الإعلامي أنه ربط صورة المشارقة للثورة الجزائرية بنظرة الفيلسوف كارل ماركس لها . .بحيث تحفظ عن ذكر بعض الحقائق، ولم يذكر الرسائل التي كان يرسلها كارل ماركس من الجزائر، وموقفه السلبي من معاملة الإستعمار الفرنسي للجزائريين وإدانته الشيخ بوعمامة

معرفة المشارقة بالجزائر وبآفاق دورها التاريخي سابقة كثيرا لبقية العرب الذين تعرفوا عليها من خلال ثورة الخمسينات من القرن الماضي، فقد عرفها المشارقة وبخاصة سوريا ولبنان من خلال الأمير عبد القادر الجزائري الذي أقام في دمشق منفيا وكان له دور فعال في إطفاء الصراعات الدينية (الإسلام والمسيحية) والطائفية (السُّنَّة والشّيعة) والحرب الأهلية اللبنانية في منتصف القرن19، وهاهو صَوْتٌ مشرقي أبى إلا أن يؤرخ لهوية الجزائر وعروبتها ويقول أن عروبة الجزائر كانت سابقة للتعريب بأجيال، فقد سالت الكثير من الأقلام العربية المشرقية بالخصوص في الكتابة عن ثورة الجزائر بمنطلقاتها الأصلية، فكانت موقعاًحصيناً مانعاً لوأد العروبة ووضعها في الإطار التاريخي الثقافي الصحيح، هذا الصوت القادم من بيروت كان له صدى واسع على مستوى الإعلام العربي وهو يؤرخ لأحداث الجزائر منذ الإحتلال الفرنسي لها إلى غاية الإستقلال وما حظيت به من دعم مادي ومعنوي، بلغ حد التقديس، في ورقة له تحت عنوان: " جذرية العلاقة الجزائرية المشرقية" ليس من داخل مصر فقط كما روجت له بعض الأقلام، بل من داخل دول عربية أخرى، فعلى غرار العديد من الأصوات العربية، كان الكاتب والمحلل اللبناني "سليمان الفرزلي" واحدا من هذه الأقلام التي قدمت رؤية تحليلية للإشكالات الإستقرائية في الحالة الجزائرية، ما يميزه عن الآخرين هو أنه كان صوتا عربيا لكن بخصوصية افريقية، خاصة وأنه الساحة السياسية اتسمت الخصوصية الجزائرية بالهيمنة الاستعمارية التي خضعت لها الجزائر طيلة 130 سنة، وجعلت منها حالة خاصة في المغرب العربي والمشرق العربي.

وبناءً على هذه المفارقات جاءت قراءة الكاتب والمحلل اللبناني سليمان الفرزلي كرد على بعض المثقفين السودانيين وقولهم أن الإستعمار أقام في البلاد منشآت وبنى تحتية (سكة حديدية) ومؤسسات التعليم والصحة وما إلى ذلك، واستمر وجوده في الجزائر، أي أن الجزائر تحررت عسكريا فقط، في حين ظلت مخلفات الإستعمار في شتى المجالات، عاشت فيه الجزائر مرحلة جد قاسية ما بعد الإستعمار وهي التي دفعت إلى ظهور العنف في بداية التسعينيات، شهدت توجهات عنيفة للحركات الإسلامية كمطابقة قسرية بين العنف والفكرة الجهادية، من أجل نصرة قضايا الأمة لاسيما ما تعلق بقضية التعريب ووضع حد للصراع بين الفرانكفونية والعروبة، الملاحظ أنه من أبرز ما تميزت به الثورة الجزائرية هو أنها تزامنت مع المدّ القومي العربي الناصري، ما جعلها تنتقل من إطار تاريخي إلى إطار تاريخي آخر مختلفا عن الأول، كما تزامنت مع ظهور الحركات الإشتراكية العربية التي ساهمت بشكل كبير في إبراز الواقع الجزائري، واعتبار أن الثورة الجزائرية في جوهرها هي مناهضة وجودية لفرنسا وللثقافة الفرنسية أكثر مما هي مناهضة للفكر الإستعماري، هكذا يقول الفرزلي وهي حقيقة غير قابلة للنقاش.

 فقضية التعريب في الجزائر كما يراها الإعلامي سليمان الفرزلي من أهم وأبقى إنجازات الثورة الجزائرية كعنوان ثابت للهوية الثقافية والوطنية تعرض هو الآخر لمطابقات قسرية، بحيث جعلته الحركات الإسلامية هوية عقائدية لغايات سياسية من خلال مصادرته تحت عنوان آخر، فرغم الدور الذي لعبته مصر الناصرية في دعم الثورة الجزائرية، إلا أن المعرفة المصرية بالجزائر ظلت أدنى بكثير من معرفة اللبنانيين والسوريين بها في منتصف القرن الـ: 19، حتى أن المفكر والفيلسوف " كارل ماركس" الذي كان مقيما في الجزائر في ستينيات القرن التاسع عشر (19) كان يتابع عبر الصحيفة الأمريكية "نيويورك تريبيون" أحوال بلاد الشام والصراعات الأهلية فيها من الأخبار التي كانت تنتقل إلى الجزائر عن طريق الأمير عبد القادر. أمضى كارل ماركس أزيد من شهرين في مدينة الجزائر، واطلع على أوضاع سكانها، كان كارل ماركس يراسل صديقه فرمييه من الجزائر ويزوده بكل الأخبار، ويصف له بشاعة الإستعمار الفرنسي ومعاملته للجزائريين، كما كان كارل ماركس يراسل ابنته لاورا من الجزائر، وكانت رسالة مطولة كتبها بتاريخ 13 أفريل 1882 دون فيها معلومات خاطئة عن إعدام الشيخ بوعمامة . واصفا لها تلك الواقعة بشكل غير مباشر، رغم أنه يدرك أن الشيخ بوعمامة لم يعدم ، وأن السلطات الاستعمارية منحته الآمان، بعد مفاوضات، لينتقل بعدها إلى المغرب، وظل فيه إلى أن وافته المنية في 1908، وهذا موقف سلبي منه كونه اقتصر في معاتبة الفرنسيين دون أن يدين جرائمهم.

 

:لبنان... والحرب الأهلية المستدامة (50 – الأخيرة)

مدرسةُ المواطنة" للحاكم والمحكوم"

 

مئة سنة على "لبنان الكبير"، ولم يصبح وطناً ودولة.

.إحدى وثمانون سنة، من عمر الزمن، على الاستقلال، والبلد لم يستقل، تابعٌ من يومه لم يعرف معنى السيادة، وحريته منتكسة، مغموط الحق من كل جانب، لا يعيش الا بالوصاية الخارجية

.خمس وثلاثون سنة، على "اتفاق الطائف"، الذي وعد بالسلم الأهلي وبالدولة، فلا السلم استتب، ولا الدولة قامت، لأن "الطائف"، كان ميثاق طوائف، لم يقدم البديل الصالح، بل أحيى النظام الطوائفي، الذي أسقطته الحرب الأهلية.

.بلد بعض ناسه يوالونه، وبعضهم الآخر يعيشون فيه ويوالون غيره. ديموقراطيته نفاق، وبرلمانه ليس مصدر السلطات وصاحب السيادة، فنبتت على حوافه دويلات، وتشكلت مافيات، سرقته وسرقت ناسه

:وقفة وأسئلة

متى الخروج من دوامة الحرب الأهلية المستدامة، وما نتج عنها من تفكك، وانحلال، وضياع، وانهيار للدولة، وتيه في المجتمع المشلَّع، الذي تتناهشه المليشيات، وما عاد ناسه يتشابهون في أسلوب حياتهم، وثقافتهم؟

كيف التخلص من الأنماط المتنازعة، المزعزعة للاستقرار، منذ صيغة القائمقاميتين في القرن التاسع عشر، إلى التوليفة الطائفية في الطائف في القرن العشرين؟

متى، وكيف، يصبح لبنان وطناً ودولة مثل أوطان ودول الناس الآخرين؟

!"الفدرالية"

.كفى لفظ الكلمة أمام أي سياسي لبناني حتى تصبح من الآثمين، وتثور في مخيلته أشباح "التقسيم"، وتصبح الكلمة من المنكرات، والتلاعبات السياسية الخرقاء

في هذا يتساوى السياسيون اللبنانيون مع السياسيين الإسبان، الذين رفضوا "الفدرالية" أو "الاتحاد الفدرالي" بعد الحرب الأهلية، وقيام حكم ديكتاتوري فاشي قاسٍ بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو. وبعد تسعة عقود من الرفض والتحفظ عادوا يتلمسون خطاهم نحوها كمخرج حضاري نهائي، من غير أن يسمُّوها باسمها. فالشيء الأهم هو الفعل وليس الاسم

لم يلغِ بعض اللبنانيين من أذهانهم أن "الفدرالية" تعني التقسيم، الذي يباعد بينهم ويقيم الأسوار العالية، ويتعامون عن حقيقة أن التقسيم الفعلي أصبح واقعاً لا يمكن إنكاره، على أعلى درجات السلبية والتنافر.

لا أحد من السياسيين يريد أن يعطي مسألة "الفدرالية" أي فرصة لمناقشتها، أو حتى ذكرها. وأقصى ما يذهب اليه بعضهم في المواربة، هو طرح أسماء بديلة مثل "اللامركزية"، أو "اللامركزية الموسعة"، كما جرى التداول في الطائف، وهي مسميات تلفيقية مثل "التوافقية"، و"الميثاقية"، و "الوحدة الوطنية"، و"التشاور"، و"طاولة الحوار"، وما الى ذلك من وسائل للانعطاف عن الحل الذي يؤمِّن الوحدة الحقيقية في الوطن.

حدث في مطلع ستينات القرن التاسع عشر، أن تزامنت الحرب الأهلية الاولى في جبل لبنان (1860 - 1864)، مع الحرب الأهلية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية (1861 - 1865)، لأن الولايات الجنوبية أرادت الانفصال عن الاتحاد تحت شعار "الكونفدرالية". لكن النصر في تلك الحرب المدمرة حالف الدولة الفدرالية، فبقيت الولايات المتحدة دولة اتحادية متماسكة ومتقدمة الى يومنا هذا، والأولى والأقوى في العالم.

أما الحرب الأهلية في جبل لبنان فانتهت الى تقسيم الجبل بعد تسوية برعاية دولية أطلقوا عليها اسم "القائمقاميتين". أي أن لبنان الصغير، آنذاك، صار لبنانين أصغرين، وبقي منقسمًا على ذاته بعد تكبيره، بحيث أطلق الرئيس صائب سلام بعد "ثورة 1958" شعار "لبنان واحد لا لبنانان"، لشعوره بأن تلك "الثورة"، او الحرب الأهلية المصغَّرة، تحمل بذورًا تقسيمية كما قبل مئة سنة في لبنان الصغير.

لكن لبنان الواحد، حسب شعار صائب سلام، بقي لبنانين الى ان انفجر من جديد بعد سنوات في حرب أهلية مدمرة دامت خمسة عشر عامًا، وما زالت دائرة بطرق أخرى.

إن نظرة خاطفة الى الدول الفدرالية في العالم، تبيِّنُ ان النظام الفدرالي كان غلاَّباً، لأنه أكثر النظم اتحادية، وأكثرها قابلية للتقدم، خصوصًا في الدول التي شهدت حروبًا أهلية مدمرة بهدف التقسيم، أو عالمية ساعية الى الهيمنة، فكان التقسيم من نتائجها، كما في الحالة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.

قد يكون البروفسور الأميركي مارتن دياموند (1919 – 1977)، من أشهر المفكرين الذين تناولوا الفدرالية بالبحث، وجمع محاضراته حولها تحت عنوان لخَّص ما رمى اليه: "الى أقصى ما تسمح به المبادئ الجمهورية". ومن مآثره الدستورية أيضاً مطالعته أمام اللجنة القضائية الفرعية في مجلس الشيوخ الأميركي، يوم وفاته، ضد المطالبين بإلغاء "المجمع الانتخابي" الذي يقرر تثبيت أو رفض المرشح الفائز بانتخابات رئاسة البلاد.

وصف البروفسور دياموند "الفدرالية" بأنها "مدرسة في المواطنة للحكام والمحكومين"، وأنها حافظة للحريات، وآلية فعالة للاستجابة السريعة والمرنة لحل المشكلات. وهي نظام سياسي يسمح بقدر كبير من الحكم الذاتي للأقاليم، ويُشجِّعُ المنافسة بينها بما يُشيع مناخاً من الابتكار والإبداع، والتقدم، بحيث يُحدُّ من توسُّع الإدارة الحكومية المركزية، فتخفُّ النزاعات بين مكونات البلاد.

إن الأركان الأساسية للنظام " الفدرالي"، تحقق الاستقرار، والاحترام المطلق لحكم القانون، ثم إنه لا علاقة له بكيفية تحديد الأقاليم المتحدة، فهذه يمكن أن تكون بأشكال وأنماط مختلفة. ففي الهند، على سبيل المثال، يُعطي النظام الاتحادي مقاطعات معينة، لها خصوصيات ثقافية أو عرقية، أو دينية، هامشاً أوسع من الحكم الذاتي، مما يسهل استيعابها وتعايشها في إطار الاتحاد مع الآخرين بسلام ووئام.  وهذا ما حصل لمقاطعة "غووا" التي كانت تحت الحكم البرتغالي.

لا أحد يُنكر أن النظام الفدرالي في أحيان كثيرة يولِّد بعض الحساسيات المجتمعية الناشئة من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي بين المكونات، وبين القوى السياسية المتصارعة على السلطة، لكن الحالة الاتحادية الجدية من شأنها أن تسرِّع في التقارب وتمنع التنافر. ففي الأصل، ما كانت هناك حاجة الى النظام الاتحادي لولا طبيعة الفروقات العرقية، والثقافية، والدينية، بين مختلف المكونات.

لقد أجمع الدارسون للأوضاع الفدرالية في العالم، على أن أصعب العقبات في وجه الخيار الفدرالي القرارات السياسية المتخذة سابقاً، والمزعزعة لاستقرار البلاد الى درجة استحالة تصحيحها بالأدوات والأفكار المسببة لعدم الاستقرار وصولاً الى الحرب الأهلية.

أما العداء اللبناني المتأصل للفكرة الفدرالية، فلا يعود الى خلل في تلك الفكرة الراقية والمجرَّبة، بل الى عطل في العقل الإقطاعي، الطائفي، الميليشياوي، المافيوي، المتحكم بالشعب اللبناني والممسك بخناقه، وهو عقلُ يتعيَّش ويرتزق تاريخياً، من توليد الأزمات واستدراج دول خارجية للتدخل فيها لمنافع ذاتية، لا علاقة لها بمصير الشعب، ولا تقيم له وزنًا، بل تستخدمه كمجرد وسيلة، أو كوقود في الحروب المتجددة، أو كبقرة حلوب تنهبُ جناه إذا جفت مصادر ارتزاقها الخارجية.

إن الأزمة الكبرى التي ضربت الشعب اللبناني في عمق وجوده ومصالحه ومستقبله، قد تكون فرصة لتغيير جذري في تركيبة النظام، والتخلص من الرواسب المقيتة التي جعلت القتلة، والنصابين، والمشعوذين، أوصياء عليه، ومستغلين له.

.فالشعب الذي لا يستطيع أن يحوِّل الأزمات الخانقة الى فرص منعشة، لن يكون له مستقبل إلاَّ في ماضيه.

 

لبنان... والحرب الأهلية المستدامة (49)

!القضاء الغافل

 

 

زمن الانتداب الفرنسي، (1920-1943)، كان القضاء في لبنان مختلطاً، حيث، تتمُّ المرافعات، وتُنطق الأحكامُ باللغتين العربية والفرنسية. وتوجَّب على المحامين أن يكونوا على دراية بالقوانين الجزائية والمدنية،  الفرنسية واللبنانية، في آن معا.

زمنداك، كان القضاءُ، منيراً، ومستنيراً، يُشعٌّ عدالةً، وميزانه متساوي الكفتين.

في تلك المرحلة من الحياة القضائية، برز محامون، من الطبقات العلى، كان الناس يتهافتون إلى المحاكم العدلية، للاستمتاع بمطالعاتهم في فقه القانون، ولبلاغة مرافعاتهم في القضايا المدنية والجزائية، فهم فُتِحَ لهم في اللغتين العربية والفرنسية، وفي فن الخطابة، ما لم يُفتحْ لسواهم من أبناء الوطن. وتلك عادة، متجذرة في القدم، تعود إلى القرون الأولى قبل الميلاد، أيام الجمهورية الرومانية، وعلى تقاليدها أُنشأت مدرسة للحقوق في بيروت، فكانت منى، ومقصد طلاب القانون، في جميع أنحاء الإمبراطورية المترامية الأطراف، فاستحقت بيروت أن تكون "أم الشرائع".

كشفت أعمال التنقيب عن الآثار في مدينة "بومبايي"، في الجنوب من إيطاليا، التي طمرتها حمم بركان "فيزوفيوس" عام 79 للميلاد، عن مجمع قضائي، يؤمُّه المحامون الجدد المغمورون، متبرعين بخدماتهم للمتقاضين مجاناً، كان يُطلق عليها "برو بونو" (ما زالت قائمة في الغرب)، وذلك استعراضاً لمهاراتهم في المرافعة لاستجذاب الموكلين في المستقبل.

عام 1960، قبل أن أنهيت دراستي الجامعية في جامعة بيروت الأميركية، حضرت محاكمة صديق لي كان يزاول التدريس في مدرسة ابتدائية بقريته، اتهم بناءً على إفادة كاذبة بجريمةِ قتلٍ لم يقترفها. من البداية، حكم عليه بالإعدام، وثُبت الحكم في الاستئناف، فانتقلت دعواه الى محكمة التمييز، كان الناظر فيها القاضي محمود البقاعي. أعطى الكلام لمحامي الدفاع الذي ألقى مطالعة لفتت انتباه رئيس المحكمة ببلاغتها، وحججها، فراح يخطُّ ملاحظات على دفترٍ أمامه. فقال له المحامي: "عندما أراك، يا سيدي، تسجل كلامي أفرح، لكنني أيضاً أرتعد".

سررت كثيراً يومها لأن صاحبي خرج بريئاً، ولأنني ذُهلت بمستوى الحضور، من محامين وقضاة ومشاهدين.

هذه السمعة النقيَّة والعالية للقضاة والمحامين، فقدها لبنان بفعل الحرب الأهلية المستدامة، كما فقد أشياء كثيرة جميلة وراقية، فمن كان يُفكر، في أواسط تسعينات القرن الماضي، وقد استتب السلم الأهلي تحت الوصاية السورية بعد "الطائف"، أن يأتي اليوم الذي يتجرأ فيه مسلحون في مدينة صيدا على اقتحام قاعة للمحكمة فأردوا أربعة من القضاة قتلى وهم على قوس العدل.

بعد تلك الحادثة المروعة، دخل القضاءُ في لبنان في حالة من الانفصام القانوني، فأصبح غافلاً عن أداء دوره في إحقاق الحق، وانتصاب العدالة، ما يسمح بالقول إنها "حرب أهلية بين القضاة"، بلغت أشدها في مهزلة التحقيق العدلي بحادث تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب / أغسطس عام 2020.

مع أن هذه الحالة غريبة ومستهجنة، إلاَّ أنها عادية وطبيعية في دولة تعاني من الفشل، والشلل، والانحلال، في مؤسساتها، واقتصادها، وكيانها السياسي، والاجتماعي.

إن "الحرب الأهلية" القائمة بين القضاة في قصر العدل، بعد إضرابهم لأشهر طويلة، ما هي إلا انعكاسٌ للحرب الأهلية العسكرية، والسياسية، والاقتصادية.

فلو كان تحقيق العدالة هو التوجُّه الأساس للقضاة المتحاربين، لكان عليهم البتُّ في قضية انفجار المرفأ، وغيرها من القضايا النائمة في الأدراج منذ سنين عديدة، وخصوصاً البت في مصائر عشرات الموقوفين في السجون من غير أن ينظر في أمرهم أحد، خلال وقت معقول، وليس على أساس "الوقت المفتوح" الى حين وقوع كارثة ما، فالقضاءُ غافلٌ وما عاد العدل أساس الملك.

لكن ما يثير الدهشة والقلق لدى اللبنانيين عموماً، ظالمين ومظلومين، أنَّ العدل اللبناني بات انتقائيَّاً أو استنسابيَّاً، حسب مؤثرات من خارجه. وهو ما سمح لوزير الداخلية محمد فهمي في حكومة حسان دياب، بالقول في مقابلة تلفزيونية بُثَّت في 26 من تشرين الثاني / نوفمبر 2020، أنْ 95 بالمئة من القضاة فاسدون. وكانت لهذا التصريح ردود فعل من بعض القضاة سرعان ما خفَّت حدَّتها وانطفأت.

في القرن الخامس قبل الميلاد عالج المؤرخ والمفكر الإغريقي ثوكوديدس قضية العدالة والفساد، في كتابه القيم عن الحرب الأهلية بين أثينا واسبارطة ("حرب البيلوبونيز")، فذكر في مقدمته إنه كتبه لجميع الأزمنة، بما فيه زماننا الحاضر بعد أكثر من ألفي سنة، وتحت عنوان "الطبيعة البشرية والسلطة والعدالة"، قال:

 "إنَّ الطبيعة البشرية يمكن أن تنحدر الى الفوضى الشاملة، عندما تصاب المؤسَّساتُ العامَّةُ بالفشل، في حالة الحرب الأهلية وانتشار الأوبئة القاتلة للناس بصورة جماعية".

فعندما تكون الدولة في أوج عظمتها، تُحقق الطبيعة البشرية، مع السلطة، وتحت ضوابط العدالة، إنجازات خارقة. لكن ذلك يمكن بين ليلة وضحاها أن ينقلب الى أفعال جرمية شنيعة عندما تتهاوى مقومات المجتمع وتنحدر الى الفوضى.

.“إن تفكك الدولة وانهيارها يؤديان الى انحلال أخلاقيات المجتمع، وانتفاء الفضائل، فتختفي القوانين والأنظمة وتتوارى العدالة، وتنحلُّ الديموقراطية، لتحل الفوضى ويسودُ حكمُ الرعاع

عندما تسودُ العقليَّةُ المافيوزية، تسقط الفضائل المكتسبة من حالات التميُّز والتألُّق السابقة، فكأنها لم تكن.

إن العدالة في لبنان باتت مهلهلة الى درجة تبدو معها أوضاعها أيام القاضي عدنان عضُّوم في مرحلة الوصاية السورية مشهداً لائقاً. ومن أوضح الأدلة على ذلك مسألة الموقوفين في سجن رومية لسنوات طويلة من غير محاكمة. وبعد أخذ ورد، ومداولات عقيمة، قرَّر القائمون على العدلية بناء قاعة للمحكمة داخل أسوار السجن (لئلا يهرب السجناء عند نقلهم الى محاكم خارجه)، كلَّفت خزينة الدولة عدَّة ملايين من الدولارات، والى اليوم بعد أكثر من عشر سنوات لم تُدشَّنْ تلك القاعة بأي محاكمة علنية.

ولذلك، يمكن الجزم، بدرجة عالية من اليقين، بأن العدالة الانتقائية أو الاستنسابية لا تنطبق عليها مواصفات العدالة لبلد يزعم أنه تحت نظام ديموقراطي برلماني، حيث مفتاح البرلمان في جيب رئيسه المزمن يفتحه متى شاء ويغلقه متى شاء. فلا عجب، والحالة هذه، أن يطوي المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت ملف تحقيقاته لسنوات، ليعود وينفض عنه الغبار ويفتحه، بما يُشبه العاصفة الهوجاء، ثم يُطوى من جديد لينام في أدراج النسيان، فسقطت هيبة القضاء، ومعها مستقبل العدالة في لبنان، فلم يعد بإمكان أي مواطن أن يحصل على حقه الطبيعي أمام المحاكم.

إن مبدأ فصل السلطات في لبنان هو كلام وهمي، وسيظل كذلك، طالما أن الأقوياء من السياسيين (أي الذين يستندون الى ميلشيات أو قوى مسلَّحة خارج إطار القوى الأمنية النظامية)، يستطيعون أن يتحكموا بملفات القضاء، كما يتحكمون بملفات التشريع في البرلمان، والاستحقاقات الدستورية، وعمل الإدارات العامة، كل هذا إضافة الى مختلف أنواع التزوير والتبرير المخالف أخلاقياً للانتظام العام.

طبعاً، لا يمكن للبنانيين أن يجنوا من الشوك عنباً، فالسلطة الميليشياوية المافيوزية، الحاكمة والمتحكمة، لا ترغب في إقامة قضاءٍ مستقلٍّ وعادل، لأَنَّ ذلك يعطِّل مصالحها غير المشروعة. فالنظام الفاسد، بطبيعته، منافٍ لمبدأ القضاء النزيه، أو الإدارة النظيفة. 

إن القضاء اللبناني معطَّل عن العمل، خارج إطار العدالة، ولذلك يبدو ظالماً في وجه من أوجهه، كما حدث بالنسبة الى الموقوفين تعسُّفاً في قضايا عديدة مزمنة. ومن هذه الناحية فهو قضاءٌ غيرُ سوي، ولو أنه ما زال في عداده قضاةٌ فوق الشبهات.

لذلك، فإن القضاء في "لبنان الميليشياوي" هو مفهوم افتراضي، طالما أنه عاجز عن تحقيق العدالة للمواطنين كأفراد، وللجميع كمجتمع. فهو يحمي مصالح حقيقية غير شرعية للمتنفذين، لأنه عاجز عن الوقوف في وجههم.

إنَّ الاستقواء على الضعفاء ليس عدالة.

:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (48)

!“التوافُقِيَّة ”النِفاقِيّة

2024/04/15

إذا كانَ “اتفاقُ الطائف” وَضَعَ حدًا، ولو إلى حين، لإسالة الدماء والخراب والدمار في ما سُمِّيَ “السلم الأهلي”، الذي أغفلَ المصالحة الوطنية الحقيقية، فإنهُ قضى على النظامِ الديموقراطي البرلماني، الذي ارتضاه اللبنانيون بعد الاستقلال نهجًا لحياتهم السياسية ولحُكمِ البلاد.

بعد عقودٍ ثلاثة من الوصاية السورية، تواصَلت الأزمات، وباتَ تشكيلُ السلطة عصيًّا. فتبقى البلاد، وقتًا طويلًا، قارب السنة في مرَّات، بلا حكومة ومن دون مُهَلٍ دستوريةٍ ضابطةٍ للعملِ السياسي، بسببِ اعتمادِ أُسلوبِ حُكمٍ يقومُ على تقاسُمِ الطوائف لمغانم السلطة في إجماعٍ وطني مُخادِع، أطلقوا عليه “الديموقراطية التوافقية”– البِدعة.

إنَّ هذا المُصطَلَح-البِدعة، لا يمتُّ بصلةٍ إلى النظامِ الديموقراطي، المنصوص عليه في القوانين الدستورية والذي يقف على ساقَين: الأغلبية المُوالِية، والأقلّية المُعارِضة. فيستقيمُ عملُ البرلمان في مُحاسَبَةِ السلطةِ التنفيذية، وينتَظِمُ حُكمُ البلاد.

فما “الديموقراطية التوافقية” سوى توليفة لا دستورية لجَمعِ الطوائف، وإغراء وإرضاء الأحزاب المُتناحِرة والمُتنافسة لتقاسُمِ المغانم، وهذا ما درج اللبنانيون على تسميته ” المُحاصَصة”.

هذا الترتيب أراحَ سلطةَ الوصاية ومَهَّدَ لها إحكام السيطرة على الوضعَين السياسي والأمني في البلاد.

لقد أثبتت مُمارسَةُ المُتعاقِبين على الحُكم، بعد الطائف، أنَّ بِدعةَ “الديموقراطية التوافقية”، أفرزت ما يشبه “التوتاليتارية”، فأعطت الطوائف الكبرى لنفسها “حق النقض” عند اقتسامها السلطة مع الطوائف الأخرى، فراحت تُعطّلُ تشكيل الحكومات، ثم تُعيقُ عملها بامتلاكها “الثلث المعطل”، وهذه أيضًا بِدعة تم التوافق عليها في مؤتمر الدوحة، الذي انتهى بانتخاب الرئيس ميشال سليمان، ليُعاني حكمه، من هذه البِدعة المخالفة للأعراف والقوانين الدستورية.

إنَّ “الديموقراطية التوافقية” تحمل في كلمتَيها تناقُضًا جوهريًا يجعلها في الواقع العملي لا بهذا المعنى ولا بذاك، فلا يصحُّ فيه وصف “الديموقراطية” ولا وصف “التوافقية”، بل هو فذلكة ملفَّقة قائمة على النِفاقِ بين مكوّنات السلطة الجماعية. فإذا كانَ المطلوبُ تلفيق التفاهم بين قوى سياسية لا يجمعَها جامعٌ، ولا يمنعَها مانعٌ، فإنَّ ذلك، إن حدث، يعني أحد أمرَين: إمّا أنهُ مُمارسة غير ديموقراطية بالتفاهم غير المُعلَن بين الأضداد على اقتسامِ المنافع، أو أنَّ الأوصياء الخارجيين على القوى الداخلية قد تفاهموا على تسوياتٍ في ما بينهم ليست لها علاقة لا بمصالح اللبنانيين ولا بالديموقراطية.

بهذا المعنى كتب جورج خضر، مطران جبل لبنان السابق للروم الأرثوذكس يقول: “الديموقراطية التوافقية، هاتان كلمتان مُتنافرتان في علم الدستور. فالديموقراطية قائمة على الاختلاف، والخلاف، والتنافس، الذي ينتهي إلى قرارٍ يُذعن له مجلسُ النوَّاب، لأنَّ المجلسَ يؤلفُه القانون، ولا تؤلفُه اللُّحمة المرادفة للتوافق”، (المطران جورج خضر، جريدة “النهار”، 8 كانون الثاني/يناير 2008).

فالاختلافُ في الجسمِ السياسي والشعبي هو من السمات المُميِّزة للممارسة الديموقراطية التي يحسمها التصويت على الخيارات. وهو الشيء الصحّي في المجتمعات الديموقراطية، لأنَّه يقوم على النقاش الحر الذي بدوره يُحسِّنُ المجتمع من خلال توضيح القضايا التي تؤَمِّن مصالح الناس، خلافًا للتوافق النِفاقي الذي يؤَمِّن مصالح السياسيين على حساب الناس.

إنَّ المسلكَ السياسي الطليق، الذي يقوم على التعبير الحر والنقاش المنفتح والنقد السليم، من شأنه أن يُعزِّزَ حرية المجتمع ويكمّلها. فمن دون هذه الحرية فإنَّ الأكثريات المتجانسة في تفكيرها السلطوي تُصبحُ أقلَّ تسامحًا وتقبُّلًا للنقد، فتسيرُ باتجاه حُكم الاستبداد.  وهذا ما يجعل مقاومة الناس للأنماط الاجتماعية السائدة واجبًا بحدِّ ذاته، (المفكر البريطاني في القرن التاسع عشر، جون ستيوارت ميل، من كتابه “في الحرية”).

ما كانَ يُميِّزُ لبنان في المرحلة بين قيام دولة “لبنان الكبير” واندلاع الحروب الأهلية، الباردة والساخنة، منذ أول محاولة لتطويع دستور 1926، أنه قام على الحرية التي هي أرفع سموًّا من الديموقراطية، فلا معنى للديموقراطية من غير حريَّة.

إنَّ الأوضاعَ التي سادَت في مناخاتِ الحَربِ الأهلية، حيث القيمة للتعصّبِ وللسلاح، أعطت الحريًّة معنى “الغوغائية”، وجعلت الانتخابات مُرادِفة للديموقراطية. فالانتخاباتُ من أدواتِ الديموقراطية لكنها ليست إياها.

هناكَ دولٌ استبدادية عديدة في العالم تُراعي في الشكل العملية الانتخابية، وتَحرُصُ على انتظامها، وعلى شموليتها، لتغطيةِ جوهرِها الاستبدادي بغلافٍ “ديموقراطي”.

القواسم والتوجّهات المشتركة، تُوَثّقُ التحالفات بين القوى السياسية، إلّاَ أنَّ هذه التحالفات تُصبحُ ظرفية ومَرحلية، عندما لا تكون قائمة على أُسُسٍ وأهدافٍ واضِحة أُشبَعَت نقاشًا. فالمُناداةُ بالديموقراطية التوافقية، كما نشأت وامتدَّت بفعلِ سلطةِ، أو تسلُّطِ، أمراء الحرب على الدولة ومؤسَّساتها، هي في الواقع من مظاهر “الجدب الفكري” لدى السياسيين الذين تعاقبوا على الحُكمِ بعد “الطائف”.

لذلك، لم تَعُد الأحزابُ اللبنانية بحُكمِ مشاركتها في الحرب، وبعدها في اغتصابِ السلطة زمن السلم، بمُساندةِ وصاياتٍ خارجية، أحزابًا مُفكِّرة كما كانت الأحزاب القديمة المُوَلِّدة للأفكار.

عندما يُهَيمِنُ السلاح في الحروب كافة، لا يعود هناك مكانٌ أو متَّسعٌ للأفكار الحرَّة، فيسودُ التسلُّطُ سواءَ باسمِ “القضية”، أو باسم “الأمن القومي”، أو “السلم الأهلي”، أو “المصلحة العامة”، أو أيّ مسمى أو مصطلح آخر. ذلك أنَّه عند الاحتكامِ إلى السلاح تُصبِحُ القوَّة المجرَّدة، أو الغاشمة، هي أداة الحسم، فتُلغي الأفكار وتُقصي الإنسان المفكِّر أيضًا.

ما شهده لبنان خلال نصف القرن الأخير هو تنافر السلبيات، ومنها في المقام الأول تنافر السلبيات المسلَّحة. وقد استشرف الصحافي والسياسي جورج نقاش هذا الواقع، فكتب قبل 75 سنة (10 آذار/مارس 1949)، في افتتاحية جريدة “لوريان” التي كانت تصدر باللغة الفرنسية: “سلبيتان لا تصنعان أمَّة”. ولهذا لم تنجح أيّ صيغة حتى الآن في جعل الاختلاف وِحدةً في الوطن، فخسر اللبنانيون، كل اللبنانيين، ليس ودائعهم ومدّخراتهم في المصارف فقط، بل بوضعهم في الجانب الخاسر من التاريخ، بمعنى خسارة مستقبل أجيالهم في الوطن، وبالتالي حرمانهم من مزايا التقدُّم والإبداع والإشعاع، حيث قابلياتهم التاريخية.

إن إعادة تركيب الوضع اللبناني باتت محصورة بين مسارَين: الاستمرار في التركيبة القائمة على “الوصاية الدائمة”، والتجارب أثبتت أنها تركيبة هدَّامة وفاشلة، أو إعادة التفاهم على نظامٍ سياسي بنَّاء يستبعد الفذلكات الملفَّقة، من أجل تحقيق “الوحدة في الوطن”، وليس “الوحدة الوطنية” الزائفة بين المكوّنات الطائفية التي تتقاسم السلطة على حساب المواطنين باسم “الميثاقية” أو “الديموقراطية التوافقية”، وما الى ذلك من تلفيقاتٍ نِفاقية.

:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (47)

!الدُستورُ الهَجِين

2024/04/14

يوم ذكرى الاستقلال (22 من تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1989)، اغتِيلَ اثنان في لبنان: رينيه معوَّض، أول رئيس للجمهورية، بعد ما سُمِّي “السلم الأهلي”، و”اتفاق الطائف”، الذي وضع قواعده ونُظُمه.

لقد أدّى هذا الاغتيال إلى القضاء على “الاستقلال”، وعلى “المصالحة الوطنية الحقيقية”، ورسَّخَ، بموافقةٍ دولية، “الوصاية السورية”، ليبدأ معها، وبإشرافها ورعايتها، حُكم “أمراء الحرب”.

صار الدستور، بعد هذا الواقع المُستَجِّد، وكأنه لزومُ ما لا يلزم. تجاوزوه، وصاغوا مصطلحات هجينة على علم القانون الدستوري، لتفسير مضامينه، ومراميه، على هواهم، وما يخدم مصالحهم، ويُثَبِّتُ تحكّمهم وتسلّطهم، مثل “الميثاقية”، و”الديموقراطية التوافقية”، فادخلوا البلاد، تحت “حُكمِ الأمر الواقع”، في أزماتٍ مُتواصلة، مفتوحة على المجهول، الذي سمُّوه مرة “الوحي”، ومرة “كلمة السر”، ومرات “الحوار للتوافق”… مع العلم أنَّ الدستورَ وُضِعَ في الأصل، لتنظيم الحياة السياسية، واستقامتها، ولإلغاء كل “الفذلكات” اللادستورية.

إدمون رباط، أبو القانون الدستوري، اعتبرَ أنَّ “الميثاقَ وُجِدَ كوظيفةٍ في خدمةِ الهَدَفِ الدستوري، وعليه أن يؤَدِّي إلى الاندماجِ الوطني الذي يمتصُّ الخصوصيَّات الدينية، والمناطقية، ويُغذِّي الحس الوطني، المُندَفِع إلى قيامِ الدولة-الأُمَّة”.

إنَّ أيَّ مُقارَنةٍ بين ما قال إدمون رباط، وبين ما يجري في لبنان تُظهِرُ، منذُ عقودِ الوصاية بعد “الطائف”، أنه ليس دولة دستورية حتى في الشكل. بل هو يسيرُ عكسَ المسار الذي وصفه الدكتور ربَّاط، سواء بوضع “الميثاق” فوق “الدستور”، أو تطويع الدستور ليكون في خدمة خادمه، والأمثلة كثيرة على ذلك ليس أقلّها التمديد المُتمادي للهيئة التشريعية وللهيئة التنفيذية، أو تسيير الدولة من دون ميزانية لسنواتٍ عديدة، وإصدار ميزانيات بعد فوات مواعيدها الدستورية بأشهرٍ ومن غير “قطع حساب” على ما تقتضي الأصول القانونية المرعية الإجراء.

إنَّ وَضعَ “الميثاق” فوق الدستور يُفسِّرُ الإصرارَ على التمسُّك بنظامِ الحصصِ الطائفية، وعلى رَفضِ مَبدَإِ الاندماجِ الوطني، وإضعافِ الحسِّ الوطني لا تغذيته، وبالتالي منع قيام ما سمّاه الدكتور ربَّاط “الدولة–الأمَّة”. وهذا التوجُّه معروفٌ وموصوفٌ، لأنه ليس هناك حتى الآن، ولم يكُنْ يومًا، مقاومة جَدِّيَّة للطائفية. وحتى في الإطار الطائفي، هناكَ تجاهلٌ تام للأسبابِ الحقيقية لأزمةِ النظامِ الطائفي وأهمُّها الإخلال بالشراكة الوطنية. ولذلك أدَّى هذا التجاهل إلى عدمِ الاكتراثِ حتى بتحسين ذلك النظام نفسه لتكون له مقبولية أفضل في ذهن أتباعه على الأقل، ما جعل القَيِّمين على السلطة الطائفية يستسهلون التلفيق والترقيع، كما شاهد العالم كله ما جرى وما يجري في مواضيع أساسية مثل مشاكل النفايات، والكهرباء، وتلوث المياه والبيئة الطبيعية، والصحة العامة، بما فيها الطبابة والاستشفاء والأدوية، وأخيرًا وليس آخرًا المشكلة النقدية والمصرفية، التي أودت بودائع جميع اللبنانيين.

لقد تُرِكَت المسألة الدستورية مُبهَمة عن عمد، ليستحكم الخلاف حول توزيع الصلاحيات بين المؤسّسات الدستورية، وعن قصد تُرِكَت المُهَلُ مفتوحةً وغير مُحدَّدة، فما عاد بالإمكان إنجاز أيّ استحقاقٍ دستوري في موعده، لا انتخاب رئيس الجمهورية، ولا تشكيل الحكومة، ولا الانتخابات التشريعية أو البلدية والاختيارية، وكذلك الأمر في التعيينات للمناصب الإدارية الشاغرة، وإصدار ميزانية الدولة. بينما، بالمقارنة، نجد أن دولةً عنصرية مُعادية مثل إسرائيل، ومُنقَسمة في داخلها إلى أحزابٍ وفئاتٍ مُتعارِضة ومُتناحِرة، لديها حدود دستورية لتشكيل الحكومة لا تتعدى الثلاثين يومًا فقط، إن فَشِلَ الرئيس المُكَلَّف خلال تلك المدة، يذهب إلى بيته، وإن أخفَقَ المُكَلَّف البديل أيضًا خلال المدة الدستورية عينها، يجري حلُّ البرلمان، ودعوة الناخبين إلى اقتراع جديد بهدف إيجاد سلطة تحظى بتفويضٍ شعبي. وقد جرت لهذه الغاية في دولة إسرائيل أربعة انتخابات عامة في غضون خمس سنوات.

ألغى “اتفاق الطائف” الآلية الدستورية التاريخية لحلِّ المجلس النيابي، فصارَ هذا الحلُّ مُستَحيلًا من خلال مجلس الوزراء، فانعكست الآية: التمديد بدل الحلّ. فالتمديد الذاتي، أو أي تمديد في الوظائف العامة، لا يتماشى مع الدستور والحياة الدستورية، ولو كان قانونيًا في الشكل.

إنَّ الخللَ في ميزان القوة بين الطوائف يُعطّلُ العمل الدستوري، فبعدَ الاستقلال كانت “المارونية السياسية” هي الأقوى في البلاد، فحدثَ خللٌ دستوري عندما عُدِّلَ الدستور في سنة 1948 لمنح الرئيس بشارة الخوري ست سنوات أخرى في الحكم. ومنذ ذلك الوقت أصبح الكيان اللبناني عرضةً للاهتزاز، فمالت الحياة الدستورية إلى السلبية، وبات من المُتعذّر تطويرها الى الأحسن، فصار الطريق إلى الأسوَإِ مفتوحًا على مداه وصولًا إلى الحربِ الأهلية وحُكم قادة الميليشيات.

لقد وَضَحَ بما لا يرقى إليهِ الشَكّ، بعد الاختلالاتِ المُتمادية، من “ثورة” 1958، إلى “ثورة” تشرين الأول (أكتوبر) 2019، أنَّ الحياة الدستورية في لبنان لا يُمكِنُ أن تنتظِمَ إلّاَ بتساوي ميزان القوى بين الطوائف المتحاصَّة. وهناكَ على الأقل اثنا عشر عنصرًا ماديًا لقياس القوة الطائفية المُخِلّة بالتوازن الوطني، منها: “التماسك الاجتماعي (شأن البيئة الشيعية الحاضنة للمقاومة)، القدرة على الانضواء تحت قيادة واحدة واضحة الهدف، قابلية الاستنفار والحشد السريع، التحالفات أو الارتباطات الخارجية، الحجم الديموغرافي، حجم مصادر التمويل، الطاقات الفكرية للقيادات السياسية والمرجعيات الدينية، المرونة اللازمة للتحالف مع قوى أخرى أو التفاوض مع قوى محايدة من خارجها، امتلاك وسائل إعلامية مُحصّنة من التفاعل مع مكوّنات البلد الأخرى، القدرة على تفعيل النشاط السياسي والثقافي في الاتجاه الطائفي المتزمت، والديني غير المدني، والجماعة المنغلقة على نفسها غير المنفتحة ديموقراطيًا.

إنَّ الوضعَ اللبناني المُختَل منذ “الطائف”، جعلَ تدخّل قوى خارجية أمرًا حتميًا، وربما ضروريًا، لحلِّ الأزمات الناشئة بين المكوّنات الطائفية الرئيسة. وهذا يعني أنَّ القوى التي يتشكَّلُ منها الأمر الواقع غير مؤهّلة للاستقلال، كما كان الوضع في أربعينيات القرن الماضي. ومَرَدُّ ذلك إلى أنَّ طبيعةَ ارتباط الطوائف بالقوى الخارجية قد تدنّت من مستوى التعاون في الإطار الوطني إلى مستوى التبعية في الإطار الوظيفي. فهناكَ فرقٌ بين أن تكون علاقةُ أيّ فريق داخلي مع الخارج لاعتباراتٍ لبنانية، أو أن تكون لاعتباراتٍ مَصلَحية للطرف الخارجي.

هذا الوضعُ يُعيدُ المسألة اللبنانية إلى أصلها منذ إعلان قيام لبنان الكبير في العام 1920، من حَيثُ كونها تقع في إشكاليةِ الإطارِ الخارجي. ولا بدَّ من طَرحِ سؤالٍ حولَ ما إذا كانَ مشروعُ لبنان الكبير حاجةً استعمارية أجنبية، أم أنهُ مَطلَبٌ وطني لبناني يَستَوجِبُ الخروجَ من دوّامةِ الصراع الإقليمي والدولي، وما يستتبع ذلك من صِيَغٍ وأدواتٍ دستورية جديدة.

لقد عَجِزَ اللبنانيون في تحويلِ منتج سياسي من “صناعةٍ أجنبية” إلى “صناعةٍ وطنية”، فبقي أمرُ حلّ أزماته المُتكرّرة والمُتمادية في أيدٍ غير لبنانية.

لعلَّ الأهمَّ من ذلك أنَّ سلمه الأهلي، كفاصلٍ بين الحروب، هو “سلمٌ سلبي”، حسب تعريف عالم الاجتماع والرياضيات يوهان فنسنت آلتونغ، مؤسس “معهد السلام النرويجي”، الذي عرَّف تلك العبارة بأنها تقتصرُ على انعدام العنف المباشر، بوجود العنف البنيوي، الذي يَحول من دون تحقيق العدالة.

ففي مفهوم آلتونغ، أنَّ غيابَ الحرب فقط لا يعني حلول السلام، لأنَّ هناكَ عُنفًا مُستَتِرًا برداء السلام نابعًا من خلفياتٍ دينية أو ثقافية تحمي وجوده.

من الناحية الدستورية، إذن، من المستحيل أن تنشأ حلولٌ عادلة وثابتة من ضمن الصيغة المُهتَرِئة القائمة في لبنان. ولا يقتصرُ الأمرُ على المسألة الدستورية، بل هناكَ عوامل أخرى مُكَمِّلة، تستدعي المزيد من البحث والمناقشة.

:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (46)

حَربٌ على الهواء

2024/04/13

لم يَجِد اللبنانيون للتعبيرِ عن عشقهم المُزمِن للحرية، ومدى تعلُّقهم بها، نبراسًا وأسلوبَ حياةٍ، سوى “الكلمة”.

و”الكلمة”، صارت جريدة تُلملِمُ في أعمدتها، أفكارهم، قضاياهم، همومهم، اعتراضاتهم، والوسيلة الوحيدة للتعبير عن ليبرالية لبنان، المتنوِّع، والأكثر انفتاحًا على العالم.

ولمّا جارَ عليهم الزمان، وتعرّضوا لصنوفِ القمع، والقهر، والظلم، إن في زمن التسلّطِ العُثماني، أم خلالَ حُكمِ المُفَوَّضِ السامي الفرنسي، كانت الصحافةُ ملاذَهم، وصوتَهم الصارِخ.

في كتابه “الصحافة العربية، نشأتها وتطوّرها”، الصادر في بيروت في العام 1961، خلصَ أديب مروة إلى أنَّ اللبنانيين “امتازوا بين غيرهم من الشعوب العربية، بأنهم كانوا أسبق الجميع إلى نَشرِ الصُحُفِ في بلادهم، لا بل أوّل مَن مارسَ الصحافة مُمارَسَةً فعَّالة، وعلى نطاقٍ شعبيٍّ واسع، إن كان في بلدهم لبنان، أو في سائر البلدان العربية، وشتَّى أصقاع الأرض”.

وكما وَجَدَت الأفكارُ والتيارات الإيديولوجية والفكرية الغربية دَربَها إلى الصحافة اللبنانية فتأثّرت بها، كذلك كانَ الأمرُ مع التيارات والحركات السياسية العربية، فكانَ لها رَجعُ صدى في أعمدة الجرائد، وصفحات المجلات الصادرة في بيروت، التي تحوّلت إلى “مطبعة العرب”،  وميدانًا لتصارُعِ أفكارهم.

هذا التجاذُب، العربي والغربي، شكَّلَ رأيًا عامًا لبنانيًا، مُستنيرًا ومُستَوعِبًا للقضايا العربية والدولية، ولم يَكُن ذلك كلّهُ مُمكِنًا لولا الانفتاح اللبناني على حضاراتِ وثقافاتِ الغرب.

إنَّ المَفهومَ التقليدي للصحافة اللبنانية جعلها في نزاعٍ دائمٍ مع السلطة، التي كانت، من حينٍ الى آخر، تُضَيِّقُ عليها هامشَ الحرية، وتعرِّضُها للمضايقات، والملاحقات، لتجد نصيرًا لها بين القيادات الروحية والمدنية، وفي كلِّ مرّةٍ كانت السلطة تتراجَعُ وترضَخ.

مع اشتعالِ لبنان وتَمَدُّدِ القتال، أخذت الصحافة الورقية تُعاني من عَدَمِ التوزيع، وشَحِّ الإعلان، فتراكمت عليها الخسائر المالية. وشيئًا فشيئًا راحت الصحافة المسموعة عبر الأثير، من خلالِ محطّاتٍ إذاعية غير شرعية، تحلُّ مكانها في حياة اللبنانيين، كوسيلةٍ دعائية وتبليغية.

لقد سهَّلَ التطوّرُ التكنولوجي في البثِّ الإذاعي تكاثَرَ تلك الإذاعات، ثم احتدام القتال كان يمنع وصول الصحف المطبوعة إلى الأسواق ومراكز التوزيع، بسببِ تقسيمِ المناطق، وتحكّمِ أزلام الميليشيات بالأرض، ونَصبِ الحواجز الثابتة والطيّارة، إلى جانب القصف العشوائي، والأهم من ذلك، أنَّ تَتَبُّعَ الأخبار باتَ أيسر، بوساطة أجهزة “ترانزستور” التي تُحمَلُ بسهولة، حتى إلى الملاجئ، إضافةً إلى ذلك كله، أن البثَّ الهوائي كان عَصِيَّاً على أيِّ رقابة، شأن وسائل التواصل الإلكترونية في أيامنا هذه.

من بدايةِ الحَرب، راحت الميليشيات المُتحارِبة تتناتش الأثير، لبَثِّ دعواها الحزبية، وتوسيع مداها التحريضي، فنبتت في كلِّ مكان إذاعات غير مرخَّص لها، سحبت البساط من تحت قدمَي الإذاعة اللبنانية الرسمية، التي كانت حتى ذلك الوقت تحتلُّ الهواء بمفردها، لتعود وتنقسم هي الأخرى إلى محطّتين، واحدة تبث من بيروت الغربية، والثانية من بلدة “عمشيت” إلى شرق العاصمة. الأولى تحت رحمة “الحركة الوطنية”، والثانية بإمرة “الجبهة اللبنانية”.

أولى الإذاعات، الخارجة عن الطوق، “صوت لبنان” الناطقة بلسان “حزب الكتائب اللبنانية”، هي أول مولودٍ غير شرعي في رحم الحرب الأهلية. واللبنانيون عرفوا هذه الإذاعة من قبل، خلال الصيف الدامي في العام 1958، لكنها ما لبثت أن توقّفت عن البث بعد استتباب الأمور بانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية، ومشاركة “حزب الكتائب”، الناطقة باسمه، في السلطة الجديدة بعد “الثورة”. وإذا كان شغلها الشاغل في العام 1958، مهاجمة جمال عبد الناصر (رئيس “الجمهورية العربية المتحدة” التي ضمت مصر وسوريا في دولة واحدة)، والحاكم بأمره في دمشق عبد الحميد السرَّاج، باعتباره المُكَلَّف تحريك الاضطرابات في لبنان، من طريق إمداد القوى المعارضة للرئيس كميل شمعون بالسلاح والعتاد والمال (راجع الفصل بعنوان “حمير السرَّاج”)، فإنّها في سنة 1975 بدت أكثر رصانة وحرفية في تناول الحرب، وفي هجومها على الفلسطينيين والحركة الوطنية.

لم تبقَ إذاعة صوت لبنان وحيدة في الميدان، فسمع اللبنانيون صوتًا آخر هو “صوت لبنان العربي”، إذاعة “حركة الناصريين المستقلين”( المرابطون)، كانت تبثُّ من غرفةٍ صغيرة في مقر تلك الحركة من بيروت الغربية، وأيضًا “صوت لبنان الحر” (القوات اللبنانية)، “صوت الجبل” (الحزب التقدمي الاشتراكي)، “صوت الشعب” (الحزب الشيوعي اللبناني)، “صوت لبنان الموحَّد” (حركة المردة التابعة لآل فرنجية في زغرتا).

من الملامح التي رافقت بعض تلك الإذاعات من العام 1978 وما بعد، أنها كانت عشوائية، وتبدَّلت صيغها ومساراتها، خصوصًا بين القوى المسيحية، عندما بان خطُّ الانفصال واضحًا بين “القوات اللبنانية” وبين “حزب الكتائب” الذي وُلِدَت في رحمه، وتمايزت عنه عندما اشتدَّ ساعدها، فانطلقت في الهواء إذاعتان متنافستان في اتجاه واحد: “صوت لبنان” لحزب الكتائب، وهي لسانه الأصلي منذ 1958، كما مرَّ، و”صوت لبنان الحر” للقوات اللبنانية الوليدة. أما إذاعة “صوت لبنان الموحد” الناطقة بلسان “المردة” في الشمال، فكانت في البداية تدين بالولاء ل”الجبهة اللبنانية” (التي كانت الداعم الأساسي للرئيس سليمان فرنجية خلال الحرب) لكنها انقلبت عليها بعد “مجزرة إهدن” التي ذهب ضحيتها طوني فرنجية، الوزير السابق ونجل رئيس الجمهورية، ومعه زوجته وابنته وبعض أتباعه.

كانت لتلك الإذاعات، على بدائيتها، في مرحلة نشوئها، مهمّة أساسية، هي المرافقة الميدانية للمقاتلين وراء متاريسهم. لكنها مع الوقت، وامتداد رقعة الحرب، اتخذت لنفسها مهمّاتٍ أخرى، منها: تعبئة الناس، والحقن السياسي والطائفي، تبعًا لمُقتضى التطوّرات، وبث الدعايات الحزبية (البروباغاندا)، والنيل من الخصوم بإبطالِ حججهم على الملأ.

أما البثُّ التلفزيوني، فإنه انتظرَ نهايةَ الحرب، وتحديدًا بعد “اتفاق الطائف”. وقد حاولَ رئيس الحكومة المغدور رفيق الحريري في العام 1994 تنظيم الإعلام، بحَصرِ وسائله في إطارٍ قانونيٍّ ضيِّق، تسهيلًا لسيطرة الدولة عليه، خصوصًا التلفزيون الرسمي الذي كان مُزدهرًا قبل الحرب، وكان من أبرز ضحاياها. لكن تلك المحاولة لم تنجح، لأنها لقيت معارضة واسعة من فئاتٍ سياسية مختلفة، حيث اعتبرها بعضهم من قبيل تقييد الحريات، وتحويل النظام السياسي اللبناني إلى نظامٍ فرديٍّ سلطوي.

كانت تلك أوّل محاولة في بلد عربي تهدف إلى تنظيم قطاع البث الخاص من خلال “قانون المرئي والمسموع”. بيد أنَّ تطبيقَ هذا القانون اصطدم بمخاوف سياسية من توزيع المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية على أساسٍ مذهبي، (على قاعدة 6 و6 مكرر السائدة قبل “الطائف”)، كما إِنَّ أحكامَ ذلك القانون تجاهلت الظروف الاقتصادية للبث، فلم تأخُذ في الاعتبار السوق الإعلانية اللبنانية.

ممَّا لا شكَّ فيه، أنَّ التخبُّطَ المانع لوضعِ قانونٍ عصريٍّ جديدٍ للإعلام في لبنان، يأخذُ بالاعتبار المُستَجدّات التكنولوجية الوافدة مع الوسائل الرقمية، هو نتيجةٌ من نتائجِ الحرب الأهلية من حيثُ انقسامِ وتعارُضِ التوجّهات السياسية في “حربٍ أهليِّةٍ باردة”. فقد جرت محاولاتٌ أخرى، بعد فشل محاولة رفيق الحريري، لكنها أيضًا باءت بالفشل.
في حزيران (يونيو) من العام 2010، كاد مجلس النواب أن يصوِّتَ على مشروع “قانون تكنولوجيا المعلومات الجديد” في لبنان الذي يُنظّمُ المعاملات الإلكترونية عبر الإنتِرنِت، وهو مشروعٌ يفرضُ قيودًا شديدة على حقوق المواطنين، والشركات المدنية، وينتقص من حقّهم في الخصوصية، عَبرَ مَنحِ الحكومة صلاحياتٍ واسعة للمراقبة، بل يقضي على حرية الصحافة في الإعلام الرقمي. لكنَّ القانونَ لقيَ مُعارضةً شديدةً من القطاع الخاص، والهيئات الاقتصادية، ومنظّمات المجتمع المدني، فانضمَّ إلى أقرانه السابقين في الجارور العميق لمجلس النواب.

إنَّ لبنان يتّجهُ حاليًا نحوَ نوعٍ من الاستقطابية التي من شأنها أن تقضي على الحرية، أحد مُبَرِّرات وجود لبنان. وهذه الحالة المُستَجِدّة تُننبئُ بأنَّ الصراعَ الأهلي ما زالَ مُستَمِرًا بطُرُقٍ أُخرى.

:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (45)

حَربٌ على الوَرَق

2024/04/12

صيف 1975.

الليلُ، ليلتها، حلَّ بثقله، ينوءُ تحتَ وابلٍ من القصف والرصاص من مُختَلَفِ أنواعِ الأسلحة، يتطايَرُ ويلتَطِمُ بكلِّ شيء، ورَجعُ صداه يدور بين الأبنية ينشُرُ الخوفَ والحذر.

آثرتُ ليلتها البقاء في مكتبي في جريدة “بيروت”، التي كنتُ أرأس تحريرها، على المغامرة بالذهاب إلى منزلي الكائن في الواجهة البحرية من منطقة “الروشة”، في “رأس بيروت”.

في صباحِ اليوم التالي، دخلَ عليَّ مُصوّرُ الجريدة، الياس الجوهري، وهو شابٌ موهوبٌ ونشطٌ من مدينة بعلبك، وفي يده صورة فوتوغرافية، قال إنه التقطها في الليلة المرعبة على تقاطع الطرق عند كنيسة مار مخايل المارونية في منطقة الشيّاح، (كانت تلك الكنيسة شهدت في السادس من شباط/فبراير سنة 2006، توقيع ما سُمي “ورقة التفاهم” بين العماد ميشال عون، رئيس “التيار الوطني الحر”، والسيد حسن نصر الله، الأمين العام ل”حزب الله”).

أصابني الدَهشُ والذهولُ في آنٍ معًا وأنا أُلملِمُ بعينيّ أدقَّ التفاصيل المطبوعة في تلك الصورة، فشعرتُ أنَّ بين يديَّ لوحةً فنيةً مرسومةً بالريشة، وليس صورة فوتوغرافية بعين الكاميرا الزجاجية.

كانت الصورة لوَلَدَين، لم يتجاوزا العاشرة، يستولي الذعرُ عليهما، وهما يحتميان عند بابِ دُكّانٍ مُقفَلٍ، من رصاصِ القَنصِ المُنهَمِر على تلك المنطقة.

إلى الجانب الأيمن من الطريق، توقّفَت سيارةُ شحنٍ صغيرة، نزل سائقها، على ما يبدو، ليجرَّ شابًا أرداه رصاص القنص.

تولَّاني إحساسٌ، هو خليطٌ من الحُزنِ والغضب. فتلكَ الصورةُ كانت تُعبّرُ عن حقيقةِ الحرب، التي هي “مقتلة الأبرياء”، الذين كلُّ ذنبهم أنهم يخرجون من بيوتهم سعيًا وراء قوت يومهم، فلا يعرفون لماذا تُدَمَّرُ بيوتهم، ويموتون على قارعةِ الطريق.

قرّرتُ، وأنا أُشرفُ على تحضيرِعدد الجريدة، أن أنشُرَ تلك الصورة المُعَبّرة، على عرض الصفحة الأولى.

بعدَ صدورِ العدد، انهالت علي الاتصالات، وقَصَدَ مكاتب الجريدة عددٌ من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء الأجنبية، يعرضون عليَّ شراء تلك الصورة، بمبلغٍ مُغرٍ، فرفضت.

وعلى الرُغمِ من مرور عشرات السنين، بمتاعبها، وهمومها، ومشاغلها، فإنَّ تلك الصورة، الناطقة، المعبِّرة،  لم تفارقْ مُخَيَّلَتي، أستَحضِرُها بين الحين والآخر، وطالما ردَّدتُ في نفسي، أنه لو قُدِّر لها  أن تُعرَضَ في معرضٍ عالميٍّ للصور الفوتوغرافية، لكانت عن استحقاقٍ، وجدارة، نالت الجوائز من غير مُنازِع.

من مآسي الحرب، أنَّ العينَ التي التقطت تلك الصورة بمحض المصادفة، أُغمضت إلى الأبد، فقد قُتِلَ الياس الجوهري برصاصِ قنَّاصٍ، كان على سطح  بنايةٍ مواجِهة لمخيم “تل الزعتر”، للاجئين الفلسطينيين في منطقة “الدكوانة” (المتن الشمالي)، الذي كان مُحاصَرًا من مقاتلي حزب “الكتائب”، و”نمور الأحرار”، ومَن حالفهما من تنظيماتٍ مُسَلَّحة.

يومها، الاشتباكات كانت على أشدّها، فركب الياس الجوهري دراجته النارية وتَوَجّهَ إلى المُخَيِّم، لتسجيلِ المأساة الدامية بالصور، مدفوعًا بالنجاح الهائل لصورة الشِيّاح، فذهب ضحية حبّه لعمله.

في عدد الجريدة، الذي صدر صبيحة اليوم التالي، كتبتُ الافتتاحية عنه، بعنوان: “كانَ المُصَوِّرَ فصارَ الصورة”.

كانَ من المظاهر المُلفِتة لتلك المرحلة الدامية ارتفاعُ عدد المجلات والنشرات “غير الشرعية”، فتجاوز المئة، مقابل توقّف عدد من الجرائد والمجلات الشرعية عن الصدور في لبنان، فهاجرت مع محرريها شطر أوروبا، خصوصًا إلى لندن وباريس. وقد علَّلت الصحف المهاجرة أنها بانتقالها إلى الخارج، ستكون في مأمن من الحرب، وتتمتع بحريَّة أكبر. لكن سرعان ما اكتشفَ هؤلاء أنَّ الأعباءَ المالية لهذا الانتقال كانت ثقيلة إلى درجة جعلتها أشد ارتباطًا بمصادر التمويل العربية، وأنَّ الحريةَ المزعومة في بلاد المهجر كانت مجرّد وَهم، فالرقيبُ في غير بلدٍ عربي، كان يُصادر أي مطبوعة يجد أنها لا تتماشى مع سياسة حكومته، فيمنع نزولها المكتبات وأكشاك الباعة، لتزداد خسائر تلك المطبوعات، فانخرطت في الحربِ عن بُعد.

تنوَّعت الجهات التي أصدرت المجلّاَت والنشرات “غير الشرعية”، كما تنوَّعت محتوياتها، بدءًا من التعرُّض للمناوئين، وانتهاءً بمحاولة إقناع الرأي العام بصحَّة ميولها، وبأهدافِ انغماسِها في الحرب، فكأنها كانت تستكملُ القتال، لكن على الورق وبالكلمة وليس بالبندقية.

لقد وَشَت بأنَّ المُخطّطين لتلك الظاهرة، والمُحَرِّضين، والمُنفذّين للحرب الأهلية، شعروا بأنَّ السلاحَ وحده لا يكفي لتبريرِ انخراطهم في ذلك النزاع الدامي، الذي مزَّق النسيج الوطني، وبأنه لا مناصَ من الصحافة و”الكلمة” المُوَجَّهة، وسيلةً لاستجداءِ ولاءِ الناس وتأييدهم، واستقطابِ مزيدٍ من الأنصار، وتثبيت المؤيّدين، والمُريدين، والمُحازبين، والمُحاربين أيضًا، في مواقفهم، فاقتصرت تلك النشرات والمطبوعات على البيئة الضيِّقة المُحيطة بالأحزاب والتنظيمات المقاتلة، بسببِ خوفها من هبوط حرارة داعميها، وتعبهم من الحرب.

إن دلَّت ظاهرة المجلاَّت والنشرات “غير الشرعية” على شيء، فهي تدلُّ بشكلٍ واضحٍ وفاضحٍ، على أنَّ الفوضى مُتأصّلة في اللبنانيين على اختلافِ مللهم ونحلهم، فلا يتوانى كثيرون منهم عن تجاوز الأعراف، والقوانين المَرعيَّة الإجراء، وعن استباحة حقوق الآخرين متى وَهَنت سلطة الدولة أو غابت، بل أحيانًا يُصبح سلاح الأحزاب هو السلطة التي تفرض نفسها فوق القانون العام.

توقّفَت الحرب الأهلية بالسلاح بعد “اتفاق الطائف” في العام 1989، فعرفت البلاد نوعًا من الأمن، أشبه باستراحةِ المحاربين، بعد تعب، أو بعد انقطاع موارد التمويل، وإنجاز الغاية من الحرب للذين أشعلوا فتيلها من وراء الستار، ومن خارج الحدود. لكن تلك الاستراحة كانت على حساب الحريَّة، حيث البلاد كلُّها وُضِعَت تحت الوصاية السورية، التي شهدت الصحافة تحت ظلّها، حالات من القمع والكبت، نَغَّصَت عليها منافع انفلاتها السابقة، ومنها مَا انتفَعَ بطُرقٍ أُخرى.

مع خروجِ الجيش السوري من لبنان في ربيع العام 2005، نشأت في البلاد قوى جديدة، فتضاربت مصالحها مع مصالح قوى أخرى، تبعًا لسياسات داعميها في الخارج، فعادت الصحافة اللبنانية إلى سيرتها السابقة، لتؤسّس لاستدامةِ الحرب الأهلية.

في خضمِّ تلك التقلّبات، في السلم، كما في الحرب، تبيَّنَ أنَّ الصحافة اللبنانية كان هدفها الأوّل “المال” وليس “الحريَّة”. وما أعطاها صورة المدافع عن الحريَّة، كونها مُتعدّدة الولاءات لمصادر تمويلها الداخلية والخارجية، وهذا شيءٌ في المظهر لا في الجوهر.

قبل الحرب، وبعدها، ارتبطَ ازدهار الصحافة عبر احتدامِ التنافس بين مؤسّساتها بدعمٍ من الأنظمة العربية المتنافسة والمتعارضة في ما بينها. فقد استغلّت تلك الأنظمة، ومعها جهات أخرى أجنبية، مناخ “الحرية” في لبنان، للإنفاق على مطبوعات، تُعبِّر عن رأيها، في حمَّى تناحرها مع دولٍ تُنافسها وتُعارضها، فمرَّ زمنٌ على الصحافة اللبنانية تحوَّلت فيه إلى “سوق عكاظ” لتلك الأنظمة المُتعادية والمُتناحرة.

تبعًا لذلك، ما عادت الصحف في لبنان تعكسُ أو تهتمُّ بالواقع اللبناني، في وقتٍ كان يجري على قدم وساق، التحضير والتهيئة للانفجار الكبير، بل كانت تُخاطب مَن يمدُّ لها يدَ العون، لقاء التصدّي للذين يناهضونهم، من أحزاب، وعقائد، ودول، والتعتيم على الحقائق التي تفضحُ مموِّليهم.

!“من الطرائف المؤكِّدة لهذا الواقع، ما قاله الرئيس الراحل شارل حلو لرؤساء تحرير الصحف اللبنانية  الذين زاروه في قصر بعبدا حيث رحب بهم بعبارة: “أهلًا بكم في وطنكم الثاني … لبنان

:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (44)

حَربٌ على الأرضِ ونِزاعٌ على الأفكار

2024/04/11

.البُندُقِيّةُ في الميدان، والرصاص، والقتل، والخراب، والدمار في ساحات الموت

القَلَمُ، والكلمةُ، والريشةُ واللون، في ساحاتِ الأفكار حيثُ تتصارَعُ الإيديولوجيات والعقائد.

هكذا هي الحروب، مُنذُ تاريخ الأزمنة، نزاعٌ على الأرض وصراعٌ على الأفكار. وهي كذلك في هذا الزمن، وهكذا ستبقى في كلِّ زمن.

ما مِن احترابٍ داخلي جذبَ إليه الأحزابَ السياسية، على مشاربها، والمُفكّرين، والكُتَّاب، والفنانين، والعمّال، كذلك العديد من الحكومات الأجنبية، مثل الحرب الأهلية الإسبانية، (التي نرجع إليها دائمًا، لنُماثلها، ونُقارنها، مع الحرب الأهلية اللبنانية)، ولهذه الأسباب، وغيرها، حظيت تلك الحرب باهتمامِ إعلامِ زمانها على الرُغمِ من أنَّ وسائلَ الإعلام، في هاتيك الأيام، لم تكن مُتقدّمة، ولا واسعة الانتشار، كما هو حال إعلام زماننا.

إنَّ التأثيرَ الإعلامي في الحروب الأهلية يُقاسُ بمدى قُربِ أو بُعدِ ميدانها من “قلب العالم” المُتَمَثّل، قديمًا وحديثًا، بأوروبا الغربية.

لذلك، لم تَنَل الحربُ الأهلية الروسية، التي أفرزتها الثورة البلشفية، (سبقت الحرب الإسبانية بسنواتٍ قليلة)، أيَّ اهتمامٍ إعلاميٍّ يُذكَر، كونها بعيدةً عن “المركز الأوروبي”، أو “نبض العالم”، كما كان جورج كليمنصو يُسَمّي القارة القديمة، على الرُغمِ من أنَّ الحَربَين مُتشابهتَان، إن من حيث النزاع على الأفكار، أو التدخّل الأجنبي. واحدةٌ في صراعٍ بين الشيوعية والحُكمِ القيصري الإقطاعي، وواحدة بين الجمهورية الاشتراكية والمَلَكِية الإقطاعية.

في الأولى تدخَّل الأميركيون والبريطانيون وأخفقوا، وفي الثانية تدخَّل النازيون الألمان والفاشيست الطليان ونجحوا.

الحربُ اللبنانية، مثل الحرب الإسبانية، قريبةٌ من “المركز الأوروبي”، جغرافيًا، وثقافيًا، وتكنولوجيًا. ولذلك لعبت فيها وسائل الإعلام والدعاية، الداخلية والخارجية، لجهةِ التحريض والتضليل، دورًا أساسيًا في جميع مراحلها، من انطلاقها، إلى توجّهها، وصولًا إلى تلفيقِ وتبريرِ مُجرَياتها ونهاياتها.

إنَّ “النزاعَ على الأرض” في الحرب اللبنانية، كان حاضرًا ولو استترَ في بعضِ الأحيان، ذلك أنَّ انخراطَ السلاح الفلسطيني في القتال، أثارَ شُبهةً لدى اللبنانيين من أنَّ هناكَ في الكواليس “مشروعَ الوطن البديل”، مما أعطى مسألةَ “النزاع على الأرض” أرجَحِيّةً على “نزاعِ الأفكار”، مُمثَّلًا بالبرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط.

لم تَكُن الصحف والمجلات، ولا الإذاعات، هي الوسائل الإعلامية الوحيدة التي كانت تؤرّخُ يوميات الحرب الإسبانية، إنّما وجود عدد واسع من كبارِ الكتّاب، والمثقّفين، والفنانين الوافدين من كل أنحاء العالم، انضموا إلى صفوفِ الفريقَين المُتحاربَين، وإن كان الحضورُ في الصفِّ الجمهوري أكثر عددًا وأرفع قيمةً، من الكاتب البريطاني جورج أورويل، والفرنسي أنطوان دو سان–إيكزوبيري، والألماني أريك فاينرت، وغيرهم. إلًّا أنَّ الروائي الأميركي أرنست همنغواي بقي أوسعهم شهرةً، فهو خَلّدَ تلك الحرب برواية “لمَن يُقرَعُ الجَرَس” (نُقلت إلى الشاشة الفضية ولقي الفيلم نجاحًا ملفتًا، باستثناء لوحة “غيرنيكا للرسام بابلو بيكاسو). إلّا أنَّ همنغواي تحفَّظ، إلى حدٍ ما، عن إبراز كامل حقيقة الحرب، بقوله في مقابلة صحافية حول الموضوع: “إنه أمرٌ خطيرٌ أن تُكتَبَ الحقيقةُ في الحرب”!

إنَّ الصحافيين والكُتاب الأجانب الذين كتبوا عن الحرب الأهلية اللبنانية، وأبرزهم الأميركي جوناثان راندال والإيرلندي روبرت فيسك، لم يستطيعوا، باعترافِ راندال الذي زار مكاتب مجلة “الحوادث” في لندن في العام 1983 وجلس الى الحديث مع عدد من محرريها، أن يستوعبوا بصورةٍ كاملة الحالة اللبنانية التي أوصلت إلى الحرب.

ومع ذلك فإنهما انطلقا من زاويةٍ مُنحازة ضمنيًا: فيسك إلى الفلسطينيين ومنظمة التحرير، وراندال إلى بشير الجميل و”القوات اللبنانية”.

على صَعيدِ الإعلام المحلّي، كان الأمرُ مُختلفًا، لأنَّ الصحفَ اللبنانية، تاريخيًا، كثيرةُ العدد ومُتفاوِتةٌ في تَوَجّهاتها السياسية. فهناكَ بلدات ومدن عديدة في لبنان، صدرت فيها جرائد ومجلات أسبوعية وشهرية، وهي ظاهرة ملفتة في الشرق العربي. منها للتعداد لا للحصر: مرجعيون، صيدا، وطرابلس، وكفرمتى، وزحلة، بالإضافة إلى عددٍ منها في العاصمة بيروت، بحيثُ يُمكِنُ القولَ بأنَّ نسبةَ الصُحُف الصادرة في لبنان إلى عدد السكان، قبل قرن من الزمان، هي الأعلى في العالم، وربما حتى الآن.

في الحرب الأهلية (1975)، وفي المرحلة التي أسّست لها منذ سقوط الشهابية، كانت الصحافة اللبنانية “شرعة المتحاربين”. وبالتالي كانت من مُسَبِّباتها، وبعد اندلاعها، كانت الصوتُ الأعلى النافخ في نارها. فالحربُ بحدِّ ذاتها هي حدثٌ إعلامي بالدرجة الأولى. فليسَ من عَجبٍ أن يشهدَ لبنان في مرحلةِ الحرب “طوفانًا” من الوسائل الإعلامية على أنواعها، المكتوب منها والمنشور، المرئي والمسموع، المُحرّض والمُنضَبِط، والفالت والمُتَفَلّت، كلُّها أثرت ونفخت في نيران الحرب، إن بالتضليل، أو بالحشد والتحريض، أو بالمبالغة، أو بتأجير الخدمات وتضخيم، أو تجاهل، المعتركات (القتالية أو السياسية والفكرية).

بل يُمكِنُ القول بأنَّ الإعلامَ اللبناني، زرعَ بذورَ الحرب الأهلية، وكان شريكًا كامل الشراكة مع الأفرقاء المتحاربين، الذين كانَ لكُلٍّ منهم وسيلة إعلامية أو أكثر تساندُهُ، وترفعُ صوتَهُ، وتتطاولُ على خصمه، فأصبحت الصحافة رهينة قوى الأمر الواقع على الأرض، يخوضُ بعضها، البروباغندا السياسية، والحروب النفسانية، والتضليل، والإشاعات، وتزوير الحقائق وتشويهها، لمآرب مشبوهة، وبعضها القليل الآخر، لازَمَ الحياد، حتى احتجب!

من سنة 1975 إلى 1990 خرجت الصحافة اللبنانية عن كونها “صحافة تبليغ” سياسي، وثقافي، وفني، واجتماعي، فتحوّلت إلى “صحافة حرب” تُقاتل بالكلمة المُحَرِّضة، وتُلَوِّنُ حبرَها بألوانِ مَن يمدُّها بالمال. بعدما وضعت الحرب أوزارها، عاشت تلك الصحافة في غُربةٍ، وتفكُّكٍ، وضياع… فمنها ما لم يعد له أثر، ومعظم ما تبقَّى لم يعد له تأثير.

:لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (43)

البِيئةُ الشيعِيّة والصراعُ الثقافي

2024/04/10

صوفي كوبر، مُؤرِّخة إيرلندية، صَرَفَت عُمرًا على دراسة “التاريخ الثقافي”. سارَ ذِكرُها كلَّ مسير، بعدَ صدورِ كتابها: “تشكيل الهويات في العالم الإيرلندي”، (الناشر جامعة أدنبره، اسكتلندا).

من خلالِ دراستها لأنماطِ الهجرةِ الإيرلندية، فترة الاحتلال البريطاني، (إلى أوستراليا والولايات المتحدة)، طَرَحَت صوفي كوبر، نظريةَ أنَّ الشعبَ الرازح تحتَ حُكمِ الاستعمار يكونُ بالضرورة مُشارِكًا في المشروعِ الاستعماري، فتتشكّلُ هَوِيَّتُهُ الثقافية من خلالِ الانصهارِ الحياتي والسياسي مع المُستَعمِر.

إنَّ بعضَ الدارسين، لهذه النظرية، دراسة مُقارنة، خلصَ إلى استنتاجٍ أنَّ الهجرةَ اللبنانية هي أقربُ التجارب للهجرة الإيرلندية، إن قي أنماطها أو دوافعها.

في مجالِ المُقارَنة أيضًا، وَجَدَ بَعضُ الدارسين لنظريةِ كوبر تماثُلًا بين هجرة الهنود إلى شرق أفريقيا حيث التواجد البريطاني المُهَيمِن على الهند، وهجرة اللبنانيين إلى غرب أفريقيا حيث التواجد الفرنسي، الذي كان، وقتها، مُهَيمِنًا على المُقَدَّرات السياسية في لبنان.

ولا يغيبُ عن الأذهان، أنَّ شريحةً كبيرةً من شيعة لبنان، اختارت الهجرة إلى أفريقيا، وخلال عقودٍ سبعة حقّقَ المهاجرون الشيعة، ما لم يُحقّقه غيرهم من المهاجرين إلى القارة السمراء. والازدهارُ العُمراني في بلدات جنوب لبنان، مسقط رأس العديد من هؤلاء، شاهدٌ على هذه النجاحات، التي أنعشت البيئة الشيعية، وعزّزت الوحدة الوطنية مع باقي اللبنانيين.

إنَّ امتلاكَ هويةٍ ثقافيةٍ مُغايرةٍ عن الثقافة الوطنية التأسيسية، من شأنه أن يفرزَ حالاتٍ كيانية مُختلفة تؤدّي، في المدى البعيد، إلى “صراعِ الهويَّات” الذي تَضعفُ معه إمكانية بقاء وتطور الهوية الوطنية الجامعة.

على الرُغمِ من أنَّ “حزب الله” أعلنَ تراجعه عن إقامة “جمهورية إسلامية” في لبنان، تقومُ على “ولاية الفقيه” (كما هو الحال في إيران)، فإنَّ القاعدةَ التي نمت عليها فكرة “البيئة الحاضنة”، كبيئةٍ شيعيّة، تتمايزُ ثقافيًا ومُجتَمَعيًا عن بقيّة المكوّنات اللبنانية، لا تُسعِفُ في قيامِ “وحدةٍ” في الوطن الواحد، وهو أمرٌ يختلفُ جوهريًا عن “الوحدة الوطنية” الشكلية المُستَخدَمة تاريخيًا لتقطيع المراحل.

إنَّ التركيبةَ المُعَقَّدة، التي يصفُها بعضُ السياسيين، بأنّها “دولةٌ داخل الدولة”، يصعبُ معها فَهم حالة الانفصام الوطني المُتمادي، بحصرها في إطارِ الصراعِ السابق للاحتلال الإسرائيلي للجنوب، كما إنّهُ من الصعوبة بمكان فهمها في إطارِ فَرَضِيّةِ ضرورة بقاء لبنان في حالةِ صراعٍ دائمٍ حتى زوال الكيان الصهيوني، أو إلى حلٍّ للقضية الفلسطينية يقبل به الفلسطينيون بضمانةِ العالمِ كلّه.

أن تَضَعَ “البيئة الحاضنة” الولاء لهويتها الإسلامية في مرتبةٍ أعلى وأوسع من الهوية الوطنية، من شأنه أن يقضي على القاسم المشترك، الذي يجمع تلك البيئة مع فئات لبنانية أخرى لها موقف مُماثل من الاحتلال الإسرائيلي ومن الحركة الصهيونية. ولذلك، فإنَّ ما يصحُّ في حالةِ المواجهة المباشرة مع العدو الإسرائيلي، لا يصحُّ في الوضع اللبناني الفُسيفسائي في المدى البعيد.

إنَّ الفارِقَ لا يبدو شاسعًا بين أن تكونَ أيُّ حركةٍ عقائدية حالةً إيجابيَّة مُنفَتِحة ومُبدِعة وخلّاَقة، وبين أن تتحوَّلَ إلى وَضعيةٍ سلبية، معزولة ومنعزلة، في داخلها صراعٌ صامت، وفي خارجها نزاعٌ صاخب مع الآخرين، فتُصبحُ “الهجرة”، كما شخَّصتها صوفي كوبر، هي الحالة الدائمة، فتنقلب فكرة استنزاف العدو، المبرر الأصلي لنشوء حركة المقاومة، إلى نزفٍ واقعي لشعبِ الوطن وموارده وطاقاته الإبداعية.

إنَّ مُراجعةَ ما تبدَّى عبر التاريخ من حركات المقاومة في العالم ، من ثورة سبارتاكوس (ثورة العبيد في الدولة الرومانية) في القرن الأول قبل الميلاد، إلى كلِّ الحركات الثورية وحركات المقاومة في العصور الحديثة، من الثورة الفرنسية، الى البلشفية في روسيا، ومن المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، إلى المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال والاستيطان الفرنسي، وانتهاءً بالمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، تُظهِرُ جليًّا أنَّ أيًّا منها لم يأخذ فكرة المقاومة أو “البيئة الحاضنة لها” على أنها حالةٌ مُستَدامة للمستقبل. وقد فشلت جميع المحاولات اليسارية المُتَطَرّفة في العالم بطرحها فكرة “الثورة الدائمة”، لأنَّ الناس في المجتمعات السويَّة ترغب في السلام، والاستقرار، والازدهار، والاستمتاع بمباهج الحياة. ولهذا أيضًا أخفقت “الثورة الثقافية” التي قادها ماو تسي تونغ في الصين الشعبية، لأنها كادت أن تُوصِلَ البلاد الى حربٍ أهلية، لولا الانعطاف الناجح الذي قاده دينغ سياو بينغ، مما جعلها قوة عُظمى في العالم.

يبقى أنه مهما تعدَّدت وتنوَّعت المُبرّرات لمنح “البيئة الحاضنة” هويةً مُتميِّزة، تظلُّ حالةً استقطابية تُشَجِّعُ على قيامِ “بيئاتٍ حاضنة” قبالتها تحت مُسَمَّيات مختلفة مثل “الأمن الذاتي”، أو “الدولة المدنية العلمانية”، أو غير ذلك من الذرائع التي يُمكِنُ أن يتصاعد غليانها وصولًا إلى احتكاكاتٍ تُطلِقُ شرارةَ حربٍ أهلية جديدة، هي قائمة أصلًا في السياسة وفي الإعلام.

ليس لبنان بلدًا فريدًا في نظامهِ الحرِّ المَزعوم، بل من حيث هو حالة تأسيسية دائمة، بمعنى أنَّ نظامه السياسي والكياني لم يستقر بعد على صيغةٍ نهائية. ولذلك، فإنَّ الحالةَ المتولِّدة من الاستقطاب الحاد، سوف تجعلُ من الولادة التأسيسية الجديدة “عملية قيصرية” استنزافية مؤلمة، بفعل تصارع الهويَّات، في غياب هويَّة وطنية جامعة فوق بقيَّة الهويَّات

:لبنان… الحَربُ اللبنانيّة المُستَدامة (42)

توسُّعٌ في الخارج ضعفٌ في الداخل

2024/04/09

.شباط (فبراير) سنة 2010، كاد أن يكونَ يومًا عاديًا في دمشق، لو لم يحدث فيه ما لفت أنظار العالم كلّه، وأثارَ حفيظةَ، وشكوك، المسيحيين في لبنان، وبعض السنَّة

.أن يزورَ محمود أحمدي نجاد، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عاصمة الأمويين، هو أمرٌ طبيعي، فالعُرى بين دمشق وطهران، وثيقةٌ، والمصالحُ مُتبادَلةٌ

كانَ من لزومِ الزيارة الرسمية، أن تنعَقِدَ قمّةٌ، بين الضيفِ (الرئيس الإيراني) والمُضيفِ (الرئيس بشار الأسد)، لتوثيق العلاقات، والتأكيد على المصالح المشتركة. لكن، أن ينضمَّ إلى اجتماعهما، الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، هو الملفت، والمُثير، فالرجلُ لا يتمتّعُ بصفةِ “رئيس دولة” ولم يُمنَح أيَّ صلاحيةٍ تقريرية من الشعب اللبناني، ليكون طرفًا ثالثًا بين رئيسين، ويجلس معهما إلى الحديث، فبدا ذلك، وكأنَّ السيد هو الرئيس الفعلي للجمهورية اللبنانية، لا الرئيس الماروني! وأنَّ الرئيسين، السوري والإيراني، وَجَّها، بهذا التصرف، رسالةً إلى اللبنانيين، مفادها، أنَّ “هذا هو رئيسكم، بيده القرار، وإليه العودة، من الآن وصاعدًا

لم يكن مُستَغرَبًا، بعد الذي جرى، ودار، في دمشق، يومذاك، أن تزدادَ مخاوفُ المسيحيين، ويتفاقَم امتعاضهم، فرئاسةُ الجمهورية معقودةٌ لهم، بمُقتضى “الميثاق الوطني” قبل الطائف، وبالدستور بعده. فلعبت الهواجس في رؤوسِ بعض مُحرّكي الرأي العام المسيحي، بأنَّ “القمة الثلاثية”، تلك، هي إعلانٌ واضحٌ،  عن تغييرٍ مُضمِر، في طبيعة الصيغة اللبنانية التاريخية بحيث يبقى للبنان رئيسٌ مسيحي، شكلي، بروتوكولي، بلا صلاحيات تقريرية، بعدما نزع منه “مؤتمر الطائف”، الصلاحية السياسية الأهم، وهي الحقُّ في حلِّ المجلس النيابي، فأصبح رئيس المجلس (الشيعي)، مطلق الصلاحية في السياسة الداخلية، بينما أمين عام “حزب الله”، له حرية التصرف بالسياسة الخارجية للبلاد.

وليس أدلُّ على ذلك، من القرار المنفرد الذي اتخذه “حزب الله”، بدعمِ النظام السوري المأزوم، والمُشاركة في صدِّ المُتمرّدين عليه ومقاتلتهم، فأرسل سنة 2012 كتائب من مقاتليه إلى منطقة “القصير”، بحجة الدفاع عن المواطنين اللبنانيين الشيعة، المُقيمين في تلك المنطقة الحدودية قي شمال البقاع.

أمّا داخليًا، فبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، أجاز “حزب الله” لحكومةِ تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي عَقدَ اجتماعاتها، خلافًا للدستور، وبحجّة تيسير أمور الناس والدولة، في فترة الفراغ الرئاسي، مُناقضًا بذلك موقف “التيار الوطني الحر”، حليفه المسيحي. اعتبرَ المسيحيون أنَّ هذا الموقفَ المُستغرَب هو “رسالة مبطَّنة” إليهم، لا تخلو من تهديدٍ أو تحذيرٍ ضمني، بأنَّ التمادي في المُناكفة وعَرقَلة وصول مرشَّح “الثنائي الشيعي” إلى رئاسة الجمهورية، لن يُعطي المسيحيين أكثر مما هم حاصلون عليه، وأنَّ إصرارهم على تحصيل المزيد من خلال ما يسمونه “تصحيح اختلال التوازن”، يمكن أن يُعرّضهم إلى خسارةِ المزيد.

كلُّ تلك المؤشّرات والأدلّة، أنبأت بأنَّ “حزب الله” في لبنان هو “الحزب القائد”، وبالتالي هو الذي يُديرُ الدفَّة، شاء الآخرون أم لم يشاؤوا، وبأنَّ الحزبَ القائد يتكلم، وعلى الآخرين “السمع والطاعة”.

كلّما اشتدّت المطالبة الداخلية، والخارجية أيضًا، بالتعجيل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يتنادى بعضُ القوى السياسية إلى ما سمّوه “تحديد مواصفات الرئيس المطلوب”، وكأنَّ بها تنتعش الآمال، وتصطلح الأحوال. أما “حزب الله” فكان يرى أنَّ “أهل المواصفات” يتحدثون في أمورٍ كثيرة، بينما المطلوبُ واحدٌ، وهو أن تكون للرئيس العتيد صفةٌ مُعَيَّنة، حدَّدها نصر الله بجملةٍ واحدة: “ألَّا يطعن المقاومة في الظهر”. أو بكلام فاصل ناجز: مرشح “الثُنائي الشيعي”، أو لا أحد.

هناكَ مواقف كثيرة مُماثلة، لا يعلن الحزب عنها، لكنه يتصرَّف على أساسها، ويعمل في إطارها، وذلك مراعاةً منه للحساسيات المجتمعية، وليس القوى السياسية. فهو إن كان منح نفسه “أحقيَّة السيطرة” على بيئته الحاضنة، إلّا أنه يدرك تمامًا أنَّ لا قدرة له على استمالة بقية اللبنانيين، إلّاَ بتغليفٍ إيديولوجي قوامه “المطلق الأخلاقي”، الذي يُظهر المقاومة على أنها “فوق الشبهات”.

إنَّ فكرةَ “البيئة الحاضنة” من حيثُ تكوينها الإرادي، أو الإضطراري، المُتَشكّلة من جناحَين (“أمل” و”حزب الله”)، تُمثِّلُ في نظر بقية اللبنانيين تركيبًا هجينًا، أحد طرفيه ليس فوق الشبهات. وحتى الآن لم يقدِّم أحدٌ تبريرًا لهذه الثنائية المُغلَقة على الآخرين، غير القول بتماسك البيئة الحاضنة لمُقتَضيات حماية المقاومة، على الرُغمِ من المسؤولية الجسيمة، التي يحملها أحد جناحَي هذه التركيبة، من حيث الضلوع في إيصال لبنان إلى الانهيارات التي شهدها على جميع المستويات.

إنَّ ما قامت عليه “البيئة الحاضنة” في الأصل، بعد اصطدامٍ مُسلّح بين جناحيها، هو ائتلافٌ ضمن الطائفة الشيعية، لرَصِّ صفوفها وتوحيد كلمتها وراء المقاومة، واضعةً كلَّ النقائض الأخرى خارج اهتماماتها.

هذا المفهوم للبيئة الحاضنة لا يقُيمُ وزنًا لإمكانية أن يأكل الشريك الآخر في “الثنائية الشيعية” من رصيد المقاومة، في الذهن الشعبي العام، مما ينتقصُ من رونقها في إطار، “المطلق الأخلاقي”، فتبتعد المقاومة بذلك، أكثر فأكثر، عن إطارها المبدئي باتجاه النزعة السلطوية القائمة على الاستئثار.

هذا التحوُّلُ في “البيئة الحاضنة”، بعيدًا ببطء عن “المطلق الأخلاقي” القائم على التضحية المجرَّدة بالذات في سبيل أهداف سامية، انتقص في المضمون من التعدُّديَّة اللبنانية، ليس باتجاه الوحدانية وهو أمر غير ممكن، بل من حيث حصر الانتفاع من الوضع القائم في اتجاهٍ واحد.

لقد قامت المعادلة اللبنانية على أساسِ أنَّ الاختلافَ التعدُّدي ينفع فئات مختلفة بطُرُقٍ مختلفة، فإذا بمعادلةٍ جديدة تبرزُ وتهدفُ إلى التفرُّدِ بالانتفاع، من خلال امتلاك الكلمة الفصل المقرِّرَة في جميع الشؤون المحليَّة، من قرار الحرب والسلم، وانتخاب رئيس الجمهورية، إلى تشكيل الحكومات، الى الأحكام القضائية، إلى أصغر معاملةٍ في دوائر الدولة، التي صارت كلُّها هياكل شكليَّة.

إنَّ الوحدانية في لبنان لا تقوم من خلال حكم الحزب الواحد، لكن حزبًا واحدًا لديه القوة الداخلية القصوى، ومدعوم من جهة إقليمية كبرى، يمكنه تطويع التعددية التقليدية في خدمة سلطته وأهدافه، فينتفي بذلك الفارق بين الوحدانية الاستئثارية والتعدُّدية الشكليَّة. وينسحب ذلك على “البيئة الحاضنة”، حيث تسود الوحدانية الثقافية، خصوصًا في مجال تثقيف الأجيال الجديدة على التميُّز الثقافي والمجتمعي عن بقية اللبنانيين.

إنَّ اعتمادَ ثقافةٍ مُغايرة للثقافة اللبنانية التعدّدية، في تثقيف الأجيال الشيعية الطالعة من شأنه مستقبلًا أن يوقع تلك الأجيال في مأزقٍ عند أيِّ اختلالٍ في تلك الأُسُس والأُطُر الثقافية من جرَّاء التطور الطبيعي للأوضاع العالمية، فتبرز إشكالية: إما عزل البيئة الحاضنة عن بقية اللبنانيين، أو وضعها في مواجهتهم، واستحالة عزلها عن القوى الخارجية، لتصبح أشبه بالجالية الأجنبية!

لقد تبيَّن من المشاركة المحدودة (أو الحدودية) ل”حزب الله” في حرب غزَّة، بعد توسُّعٍ مشهود في نطاق الحروب الإقليمية، غير متناسبة مع حجم لبنان وإمكاناته، أنَّ كلَّ توسُّعٍ في الخارج يؤدّي الى ضعفٍ في الداخل.

إنَّ هذا القانون الطبيعي يسري على الدول الكبرى أيضًا. فالاتحاد السوفياتي، على سبيل المثال، سقط في هذا المطب، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، وأيضًا جميع الإمبراطوريات المتعاقبة منذ فجر التاريخ. والتخبُّط الإسرائيلي في حرب غزة خير مثال على ذلك.

خلاصة هذا القانون، أنَّ الضعفَ في الداخل يؤدّي الى تناقص الشرعية، ليس لنقصٍ في القوة، بل بفعل الابتعاد عن المواقف المبدئية والأخلاقية.

المفارقة في الأمر، أن التوسُّعَ الإقليمي للفائض في قوة “حزب الله”، حشر لبنان في عنق الزجاجة، ووضعه أمام مخرجٍ واحد، يخالف فيه السياق التاريخي المتوارث، فيدير وجهه إلى الشرق وظهره إلى الغرب.

لكنه أيضًا مأزق إقليمي، إذا كان خروج لبنان من عنق الزجاجة سيؤدّي به إلى تقويضِ الأُسُسِ التي قام عليها منذ الاستقلال. هذا الاحتمال ما زال واردًا، وإذا ما تحقق في يوم من الأيام، وهو أمرٌ لا يبدو قريب المنال في المستقبل المنظور، فإنَّ ذلك في نظر العالم، ونظر اللبنانيين، يُشَكّلُ إخفاقًا لتوسّعية “حزب الله”. لكن هذا الإخفاق، لا يعني نهاية “حزب الله” كحزب لبناني يحمل همومًا لبنانية. وخطورة هذا التحوّل، أنه سيُنزِلُ الأذى بالأطراف الإقليمية التي تشارك معها أثناء توسيع دائرة اهتماماته الخارجية.

البديل من ذلك، أن يُصبحَ لبنان دولة تابعة، في إطارِ استقلاليةٍ شكلية. والمعروف أن الدولة التابعة، هي بالضرورة دولة فاشلة، تعيش على كفِّ الحربِ الأهليّة المُستدامة.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (41)

التَحَكُّمُ بَدل الحُكم

2024/04/08

يَقِفُ “حزب الله” فريدًا في البيئة الشيعية، ومُتَفَرِّدًا بين الأحزاب اللبنانية. لذا، فهو قادرٌ على فَرضِ القرارات، والخِيارات السياسيّة التي تتواءَمُ مع أهدافه، محلّيًا وإقليميًا، وتعطيل كل ما يقف حائلًا أمامَ تحقيقِ تلكَ الأهداف.

إنَّ القدرةَ التي يتمتّعُ بها الحزب مُستَمَدّةٌ من المقدرةِ على تقديمِ الخدمات الاجتماعية والضرورات الحياتية لبيئته الحاضنة، التي هي ترسه ودرعه الواقي، فوثَّق روابطه بها، فسدَّ بذلك عجز الدولة عن تأمين تلك الخدمات، التي ينفق عليها مما يستحصل عليه من دعم مالي وافٍ ومُستدام من “الجمهورية الإسلامية” في إيران، باعتراف الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، وهذا ليس مُستَغرَبًا في السياسة اللبنانية القائمة على “الزبائنية”، إلّا أنه مُتَفرّدٌ في وسعِ قدرته.

في 18 كانون الثاني (يناير) 2006، (قبل حرب تلك السنة المُدَمِّرة بسبعة أشهر)، أنكرَ أمين عام “حزب الله”، الرغبة أو “النِيّة”، في الحُكم، فقال في جريدة “الحياة”، التي كانت تصدر من لندن: “ليست لدى الشيعة نيَّة لحُكم لبنان، وأقصى ما يطمحون إليه، هو الشراكة مع بقيّة اللبنانيين”.

إلّا أنَّ المُتغَيِّرات السياسية الداخلية والاقليمية بدَّلت “النيَّة”، فجعلت الحزب يُفاضِلُ بين “الحُكم” و”التَحَكُّم”، فجنحَ إلى التحكُّم، الذي سمحَ له إدارة الأمور عن بعد، والتنصّل من مسؤولية انهيار الدولة وتفكّكها.

إنَّ ما ساعدَ الحزب على ذلك امتلاكه ترسانة متقدّمة من الأسلحة الحديثة المتطوِّرة، مكّنته من مواجهةِ إسرائيل ومعادلتها ميدانيًا. وبالتالي، أخذَ لنفسه حرّية الانفراد بقرارِ الحربِ والسلم من غيرِ مُشاورَةِ أحدٍ من القوى السياسية اللبنانية الأخرى، بما فيها الدولة اللبنانية وجيشها الوطني وقواتها الأمنية.

وعاملٌ آخر ساعده على التحكّم، ثُنائيته مع “حركة أمل”، التي يحرصُ عليها حرصًا وجوديًا، لأنّها مكّنتهما من احتكار التمثيل الشيعي من دون مُنازِع، مما جعلَ أي قرار وطني رهن قبولهما أو رفضهما. وليس خافيًا على اللبنانيين أنَّ “حزب الله” بات القوة المُقَرِّرة في الوضع اللبناني الراهن. وفي وقت من الأوقات اعترفَ بذلك علنًا رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، مما أوحى بأنه يستندُ إلى هذه القوة التقريرية في أعماله التصريفية، وبأنَّ هذا الوضع سوف يواجه أيّ رئيس حكومة غيره. وكون رئيس الحكومة أقرَّ بأنَّ الكلمة الأخيرة في السلطة التنفيذية ليست له، يخلق إشكالية تتعدَّى التركيبة الدستورية للنظام اللبناني إلى المسألة الوجودية التي قامت عليها الشراكة الوطنية للجمهورية اللبنانية منذ الاستقلال والميثاق الوطني. وهذا يؤكّدُ حتمية اختلال التوازن الوطني بفعل فائض القوة لأيِّ مكوِّنٍ من مكوِّنات الكيان اللبناني.

إنَّ حصرَ قوةِ الحزب بسلاحه، أو امتلاكه قرار الحرب والسلم، يُغطي عمليًا انعزال الجسم الشيعي المُتراص عن القوى والأحزاب اللبنانية الأخرى، وأيّ علاقة اتصال مع الآخرين لا تتعدّى السطحية، ولا تَدخُلُ في العُمقِ كشراكةٍ تقريرية.

وقد تبيَّنَ ذلك بوضوح خلال الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، عندما انبرى “الثُنائي الشيعي” إلى إحباط تلك الانتفاضة، في إعلانٍ واضحٍ عن رغبتهما في استمرار الأمر الواقع السابق كما هو عليه، بعُجَرِهِ وبُجَرِهِ، خشية أن تتطوّرَ تلك الانتفاضة الشعبية لتنال من البيئة الحاضنة المرصوصة الداعمة للمقاومة.

يقولُ بعض المُنخَرِطين في تلك الانتفاضة أنَّ تدخّلَ “الثنائي الشيعي” اقتصر، بعد الأسبوع الأول، على سحب محازبيهما من ساحة الاعتراض، وتلا ذلك أساليب قسرية لتفريق المُحتجّين. فالانتفاضة الاحتجاجية الواسعة التي انفجرت فجأة، كانت عابرة للطوائف اللبنانية، وبالتالي فإنه ليس من الممكن ل”الثنائي الشيعي” أن يواجهها مواجهةً قمعية سافرة، بل استخدمَ ما يكفي من الوسائل لإعادة الاصطفاف على القواعد الطائفية السابقة.

مُنذُ ما قبلَ دخولِ “حزب الله” شريكًا في السلطة السياسية، تصرَّفَ علنًا على أساسِ أنَّ المقاومة ليست بحاجة إلى إذنٍ من أحد، بل دَحضَ علنًا، فكرة الإجماع الوطني لتحصينِ المقاومة. فقد آثرَ الحزب أن تستندَ المقاومة إلى فكرة “البيئة الحاضنة” الموثوقة لتحصين نفسه بدلًا من التضامن الوطني غير الموثوق. ومن هنا نشأت إشكالية التناقض بين المقاومة كعمل سرِّي في زمن الاحتلال الإسرائيلي، وبين المشاركة في السلطة كعملٍ علنيٍّ بعد التحرير. وفي ذهن بقية اللبنانيين، خارج إطار “البيئة الحاضنة”، أنَّ “حزب الله” أراد من مشاركته في السلطة تاليًا، أن يتقاضى منهم ثمن ذلك التحرير، مما يُفسِّرُ في رأي بعضهم هيمنة الحزب على القرار فصارت له “الكلمة الأخيرة”، على قول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.

إن إشكالية “البيئة الحاضنة” لا تكمُنُ في السيطرة السياسية، سرَّا أو علنًا، بل في أصلِ التركيبة الكيانية المُتَفَق عليها للوجودِ اللبناني التعدُّدي المانع لاختلالِ التوازن حيث يؤدِّي اختلاله دومًا إلى تجدُّدِ الحربِ الأهلية بأوجهٍ مُختَلفة. ذلكَ أنَّ فكرةَ “البيئة الحاضنة”، والمقصود بها البيئة الشيعية تحديدًا، تُعطي انطباعًا بأنَّ المقاومة ليست بحاجة إلى أيِّ طَرَفٍ آخر لتحصين نفسها، بمعنى أنَّ أيَّ بيئةٍ أخرى من المُستَبعَد، أو ربما من المستحيل، أن تكونَ حاضنة، هذا إذا لم تُعتَبَر مُعادية. وبهذا المعنى، تُعطي انطباعًا بأنّها فكرةٌ انفصالية، أو انعزالية، أو حتى تقسيمية. فالتحصينُ بالمعنى المانع للاختراق من العدو الخارجي يُمكن في وضعٍ تعدُّدي، كالوضع اللبناني، أن يتحوَّلَ إلى مانعٍ للتلاقي مع بقيّةِ البيئات اللبنانية باعتبارها غير موثوقة أو لديها أجندات مُختلفة.

إنَّ التهمة التقسيمية، التي طالما رُميَ بها المكوِّن المسيحي، كذريعةٍ من ذرائع الحرب الأهلية، هي تهمةٌ باطلة من الأساس، لكن التعامل مع ذلك المكوِّن ما زال مستمرًّا على أساس هذه التهمة، مع أنه هو الذي اختار “لبنان الكبير” للعيش مع الآخرين بالشراكة والتوازن.

في هذه الإشكالية يَكمُنُ سرُّ استمرار إثارة النزعة التقسيمية في وَجهِ المكوِّن المسيحي كلما طالب بشيءٍ من شأنه تصحيح الاختلالات الحاصلة بفعل اختلال الموازين التاريخية.

على أنَّ ذلك يبقى أقلَّ مدعاة للاختلال الكياني من تحوُّلِ “البيئة الحاضنة” (الشيعية)، تحت دعوى الاضطرار إلى التحصين، إلى ما يشبه “الغيتو” الخائف من الآخرين، وهو الذي يخيفهم، فتنشأ فيه مع الوقت ثقافةٌ مُغايِرة، ومصالح مُتباعدة، أو حتى طرائق عيش مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يأخذُ مفهومُ الشراكة الوطنية معنىً مُغايرًا ليصبح، كما ظهر من خلال القول بأنَّ ل”حزب الله” “الكلمة الأخيرة”، على قاعدة: “ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم”.

من الملامحِ المُقلِقة لبقية اللبنانيين أن يكونَ شريكٌ مؤسّسٌ في الوطن، من لبنان ظاهريًا وليس فيه عمليًا، لأنَّ فكرة “البيئة الحاضنة” تُعطي معنى عدم الثقة بالشركاء الآخرين، والاختلاف بكل ما عدا ذلك بحيث يمكن للقائلين بالتحصين في “البيئة الحاضنة”، أنَّ حلَّ هذه الإشكالية هو في السيطرة على الآخرين من خلال الاستحواذ على “الكلمة الأخيرة”، فيصبحون مهمَّشين ومنقسمين فيخفُّ وزنهم وتذهب ريحهم.

وما كانت فكرة “البيئة الحاضنة” لتتجذَّر وتأخذُ بُعدها الخلافي في السياسة، والاختلافي في الثقافة، لولا الأوضاع الإقليمية والدولية المؤاتية لمثل هذا التوجه، الذي ربما لم يكن مقصودًا في الأساس من أهل تلك البيئة. لكن ما حدث قد حدث، والتفكيرُ قد يَنصَبُّ على البحث عن صيغة، سلبية بطبيعتها، في حال لجأت المكوّنات الأخرى إلى اعتماد نظريَّة “البيئة الحاضنة” ذاتها، لحمايةِ نفسها من استقواءِ فريقٍ واحدٍ بحصانة بيئته.

والأغلب على الظن أنَّ مثلَ هذا التطور، المُمكِن نظريَّاً، مُستَبعَد في المدى المنظور، بسببِ الانقسامات الكثيرة في البيئات الأخرى، مُقابل التراص والتماسك في “البيئة الحاضنة” القائمة في المكوِّن الشيعي.

:لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (40)

“أمل…” والخِياراتُ السَيِّئة

2024/04/07

مضى عليها نصفُ قَرنٍ ويزيد، ولمَّا تزل قضية اختفاء الإمام موسى الصدر (1978)، يكتنفها الغموض، ليس في ما نَتَجَ عنها، وإنّما في أسبابها ومُسبّباتها، التي ساد حولها جَدَلٌ كثير.

وبعد سقوط نظام معمر القذافي، المُتَّهَم بها، مخرَ عبابَ تلك القضية كثيرون، ولم تهدأ التكهّنات والفرضيات، وكأنه لا يُرادُ أن يُفصَلَ في أمرها.

بعد تغييب الإمام، فَشِلَ السيِّد حسين الحسيني، (رئيس مجلس النواب، وكاتم أسرار مؤتمر الطائف، وخافي مسودّاته، كما يقول ميشال معلولي)، الذي تولّى قيادة حركة الإمام، في الحفاظ عليها، وعدم تحويلها إلى “تنظيمٍ مُسلَّح” ينضمُّ إلى التنظيمات الطائفية، وينغمسُ في أتون الحرب الأهلية.

وللحسيني يدٌ مع الإمام في تأسيس الحركة، كقوّةِ دَفعٍ للتلاقي، والتحاور، والتفهّم والتفاهم، مع المكوّنات اللبنانية الباقية، فانخرط، معهما، رجال دين من طوائف أخرى، ورجال فكر، وسياسيين، نشروا الفكرة وخدموها.

وعندما أيقنَ إمام المحرومين، أن الدولة تسير في طريق التفكك، والانحلال البطيء، ولن يكونَ، تبعًا لذلك، بمقدورها حماية مواطنيها، والتصدّي لمختلف الأعمال العدوانية على الجنوب، حيث الكثرة الشيعية، بفعل الوجود الفلسطيني المسلّح هناك، (بموجب “اتفاق القاهرة” الذي أُبرِمَ برعاية الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1969 وكرَّس انتهاك السيادة اللبنانية)، مالَ الصدر خلال السنوات الفاصلة بين “اتفاق القاهرة” واندلاع الإحتراب الداخلي سنة 1975، إلى جعل الحركة تنظيمًا مُسلّحًا: “افواج المقاومة اللبنانية” (أمل).

إلَّا أنَّ الإمام حرص خلال فترة وجوده في لبنان على عدم انغماس “أمل” في القتال الطائفي، وحاول الحسيني، من بعده، واستقال سنة 1980 دفاعًا عن ذلك.

لكنَّ هناك أسبابًا أخرى جعلت الحسيني يترك الحركة، التي أسهم في تأسيسها، من أهمّها أنَّ النظامَ السوري لم يكن مُرتاحًا إلى مواقفه، وكانت انتخابات سنة 1992 قطعت شعرة معاوية بينه وبين الرئيس حافظ الأسد، الذي لم يستطع تحمّلَ انتقادات الحسيني حول العملية الانتخابية، وما شابها من ترغيبٍ وترهيبٍ وتزوير، لأن لائحته أُسقِطَت، وفاز بمفرده، فعاقبه الأسد بعدم عودته إلى رئاسة مجلس النواب.

وقد تكونُ مُعارضةُ الحسيني للرئيس الياس الهراوي، القاسية، هي الأخرى أسهمت في احمرار عين دمشق عليه.

وَصَلَ نبيه بري إلى رئاسة الحركة، فابتعدَ بها عن المفهوم الأصلي، بفعلِ الانخراطِ المُستَدام في الحرب الأهلية. فهو بدافعٍ من النظام السوري، اختار النصف الأخير من مُعادَلَة الإمام، تحت عنوان “السلاح زينة الرجال”، مُتناسيًا النصف التأسيسي السلمي الجامع للمكوّنات اللبنانية الأخرى، وقد يكون مردُّ ذلك، عنده، إلى أنّهُ باختفاء الإمام اختفت مَرجَعية التصويب، أو لأنَّ الإحترابَ الداخلي، خلافاً لتوقّعاته، وتوقّعات سائر اللبنانيين، طالَ أمده، فتغيّرَت الحسابات ومالت الموازين.

وخلافًا لما كانت عليه الحركة، بقيادة الحسيني، حيثُ كانَ عملها في إطار السياسة اللبنانية التي كانت سائدة حتى سنة 1975، فإنّها على عهد برّي، المُمتَد، عملت في إطارِ الأمرِ الواقع السوري المُسَيطِر على لبنان، خلال الحرب الأهلية وبعدها، أو بتعبيرٍ آخر، نَقَلَ بري “أمل” من العمل السياسي المحلّي المحدود، إلى العملِ كحالةٍ ميليشياوية مُتَوَسِّعة على إيقاعِ أجندةٍ إقليمية مُتقلّبة.

وربما لهذا السبب اتّسَعت مروحة معاركها في اتجاهات متعدّدة، منها اشتباكٌ مع “حزب الله” كادَ أن يؤدّي إلى “حَربٍ أهلية شيعية” داخل الحرب اللبنانية. وقد جرى تدارُكُ هذا الأمر بتفاهُمٍ طويلِ الأجل، ربما بتأثيرٍ خارجي، ومن هذا التفاهُم، المُستَمِرّ حتى الآن، نشأت الحالة التي أطلقوا عليها اسم “البيئة الحاضنة”، أي وحدة الطائفة الشيعية المؤيِّدة والداعمة للمقاومة، والمُحَصِّنة لها، والمانعة لاختراقها، وخزّانها البشري، والمنبت المحلي لكوادرها ومقاتليها.

حدثَ ذلك بتدبيرٍ من إيران، ولإتمامه ونفاذه كانَ لا بُدَّ من إزاحةِ قُطبَي الشيعية السياسية، محمد حسين فضل الله وحسين الحسيني، فوُجِّهت الأنظار إلى السيد حسن نصر الله لحجب فضل الله عن التأثير الوازن في البيئة الشيعية، بينما كُلِفَ نبيه بري بدعمٍ من دمشق، تغييب أثر الحسيني السياسي، قبل أن يُغَيِّبهُ الموت في 11 كانون الثاني (يناير) 2023. وقد ساعد على ذلك مقاطعته لمجلس النواب، احتجاجًا على ما أفرزته انتخابات 1992 من نتائج مُقَرَّرة مُسبَقًا، بما في ذلك رئاسة المجلس المُطَوَّبة مدى الحياة للرئيس نبيه بري.

فكانَ ما صار يُسمّى “الثُنائي الشيعي”، غير القابل للاختراق أو التزعزع، فاستحالَ إلى قوةٍ سياسية أولى في البلاد، فضلًا عن قوته العسكريَّة، بحيث لم يعد مُمكنًا انتخاب أيّ رئيس، أو تشكيل أيّ حكومة، أو القيام بأيِّ تشريع، من غير موافقته، وفوق ذلك، لم تعد هناك أي جهة شيعية أخرى قابلة، أو مؤهَّلة، للخروج عن هذا الإجماع المتين.

هي “حالةٌ مُصَفَّحة” بالمعنى السياسي الداخلي، وبالتالي، معزولةٌ عن بقية القوى السياسية اللبنانية، أو تتكلم لغةً غير لغتها. وربما استسهلت عزل نفسها بهذه الطريقة لاعتباراتٍ أمنية، لكونها مُستَهدَفة من إسرائيل، وربما من دولٍ أخرى عربية وأجنبية.

لذلك، أخذت “أمل”، تحت ظل الوصاية السورية، منحىً هجوميًا تجاه قوى سياسية وميليشياوية أخرى على الإيقاع الإقليمي، فتقاتلت مع حركات كانت شاركت في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1982، حتى “مؤتمر الطائف” عام 1989. ففي غضون تلك الفترة، اصطدمت “أمل” بالسلاح مع قوى منضوية سابقًا في الحركة الوطنية اللبنانية، منها ” الحزب التقدمي الاشتراكي” في بيروت الغربية، و”حزب البعث” العراقي، كما شنت حربًا دامية على المخيمات الفلسطينية، ومع “حزب الله” قبل تحالفهما المتين، ربما بسببِ تضارُبٍ مؤقّت بين القوى الإقليمية المتنافسة، أو المتحالفة، في لبنان.

كانَ الوضعُ العام في البلاد واقعًا بين المطرقة الإسرائيلية والسندان السوري، فلم تكن أمامه خيارات كثيرة، فانحصرَ ما هو مُتاح منها أمام جميع اللبنانيين، بمن فيهم الميليشيات المسلحة، بين القبول بالأمر الواقع مع استقرارٍ نسبي، أو تفجيره باتجاه الفوضى العارمة بصرف النظر عن النتائج. هما خياران أحلاهما مرُّ، لأنهما يهدفان الى إضعاف الدولة وتفككها.

في ظلِّ الصراعات الإقليمية عبر قوى محلية مسلحة بكلِّ أنواع الأسلحة، من المحتم أن تُصبِحَ الدولة المركزية هي الطرف الأضعف، لكونها عرضةً للاقتسام بين المتصارعين على أرضها. ولا يختلف” الاقتسام” كثيرًا عن “التقسيم” إلّاَ من حيث الشكل، لأنَّ كلَّ قوة محلية تكون مُلزَمة بتدبيرِ الأمور في مناطق نفوذها بما يسمح لها إدامة ذلك النفوذ. ومن الطبيعي أن يكون الفريق القادر على التدبير هو الأكثر وسيلةً للحصول على التمويل، سواء من موارد الدولة المُقتسَمة، أو من مصادر خارجية، إقليمية أو دولية.

من هنا يُمكِنُ تفسير فشل الدعوات للحوار الوطني التي أطلقها الرئيس نبيه بري، من حيث إن انغلاقَ المكوّنات اللبنانية على نفسها، وعلى بعضها، هو في جانبٍ منه نتيجةٌ للحالةِ التي أسهم بري، طوال سنوات، في إرسائها. وهذا ينطبقُ بدرجاتٍ مُتفاوتة على بقيّة القوى السياسية المُعَطِّلة للدولة ومؤسّساتها كافة.

فالأزمة اللبنانية المُستدامة، بلغت حدَّ “التراكم الأقصى” للمقوِّضات السياسية، والاقتصادية، والمالية، والصحية، والبيئية، والإدارية، إضافةً إلى أزمةِ وجودِ أعدادٍ لا تُحصى من اللاجئين والنازحين، فوق بُنيةٍ تحتية قديمة ومُتهالِكة أصلًا.

في المحصلة فإنَّ ثقلَ ذلك التراكم، من أهم أسبابه، كثافة الملفات القابعة في “برَّاد جارور” رئيس مجلس النواب، مما جعله يفقد القدرة على استبصار نقطة البداية.

:لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (39)

إِمامُ المَحرومِين

2024/04/06

حكايةُ ريمون إدّه مع الشهابية والعسكر سالَ من أجلِها حِبرٌ كثير، وهي بدأت لمّا أخَذَ حَجمُ “المكتب الثاني”، (الذي كان العميد إدّه يُطلِقُ عليه “الجماعة”)، ينمو، ويزدادُ أثره وتأثيره في الداخل. وعندما اقتَرَنَ العَهدُ الشهابي بالعسكر، كانت المواجهة التي اختصرها إدّه في “مهرجان قطين” بما سمّاهُ “الأخطار الثلاثة”: إسرائيل، الشيوعية، والشهابية.

في الانتخاباتِ النيابية سنة 1964، في دائرة جبيل، تَمَكّنَ “المكتب الثاني” من إسقاطِ لائحةِ ريمون إدّه، التي كانت تضمُّ إميل روحانا صقر وأحمد إسبر، ففازت لائحة “الجماعة” التي تَشَكّلت من أنطون سعَيد، شهيد الخوري وعلي الحسيني. (كان الفارق بين إدّه وسعَيد لا يتعدّى 213 صوتًا)، إلّا أَّنَّ العُمرَ لم يُسعِفَ أنطون سعَيد فتوفي بعدَ سنةٍ من انتخابه، ليستَرِدّ ريمون إده مقعده في الانتخابات الفرعية سنة 1965.

في سنة 1968 اتّخذَت الانتخاباتُ النيابية منحىً مُختَلفًا في مواجهة الشهابية وعسكرها، فلم يَكُن الزعماء الموارنة الثلاثة، كميل شمعون، ريمون إدّه، بيار الجميل، مُنقَسِمين بين فؤاد شهاب ومُعارضيه، فأتَلَفَ الثلاثة في حلفٍ سَمّوهُ “الحلف الثلاثي”، اجتاح صناديق الاقتراع.

في تلك اللحظة، أزفت ساعة العسكر والنهج الشهابي، وراحت تلوحُ في البلاد ملامح الفراغ، بعدما كان “المكتب الثاني” يقبضُ بحزمٍ على مفاصل الدولة أمنيًا وسياسيًا، فتسلّلَ الفدائيون الفلسطينيون، التابعون لما سُمِّيَ، وقتذاك، “الحركة الفدائية الفلسطينية”، بحرّية أكثر.

كانَ لتلكَ “الحركة “، التي أُطلِقَت في اليومِ الأول من سنة 1965، بشكلٍ مُغَلَّفٍ بالغموض، صدى شعبيًا، وسياسيًا في لبنان، باتجاهَين مُختلفين: فعلى الصعيدِ الشعبي كانَ من الطبيعي التعاطُفِ مع كلِّ عملٍ فلسطيني، أو عربي، ضدّ دولة إسرائيل، إلّا أنّهُ على الصعيد الرسمي، كان الأمرُ مُحرِجًا ومُعقّدًا في آنٍ معًا.

بدَت الحركة الفلسطينية، وكأنها ردَّةُ فعلٍ على مقرّرات القمة العربية الأولى، التي دعا إليها الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة عام 1964، ومنها تشكيل “منظمة التحرير الفلسطينية” بقيادة الديبلوماسي الفلسطيني المعروف أحمد الشقيري، وهي المنظّمة التي آلت قيادتها تاليًا إلى ياسر عرفات، قائد حركة “فتح”، التي باشرت الكفاحَ المُسلّح ضد إسرائيل، باسم جناحها العسكري “العاصفة”.

لم يتوقَّع أحدٌ في لبنان أن يكونَ جنوبه أولَ مدخلٍ إلى العمل الفلسطيني المسلّح، إلى أن ألقى الجيشُ اللبناني القبضَ على خليّةٍ فلسطينية حاولت خلسةً التسلّلَ إلى الأراضي المحتلّة للقيامِ بعمليةٍ فدائية، كان يقودها شخص يُدعى جلال كعوش، قالت الجهات الرسمية إنه مات حين ألقى بنفسه من النافذة مُحاوِلًا الفرار من معتقله.

راجَت روايةٌ أُخرى عن مصيرِ كعوش، صدَّقها الناس أكثر، وتلقّفها السياسيون، نشرتها جريدة “الأحرار”، التي كان يرأس تحريرها الراحل جان عبيد، النائب والوزير في ما بعد، بمقالٍ دَحَضَ فيه الرواية الرسمية، ما يعني أنَّ المُسَلَّحَ الفلسطيني ماتَ تحت التعذيب، ووصفه بعنوانٍ عريضٍ على الصفحة الأولى بأنّه “شهيد”.

حقّقَّ مقالُ “الأحرار” سبقًا صحافيًا، فهو كشفَ للرأي العام اللبناني عن حادثٍ كانت تَرغَبُ الدولة في إخفائه، أو طمسه، الأمر الذي حمل الشيخ ميشال الخوري، وزير الإعلام والدفاع، إلى عقدِ مُؤتمرٍ صحافي في وزارة الدفاع لتوضيح ملابسات الحادث، فأماطَ اللثام عن سببٍ، ظلَّ مجهولًا في الفترة بين قرارات القمة العربية الأولى 1964، ومقتل الفلسطيني جلال كعوش في التاسع من كانون الثاني (يناير) 1966، وهو أنَّ الأجهزة اللبنانية اعتقلت الخليّة الفلسطينية بموجبِ تعليماتٍ من القيادة العربية المُوَحَّدة (المُنبَثِقة من مؤتمر القمة بقيادة الفريق المصري علي علي عامر)، التي طلبت من سلطاتِ الدولِ المُحيطة بإسرائيل (لبنان، سوريا، الأردن) أن تمنَعَ تسلُّلَ عناصر من حدودها إلى الأراضي المحتلة، لأنَّ ذلك قد يؤدّي إلى استدراجِ الدول العربية إلى مواجهةٍ مع إسرائيل قبل اكتمالِ الاستعدادات، التي عكفت عليها القيادة المُوَحَّدة لتعزيزِ قوّاتٍ دفاعية عربية مشتركة.

في خضمِّ تلك المرحلة الحائرة في لبنان والعالم العربي، لَمَعَ في الفضاء اللبناني شهبٌ مُضيءٌ هو الإمام موسى الصدر، مؤسّس المجلس الشيعي الأعلى، الذي به صارَ الجسمُ السياسي والشعبي الدائر حوله قطب الرحى، أو نقطة الفصل، في السياسة اللبنانية، لكون حركته، نشأت من بدايتها، بمنطلقاتٍ لبنانيةِ الجوهر والمُبتَغى. وباختفائه القسري في العام 1978 في ليبيا، تضخّمت الحركة التي أطلقها، فخفَّ وهجها، حتى تضاءل تميّزها وبريقها من بعده، بفعل التحوُّل المبدئي عما كانت عليه، لتنخرط تاليًا في الحرب الأهلية، كقوة ميليشياوية، مما سمح للجسم الشيعي في لبنان بتجاوزها، بعد “الثورة الخمينية” في إيران في العام 1979، عندما تأسّس “حزب الله” كحركةِ مقاومةٍ ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، من غير انغماسٍ في الأوضاع السياسية الداخلية.

لم يُقَدَّر لي أن أعرفَ الإمام موسى الصدر، إلّاَ من المجاملات: مرةً سنة 1973 عندما جاء إلى بلدتنا القرعون، في البقاع الغربي، للتعزية بوفاة أحد أقاربنا، ومرةً  سنة 1974 عندما اتصلَ بي هاتفيًا للاستفسارِ عن خبرٍ نشرته جريدة “بيروت” التي كُنتُ أرأس تحريرها. إلّا أنه قد تسّنى لي معرفةَ الكثير عن الإمام، من خلال رفيقيه اللذين أُخفِيا معه في ليبيا، الشيخ محمد يعقوب، والصحافي عباس بدر الدين، الذي تعرفت عليه في مكتب رياض طه، نقيب الصحافة اللبنانية الراحل، إذ عملَ لفترةٍ من الزمن في “وكالة أنباء الشرق” التي كان يُصدرها النقيب، قبل تأسيسه لوكالته الخاصة باسم “وكالة أخبار لبنان”. وكُنتُ أنا في تلك المرحلة أرأس تحرير جريدة “الكفاح” التي كان يصدرها النقيب طه، وكثيرًا ما جلسنا إلى الحديث، حيث كان بدر الدين يستفيضُ في الكلام عن الإمام.

كان عملي الصحافي، وقتذاك، يَفرُضُ عليَّ المُتابَعة المُشبَعة بالمعلومات عن “ظاهرة الإمام”، مُلتَمِسًا تأثيرها، سواءَ في المجتمع الشيعي أو في المكوّنات اللبنانية الأخرى. وسمعتُ آراءً مُتفائلة بها الى أعلى الدرجات، وأخرى مُشَكِّكة بها وبغاياتها إلى درجة الحذر الشديد. وكانت توجد أيضًا جهاتٌ رَبَطَت تاليًا بين اختفاء الصدر في العام 1978، وبين الثورة الإسلامية في إيران بعد أشهرٍ عدّة فقط. وهناكَ ما يُشيرُ إلى أنَّ الحركة الصدرية، في بدايتها، لقيت ترحيبًا واحتضانًا في أوساط الجيش اللبناني، في محاولةٍ مُتأخّرة للإمساكِ بالوَضعِ العام بعد عمليةِ تفكيك الدولة الشهابية، التي بوشرت في بداية عهد الرئيس سليمان فرنجية، بملاحقة وطرد ضباط “المكتب الثاني” الذين لجأ بعضهم إلى أوروبا، وبعضهم الآخر إلى سوريا.

قبلَ تلكَ المرحلة الرمادية بين تفكيك الأجهزة الأمنية الشهابية من أواخر 1970، وبين نشوب الحرب الأهلية عام 1975، اقتصرَ نشاطُ الإمام الصدر على التوعية، والتوجيه، من خلال المحاضرات، والندوات، والزيارات،  واللقاءات، فأطلق “حركة المحرومين”، التي تقبّلها المسيحيون، وفُتحت أمام الإمام أبواب المعاهد، والأديرة، واستقطبَ الصفوة من المُفكّرين المسيحيين، كما سانده المطران غريغوار حداد، ( مطران الفقراء، أو “المطران الأحمر”، كما كان يُلقَّب)، إلّا  أنهُ ما لبث في العام 1974 أن أدخلَ على الحركة، خفيةً وبعيدًا من الأنظار،  التنظيم المُسلّح، واتخذ من بعلبك مركزًا لتدريبِ أفواجٍ من الشباب الشيعة، وفي ساحةٍ في “مرجة العين”، كانت تتمّ  حلقات قسم اليمين على الولاء للحركة، وتسّببَ حادثُ انفجارٍ في أحد مراكز التدريب إلى افتضاحِ أمرِ التنظيم المسلّح الذي أطلقَ عليه الإمام “أفواج المقاومة اللبنانية” (اختصارًا “أمل”).

حَدَثَ ذلك على مشارف انحدارِ البلاد إلى الصراع العسكري بفعلِ ثقلِ وطأةِ الوجود الفلسطيني المسلّح، خصوصًا في الجنوب.

كانَ للإمام الصدر موقفٌ ملتبسٌ من مسألة السلاح الفتَّاك، فقد هالهُ استخدامه، وما نتجَ عنه، من خلال ما كان يُعاينُ ويسمعُ في بداية الإحتراب الداخلي.

في 27 من حزيران (يونيو) 1975 توجّهَ الإمام بعد الظهر إلى مسجد “الكلية العاملية”، في “شارع عمر بن الخطاب”، وارتقى سُلّم الطابق الثاني من المسجد حاملًا بيدٍ حقيبة، وباليد الأخرى عباءته وكتبه، وجلس في إحدى زوايا المسجد ومعه أربعة من معاونيه الذين بادرهم، كما خبَّر واحدهم: “طوال النهار وليله كنتُ أتلقّى شكاوى الرجال، وأسمعُ نحيبَ الأرامل، وبُكاءَ اليتامى، وعلى الرُغمِ من أنني سعيتُ جهدي، ولم أذُق طعم النوم، فإنَّ القصفَ لم يهدأ والأوضاع تزداد سوءًا، فقررتُ أن اعتصمَ وأصومَ حتى الشهادة، أو حتى تعود البلاد إلى حالتها الطبيعية، وجئتُ أُصلّي إلى الله أن ينقذَ الوطن”.

توجُّهه السلمي في البداية، كان يرى أنَّ السلاحَ لا يحلُ الأزمة، بل يُسرِّعُ في تمزيق البلد. وفي خطبة الاعتصام في 28 من حزيران (يونيو) نبذ العنف، بقوله: “علينا أن نبتعدَ عن العنف، لا نُريدُ عُنفًا، نريدُ أن نقوى على القوة”، وزاد:” بلدنا يأبى أن يكونَ الحقُّ فيه للقوّة، نُريدُ أن نرفضَ ذلك”.

لكنَّ الإمام ما لبث أن أعلنَ من بلاد بعلبك في البقاع أنَّ “السلاحَ زينةُ الرجال”، وعند هذه النقطة الفاصلة بين التوجُّهَين، قام بتأسيس تنظيم حركة “أفواج المقاومة اللبنانية ” (“أمل”)، ليس من أجل الدخول أو المشاركة في الحرب الأهلية، بل لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وحماية مجتمعه من أيِّ اعتداء.

إنَّ إعلانَ إمام المحرومين بأنَّ “السلاح زينة الرجال” من بعلبك في البقاع الشمالي، له مدلولٌ تاريخي، من حيث تمجيد السلاح في منطقةٍ مُهمَلة من الدولة وخارجة عليها.

في المرحلة الفاصلة بين العهدَين التركي والفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، نشأت في تلك المنطقة ظاهرةٌ مُسلَّحة محورها أشخاص يُطلقون عليهم لقب “الأشقياء”، وكبيرهم في ذلك الوقت ملحم قاسم (أبو علي)، الذي كان يأخذ من الأغنياء ليُعطي الفقراء (على طريقة روبِن هود)، الرجل القوي الذي يثأر للظلم ويخفف معاناة الفقراء. صحيحٌ أنه كان يستخفُّ بالسلطة، لكنه عُرِفَ بمحبته للبنان وحرصه على وحدة أراضيه وشعبه، كما عُرِفَ بتمجيده للسلاح إلى “درجة التأليه” لأنَّ فيه القدرة على الفصل بين الموت والحياة.

في مذكرات رستم حيدر، وهو من بلاد بعلبك، وكان وزيرًا في حكومة الملك فيصل في الشام، ثم انتقل معه إلى العراق، وأُنيطت به حقيبةٌ وزارية في بغداد أيضًا، قال عن ظاهرة “الأشقياء” وملحم قاسم، “إنهم ذوو طرافة، لكنهم مصدرُ إزعاجٍ للنضال الوطني”. وربما كان التعبير عن هذا الاستياء من تلك الظاهرة المسلَّحة، أنَّ ملحم قاسم كان ضد الانضمام إلى الدولة العربية، كما فعل رستم حيدر، وشديد التعلّق بلبنان وبصداقته مع المسيحيين، حيث يُقال إنه عَمَّدَ جميع أبنائه في كنيسة “طليا”!

ويروي أهل البقاع قصة عن ملحم قاسم، أنه ترافق يومًا مع كاهنٍ مسيحي من رأس بعلبك إلى مدينة بعلبك، وفي الطريق سأل أبو علي رفيقه الكاهن: “كيف هي قسمة الجنة؟”

فأجابه الكاهن: ” 12 قيراطًا للموارنة، و12 قيراطًا لكافة الطوائف الأخرى. أما الشيعة فلهم قيراطان فقط”.

ثم سأله أبو علي ما إذا كان بإمكانه أن يشتري لنفسه أحد قيراطَي الشيعة، وكم ثمنه، فقال له الكاهن: “نعم هذا مُمكن، وثمن القيراط ليرتان ذهبيتان”.

ولدى وصولهما الى بعلبك، قال ملحم قاسم للكاهن: “بما أنَّ الشيعة جميعهم، وهم على ما هم من الكثرة، لا يملكون سوى قيراطَين، فإني أرغبُ أن أبيعك حصَّة الشيعة بالكامل بالثمن الذي حددته أنت، أي ليرتان للقيراط”، ثم أرغم الكاهن على دفع أربع ليرات ذهبية.

!ومن وقتها، يقول الناس في البقاع إنَّ الشيعة لا مكان لهم في الجنة، لأن ملحم قاسم باع حصتهم للموارنة

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (38)

!مُفاضَلَةُ الإمام بَينَ العَرَبِ ولبنان

2024/04/05

عانى الشيعة، على زمنِ الحُكم العُثماني، مرارات الضيق والحرمان، فكان “مشروعُ لبنان الكبير” خَشبةَ خلاصٍ تعلّقوا بها.

غير أنهُ كانَ من بينهم، ولم يكونوا قلّة، مَن استهواهُم “مشروع الدولة العربية” في دمشق، الذي أطلقه الملك فيصل بن الحسين، شريف مكة، قبل الحُكمِ السعودي في الحجاز.

على الرُغمِ من أنه لم يطرأ في “جبل عامل” أيَّ تحسّنٍ لأوضاعِ الشيعة العامة، لا تحت الانتداب، ولا في ظلِّ عَلَمِ الاستقلال، إلّا أنَّ أئمتهم آثروا، بعد موازنة البدائل غير الموثوقة، بقاء الشيعة الجُزء المُنضوي تحت لواء دولة لبنان الكبير.

هذا يُفسِّرُ ظاهرةً ملفتة على الصعيد الشيعي الشعبي، لا سيما في أوساط المثقّفين، في المرحلة الاستقلالية حتى مشارف الحرب الأهلية عام 1975. فمع انتشار الحركات الراديكالية واليسارية، انخرط كثيرون من الشيعة في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني في البداية، مع أنه كان حزبًا محظورًا من الدولة اللبنانية الموالية للغرب في مرحلةِ الحرب الباردة بين واشنطن وحلفائها حول العالم، وبين الاتحاد السوفياتي والحركات الشيوعية الموالية له. كما انضوى قسمٌ منهم في صفوف “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، وفي “حزب البعث العربي الاشتراكي”، كما تأثّرَ بعضهم الآخر بالموجة الناصرية، خصوصًا بعد تأميم قناة السويس، وبلغت ذروتها بعد إعلان الوحدة السورية–المصرية بقيادة جمال عبد الناصر.

كلُّ ذلك، من مُنطَلَقِ وَعيهم لكونهم أحد أعمدة الكيان اللبناني، ولو أنهم مغبونون فيه. وظهرَ ذلك جليًّا عندما تشكّلت في الجنوب حركاتٌ من هذه الأحزاب والنوازع الوطنية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، قبل ظهور المقاومة الإسلامية بقيادة “حزب الله” في ما بعد، من غير إمكانياتٍ تُذكَر سوى الحميَّة الوطنية.

ومع ذلك بقيت الكلمة الفصل في المجتمع الشيعي لكبار رجال الدين، وإن كانت التوجّهات العلمانية بين الشيعة لم تكن قليلة الشأن. وكان كبير أئمتهم، خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، السيد عبد الحسين شرف الدين، الذي قاوم الحكم العثماني، ثم الانتداب الفرنسي بعد تفكّك الإمبراطورية العثمانية، لأنه ما أراد أن يقاوم احتلالًا أجنبيًا ليحلّ محله احتلالٌ أجنبيٌّ آخر، وكانَ أن أدّى ذلك إلى حُكمٍ فرنسي عليه بالإعدام ففَرَّ إلى الخارج لفترة.

في البداية مالَ الإمام شرف الدين إلى دولة الملك فيصل العربية في الشام، وهي دولةٌ لم تَدُم طويلًا على كلِّ حال. لكنه عادَ وفاضلَ بين المشروعَين اللبناني والعربي، فألقى بكل ثقله إلى جانب الاستقلال اللبناني.

السيد شرف الدين ناصَرَ الدولة المدنية العلمانية في لبنان حتى تحت الانتداب الفرنسي، وتشهد على ذلك رسالةٌ بعثَ بها الى حبيب باشا السعد عند تعيينه رئيسًا للحكومة في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين قال له فيها: “ما أشوقني إليك، وما أسعد لبنان بإسناد مقاليد الحكم إليك، فإنك من أولئك الصفوة والقدوة. أما الجنوب، فلم تمتد إليهِ يدٌ ببناء ولعلَّ يدك الكريمة تُسرع إليه”.

ولمّا انتُخِبَ حبيب باشا رئيسًا للجمهورية (في 4 شباط/فبراير 1934)، كتب إليه السيد شرف الدين مُهَنِّئًا يقول: “لقد صدَقَت فراستي فيك، وهذه، يا صاحب الفخامة، ثقةٌ مُطلَقة لا يُمحَضُ مثلها إلّا لمثلك”.

وفي العهد الاستقلالي الأول، في بداية الولاية الثانية للرئيس بشارة الخوري، قامت ميليشياتٌ صهيونية في العام 1949 بارتكابِ مجزرةٍ في بلدة حولا على الحدود مع فلسطين المحتلة، فكتبَ السيد شرف الدين إليه مُعاتبًا: “إن لم يكن من قدرةٍ على الحماية أفليس من طاقة على الرعاية؟”.

وهذه الرسالة قرأ منها فقرة السيد حسن نصر الله في أحد خطاباته قبل سنوات قليلة، مُلمِّحًا فيها إلى إهمال الدولة اللبنانية للجنوب.

وهناكَ رسالةٌ أخرى إلى الشيخ بشارة الخوري من السيد شرف الدين، عندما شنَّت الدولة اللبنانية حملةً عسكرية ضد عشائر الهرمل قال له فيها: “ألا ترون أنّ إعمارَ المدارس والمستشفيات يُغني عن إعمار السجون والقبور”.

وعندما قام شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي سنة 1957، بزيارةٍ رسمية إلى بيروت في أواخر عهد كميل شمعون، كان السيد عبد الحسين شرف الدين طريح الفراش، قبيل أسابيع من وفاته في تلك السنة، ولدى وصول الشاه إلى بيروت، أرسل وفدًا من حاشيته إلى مدينة صور، يرجو السيد أن يزور الشاه، وقيل له إنَّ الغاية من الزيارة تعزيز الطائفة الشيعية، لأن الشاه هو الملك الشيعي الوحيد بين الملوك والرؤساء في الشرق الأوسط.

رأى إمام الشيعة أنَّ الغاية من هذه الدعوة، تدعيم مركز الشاه في إيران والعالم الإسلامي، بعدما ضعف بسبب حلف بغداد، فقال للمتحدّث باسم الوفد: “إني أبرأ إلى الله من كلِّ من يمتّ الى الاستعمار وحلف بغداد، كائنًا مَن كان”.

فردَّ عليه المتحدث باسم الشاه: “إنَّ الشاه يريد أن يُقدّمَ مساعدةً مالية كبرى لكُلِّيتكم الجعفرية”.

فأجابه الإمام: “إنَّ الأمرَ يعودُ إلى الدين والمبدَإِ، لا الى المال والحكّام، ولا الى التشيّع والتسنّن”.

وبعد وفاة السيد عبد الحسين شرف الدين، جاء جيلٌ جديد من الأئمة الشيعة، لا يقلّونَ فهمًا للمسألة اللبنانية وموقعهم المُتقدّم فيها، بل زادوها علمًا، وحركةً، وانخراطًا، ووضوحًا، من أمثال السيد موسى الصدر، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهم…

:لبنان… الحرب الأهليَّة المُستَدامة (37)

لَبنَنَةُ" الشيعة خِيارٌ ماروني"

2024/04/04

عندما رُسِمَت خريطةُ لبنان الكبير في فرنسا تمهيدًا لإعلانِ الدولة، طُرِحَت أفكارٌ مُتَعَدِّدة لم يُؤخَذ بها، كما أراد البطريرك الماروني الياس الحويك. فقد كانت هناكَ فكرةٌ، طرحها الجنرال هنري غورو، (المندوب السامي الأول على لبنان وسوريا، وقائد الجيش الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى من 1919 الى 1923)، تقضي بتكبيرِ مساحةِ لبنان بحيث تضمُّ وادي النصارى والساحل السوري شمالًا، حيث توجد كثافة سكانية مسيحية، لكنها غير مارونية. ويُقالُ أيضًا إن الجنرال غورو اقترَحَ ذلك، لأنّهُ كانَ شديدَ التمسّكِ بالعلمانية، التي سار عليها المفوَّض السامي هنري دو جوفينيل عندما وُضِعَ الدستور في العام 1926، الذي كان ميشال شيحا من أبرز المساهمين فيه.

فعلى الرُغمِ من أنَّ الموارنة هم أصحاب المشروع، فإنَّ رئاسة الجمهورية، في بداية دولة لبنان الكبير، أُعطِيت للأرثوذكسي شارل دباس، الذي استمر في الرئاسة ست سنوات، (كانت مدة الرئاسة ثلاث سنوات)، وتَرشيحُ دباس هَدَفَ منه المفوَّض السامي، تخفيف حدّة المعارضة الطائفية في البلاد، إذ كان شارل دباس، أكثر قبولًا لدى الدروز، والشيعة، والسنّة، من إميل إده، حيث كانت الرئاسة وقتها، معقودةً له.

وما كان الفرنسيون يُرَشِّحون شارل دباس لو لم يكن فرنسي الهوى، وما كان البطريرك الحويك يقبله، لو لم يكن استقلاليًا قديمًا، من أعضاء لجنة باريس سنة 1917. وكذلك، الرؤساء الذين أتوا بعده، لم يكونوا موارنة، فالرئيس بترو طراد كان أُرثوذكسيًا، وأيوب ثابت بروتستانتيًا.

في البداية ظهرَ وكأنَّ هناكَ مُفارَقة من حيث الأرجحية التأسيسية، لكون البطريرك الماروني الياس الحويك هو الأب الحقيقي للبنان الكبير، فإذا برئاسة الجمهورية تَؤول إلى غير الموارنة. وهذه المُفارَقة يُمكِنُ تفسيرها لصالح الأرجحية التأسيسية للموارنة، الذين أظهروا قبولهم برؤساءٍ من غيرِ ملَّتهم في بداية الطريق، بأنَّ ما يهمّهم هو لبنان وليس الرئاسة، وأنَّ مجيءَ رؤساءٍ للبنان الكبير من غير الموارنة هو إعلانٌ عن رغبتهم بأن يكون لبنان دولةً مدنية علمانية.

ولأنَّ البطريرك الماروني في “مؤتمر فيرساي للسلام”، (1919)، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتفكيك الإمبراطورية العثمانية، آثَرَ انضمامَ شيعة الجنوب على انضمامِ مسيحيي الشمال السوري إلى لبنان الكبير، فإنَّ القولَ القاطع في هذه المسألة هو أنَّ ضَمَّ شيعة الجنوب إلى الدولة اللبنانية الوليدة هو خِيارٌ ماروني بامتياز.

وقد كانت هذه المسألةُ بالغةَ الحساسية في ذلك الوقت لوجودِ مشروعٍ بديلٍ ومُنافِس، هو مشروع الدولة العربية بقيادة الملك فيصل بن الشريف حسين الهاشمي. والملك فيصل بعد إعلان الدولة العربية في دمشق رغب في إلحاق الأقضية الأربعة التي ضُمَّت إلى لبنان بدولته، فكاتَبَ بَعضَ الزعماء والشيوخ المُسلمين في تلك الأقضية، سنَّةً وشيعةً، يدعوهم فيها إلى الانضمام للدولة العربية. ومن الذين فاتحهم الملك فيصل بالأمر مفتي طرابلس عبد الحميد أفندي كرامي، والإمام الشيعي السيد عبد الحسين شرف الدين في صور. وكانَ في الأقضية الإسلامية جمهورٌ كبيرٌ من العوام والوجهاء يؤثِرُ الانضمامَ إلى الدولة العربية في دمشق، بين السنَّة والشيعة على السواء، لكن السيد شرف الدين في الجنوب، والمفتي كرامي في الشمال، آثَرا البقاءَ في الجمهورية اللبنانية، خلافًا لما رغب فيه التيار “العروبي”.

يُمكِنُ فَهمُ هذه المسألة، أي المُفاضَلة بين هَوِيَّتَين، في إطار تردُّد المسلمين في قبول الوصاية الفرنسية. وقد ازدادت حساسية هذه المُفاضَلة بعد الرسالة التي وَجّهها البطريرك الماروني، الياس الحويك، في العام 1926 إلى وزير الخارجية الفرنسي أرستيد بريان، قال فيها: “إنَّ الفكرة الأساسية التي استُخدِمَت كأساسٍ لدولةِ لبنان الكبير، هي أن يكونَ ملجأً لجميع مسيحيي الشرق ومَوئلًا للولاءِ غير المُنقَسِم لفرنسا”.

وكان أرستيد بريان في ذلك الوقت قد نال جائزة نوبل للسلام بالشراكة مع وزير خارجية ألمانيا حينها غوستاف سترسمان، لدورهما الكبير في المصالحة الفرنسية–الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى.

لا بُدَّ من القول في هذه الحالة أنَّ نقطة الضعف في مشروع لبنان الكبير هي أنه لم يقم من الأساس على قاعدةٍ علمانية مَدَنيّة صريحة وواضحة، وبالتالي بقيت المُكَوّنات التأسيسية للدولة اللبنانية على ولائها السابق لقوى ومرجعياتٍ خارجية: الموارنة لفرنسا والفاتيكان، والسنّة لأيِّ مجموعةٍ تسعى إلى الوحدة العربية، والشيعة بشكلٍ عام لديهم ارتباطٌ خاص بمرجعيّاتهم الخارجية (حوزات العراق وإيران)، وهو ارتباطٌ عقائدي وثقافي، يختلفُ جوهريًا عن الارتباط السياسي للمكوّنات الأخرى التي تتقاطع وتنسجم أحيانًا بتوجّهاتها الثقافية، داخليًا وخارجيًا.

لكن في معظم الدول التعدّدية التكوين، صغيرة كانت أم كبيرة، هناكَ دائمًا “أرجَحيّة تأسيسية” لفريقٍ مُتَمَيِّزٍ في دعوتهِ إلى الاتحاد من غيرِ اضطرارٍ، أو بسببٍ من ريادته. وإذا أخذنا بلدًا صغيرًا مثل لبنان، وبلدًا كبيرًا مثل الولايات المتحدة الأميركية، وقد شهدا كلاهما وفي وقتٍ واحدٍ خلال ستينيات القرن التاسع عشر حربًا أهلية طاحنة، نَجِدُ أنَّ الأرجحية التأسيسية للموارنة في لبنان، والأرجحية التأسيسية للعِرقِ البروتستانتي الأنكلو–ساكسوني الأبيض في أميركا، بقي لهما هذا الامتياز على الرُغم من قساوة الحرب الأهلية، وعلى الرُغم أيضًا من التغيير الديموغرافي الذي جعل المُكَوِّن الأساسي للدولة يفقُدُ أغلبيته العددية. فالعددُ في مثلِ هذه الحالات ليس هو المقياس.

من هذا المُنطَلَق أقرَّ “اتفاق الطائف” الذي به انتهت الحرب الأهلية العسكرية، بالأرجحية التأسيسية للمسيحيين في لبنان، بصرفِ النظر عن العدد، لكنه في المقابل وازَنَ تلك الأرجحية بمبدَإِ المُناصَفة، باعتبار أنَّ المُكوّنات غير المسيحية قبلت بالشراكة على أساسِ الأرجحيّة الأصليّة.

!.على عيوب ذلك الاتفاق، يلوحُ تفسيرٌ مُضمرٌ لإشاحة اللبنانيين عن إجراءِ أيِّ إحصاءٍ جدِّيٍ شامل منذ الإحصاء الأول والأخير الذي جرى في العام 1932. فقد قيل في ذلك: “إنَّ الإحصاءَ في لبنان قويٌّ إلى درجةِ استحالةِ إجرائه

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (36)

العلاقاتُ المَشروطة

2024/04/03

إنَّ ما جرى في لبنان صيف العام 1958 أثبتَ أنَّ هذا النوعَ من الاضطرابات الدامية يُفرِزُ أسوأَ قادةٍ لأسوَإِ مُتحارِبين. وقد تأكّدَت هذه الظاهرة في الاحتراب الداخلي، الذي استمر داميًا ومُدمّرًا من منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى مطلع التسعينيات منه.

قد يكونُ من الأهمّية بمكان مُقارنةُ الحالة اللبنانية مع تجارب أخرى مُماثِلة في العالم أكّدَت أنها تُفرِزُ أسوَأَ العناصر البشرية وأشدّها إجرامًا، على صعيد القيادات في غُرَفِ العمليات، وبين المقاتلين في الميدان، هذا فضلًا عن الاغتيالات، واستباحة الحرمات الدينية والإنسانية.

تبقى الحقيقة في ذلك كله الضحيّة الأهم، ففي الحروب الأهلية التي نشبت في أماكن أخرى، وُضِعَ لها حَدُّ فاصلٌ يَمنَعُ تكرارها، من خلال المصارحة وإظهار الحقيقة، والاعتراف بها، والمباسطة الصريحة، والالتزام بعدم العودة إلى العنف، بذلك كله تتم المصالحة على الصعيد الوطني، حول المسؤولية الجماعية والفردية عن كل ارتكاب جرمي للجماعات والأفراد، بهدف فرز الفئات التي تجاوزت الحدود المقبولة تجاه المواطنين العُزَّل والممتلكات العامة، والفئات التي قاتلت على الجبهات من غير أعمال فتكٍ انتقامية خارجة عن المألوف.

بعد هذا الفرز يكون أيُّ قانونٍ للعفو انتقائيًا، وليس عموميًا، يشمل الصالح مع الطالح. فالعفو العمومي في أعقاب الحروب الأهلية، يُشَكّلُ بذرةً أساسيةً من بذور تجدُّدها، لأن ذلك بمثابة مكافأة للإجرام، وهو يُسجّلُ سابقةً من حيث إزالة الروادع المانعة.

الحقيقة المخفيَّة في الحرب الأهلية اللبنانية المُستَدامة، أنها وإن كانت حالة لبنانية خالصة، إلّا أنَّ في دوامها عُنصرًا خارجيًا مُتَعَدِّد الأطراف، ولهذا كان من السهل إخفاء المسؤوليات في النهاية، وطمس معالم الأسباب التي أطلقتها. فالدول الأوروبية بالدرجة الأولى هي المحراك المزعزع للاستقرار اللبناني، قبل تسلل الولايات المتحدة إلى المشهد اللبناني واحتلالها موقع الصدارة. إذ إنَّ العلاقة الأميركية من الأساس، أي قبل اعترافها باستقلال لبنان عام 1944، كما مرَّ، كانت علاقة مشروطة. أما علاقات الدول الأوروبية المشروطة مع لبنان، فقد جاءت متأخّرة، وذات طابع مالي، وبعد فوات الأوان.

لقد أغرقت تلك الدول الحكومة اللبنانية، في مرحلة رفيق الحريري بعد “الطائف”، بالديون، من خلال “مؤتمر باريس”، الأول والثاني والثالث، لكنها افترقت عن هذا النهج بعدما اتجه لبنان إلى الانهيار والإفلاس، على شفا الاضطراب الأهلي، فأبدلت اسم المؤتمر التمويلي للحكومة اللبنانية إلى “سيدر 1” (6 نيسان/أبريل 2018)، بدلًا من “باريس 4″، (هو الأول في عهد سعد الحريري، بينما “باريس 3″، والأخير تحت هذا الاسم، فكان في عهد حكومة فؤاد السنيورة بعد الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في العام 2006).

السببُ المُوجِب الذي أعلنته الدول الأوروبية تمويهيٌّ وغير جدّي. فقد قالت في شروط علاقتها المُستَجِدَّة إنَّ أيَّ قروض، أو مساعدات أو عطاءات أوروبية للبنان، سوف تكون مشروطة بتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية اللازمة، لأنَّ الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان غير قادرة، أو غير راغبة، في القيام بأيِّ إصلاح.

فإذا كانَ هذا هو السبب، وقد يكون كذلك، فإنه يطرحُ من جديد أسئلة مُحرِجة على الأوروبيين، لأن شَرطيَّتهم المُستَجِدّة غير مُقنعة، كون أسبابها الموجبة ليست جديدة على الإطلاق، وهي قائمة منذ ما قبل الحرب الأهلية، بل كانت من أسبابها الخلفيَّة في ذلك الوقت.

على افتراضِ أنَّ الأوروبيين كانوا جاهلين، أو غافلين، عن حقيقةِ الطبقة السياسية، كموجبٍ شرطي، وهو أمرٌ غير قابل للتصديق، فلماذا تهاوَنَ الأوروبيون في الضغط على الطبقة السياسية اللبنانية، وهم يعرفون مُسبَقًا أنها غير قادرة، وغير مؤهّلة، للقيامِ بأيِّ إصلاحٍ جذري، أو حتى هامشي، سواء على الصعيد السياسي أو في المجال المالي والاقتصادي؟

كان الأوروبيون يعرفون، من قبل مؤتمر “سيدر 1” أنَّ الدولةَ اللبنانية سائرة في طريقِ التفكّكِ والانهيار، ولا تخفى عليهم الأسباب الحقيقية للوضع الراهن، ودورهم التاريخي المُستَمِر المؤدّي إليه. فقد نشرت مراكز الأبحاث الغربية دراساتٍ تؤكّدُ أنَّ لبنان باتَ أحد ثلاثة بلدان نزلت بها أفدح أزمة اقتصادية منذ القرن التاسع عشر. وهذا يعني أنَّ لبنان بات أمامَ خطرٍ وجودي داهم، لأنَّ المُماطلة في المعالجة الجديَّة، الداخلية والخارجية على السواء، زعزعت أُسُسَ الكيان، وفاقمت الأزمة، وبالتالي، قلَّت الفُرَص للمُعالجة الناجعة، أو حتى للترقيع.

يعودُ جانبٌ من هذا الخطر الداهم إلى إخفاءِ حقيقة الحرب الأهلية، والتغطية على نتائجها المؤدّية إلى الانهيار:

أوّلًا، لأنَّ النظامَ القائم يمنعُ الوصولَ إلى أيِّ حقيقةٍ في لبنان. وثانيًا، لأنَّ الوضعَ اللبناني بكامله، يُعاني من التجزئة والتشظّي. وثالثًا، لأنَّ الاهتمامَ الأوّل لقوى الأمر الواقع في الداخل، ولقوى التدخّل من الخارج، هو استغلالُ الحوادث لصالحها، وليس معالجة الأسباب الفعلية.

هذا النوع من المعالجات لا يمكن أن يأتي لصالح عموم الشعب اللبناني على نحوٍ حاسمٍ يُلغي التركيبة المُوَلِّدة للحروب الأهلية.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (35)

إسرائيل ’’بنت‘‘ التَدويل

2024/04/02

عندما تُذكَرُ مَشاريعُ التَدويلِ في المنطقة العربية، يبرزُ اسم دولة إسرائيل إلى الأذهان.

إنَّ المَنزِلةَ المُمَيَّزة التي تحتلُّها إسرائيل في دول الغرب، وفي بعض دول الشرق، وأخيرًا في بعض الدول العربية، تجعلها في وَضعٍ خاص لكونها “بنت” التدويل من جهة، وشريكةً فيه من جهةٍ ثانية.

في أواسط القرن التاسع عشر، نشأت فكرة “المشروع الصهيوني” بفِعلِ نَهضةِ مصر وجيشها القوي على يد حاكمها محمد علي باشا (بعد فشل الحملة الفرنسية بقيادة الضابط الصاعد نابليون بونابَرت، على أثر تعثُّر الثورة في فرنسا ووقوعها تحت حكم الإرهاب)، وهي نهضةٌ شاملةٌ وعارمةٌ سمحت للجيش المصري السيطرة على الجزيرة العربية والقضاء على “الحركة الوهابية” والدولة السعودية المُتَبَنِّية لها. عندما تعاظم العصيان اليوناني المدعوم من الدول الأوروبية، وأخذَ يُهدّدُ نفوذَ الدولة العثمانية، هبَّ محمد علي لنجدتها، فتحرّكَ أسطوله البحري بقيادة ابنه إبراهيم باشا واحتلَّ المرافئ اليونانية كلّها، فاجتمعت ضده الدول الأوروبية الثلاث الكبرى في ذلك الوقت، بريطانيا وفرنسا وروسيا، وحطَّموا أسطوله في معركة “نافارينو”، وفي التسوية التي جرت بعد ذلك، أبقوا لمصر جزيرة كريت اليونانية، وما جرى لمحمد علي تكرّرَ مع جمال عبد الناصر في أواسط القرن العشرين (ليس فقط لأنهُ أمَّم قناة السويس، بل أيضًا بسببِ دعمه الفعَّال للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي).

إلّا أنَّ السببَ المُوجِب الذي حملَ الدول الأوروبية الكبرى على تبنّي الحُلم الصهيوني بإقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين، هو الحملة الناجحة التي قام بها إبراهيم باشا في سوريا وغيَّرت التركيب الاجتماعي للمنطقة المشرقية (سوريا، لبنان، فلسطين). فقد أصاب الذعر العثمانيين والأوروبيين، على حدٍ سواء، عندما حقّقَ جيش إبراهيم باشا نصرًا حاسمًا في “معركة نصيبين”، فانفتحَ الطريق أمامه الى إسطنبول، الأمر الذي حمل السلطان محمود الثاني على عقد معاهدة سريعة مع روسيا تَعهَّدت بموجبها الدفاع عن إسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية. وكان الجيش العثماني في تلك المعركة بقيادة اثنين من كبار ماريشالات بروسيا الألمانية، ومعهما فرقة ألمانية من ألف جندي وضابط، هما الماريشال فون مولتكي والماريشال فون مولباخ، اللذان أقاما تحصيناتٍ منيعة، ظنَّاً منهما أنها غير قابلة للاختراق، فاخترقها إبراهيم باشا من أول محاولة، (بعد هذه المعركة بشهر واحد توفي السلطان محمود وكان قد أنجز القضاء على فرقة الإنكشارية التي كانت مُتحَكِّمة بالسلطة العثمانية).

بعد ذلك الإنجاز العسكري الكبير الذي حقَّقه الجيش المصري في بلاد الشام، اجتمعت ضدَّه، كالعادة، الدول الأوروبية، فأرسلت أساطيلها إلى السواحل اللبنانية وقصفت القوات المصرية، وأجبرتها على الانسحاب من بلاد الشام لقاء الاعتراف الدولي بحكم محمد علي وسلالته في مصر. وعند هذا المفصل نشأ في تفكيرِ الدول الكبرى مشروعان خطيران للتدويل هما: المشروع البريطاني، الذي قضى بإقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين تفصل بين مصر وبلاد الشام، فلا تتكرّر تجربة محمد علي في تلك البلاد.

المشروع الثاني، فرنسي، في المغرب، وقد تم بالتزامن مع حملة إبراهيم باشا في سوريا، هو احتلال فرنسا للجزائر في العام 1830.

لكن التدويل الفعلي لتحقيقِ هدفِ الدولة اليهودية في فلسطين، بدأ بعد الحرب العالمية الأولى في مؤتمر الصلح في فيرساي بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس، وذلك بعد فشل الحركة الصهيونية في حمل السلطان عبد الحميد الثاني على بَيعِ فلسطين لليهود مقابل تعويمٍ ماليٍّ للسلطنة ودعمها في وجه الدول الأوروبية. لكنَّ السلطان عبد الحميد أبلغ ثيودور هرتزل، رئيس المؤتمر الصهيوني الأوّل في مدينة “بال” السويسرية في العام 1897 الذي قَدّمَ له العرض بنفسه: “هذه الأرض (فلسطين) ليست مُلكي لأبيعها. إنّها مُلكٌ لأهلها الفلسطينيين، وأنا مُؤتَمَنٌ عليها، وما دامت في عهدتي فهي ليست للبيع والشراء. على كلِّ حال، وَفِّروا فلوسكم لأنكم سوف تأخذونها بالمجَّان عندما تقوم الدول الأوروبية بتفكيك الإمبراطورية العثمانية، لكن أنا لا أستطيع أن أُسَجِّلَ على نفسي في سجلّات التاريخ أنني أعطيتكم شيئًا غاليًا علينا وعلى أهلها أصحاب الأرض لقاءَ مبلغٍ من المال”.

اتّخَذَ السلطان عبد الحميد هذا الموقف التاريخي المشهود في الوقت الذي كانت جهاتٌ عربية انخرَطت في الثورةِ ضدّ تركيا العثمانية، بالتواطؤ مع بريطانيا على علم، (وربما بموافقة ضمنية)، بالمشروع الدولي لإقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين. والقادة منها الذين حضروا مداولات مؤتمر فرساي (وأبرزهم الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي، والبطريرك الماروني الياس الحويك المُطالِب وقتها بدولة لبنان الكبير بضم الأقضية الأربعة التابعة للحكم العثماني في إسطنبول الى لبنان الصغير)، كانوا على علم بما يُحاك في ردهات المؤتمر، أو على الأقل كانوا على عِلمٍ ببعثة “كينغ–كراين” الأميركية إلى سوريا، وفي أجندتها تقصّي مسألة إقامة دولة يهودية في فلسطين، كما مرَّ، إن لم يكونوا على بيِّنةٍ من تقريرها الذي وُضِعَ على الرَفِّ لسنواتٍ عدة.

وعندما احتلَّ الإسرائيليون أكثر من نصف لبنان بما فيه العاصمة بيروت في العام 1982، كان ذلك يحظى بموافقةٍ دولية، حيث أُريدَ للجانبِ الإسرائيلي أن يلعبَ الدور الذي لعبه تاليًا الجانب العربي كوكيلٍ في نهاية الحرب الأهلية. ففي المفاوضات الإسرائيلية–اللبنانية التي أفضت إلى “اتفاقية 17 أيار” التي أقرَّها المجلس النيابي اللبناني (ولم يوقعها رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل تحت وطأة ضغوطٍ داخلية وعربية)، وهي مفاوضاتٌ جرت تحت إشراف الوسيط الأميركي موريس درايبر، الذي ذُهل من استعجال الطرف اللبناني في التوصّلِ إلى تَفاهُم. وقد أبلغني أحد الزملاء في بيروت خلال تلك المفاوضات، التي ترأسها عن الجانب اللبناني السفير أنطوان فتَّال، أنَّ درايبراضطر في مرحلةٍ من المراحل إلى الطلب من الجانب اللبناني التشدّدَ قليلًا في المفاوضات لكي يكون للولايات المتحدة دورٌ في التقريب بين مطالب الفريقين. وقد لاحظ درايبر أنَّ التفاوضَ من الجانب اللبناني هو التسليم المُبكِر بمطالب الفريق الآخر إلى درجة الاستغناء عن خدمات الوسيط. وربما كان من حسن الحظ أنَّ ذلك لم يحدث مع الوسيط الأميركي-اليهودي آموس هوكستين في المفاوضات الأخيرة (غير المباشرة) بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. أو على الأقل فإنَّ الوسيطَ هوكستين لم يشكُ مما شكا منه الوسيط درايبر من قبله!

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (34)

تَدويلُ القَضاء

2024/04/01

تَزامَنَت مَساعي التدويل السياسي للأزمة اللبنانية مع التدويلِ القضائي للتحقيق في مداخلِ ومخارجِ الأزمةِ المالية وتهريب الأموال عبر المصارف إلى خارجِ لبنان.

لم تَكُن دعوةُ البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي إلى مُؤتَمرٍ دولي للمساعدةِ على انفراجِ الوَضعِ اللبناني، وليدةَ الأزمةِ التي تفاقمت منذ العام 2019، إنَّما نشأت مُنذُ المؤتمر الدولي المُعَرَّب الذي انعقدَ في الطائف في 30 أيلول (سبتمبر) 1989. ولم يتوانَ البطريرك من حَملِ دَعوَته تلك إلى حاضرة الفاتيكان، ثمَّ إلى المراجعِ السياسية في بريطانيا خلال زيارته الرسمية والرعوية إلى لندن بحماسٍ ظاهرٍ من قبل السفير البريطاني في بيروت.

أمّا على الصَعيدِ القضائي، فقد جرت محاولاتٌ لإيقاظِ القضاء اللبناني من سباته الطويل، بعدَ غيابهِ عن الوعي طوالَ الأزمة المالية التي كانت المصارفُ محورَها، وعلى رأسها البنك المركزي (مصرف لبنان)، وتتابُعِ وصولِ وفودٍ قضائية أوروبية إلى بيروت، للاستماع الى إفاداتِ مصرفيين ومسؤولين حول مخالفاتٍ لم يُكشَف عنها بالتفصيل.

وتَحَسَّسَ بعضُ اللبنانيين من أن تُشَكِّلَ مساعي التدويل السياسية والمالية انتقاصًا من السيادة اللبنانية، وهو قولٌ بدأَ مُنخَفِضَ النبرة، لأنَّ هناك ما يدحضه بحججٍ واقعية وقانونية، تختلفُ عمّا كانت عليه السجالات التي سبقت تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري في منتصف شهر شباط (فبراير) من العام 2005.

فالمُعتَرِضون، بحجّةِ خَرقِ السيادة الوطنية، لا يستطيعون أخذَ هذه الحجة إلى مداها الأقصى لأنّهم وافقوا على اتفاقٍ لرسمِ الحدودِ البحرية مع كيان العدو الإسرائيلي، برعايةِ راعي التدويل الأوّل والعدو في آنٍ معًا، وهناكَ دولٌ كثيرة وكبيرة في عالم اليوم منقوصة السيادة تحت رعاية الراعي ذاته للأعداء والأصدقاء.

يُضافُ إلى أنَّ التدويلَ اللبناني حالةٌ مُزمِنة، بل هي سياقٌ تاريخي من الأزل الى الأبد، بما في ذلك الاستقلال وميثاقه الوطني، ومؤتمر الطائف ووثيقة الوفاق الوطني الصادرة عنه، والتي أنتجت التركيبة الميليشياوية والمافيوزية الراهنة التي نهبت الدولة والشعب والمصارف إلى آخر ليرة لتُراكِم الثروات في حساباتها المصرفية الخارجية.

لكنَّ القضاءَ الأوروبي لا تعنيه اعتباراتُ السيادة الوطنية، لأنه يسير بموجب معاهدة مع الدولة اللبنانية ويعمل في إطارها. فلا غُبارَ على ما أقدمَ وقد يُقدِمُ عليه. لكن هناك أسئلة وعلامات استفهام حول ما إذا كان قد قام بواجبه التدقيقي في البلدان الأوروبية التي استقبلت مصارفها الأموال المُهَرَّبة من لبنان، وهل لديه ما يُثبتُ أنَّ أصلَ تلك الأموال شرعيٌّ أو غير شرعي، منهوبٌ أو غير منهوب، مبيَّضٌ أو ملوَّثٌ، مع العلم أنَّ مصارف كبرى في العالم تقوم بعمليات تبييض الأموال على أعلى المستويات، وبرعاية أجهزةٍ رسميَّة بعضها يتعاطى تسهيل تجارة المخدرات التي يُعتَبَرُ الكبتاغون اللبناني أهونَها شرَّا. فالسعوديون، الذين أدرجوا هذه المسألة في رأس تحفّظاتهم على لبنان، بحجة تصدير هذه الممنوعات إلى بلدهم، لم يَسمعْ أحدٌ أنهم تحفّظوا عن المتلقي السعودي المحلي لتلك الممنوعات، وما إذا كانت له حمايةٌ من أجهزةٍ رسميةٍ كما هو الحال في بعض الدول الكبرى.

إنَّ التدويلَ القضائي لا يختلفُ بشيءٍ عن التدويلِ السياسي، وبهذا المعنى فهو قضاءٌ مُسيَّسٌ بدرجةٍ من الدرجات، وانتقائي أيضًا، والمحكمة الدولية خير مثال، فقد سمحت لنفسها، ولم تعترض الجهات الواقفة وراءَها، ولا الدولة اللبنانية مانعت، من أن تضعَ تلك المحكمة يدها على معلوماتٍ تتعلّقُ بجميع اللبنانيين من دون استثناء، فضلًا عن أنها أُقرّت من الجانب اللبناني، ولاعتباراتٍ سياسية لبنانية داخلية، خلافًا للأصول الدستورية، التي تقضي بأن يكون رئيس الجمهورية، هو الجهة الوحيدة التي يحقّ لها التفاوض بشأن المعاهدات الدولية.

حكومة فؤاد السنيورة في ذلك الوقت خَرَقَت الأصول الدستورية، بحمايةِ وتشجيعِ ودَعمِ جهاتٍ عربية ودولية لها غاية في توجيه عمل تلك المحكمة في اتجاهٍ يخدمُ مصالحها. فضلًا عن أنَّ رئيس الحكومة استطاعَ أنْ يستميلَ وزير العدل شارل رزق إلى جانبه في هذه المخالفة.

في مسألةِ رسمِ الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني، لم يقع المكوِّن الشيعي في هذا المَطَبّ الدستوري. فقد ظلَّ رئيس مجلس النواب نبيه بري يُفاوِضُ الأميركيين سرَّاً طوال عشر سنوات، وهذه أيضًا مخالفة دستورية تَمَّت تغطيتها، عندما استوت طبختها، بتسليم ملف التفاوض العلني إلى رئيس الجمهورية، فكانت تلك خطوة دستورية سليمة، حتى ولو كانت خطوة شكلية، على افتراض أنَّ المفاوضات الفعليَّة تمَّت في السر بمعزلٍ عن رئاسة الجمهورية. ويبدو أن المكوِّن السنِّي، مُمَثَّلًا في زمانه بفؤاد السنيورة، لم يُعِر انتباهًا للقاعدة الشرعية القائلة: “إذا بُليتُم بالمعاصي فاستتروا”، كما فعل نبيه بري!

ومن عجبٍ أنَّ أحَدًا في لبنان لم يُطالِب بقضاءٍ دولي للنظر في جريمةِ تفجير مرفَإِ بيروت، مع أنها ترقى إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إزاءَ الحماس الهستيري والتزوير المُتمادي لتشكيل محكمة دولية خاصة من قبل مجلس الأمن كلَّفت الشعب اللبناني مجتمعًا ما لا يقل عن 500 مليون يورو طوال عشر سنوات، لتقول للبنانيين إنَّ المسؤولَ عن اغتيال رفيق الحريري هو شخص يُدعى سليم عياش مجهول الإقامة. وقد تخلَّلَ أعمالُ تلك المحكمة، خصوصًا في مرحلة التحقيق الدولي، كمٌّ هائلٌ من التزوير، وادَّعت عندما ووجهت بهذه القضية، أنها ليست لها صلاحية ملاحقة شهود الزور!

كنتُ في بيروت عام 2018، فالتقيتُ ديبلوماسيًا ألمانيًا مُتقاعدًا، خدمَ لفترةٍ في العاصمة اللبنانية، ويَمُتُّ لنا بصلةِ قُربى، فقلتُ له: “اشتهرَت الديبلوماسية الألمانية العلنية والسرِّية بكفاءتها العالية، خصوصاً لجهة التفاوض من أجل تبادل الأسرى والمُعتقلين بين لبنان وإسرائيل، فكيف شَذَّ المُحقق الدولي ديتليف ميليس عن هذه القاعدة، وتصرَّف، وكذلك بعض مساعديه، على النحو الذي شاهدناه؟”.

أجابني: “لم يكن ميليس في مهمته تلك في لبنان يُمثّلُ الدولة الألمانية، ولا القضاء الألماني، ولم تكن الجهة التي رشّحته ألمانية”.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (33)

شَراكَةٌ غَير دائمة

2024/03/31

على الرُغمِ من تَحَفُّظِ موسكو وعَدَمِ رضاها، وافقت واشنطن، وبارَكَت الرياض، على دخولِ الجيش السوري إلى الأراضي اللبنانية عام 1976.

هذا النوعُ من التدويل، لا يَرغَب الأميركيون عادةً إظهاره بأنهُ أحاديُّ الجانب من طرفهم فقط (ولو أنه في الواقع كذلك)، فيُشرِكون معهم أطرافًا أخرى عربية وأحيانًا غير عربية (كما فعلوا في العراق).

جاءَ التدخّلُ السوري وقتها في لحظةٍ حرجة لأنَّ تحالُفَ المنظمات الفلسطينية مع الحركة الوطنية اللبنانية كاد أن يَقلبَ الموازين الداخلية في لبنان، مما شكَّلَ، أو كاد يشكِّلُ، خاصرةً رخوةً لسوريا. وليس سرًّا أنَّ النظامَ السوري لم يكن يرتاح لا إلى قائد الحركة الوطنية كمال جنبلاط، ولا إلى قائد منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.

لكنَّ الشيءَ الذي قلبَ المُعادَلة، وغيَّرَ حسابات وتحالفات الأطراف المُتناحِرة في لبنان، وجاءَ مُفاجئًا على حين غرَّة، هو زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل في العام 1977 فأربَكَ ذلك جميع الأطراف المُنغَمِسة بالشأنِ اللبناني بمن فيهم الولايات المتحدة ذاتها. فخروجُ مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي ليس بالشيءِ القليل أو العابر، بل هو تغييرٌ جذريٌّ في السياسات العالمية كلِّها.

كان لزامًا على النظام السوري، المُحرَج من تلك الخطوة، أن يُغيِّرَ مَسارَ سياسته الإقليمية واللبنانية أيضًا، وهو تغييرٌ دفاعيٌّ أخذَ شكلًا هجوميًا، سواءَ بتصالحه مع العراق (في عهد الرئيس أحمد حسن البكر)، ووضع “ميثاق العمل القومي” معه، أو في قطع العلاقات مع مصر وتشكيل ما سُمِّيَ في ذلك الوقت “جبهة الرفض”.

وعلى هذا المَفصَلِ جرى تغييرٌ للأولويّات لدى أطرافٍ عديدة، وبدفعٍ من الولايات المتحدة، بُغيةَ فتحِ جبهاتِ استقطابٍ بعيدًا من الصراع العربي-الإسرائيلي، بمعنى صرف الأنظار عن هذا الصراع وتوجيهها نحو صراعات أخرى. وفي هذا الإطار يندرجُ انقلاب صدام حسين على الرئيس البكر، الذي كان انقلابًا على “ميثاق العمل القومي” تحديدًا، تلاهُ شنُّ حربٍ كبرى ضد إيران بدعمٍ من واشنطن وتمويلٍ من الخليج.

عندَ ذلك المَفصَلِ وتحوُّلاته لم يُدرِك اللبنانيون ظروفَ السلوك المُتَصَلِّب للسوريين، فقامَ بعضهم بخطواتٍ خارج السياق أدّت إلى نوعٍ آخر من التدويل لم يُكتَب له النجاح.

أُعطيَ تدويلُ الأزمة اللبنانية في ذلك الوقت وجهًا عربيًا من خلال قمّةٍ عربية محدودة انعقَدَت في الرياض بدعوةٍ من الجامعة العربية، حيثُ تقرَّرَ تشكيلُ قوَّة ردعٍ عربية لحفظ الأمن في لبنان، ضمَّت في البداية قوَّاتٍ من ستِّ دول عربية هي: سوريا، لبنان، المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، واليمن. لكن القوَّة الأكبر كانت سوريَّة بما لا يقاس (25 ألف جندي سوري وخمسة آلاف فقط من بقية الدول العربية). ويُقال إنَّ السفير السعودي في بيروت اللواء علي الشاعر، هَمَسَ في أُذُنِ ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، الحاكم الفعلي في السعودية وقتها، قبل أن يُصبِحَ ملكًا بعد سنواتٍ عدة، قائلًا له: “هبَّت علينا ريحٌ فدفعت بنا إلى المسرح، فإمّا أن نُجيدَ الدور أو أن نُسدِلَ الستار”، فأجابه الأمير فهد: “بل نُجيدُ الدور”. لكن سرعان ما انسحبت القوات العربية ومنها القوات السعودية لتنفرد وتتفرّد سوريا بالشأن اللبناني، لكنَّ الشَراكةَ السورية–السعودية بقيت قائمة وفاعِلة (سمَّاها بعض السياسيين اللبنانيين س. س).

هذه الشراكَةُ (تحت مظلّة الراعي الأميركي) استمرَّت ردحًا طويلًا من الزمن حتى توقّفت الحرب على يدها في “اتفاقِ الطائف”، ونشوء الحالة الحريرية كتتويجٍ لها، وهي مُتَّصِلة مباشرةً بأعلى سلطة في المملكة العربية السعودية في حينه مُمَثَّلَةً بالملك فهد شخصيًا. وربما كان هذا الوضعُ تفسيرًا لقول الملك فهد لسفيره في بيروت: “بل نُجيدُ الدور”. صحيحٌ أنَّ رفيق الحريري، بعد “اتفاق الطائف”، حَكَمَ في لبنان بالنفوذِ السعودي، لكنه ما كان ليستطيع أن يَحكُمَ خارج إطار القوَّة السورية الحاكمة فوق الحاكمين. وهذا ما أتاحَ له شقَّ وإضعاف معظم القوى السياسية اللبنانية (باستثناء “حزب الله” وحركة “أمل”)، لأنَّ إضعافَ القوى السياسية اللبنانية (خصوصًا المسيحية منها) كان يُناسِبُ السوريين في ذلك الوقت لكون الجسم السياسي المسيحي شكَّلَ عصبَ المُعارِضة للوجود السوري في لبنان.

كانت سوريا بالنسبة إلى الحريري “عدوًّا له ما من صداقته بُدُّ”. لكنه لم يكشف عن ضِيقِهِ بالسوريين إلّا بعد رئاسة العماد إميل لحود، وتسريح أركان حاملي الملف اللبناني في دمشق، وأبرزهم حكمت الشهابي وعبد الحليم خدَّام، (في أواخر حياة الرئيس حافظ الأسد ثم في بداية عهد خليفته الرئيس بشَّار الأسد). والملفت أنَّ افتراقَ الحريري عن السوريين بدأ قبل الافتراق السوري-السعودي بسنواتٍ عديدة.

الشراكة السعودية–السورية ظلّت قائمة في عهد الملك عبد الله، بل إنَّ الملك عبد الله حملَ سعد الحريري على الذهاب إلى دمشق لمصالحة الرئيس بشَّار الأسد (وإشهار تبرئة سورية من اغتيال والده)، وتسهيلًا لوصوله إلى رئاسة الحكومة، واستمراره فيها.

لكنَّ الشَراكة السعودية–السورية في لبنان انفصمت عُراها عندما نفخَت أميركا بريحِ “الربيع العربي” باتجاهِ سوريا، فأشعلت فيها حربًا أهلية، وإرهابية، ومُتعدّدة الجنسيات، لا تبقي ولا تذر، انخرطَ فيها فريقٌ من اللبنانيين بفتح الثغور على مداها، ومن تلك الثغور دخل مقاتلون وإرهابيون، ودخلت حمولات بواخر من السلاح الخفيف والثقيل، ودخلت أموالٌ (سعودية وخليجية) بالمليارات.

والسببُ الآخر لانفصامِ تلك الشراكة، هو تعاظم قوة “حزب الله” اللبناني ومشاركته في الحرب السورية إلى جانب الجيش السوري، واتساع دائرة نشاط الحزب على المسرح الإقليمي ليشمل العراق واليمن، وهو ما يفسِّرُ انزعاج السعوديين من لبنان.

لكنَّ عودةَ الحياة الى النشاط السعودي في لبنان، (بعد فرض الاعتزال السياسي على الحريري وتياره) يُنبِئُ بمرحلةٍ جديدة في الإقليم ربما تجدَّدَت فيها الشراكة السعودية–السورية على أسسٍ جديدة إذا استطاع السوريون تخفيف مكامن الإزعاج للسعوديين في لبنان.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (32)

طائف”الطوائف

2024/03/30

يَحتَمِلُ “اتفاق الطائف”، تفكيكَ ظروفه ونتائجه، لأنّهُ منذُ البداية أُحيطَ بغموضٍ مُتَعَمَّد، وهو غموضٌ مقصودٌ لسببَين أساسيَين: أولّهما، إخفاءُ غايته الحقيقية. وثانيهما، تطويعه للتلاعُبِ به وعدم تطبيقه كما كان يجب بُغيةَ طَمسِ المعالم بين نَصِّهِ وروحِه.

صحيحٌ أنَّ الذين اجتمعوا في الطائف كانوا لبنانيين، لكن مَنْ هم وراء المؤتمر ورُعاته ليسوا كذلك. إنّهُ صيغةٌ للتدويل بالوكالة، ومن لوازم “التوليفة” أنْ يكونَ الوكيلُ عربيًا ومليئًا.

هناكَ أكثر من حجَّةٍ تجعلُ “اتفاق الطائف” باطلًا من الأساس، لأنَّ المُجتَمِعين لا يقفونَ على أرضٍ صلبةٍ في لبنان، وبالتالي فإنه ليست لديهم القدرة على تنفيذه، ولا شرعية دستورية لهم، فهم نوَّابٌ سابقون مَدَّدوا لأنفسهم عشرين عامًا، وهي فترة طويلة قضى خلالها نحبه عددٌ غير قليل من المُسِنين بينهم. ثم إنه عندما وَصَلَ الاتفاقُ إلى بيروت جرى تزويره من البداية بتعيينِ نوّابٍ في المقاعد الشاغرة من قبل الحكومة، وهو أمرٌ غير دستوري، لأنَّ النائبَ لكي يحملَ هذه الصفة في كل دساتير العالم يجب أن يكونَ مُنتَخَبًا من الشعب في دائرته، ثم جرى تزوير مرة أخرى في قانون الانتخاب تمهيدًا لانتخاباتِ العام 1992 (التي قاطعتها غالبية المسيحيين) بأن رُفِعَ عددُ النواب للمجلس الجديد إلى 128 نائبًا، بينما نصَّ “اتفاق الطائف” على أن يكونَ العددُ 108 نواب فقط.

النقطةُ التي بَدَت إيجابية في الطائف هي استبعادُ أمراءِ الحرب وقادةِ الميلشيات الطائفية منه، وهي نقطة قد تكون سَهَّلت إقرار الاتفاق، لكنها في الوقت ذاته أفسدت تطبيقه على أرض الواقع الذي يُسَيطِرُ عليه أمراءُ الحرب تحت نظر السوريين المُمسِكين بالسلطة الفعلية بتفويضٍ دولي وعربي. ولذلك، فإن ما سُمِّيَ “ميثاق الوفاق الوطني” المُنبَثِق من مؤتمر الطائف، الذي يُطلِقُ عليه بعض اللبنانيين خطأً “دستور الطائف”، يشوبه عيبٌ مبدئيٌّ لكونه تمَّ في عقدٍ برلمانيٍّ غير شرعي، ليس فقط لأنَّ الذين كانوا في المؤتمر مدّدوا لأنفسهم فتراتٍ تشريعية مُتعاقِبة، كما أسلفنا، بل لأنه لا يجوز لنوّابِ الأمّة (ولو كانوا مُنتَحِلي الصِفة) أن يعقدوا جلساتٍ ذات طابع وطني خارج الوطن. وفوق ذلك، أظهَرَ اتفاقُ الطائف بما انتهى إليه، لناحيةِ تَقليصِ صلاحيات رئيس الجمهورية، أنَّ في البلد الذي اسمه لبنان، والمُفتَرَض أنه قائمٌ على الشراكة الوطنية، فريقٌ غالبٌ وفريقٌ مغلوب. وهذا المنطق رفضه المسلمون أنفسهم في ثورة 1958، فطرَحَ صائب سلام وقتها شعار “لا غالب ولا مغلوب”، ثم “لبنان واحد لا لبنانان” بعد تولّيه رئاسة الحكومة سنة 1960 في بداية عهد الرئيس فؤاد شهاب، وقام سلام بشرح هذا الشعار في محاضرة ألقاها في “الندوة اللبنانية”.

ولنا من الحرب الأهلية الأميركية (1861–1865) التي تزامنت مع الحرب الأهلية اللبنانية الأولى (1860–1864) عبرةً ومثالًا: فقد قال عميد المؤرّخين الأميركيين في ثلاثينيات القرن العشرين تشارلز بيرد (لقب “عميد المؤرخين” أطلقه عليه زميله ومعاصره المؤرخ كومر فان وودوُرد): “إنَّ الإيديولوجيةَ السياسية هي مجرَّد قناعٍ للمصلحة الاقتصادية الذاتية. فالحربُ الأهلية لم تكن صراعًا حول العبيد والعبودية كما هو شائع، بل ثورة أميركية ثانية غايتها نقل السلطة من أيدي كبار المزارعين في الجنوب إلى أيدي الصناعيين في الشمال”.

فإذا أسقطنا هذا الكلام على الحرب الأهلية اللبنانية التي انتهت باتفاق الطائف، بعد 15 سنة من القتل والتهجير والمجازر والدمار والخطف، وتذكَّرنا شعارات “الحركة الوطنية” التي أطلقها كمال جنبلاط، باسم الإصلاح والعدالة الاجتماعية، وما أطلقته المنظمات الفلسطينية المُتحالِفة معها مثل “تحرير فلسطين من النهر الى البحر”، و “الدولة الديموقراطية التي تتسع للمسلمين واليهود والمسيحيين على كامل التراب الفلسطيني” واعتبرناها شعارات إيديولوجية، حسب توصيف تشارلز بيرد، يتبيَّن لنا، أنَّ أقربَها إلى الحقيقة في ذلك الوقت هو الشعار الذي أطلقه القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) والقائل: ” طريق فلسطين تمرُّ من جونية”، فبرَّرَ فيه قول القائلين بأنَّ المقاومةَ الفلسطينيةَ هي جيشُ المسلمين (أو كما قيل تاليًا بأنَّ المقاومة الإسلامية هي جيش الشيعة).

وهذا يُفسِّرُ قول تشارلز بيرد بأنَّ الشعاراتَ الإيديولوجية ما هي إلَّا قناعٌ يخفي عمليةَ انتقالِ السلطة من يدٍ الى يد. وفي الحالة اللبنانية نقل السلطة من المسيحيين إلى المسلمين (أو ربما نقل الصيغة اللبنانية القائمة من مارونية–سنيَّة إلى مارونية–شيعيَّة) وهذا ما تمَّ فعليًا في “اتفاق الطائف” الذي وافقت عليه جهاتٌ مسيحية مرموقة، فبدا ذلك بمثابةِ إقرارٍ وقبولٍ بالهزيمة في الحرب الأهلية. كما ظهرت هيمنة رفيق الحريري بصفته “عرَّاب الطائف” على المَشهَدِ السياسي والاقتصادي في لبنان على أنّها نتيجةٌ حتمية مُسْتَحَقَّة للفريقِ الغالب.

كذلك، فإنَّ الدولَ الراعية لهذا التحوُّل، جعلته حقيقةً واقعةً كي تتصرّف على أساسه، الأصيلِ منها أو الوكيل، سيَّان عندها مَن هي الجهة التي تُمسِكُ بمفاصل السلطة طالما هي قابلة للمساومة مقابل ذلك. وهذا لا يقتصر على السلطة السياسية، بل الأهم من ذلك أنه يتعداها إلى السلطة المالية والمصرفية والاقتصادية، وأوضح مثال على هذا الانتقال في لبنان إصرار رئيس مجلس النواب نبيه بري، بصفته مُمَثّلًا للشيعة، على احتكار وزارة المالية باسم “التوقيع الثالث”، أي توقيع جهة شيعية على القرارات إلى جانب توقيع رئيس الحكومة السنّي ورئيس الجمهورية الماروني، وبالتالي يستطيع وزير المالية التحكّم بجميع الوزارات الأخرى من حيث الموافقة على صرف الاعتمادات لتلك الوزارات أو حجبها عنها. وبذلك يكون وزير المالية أقوى من رئيس الحكومة ومن رئيس الجمهورية.

مثل هذه الأشياء السلطوية الهدف، لا تتحقق كما يشتهي أصحابها، إلّاَ بالتخفّي وراءَ أقنعةٍ إيديولوجية للتخفيف من وطأةِ هذا الانتقال على المغلوبين، حسب توصيف تشارلز بيرد.

في الطائف انتقلت السلطة الفعلية من يدٍ إلى يد، وفي الأزمة المستمرّة منذ “ثورة تشرين” سنة 2019 مخاضٌ آخر لانتقالٍ جديد في السلطة السياسية والاقتصادية كنتيجةٍ حَتميةٍ لملاحق الحرب الأهلية المُستَدامة

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (31)

التَدويلُ السَلبي

2024/03/29

عندما لا تتعاطى الولايات المتحدة بالشأنِ اللبناني مُباشَرةً، فهذا لا يعني أنَّ الأمرَ لا يَهمُّها، فما شهده لبنان في جانبٍ منه، كان بموافقتها أو من صنعها. فمنذُ مطلعِ الألفية الثالثة، تعاطت الإدارات الأميركية المُتعاقِبة مع لبنان بسلبية، وحَذَت حذوَها بقيّةُ حلفائها من عربٍ وغيرِ عرب. لكن ما تريده واشنطن من لبنان لا تستطيعُ الدولةُ اللبنانية تلبيته، ولا هي ترغَبُ في ذلك، لأنه مَدخلٌ إلى تحويلِ الحربِ الأهلية الباردة المُستدامة إلى حربٍ أهلية ساخنة لا تبقي ولا تذر.

ومن السذاجة القول إنَّ الأميركيين لا يعرفون مَنْ فَجَّرَ مرفأ بيروت، خصوصًا أن الرئيس الأميركي وقتذاك دونالد ترامب صَرَّحَ عَلَنًا، فور وقوع الانفجار، أن جنرالات في البنتاغون أبلغوه بأنَّ بيروت تعرَّضَت لهجوم. وهناك عسكريون أميركيون مُتقاعِدون ألمحوا إلى أنَّ السلاحَ الذي دمَّر المرفأ والواجهة البحرية المقابلة له هو صاروخٌ يحملُ رأسًا من اليورانيوم المُنَضَّب، أي أنه سلاحٌ نووي تكتيكي. ولهذا يُمكِنُ القول إنَّ ما وَقَعَ في لبنان من انهيارات، على جميع المستويات، تتحمّلُ الولايات المتحدة جانبًا من المسؤولية عنه، بصَرفِ النظر عن الأسباب الداخلية اللبنانية التي أملت وتُملي هذه المواقف السلبية.

فالتعاطي الأميركي غير المُباشَر في الأزمة اللبنانية هو نوعٌ من التدويل السلبي، أي استخدام الأزمة الخانقة للشعبِ اللبناني كسلاحٍ تكتيكي لتغيير الأوضاع، لكن مداه ما زال مجهولًا. وهذا النوعُ من التعاطي يُشبِهُ النكد السياسي اللبناني، أي إنه معالجةٌ لداءِ اللبنانيين بدوائهم المُرّ، لا يقتلهم لكنه يُدخلهم في حالةِ غيبوبة (كوما).

أمّا في العَلَن، فإنَّ الأميركيين يستخدمون دُوَلًا حليفةً لهم للظهور بمظهر الاهتمام، أي “التدويل بالوكالة”. وفي هذه الحالة، أي الحالة اللبنانية، يُكلّفون فرنسا بهذه المهمة لكونها مقبولة من معظم اللبنانيين لأسبابٍ عاطفية، وثقافية، وتاريخية. فالتدويلُ بالوكالة سلبيٌّ في جوهره، لأنه نوعٌ من المُماطلة، وكسبِ الوقت، فالتدويلُ الجدِّي لا يتمُّ إلَّا بوجود الأصيل. وعندما يظهرُ الأصيل تحصلُ نتائج سريعة، كما شاهد اللبنانيون، بالصوت والصورة، في عملية التفاوضِ برعايةٍ أميركية حول اتفاقِ رَسمِ الحدود البحرية مع إسرائيل، وعلى الرُغمِ من وجود “حزب الله” في الصورة الخلفية، وهو الذي تتذرَّعُ به واشنطن لتضييقِ الخناقِ على اللبنانيين.

لكن اعتماد الوكيل الفرنسي ليس مُقنِعًا حتى لواشنطن نفسها. فخلال زيارتي دمشق أواخر شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام 1992 تسنّى لي لقاء فاروق الشرع، وزير الخارجية وقتذاك، فسألته عن التعاطي السوري مع القوى الدولية وأيّها أسهل مراسًا فأجاب من غير تردّد:.”الأميركيون… لأنهم يقولون لك مباشرةً ماذا يريدون منك ويسألونك بصراحة عمَّا تريده مقابل ذلك”.

“وماذا عن الفرنسيين؟”، سألته فأجاب: “يُشبعونك كلامًا جميلًا ووَعدًا وعند الجدِّ لا تَجِدْ لهم أثرًا.  فهم لا يستطيعون تلبية ما هو مطلوب”.

وقد لمسَ اللبنانيون، لمس اليد، حالةً مُتطابقة مع ما قاله الشرع، عندما صعد الرئيس ميشال عون إلى حفَّارة النفط في بحر البترون، التابعة لشركة “توتال” الفرنسية، لافتتاح أعمال التنقيب، ثم انكفأت الشركة الفرنسية وأوقفت العمليات، من غيرِ إبداءِ أيِّ سببٍ مُقنع سوى تلقّيها إشارة أميركية بالانسحاب. وحتى عندما زار الرئيس الفرنسي ماكرون بيروت أكثر من مرَّة بعدَ تفجيرِ مرفَإِ بيروت مباشرةً، والتقى القوى السياسية اللبنانية كلِّها، بما فيها “حزب الله”، وتفقُّده للأضرار الناجمة من الانفجار، لم يتحقّق على يده أي تقدّم في الوضع اللبناني المُتهاوي، بل ازداد تدهورًا، على الرُغمِ من الترحيب الاستثنائي به، رسميَّاً وشعبيَّاً، إلى درجة أنَّ بعضَ اللبنانيين المُرَحِّبين به طالبه بعودة الانتداب الفرنسي لحُكمِ لبنان. كلُّ ما بقيَ من تلك “الهمروجة” وسامٌ على صَدرِ فيروز!

وهناكَ مَن يظنّ في فرنسا أن ماكرون افتتحَ حملتهُ الانتخابية، لولايةٍ رئاسية ثانية، في ذلك المهرجان اللبناني. وبعضهم يعتقدُ بأنَّ حملته الانتخابية تلك في بيروت كانت من الأسباب الوجيهة لفوزه بولايةٍ ثانية.

على أنَّ السياقَ التاريخي للعلاقات، بين باريس وواشنطن، يُحِدُّ من فاعلية الدور الفرنسي في السياسة الخارجية. ومن أبرز تلك التقلبات المُبكرة التحدّي الذي رفعَ لواءَه الجنرال شارل ديغول في ستينيات القرن الماضي ضدَّ الهيمنة الأميركية، فانسحب من حلف شمال الأطلسي، وزار روسيا السوفياتية مُعتَبرًا، أنَّ الحدودَ الشرقية لأوروبا تبدأ من جبال الأورال (مُلمّحًا بذلك الى إدخال روسيا في الأسرة الأوروبية، في الوقت الذي وضع الفيتو على إدخال بريطانيا فيها). ورفع ديغول سقفَ التحدي عندما زار المقاطعة الفرنسية في كندا، حيث هتف بحياة “كيبيك الحرة”، وكأنه توخَّى من ذلك فك التحالف بين كندا والولايات المتحدة.

أما في الشرق الأوسط فقد لعب ديغول أوراقًا استراتيجية خطيرة في وجه واشنطن فأقامَ علاقاتٍ متينة مع مصر الناصرية، ووَجَّهَ دعوةً رسميَّة إلى المشير عبد الحكيم عامر قائد القوات المصرية المسلَّحة لزيارة باريس، حيث أقام له عشاءً تكريميًا في قاعة المرايا في قصر فرساي (وهو أول عشاء رسمي جرى في تلك القاعة منذ مغادرة الملك لويس السادس عشر لقصر فرساي في الثورة الفرنسية في العام 1789). والأهم من ذلك كله، أنَّ الجنرال ديغول قطعَ توريد السلاح الفرنسي إلى إسرائيل، وكان حتى ذلك الوقت يأتي كلُّه من فرنسا، مما أحرج الرئيس جون كنيدي بسببٍ من الضغوط التي تعرَّض لها للسماح بتوريد السلاح الأميركي إلى إسرائيل تعويضًا عن السلاح الفرنسي.

وكان ذلك تحوُّلًا هائلًا في الوضع الدولي والإقليمي، فبعثَ كنيدي برسالةٍ سرِّيَّة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، يعرضُ عليه وساطته لحلٍّ سلمي مع إسرائيل، لأنه يتعرّض لضغوطٍ شديدة من أجل تسليح الدولة العبرية، وهي ضغوطٌ قال إنهُ لن يستطيعَ تجاهلها طويلًا، مما يستدعي القيام بمساعٍ سلمية برعايةٍ أميركية، وعلى وجه السرعة.

وكان… ما كان.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (30)

!الشَريكُ المُضارِب

2024/03/28

قَطَعَ الإنزالُ العسكري الأميركي للقوات البحرية (مارينز)، على الشاطئ، جنوب بيروت، قُبَيلَ الانقلابِ الذي أطاحَ المَلَكِيِّة في العراق، مساعي نور السعيد مع السفير جايمس ريتشارد، المبعوث الأميركي إلى الشرق الاوسط، لحَملِ واشنطن على الدفاعِ عن استقلال لبنان في وَجهِ الهجمة الناصرية وعدم سقوط حكم الرئيس كميل شمعون، كما ذَكَرَ والدمار غالمان، سفير الولايات المتحدة لدى بغداد، في كتابه “عراق نوري السعيد: انطباعاتي عن نوري السعيد بين 1954- 1958″، ( صدرت طبعته الأولى المترجمة إلى العربية سنة 1965)، فكتب عن نوري السعيد ولبنان: “لم يَبرُز لبنان في أحاديثي مع نوري السعيد كبُروزِ الموضوع السوري. لكن من بداية ربيع 1958 صار يَتَطَرَّقُ لموضوعِ لبنان أكثر فأكثر. فعِندَ قيام “الجمهورية العربية المتحدة” في مطلع 1958، تزايدت نسبةُ الضغطِ اليساري على لبنان، بل وحتّى التسلّل السوري إلى الأراضي اللبنانية، وتتالى الضغطُ حتى مُنتَصف الصيف، ولم يَعُد ضغطًا مُقتَصِرًا على الحكومة اللبنانية، بل بدا أنَّ استقلالَ لبنان نفسه باتَ مُهَدَّدًا، وكان نوري السعيد يُراقِبُ الأحداثَ اللبنانية بقلق، فوقوع الفوضى في لبنان سيُحدِثُ انعكاساتٍ لا في العراق فحسب، بل في الأردن أيضًا، شريك العراق في “الاتحاد العربي” (الهاشمي)”.

ومضى السفير الأميركي خلال تلك الفترة التي عاصرها يقول: “في 21 أيار/مايو (1958) طلبَ نوري السعيد أنْ يراني على الفور، فقالَ إنَّ استمرارَ الاضطرابات في لبنان يُزعِجه كثيرًا، ويبدو له أنَّ هذا النهج سيكونُ مُقدّمة لتدخّلٍ عسكري. وبدا لنوري السعيد كأنَّ شمعون سيخسر ليخلفه اللواء فؤاد شهاب، وهو (أي نوري السعيد) يعرفُ شمعون جيدًا ويثقُ به، وكان يخشى من وقوعِ لبنان في أحضان عبد الناصر إذا لم يَصمُد شمعون. وقال إذا استنجَدَ الرئيس اللبناني بمجلس الأمن، فإن الاتحاد العربي سوف يُؤيّده، وإذا تطلَّبَ الأمرُ تدخُّل الولايات المتحدة وبريطانيا عسكريًا، فإنَّ “الاتحاد العربي” سوف يُؤيّدُ ذلك أيضًا، شرط عدم إشراك فرنسا”.

كان التدويلُ الأوّل في لبنان هو الاستقلال اللبناني، الذي تمَّ على يد بريطانيا مُمثَّلةً بالجنرال إدوارد سبيرز، وهو مَنْ قام بتركيبِ التشكيلة الاستقلالية الأولى. ومع أنَّ هذه التركيبة اهتزَّت، باستقالة الرئيس بشارة الخوري في منتصف ولايته الثانية، تحتَ الضغط الشعبي، فإنها لم تغبْ عن الصورة تمامًا في اضطرابات 1958، التي أدّت إلى التدويل الثاني على يد الولايات المتحدة بالشراكة مع طَرَفٍ عربي هو “الجمهورية العربية المتحدة” بقيادة جمال عبد الناصر.

ولم يكن غائبًا عن ذهن نوري السعيد ضرورة وجود شريك عربي في عملية التدويل اللبناني (غير احتمال لجوء الرئيس كميل شمعون إلى مجلس الأمن)، عندما اقترح على السفير الأميركي في بغداد (قبل أسابيع قليلة من الثورة العراقية التي أطاحته ولقي حتفه فيها على أيدي الجماهير الغاضبة، فمات شرَّ ميتة)، بأن يجري التدويل اللبناني على يد أميركا وبريطانيا، مع “الاتحاد الهاشمي” كشريكٍ عربي، واستبعاد فرنسا من المعادلة جُملةً وتفصيلًا.

طبعًا، استبعادُ فرنسا ليس مشكلةً بالنسبة إلى الأميركيين، لكنه يُزعِجُ فئةً واسعة من اللبنانيين تطبَّعَت طويلًا على الثقافة والعادات الفرنسية. لكنَّ السفيرَ الأميركي في بغداد ربما انزَعَجَ من اقتراحِ نوري السعيد إشراك بريطانيا في العملية، باعتبارِ ذلك مؤشِّرًا إلى عدم الثقة بالولايات المتحدة. ولم يَعِش نوري السعيد ليرى نتائج تقرير السفير الأميركي لدى صانعي القرار في واشنطن، لأنَّ تلك النتائج سبقته.

لكن الولايات المتحدة، عادت إلى مشاركة فرنسا في التفاهم الذي جرى بين الرئيسَين جورج بوش الإبن وجاك شيراك، في نورماندي العام 2004، على هامش الاحتفالات بالذكرى الستين للنصر في الحرب العالمية الثانية. وهذه المشاركة الأميركية–الفرنسية، التي عاد فيها التفاهم بين واشنطن وباريس، بشأن العراق، نتجت عنها نتائج خطيرة في لبنان ما زالت تُجَرجِرُ أذيالها على مدى سنوات، بالنظر الى العلاقة الوثيقة التي كانت قائمة بين الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك ورئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، الذي استقال وتخلَّى عن رئاسة الحكومة، ربما لخشيته من تأثيرِ تفاهم نورماندي على لبنان، فأرادَ أن يُحَيِّدَ نفسه والبلاد في تلك المرحلة. لكن الحريري، مثل نوري السعيد، لم يعش ليرى نتائج ذلك التفاهم.

ومُنذُ ذلك الوقت ظَلَّت الولايات المتحدة تَعتَمِدُ فرنسا شريكًا مُضارِبًا لها في لبنان (أو ربما شريكًا ثانويًا)، وذلك خلافًا لما أوصى به نوري السعيد السفير الأميركي في بغداد بضرورةِ استبعاد فرنسا من المُعادَلة كُلّيًا. فعندما جرى احتجازُ رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، عام 2017 في المملكة السعودية، وأُجبِرَ على تقديم استقالته على الهواء مباشرةً من الرياض، اتَّخَذَ رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون مَوقِفًا لا هوادة فيه، برفضه تلك الاستقالة من بلدٍ غير بلده، وخلافًا للأعرافِ القانونية اللبنانية، باعتبارِ أنَّ ذلك يمسُّ بالسيادة الوطنية، فظَهَرَ على مسرح تلك القضية فجأةً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وذهبَ إلى الرياض من أجلِ إطلاقِ سراح الحريري تحت ذريعة دعوته إلى الغداء مع عائلته في قصر الإِلِيزيه، فتوجّهَ الرئيسُ الطليق إلى باريس قبل العودة إلى بلاده. وهكذا حُرِمَ رئيس الجمهورية اللبنانية، المعنيُّ الأوّل بالأمر، من أيِّ فضلٍ له في إطلاق رئيس حكومته المُحتَجَز في بلدٍ آخر، وتجييره إلى رئيسِ دولةٍ أجنبية لمجرّد أنّهُ شريكٌ ثانوي في التدويل اللبناني يفعلُ مشيئةَ الولايات المتحدة.

وكان التدويل اللبناني قبل ذلك اتّخَذَ شكل التفويض الكامل للمملكة العربية السعودية لجَمعِ السياسيين اللبنانيين في الطائف (بموافقة سوريا) لتوضيبِ تفاهُمٍ ما بينهم من أجلِ وَضعِ نهايةٍ للحرب الأهلية بوجهِها العسكري.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (29)

الأميركان يَفعَلونَها ويُزعِلونَ زبائنَهُم

2024/03/27

في سنة 1959، وكان لبنان قد نفضَ عنه غُبارَ صيف 1958 الدامي، تمّت تسويةٌ دولية، رَعَتها واشنطن ووافق عليها جمال عبد الناصر، قضت بإيصال قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة.

كُنتُ سنتها لمَّا أَزَل طالبًا في “الجامعة الأميركية”، فتنادت مجموعةٌ من الطلاب لزيارة صرح بكركي ولقاء البطريرك مار بولس بطرس المعوشي (أول بطريرك ماروني يحمل لقب كاردينال)، الذي كان عاكَسَ بمواقفه، وتوجّهاته، مواقف زعماء طائفته.

وحَدَثَ أن انتَدَبَني زملائي، لأتولّى الاتصال بالمسؤولين في الصرح البطريركي لتحديدِ مَوعِدٍ للزيارة، وطلبوا منّي أن أتحدّثَ باسمهم في حضرة البطريرك ،(لقد استفضتُ حول تلك الزيارة في كتاب “علامات الدرب” وهو سيرتي الذاتية).

في الصالون الكبير، الذي يستقبل فيه زواره، وقف البطريرك، بشوشًا، سَلَّمَ ورَحَّبَ بنا، ثمَّ عَلّقَ أمامنا على المواقفِ السلبية لأبناءِ طائفته التي نالت منه خلال اضطرابات صيف 1958، مُتندّرًا بما كانوا يُلحِقونَ به من نعوت، وقال مُمازِحًا: ” لم أجد مُعَزّيًا لي في تلك الفترة، سوى إخواننا الأرثوذكس في عكار”.

والواقع، أن ما ذكره البطريرك أمامنا، عن السباب والشتائم التي نالته، كان يُعبِّر عن المزاج العام في تلك المرحلة المشدودة بالعصب الطائفي، والاستقطاب الحاد والمُسَلح أيضًا.

ففي حين كانَ المسلمون يُطلِقون عليه لقب “بطرك العرب”، كان بعض الموارنة يسمونه ” محمد المعوشي”، ويلحقون التسمية بأنه مُستَزلِم لجمال عبد الناصر.

وهي كلُّها “اشياءٌ صبيانية “، كما قال، وتعامل معها على أنها كذلك.

وما أراد البطريرك الاسترسال أكثر حول هذا الموضوع، ولكي ينفي وجود أي علاقة له مع جمال عبد الناصر، أخبرنا أنه التقى أنور السادات، الذي لم تكن له، وقتها، اي صفة رسمية، إنما كان رئيسًا للمؤتمر الإسلامي.

وذَكَرَ لنا، أنّهُ أمضى أربعة عشر عامًا في الولايات المتحدة، حيث خدم رعايا الموارنة في نيو بدفورد (في ولاية ماساشوستس)، ومنها انتقل الى كاليفورنيا، لذلك يفهم جيدًا العقلية الأميركية في السياسة، كما في البيزنس، أي على قاعدة “فيفتي فيفتي” على حد قوله. ومن هذا المدخل تناول في حديثه لقاءه مع روبرت مورفي، الممثل الشخصي للرئيس أيزنهاور إلى لبنان خلال أزمة العام 1958، فكان راعي التدويل للأزمة اللبنانية والمُشرِف على تنفيذ الصفقة التي عقدها أيزنهاور مع عبد الناصر لتسوية الوضع الداخلي اللبناني.

ما سمعته من البطريرك المعوشي في ذلك الوقت المُبكِر من استيعابي للأمور السياسية المُعقَّدة، أعطاني انطباعًا بأنَّ البطريرك غير راضٍ عن تلك التسوية. سمعتُ منه وأنا جالسٌ إلى جانبه، ثم أبلغنا أنه قال للمبعوث الأميركي: “أنتم الأميركيون تُنجِزون مهمّتكم، لكنكم تُزعِلون زبائنكم”.

ثم نطق تلك العبارة باللغة الإنكليزية كما قالها مورفي:

“You, the Americans did your job but you displeased your clients”

لقد اعتبر البطريرك أنَّ التسوية تمّت على حساب اللبنانيين في غيابهم وغفلةً منهم، وهي في الواقع كذلك.

ومما زاد في امتعاض البطريرك، خلال لقاء مورفي، ما ذكره موسى مبارك لجريدة “النهار” في سنة 1970، وهو رَفض المبعوث الأميركي طلب البطريرك أن يكون بشارة الخوري مُرَشَّحًا للرئاسة، خوفًا من أن يكونَ انتخاب فؤاد شهاب سابقة، قد تتكرر، وتأتي بالعسكر إلى رئاسة الجمهورية، إضافة إلى أنَّ المعوشي كان “دستوري الهوى”، ويرى أن الخوري المتأثر بأفكار نسيبه ميشال شيحا، ونظرته إلى دور لبنان المتميز في العالم العربي، هو رجل المرحلة. إلّا أنَّ مورفي رفض مجرَّد البحث في ترشيح بشارة الخوري وأصرَّ على شهاب رئيسًا.

وحَدَثَ أن تبرّعَ أحدهم في نَقلِ ما دارَ بين مورفي والمعوشي إلى اللواء فؤاد شهاب، الذي ساءه ذلك فامتنعَ طوال سنوات حكمه الست عن زيارة بكركي.

وشأن التسوية الأميركية–المصرية، شأن جميع التسويات الدولية التي تمّت خلال القرن السابق (القرن التاسع عشر). وهذا ما دفعني في الجامعة إلى التسجيلِ في درسٍ عن تاريخ لبنان في حقبة التقاطع بين المرحلة الصليبية، والمرحلة المملوكية، والمرحلة المغولية، في القرن الثالث عشر، لدى الدكتور كمال الصليبي، وهي مرحلة في غاية التعقيد، وتحتضنُ السياقَ التاريخي لتعاطي اللبنانيين مع القوى الخارجية، بالتعامل معها ثم الانقلاب عليها، بسدِّ الثغور أو بفتحها. وهي المرحلة التي ذهب ضحيتها مئات من موارنة الشمال، وأُحرقت ديارهم على أيدي المماليك بعد انتصارهم على المغول بقيادة السلطان قطز (في معركة عين جالوت) ومن بعده السلطان بيبرس البندقداري.

ومما أكّدَ فهمي عبارة البطريرك المعوشي على هذا النحو، ما سمعته تاليًا عن انقطاعٍ في العلاقة بين البطريرك ورئيس التسوية فؤاد شهاب، حيث تردَّد عن المعوشي قوله: “أنا الثابت وهو العابر … قُلْ للذي تحت (أي في القصر الجمهوري في صربا) إنَّ لا شيء يدوم”، والله أعلم.

وربما كان البطريرك المعوشي في تحفّظه على تسوية 1958 أنَّ كلَّ التسويات اللاحقة، قياسًا على ذلك، ستتمُّ على حساب الدور المسيحي. وهذا يُفسِّر وضعية “الزبون الزعلان من راعيه” كما عبَّر عنها البطريرك الماروني، الذي خبر العقلية الأميركية في التعاطي مع الشؤون الخارجية، كما قال لنا. فالتعاطي الأميركي في الشؤون الخارجية، هو تاريخ طويل من التقلُّب، بين مساندة حلفائهم ثم الانقلاب عليهم، حسب مقتضى الحال. فهم الذين مكَّنوا الشهابية، وساندوا خصومها في الوقت ذاته، حتى جرى الانقلاب عليها. وكذلك فعلوا مع الوجود السوري في لبنان… فالسياسة الأميركية في المحصلة هي “القبول بما يمكن تغييره”، على قولة المؤرخ اللبناني يوسف إبراهيم يزبك.

ومن عجبٍ أن يستاء حرَّاس الثغور، الذين أتقنوا فنَّ فتحها وغلقها، من ممارسة دول أخرى مثل هذه اللعبة عليهم. فالتعويل على التدويل سيفٌ ذو حدَّين. أو على قول المتنبي:

“ومَن جعلَ الضرغامَ للصيدِ بازَه    تصيَّده الضرغامُ في ما تصيَّدا”.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (28)

الديبلوماسي البُوذي

2024/03/26

.عدَ سُقوطِ الوِحدَةِ السورية-المصرية، عام 1961، وتَفَكُّكِ “الجمهورية العربية المُتَّحدة”، ارتفعَت وَتيرةُ التدخّلِ المصري-الناصري في الشأنِ اللبناني عمّا كانت عليه أثناء الوجود المصري في سوريا.

بل إنَّ المُمارساتَ التي كانت سائدةً في زمنِ حُكم عبد الحميد السراج باسم عبد الناصر، بعدما انتقلَ من وزارةِ الداخلية إلى رئاسةِ المجلس التنفيذي السوري، ظلَّت كما هي من حيثُ اعتمادِ بقايا الخلايا الناصرية التي كانت تابعةً له في عملياتٍ أمنية داخل لبنان، خصوصًا بعدَ الصراعِ المصري–السعودي على اليمن أيام حُكم الملك فيصل بن عبد العزيز، والإعلانِ عن مشروعِهِ إقامة حلفٍ إسلامي لمُقاومةِ المَدِّ الناصري والقوميّةِ العربية التي نادى بها.

وقد ظهر ذلك جليًا من اغتيال الصحافي المعروف كامل مروة، صاحب جريدتَي “الحياة” و”دايلي ستار”، الذي تبنّى فكرة الملك فيصل إقامة حلف إسلامي، وما استتبعه ذلك من حملاتٍ إعلامية مُوَجَّهة ضد الحالة الناصرية. فقد تمَّ اغتيالُ كامل مروة على أيدي بقايا خلايا السَرَّاج في لبنان.

لكنَّ مرحلةَ التحضيرِ في زمن الوحدة المصرية–السورية لإشعالِ الحَربِ الأهلية المُصَغَّرة في لبنان (المُسَمّاة “ثورة ” 1958)، تُشيرُ إلى المدى الذي ذهبت إليه الأجهزة الناصرية في دمشق في عملياتها الأمنية على الأراضي اللبنانية.

وقد كشف سامي جمعة قصّةَ تَجنيدِ القنصل العام البلجيكي في دمشق، لوي دو سان، لتَهريبِ السلاح والذخائر والمتفجّرات إلى لبنان بسيارته لأنها تتمتّعُ بالحصانة الديبلوماسية، فلا تخضع للتفتيش على المراكز الحدودية اللبنانية.

والقنصلُ البلجيكي هذا وصفته مجلة “تايم” الأميركية في ذلك الوقت بأنه “المليونير الغريب الأطوار”، وأثناء خدمته الديبلوماسية في دمشق، تعارف مع سامي جمعة، وتطوّرت علاقتهما إلى درجةِ “الصداقة الوثيقة”. والقنصل البلجيكي دو سان اعتنقَ الديانة البوذية، وكان شديدَ العداء للسامية، ويستمتعُ برياضة “اليوغا” وبتمارين التأمّلِ الفكري.

قام سامي جمعة بترتيبِ لقاءٍ بين القنصل البلجيكي وعبد الحميد السرّاج، فأُعجِبَ القنصلُ بالسرّاج إلى درجةِ أنه وعده بمساعدته بأيِّ شكلٍ في “الحربِ ضدّ الغرب واليهود”.

ولكي يتأكّد السرّاج من وقوف القنصل البلجيكي عند كلامه، طلبَ منه إذا كان من المُمكن استخدام سيارته الديبلوماسية لنقل شحنةٍ مُستعجلة من المواد إلى “المقاومة” في بيروت. وتفاجأ السرّاج بقبول القنصل البلجيكي، بل بترحيبه، بهذه المهمة. وهكذا قامت سيارة دو سان الديبلوماسية برحلاتٍ عدة عبر الحدود اللبنانية إلى بيروت مُحَمَّلةً بالأسلحة والذخائر المُرسَلة من السرّاج إلى مقاتلي شهاب الدين في بيروت.

لكنَّ المخابرات البريطانية عَلِمَت بالأمر، فأبلغت الدوائر الأمنية اللبنانية. ولدى مرور السيارة الديبلوماسية على الحدود، وهي مُتَّجِهة في رحلتها المُعتادة يقودها القنصل بنفسه (أواسط أيار/مايو 1958)، أوقفها الأمن اللبناني وجرى تفتيشها، فوجد المفتّشون في صندوقها ثلاثة وثلاثين بندقية رشاشة، وثمانية وعشرين مسدسًا، وحوالي 15 ألف طلقة من الذخيرة، وقنبلة واحدة موقوتة.

وقد اعتقلت السلطات اللبنانية القنصل العام البلجيكي، وجرت محاكمته في بيروت، وصدر بحقه حكم بالإعدام، خُفّضَ تاليًا إلى عشرين سنة من السجن، لكن بعد انتخاب فؤاد شهاب، قائد الجيش اللبناني آنذاك، رئيسًا للجمهورية، بتوافق مصري–أميركي، طلب منه عبد الناصر شخصيًا أن يُطلِقَ سراح القنصل البلجيكي، فأطلقه، وانتقلَ إلى سوريا وبقي فيها حتى وفاته في العام 1995 في بلدة “بملكا” بالقرب من مدينة طرطوس على الساحل السوري لجهة حدود لبنان الشمالية.

ويصفُ سامي جمعة حالة “الانفلاش” التي انحدرت إليها المخابرات السورية في حربها اللبنانية، خلال سَعيِها إلى تقويضِ حكم كميل شمعون بأيِّ طريقة، بحيث وقعت فريسةَ جماعاتٍ من المحتالين، كما قال، كانوا يأتون ويزعمون بأنهم يُمثّلون مجموعاتٍ من المقاتلين في مختلف المناطق اللبنانية، فيجري توزيع السلاح عليهم لهذه الغاية، لكنهم كانوا يبيعون تلك الأسلحة للانتفاع بثمنها، أو لتبديده على موائد القمار!

ويُمكِنُ تصديق هذه الرواية، قياسًا على ما شاهدناه أثناء انخراط المقاومة الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية الكبرى التي انطلقت عام 1975، عندما جرى توزيع السلاح الفلسطيني على كلِّ عابرِ سبيلٍ في لبنان، فلم يبقَ شابٌ من أتباع “الحركة الوطنية” اللبنانية إلّاَ ونالَ قطعةً من السلاح، سواء كان مُقاتلًا أو غير مقاتل، بالإضافة إلى التنفيعات المالية لأعدادٍ كبيرة من العاملين في السياسة وفي الإعلام وغيرهم من المتنفذين.

!وما زالت الحكاية هي …هي

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (27)

“حَميرُ” السَرَّاج

2024/03/25

أَحدَثَت الوِحدَةُ المصريَّة-السوريَّة، في مطلع العام 1958، زلزالًا مدوِّيًا في معظم أنحاء العالم العربي. كانَ من أوّلِ ارتداداته إطلاقُ الأجهزة السورية المُوالية لجمال عبد الناصر، وعلى رأسها جهاز “المكتب الثاني” الذي كان يتولّاه عبد الحميد السَرَّاج، حربًا أهلية مُصَغًّرة في لبنان صيف تلك السنة. أمّا الارتدادُ الأكبر كان سقوط النظام الملكي الهاشمي في العراق، ومعه “حلف بغداد” الذي كَرَّسه رئيس الحكومة العراقية آنذاك، نوري السعيد، لمُقاوَمةِ المَدِّ الناصري. إلّاَ أنَّ الاضطرابَ المُسَلَّح، الذي حَصَلَ في لبنان قبيل ذلك، كان الأصدقُ إنباءً عن طبيعة التطوّرات التي ما زالت ارتداداتها السرطانية سارية فوق السطح وتحته في كافة أنحاء العالم العربي.

وقبلَ الدخولِ في تلك الارتدادات، لا سيما اللبنانية منها، يجبُ تَصحيحُ صورةٍ شَوَّهَتها الدعايات الإعلامية عن الواقعِ السياسي السوري في تلك المرحلةِ الحَرِجة، وكذلك الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى سقوطِ دولةِ الوِحدة في دمشق بعد نحو ثلاثِ سنواتٍ فقط من قيامها المُدوِّي. فالحالةُ الإعلامية الدعائية الصاخبة، والتحرّكات الشعبية الواسعة، العفوية منها والمُفتَعَلة، أظهرت وكأنَّ سوريا بأسرها أرادت الوِحدة الاندماجية مع مصر الناصرية وسعت إليها. وهذا أمرٌ غير صحيح، أو هو غير دقيق وغير موضوعي، ولو أنه وَرَدَ بلسان جمال عبد الناصر، الذي كان من مصلحته الترويج لهذا الانطباع.

فالقوى السورية المُعارِضة للوِحدة مع مصر لم تكن قليلة الشأن، ومنها الأحزاب والهيئات التقليدية الساعية في حينه، (أو الراغبة من ناحية المصلحة الاقتصادية)، إلى الاتحاد مع العراق (الهاشمي). ومنها أيضًا الحزب الشيوعي السوري (اللبناني)، بقيادة زعيمه خالد بكداش، الذي كانَ فازَ فوزًا مؤزرًا بمقعدٍ في البرلمان السوري عن مدينة دمشق في الدورة الأولى من الانتخابات، لكنه غادرَ سوريا بعد إعلان الوحدة. ومنها أيضًا أحزابٌ عريقة لها مُحازِبون ومُناصِرون مثل “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، و”جماعة الإخوان المسلمين”، وكلاهما له تمثيلٌ في البرلمان، ناهيك بتململ بعض الضباط الذين كانوا يتقبلّون على مضضٍ التخبّط السياسي بين فريقَي الوِحدة في دمشق والقاهرة. وحتّى في صفوفِ مؤيِّدي الوحدة، كان هناك فريقٌ يميلُ الى المملكة العربية السعودية (ويتموَّل منها)، اعتبرَ أنَّ الخيارَ المصري هو خيارٌ اضطراري مَرحَلي أفضل، بالنسبةِ إليهم، من الخيار العراقي الهاشمي. ومن هذا الفريق بالذات انطلقَ انقلابُ الانفصال، بتوقيتٍ سعودي على الأرجح.

كما إنَّ “حزبَ البعث العربي الاشتراكي”، الذي كانَ المُحَرِّكَ الأوّل في سوريا للوحدة مع مصر، سرعانَ ما خابَ ظنُّه وانسَحَبَ من حكومةِ عبد الناصر قبل الانفصال. وقد أعلن أمينه العام ميشال عفلق، عندما طُرح موضوع الوحدة للبحث في دمشق، أنه طلبَ من نواب الحزب في البرلمان أن يتقدّموا بمشروعِ “إقامة اتحادٍ فيدرالي” مع مصر، وليس وِحدة اندماجية كما حصل. وقد عزا بعضهم، الدفع باتجاه الوحدة الاندماجية إلى الوفد العسكري المُمَثِّل للجيش السوري.

لكنَّ وَقعَ التحوّل السوري، مع قيام “الجمهورية العربية المتحدة”، كانَ أشدّ وطأةً على لبنان لكون مصر الناصرية أصبحت لها حدودٌ مفتوحة معه، بل صارت في داخله من خلال القوى المعارضة للرئيس كميل شمعون، فأخَذَ التدخّلُ في لبنان من خلال الأجهزة السورية، منحى عنيفًا من حيث الاغتيالات وتهريب مختلف أنواع الأسلحة للقوى المُعارضة.

وقد نقلَ الصحافي والكاتب البريطاني أليكس رويل (المُقيم في لبنان)، في كتابه الأخير عن عبد الناصر بعنوان “نحن جنودك”، قول عبد الحميد السَرّاج في وقتٍ لاحق:” كان لزامًا علينا أن نزيح كميل شمعون وشارل مالك بأيِّ وسيلةٍ وبكلِّ الطُرُقِ المُتاحة، وهذا ما فعلناه”.

لكن سامي جمعة، معاون عبد الحميد السَرّاج في جهاز المخابرات السوري (المكتب الثاني)، كَتبَ مَلِيًّا عن موضوعِ “الثورةِ المُفتَعَلة في لبنان” في كتاب مذكراته بعنوان “أوراق من دفتر الوطن، 1946–1961” (الصادر عام 2000 عن “دار طلاس للطباعة والنشر” في دمشق، وقد كتب مقدمته العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الأسبق)، مُعتَرِفًا بتهريبِ السلاحِ إلى لبنان عبر الحدود بقوافل من الحمير والبغال المُحَمَّلة بالسلاح والذخيرة والقنابل. ويؤكّدُ أيضًا أنَّ المخابرات السورية، بطلبٍ من عبد الحميد السَرّاج، قامت بتفجيرٍ كبيرٍ في مدينة زحلة القريبة من الحدود السورية، فتمَّ تفخيخُ حمار جرى تفجيره في عاصمة البقاع باعتبارها تميلُ إلى كميل شمعون. كذلك، قامَ سلاح الجو في الجيش اللبناني آنذاك بغارةٍ جويَّة على قافلةٍ من الحمير المُسَلَّحة (نشرت الخبر بعنوان عريض جريدة “دايلي ستار” لصاحبها الراحل كامل مروة يقول: “الطائرات تقصف قافلة من الحمير المسلَّحة”).

وجاءَ في مذكّرات سامي جمعة قوله أيضًا: “من الطبيعي أن تساعد سوريا الثوار (في لبنان) بالمال والسلاح”. كما روى قصة لقائه مع الناصري اللبناني البيروتي رشيد شهاب الدين (أحد قبضايات الأحياء في العاصمة اللبنانية)، وقالَ إنَّ السَرّاج طلبَ منهُ أن يصله مع العقيد برهان أدهم، رئيس الشعبة اللبنانية في المخابرات السورية، “لأننا بحاجةٍ إلى رجلٍ مثله”، على حَدِّ قولِ السَرّاج.

أما قوافل البغال والحمير المُحمَّلة بالسلاح فكانت تعبر الى بلدة “دير العشائر” على الحدود اللبنانية-السورية، مرورًا بسلسلةِ جبال لبنان الشرقية إلى سهل الليطاني في البقاع الغربي، ومنهُ إلى سلسلة لبنان الغربية، وصولًا إلى الشوف والمختارة، دارة الزعيم الدرزي الاشتراكي كمال جنبلاط ، قبل توزيعها على بقيّةِ المُعارضين لكميل شمعون. وكانت الشرارة التي ألهبت “الثورة” قيام أجهزة السَرّاج باغتيالِ الصحافي نسيب المتني صاحب جريدتَي “التلغراف”، و”الطيار” لتعميم الفوضى والقتال في جميع أنحاء لبنان.

طبعًا، ما كانَ لذلك الوضع أن ينشأ لولا وجود قابلية لدى الفئات اللبنانية المختلفة للتعامل مع جهات مخابراتية خارجية للاستقواء بها على خصومها في الداخل. وهذا الوضعُ ما زال قائمًا، مع الأسف، وربما بصورةٍ مُتفاقمة. وقد بقي الوضع اللبناني في عهد مخابرات فؤاد شهاب مؤاتيًا للمخابرات المصرية حتى بعد انفصال سوريا عن مصر، حسب رواية سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر، وكاتم أسراره، كما كان يُوصف في حينه. وقد كَشَفَ شرف تاليًا قصة الخطة التي وضعها عبد الناصر بنفسه لتهريب السَرّاج من سجنه في دمشق إلى لبنان ومن ثمَّ إلى القاهرة، بعد نجاح انقلاب الانفصال، وهي عملية تمّت في العام 1962، بالتعاون مع “المكتب الثاني” اللبناني. ويؤكّد سامي شرف أنه ما كان لتلك العملية أن تنجح لولا المشاركة المباشرة للمخابرات العسكرية اللبنانية فيها، “بمعرفة الرئيس فؤاد شهاب وموافقته وبغطاءٍ كاملٍ منه”.

وبعدَ فرار السَرّاج من سجنه في دمشق، انتقل مُتنكّرًا الى دار المختارة في الشوف، حيث قضى ليلةً هناك، انتقلَ بعدها إلى بيروت حيث نزل في بيت ديبلوماسي مصري بمنطقة “الروشة”، ومنه انتقل، كما أكد سامي شرف، برفقته إلى مطار بيروت بسيارة “جيب” عسكرية كان يقودها سامي الخطيب، الضابط في المخابرات العسكرية اللبنانية، حيث جلس هو إلى جانب الخطيب في المقعد الأمامي، بينما جلس السراج وحارس سجنه، الذي تواطأ في تهريبه، في المقعد الخلفي، ويقول إنهم جميعًا كانوا يرتدون ملابس عسكرية لبنانية!

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (26)

العَودَةُ الأميرِكِيِّةُ الثانِية

2024/03/24

بَعدَ تَراجُعِ المَشروعِ الأميركي الذي حمله الرئيس وودرو ويلسون في “مؤتمر فرساي للسلام”، حَدَثَ في لبنان تدويلٌ آخر تَمَثَّلَ في مشروع الانتداب الأنكلو–فرنسي، الذي حظي، كما يبدو، بموافقةِ الشخصيات اللبنانية والعربية التي كانت يومئذٍ على تماسٍ وتواصُلٍ مع الوفود الدولية المَعنيَّة بالمؤتمر، وأبرزُ تلكَ الوجوه الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي، والبطريرك الماروني اللبناني الياس الحوَيِّك، الساعي إلى تكبير الكيان اللبناني في جبل لبنان بضَمِّ الأقضيةِ الأربعة إليه. وهكذا قامت الكياناتُ العربية في ظلِّ عمليّةِ تدويلٍ واسعةِ النطاق، أدّت إلى حُكمٍ أجنبيٍّ مُباشر تحت اسم “الانتداب” استُبعِدَت منهُ الولايات المتحدة بعدما كانت المُحَرِّكَ الأوَّل لدينامية التدويل من خلال بعثة “كينغ–كراين”، كما مرَّ، للتماس والترابط بين الحربِ الأهليّة اللبنانية والتدخّلِ الدولي.

بعد إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920، أي بَعدَ عامٍ من انتهاءِ مهمّة البعثة الأميركية بالشكلِ الذي انتهت إليه، لم تُقِم الولايات المتحدة أيَّ تمثيلٍ ديبلوماسي لها في لبنان إلّا بعدَ 22 عامًا، وعلى مستوى منخفض. ففي العام 1942، وكان الانتدابُ الفرنسي ما زالَ قائمًا، عيَّنت وزارة الخارجية الأميركية الديبلوماسي جورج وادسورث مُفَوَّضًا لها في بيروت، لكنها في العام 1943 لم تعترف باستقلال لبنان، بل اشترطت لاعترافها به أن تُقدِّمَ الحكومة اللبنانية، التي قامت بعد إعلان الاستقلال، إلى الحكومة الأميركية تعهُّدًا يعترفُ اعترافًا كاملًا بحقوقِ ومصالحِ الولايات المتحدة وحماية رعاياها. واستمرّت المفاوضات حول الموضوع مدَّة سنة تقريبًا إلى أن أصدرت وزارة الخارجية اللبنانية التعهُّد المطلوب من واشنطن (كان وزير الخارجية في الحكومة الاستقلالية الأولى برئاسة رياض الصلح آنذاك سليم تقلا). وفي أواخر 1944 اعترفت الولايات المتحدة باستقلال لبنان، ورفعت درجة تمثيلها في بيروت إلى مفوضية فوق العادة، وعَيَّنَت ممثّلها السابق في بيروت جورج وادسورث نفسه في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1944 وزيرًا مفوَّضًا لمَلءِ هذا المنصب، فبقي حتى شباط (فبراير) 1947، ليخلفه لويل بنكرتون حتى ربيع 1951. وبعد انتهاء مدته ظلَّ المنصَبُ شاغرًا حتى 3 تشرين الأول (أكتوبر) 1952، عندما رفعت واشنطن تمثيلها في لبنان، لأول مرة، الى درجة سفارة، فعَيَّنَت هارولد ماينور أول سفير لها لدى بيروت.

إلّا أنَّ تواجُدَ الولايات المتحدة في لبنان على مستوى السفراء كان منذ البداية مُضطَرِبًا. فالسفيرُ الأوّل لم تَدُم خدمته سوى تسعة أشهر، والسفير الثاني الذي خلفه رايموند هير أحدثَ أزمةً ديبلوماسية مدوِّية عندما احتجَّ لدى الرئيس كميل شمعون على قيام وزير الداخلية آنذاك جورج هراوي بزيارةٍ إلى عاصمة هنغاريا الشيوعية، بما فُهم منه المطالبة بإقالة الوزير. عندئذٍ التأمَ مجلسُ النواب، المؤلَّف يومها من 44 نائبًا فقط، وأصدَرَ توصيةً تُطالِبُ بطَردِ السفير من البلاد، فقامت الحكومة الأميركية بسحبه بعد سنة فقط من تعيينه. والقصة أنَّ الوزيرَ هراوي كانَ في روما لحضورِ اجتماعِ “منظّمة الأغذية والزراعة” (فاو)، وهو من مؤسّسيها، وبعد الاجتماع قرَّرَ أن يذهبَ إلى بودابست لحضورِ مباراةٍ في كرة القدم يلعبُ فيها البطل المجري المشهور في تلك الأيام فيرينتس بوشكاش، لأنَّ الوزير هراوي كانَ مُولَعًا بلعبةِ كرة القدم ومُعجَبًا بأداءِ بوشكاش في المباريات، ولم يكن في زيارةٍ رسمية إلى هنغاريا.

والحقيقةُ أنَّ العلاقات الأميركية مع لبنان ظلَّت مُتَعَثِّرةً حتى نهاية الحرب الأهلية واتفاق الطائف. فقد قامَ مُسلَّحون في بيروت الغربية باغتيال السفير الأميركي فرانسيس ميلوي (مع مستشاره الاقتصادي وسائقه)، كما جرى تفجير مقر قوات المارينز الأميركية المشاركة في القوات المتعددة الجنسيات (وكذلك مقر القوات الفرنسية)، في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من بيروت عام 1983، مما أدَّى إلى سقوطِ مئاتٍ من القتلى والجرحى في صفوف تلك القوات، وبالتالي إلى انسحابها من لبنان. وتلا ذلك تفجيرٌ كبيرٌ في السفارة الأميركية، على الكورنيش البحري في عين المريسة، تَهدَّم فيه مبنى السفارة على مَن فيه.

إنَّ التحوُّلَ الأهم الذي حدث في منتصف خمسينيات القرن الماضي هو حلولُ الولايات المتحدة محلَّ بريطانيا وفرنسا، بعد حرب السويس في العام 1956، فانتقلت عملية التدويل المُستَمرّة إلى الراعي الأميركي. وقد سبق هذا الانتقال تمهيدٌ إيديولوجي وعسكري تَمَثَّلَ بما سُمِّيَ “مبدأ أيزنهاور” (في إطار مكافحة الشيوعية)، وبالأحلاف العسكرية (في إطار الدفاع المشترك)، ومن هذا المُنطَلَق تمَّ توسيع الحلف الإيراني–الباكستاني، فأُقيمَ حلفٌ أوسع انضمَّ إليه العراق، وسُمِّيَ “حلف بغداد” الذي أراده نوري السعيد رئيس الحكومة العراقية آنذاك أداةً للوقوفِ في وَجهِ المَدِّ الناصري، الذي تعاظم بعد تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، وبعد إفشال العدوان الثلاثي على مصر (التواطؤ الأنكلو–فرنسي مع إسرائيل).

وهذا كُلُّهُ انعَكَسَ على الوَضعِ اللبناني، حيث زَعَمَ البَعضُ أنَّ الرئيس كميل شمعون ينوي الدخولَ في حلف بغداد، وهو زَعمٌ غير صحيح، وإن كانَ الرئيس شمعون أكثر ميلًا إلى العراق، لأنه استَشعَرَ خطرًا وجوديًا على لبنان من جرّاءِ تعاظُمِ المَدِّ الناصري، بالنظرِ إلى وجودِ فريقٍ لبناني كبير، في ذلك الوقت، أكثر ولاءً لعبد الناصر منهُ إلى لبنان، خصوصًا بعد قيام دولة الوحدة بين سوريا ومصر (الجمهورية العربية المتحدة). وازدادَ الوَضعُ اللبناني تفاقُمًا بعد ثورة 14 تموز (يوليو) في العراق، حيث أطاح الجيش العراقي بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم النظام الملكي الهاشمي وحُكم نوري السعيد وأعلَنَ العراق نظامًا جمهوريًا.

ومن الطبيعي في مثلِ هذه الحالة من التوتّرِ والاضطرابِ أن تسري مَزاعِم وتبريرات، ليس لها أساس في الواقع، كالزَعم بأنَّ الرئيس شمعون كان ينوي تجديد ولايته كمُبَرِّرٍ لمُعارضيه، الموالين في غالبيتهم إلى عبد الناصر، للانتفاضِ المُسَلَّحِ ضدَّه لحمله على الاستقالة. ثم قيلَ إن القوات العراقية التي قامت بالثورة على النظام الملكي فعلت ذلك لأنها أُمِرَت بأن تتحرَّكَ إلى لبنان لنصرةِ شمعون، فقامت بالانقلاب على آمريها. وبعد إنزال قوات المارينز الأميركية على شاطئ الأوزاعي بأمرٍ من الرئيس أيزنهاور، قيلَ إن الرئيس شمعون هو الذي استدعى القوات الأميركية، والحقيقة إن الأميركيين هم الذين أعلنوا ذلك كغطاءٍ قانوني لتبريرِ إنزالهم لتلك القوات في بحر ضاحية بيروت الجنوبية.

وهنا بدأ فصلٌ جديد من تدويل الأزمة قاده الأميركيون، بنجاحٍ هذه المرة، ففازَ مبدأ أيزنهاور، في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، حيث أخفقت مبادرة ويلسون وبعثته في مطلع العشرينيات منه.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (25)

الدولةُ اليَهودِيّة مَشروعُ حَربٍ كَونِيَّة

2024/03/23

ما كادَت الحربُ الكَونيّةُ الأولى تَضَعُ أوزارها، حتى كان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، يَتَهيَّأُ، عبر “مؤتمر فيرساي للسلام”، للتدخّلِ في مصير سوريا ولبنان السياسي. فتَحتَ شعارِ “حقّ تقرير المصير للشعوب غير التركية في الإمبراطورية العثمانية “، أوفدَ إلى دمشق بعثةً للوقوف والاستئناس برأي وميول السوريين حول مستقبل بلادهم خارج تلك الإمبراطورية المُتهالكة، ثم، اختيار الدول “المُنتدبة” عليهم من قبل “عصبة الأمم”. وقد عرفت تلك البعثة باسم” بعثة كينغ-كراين”، وهما هنري تشرشل كينغ وتشارلز كراين.

لكن المسعى الأميركي هذا أحبطه الإنكليز والفرنسيون المُنتَصِرون في الحرب الذين أبرموا مُعاهدةً سرِّية لاقتسامِ المنطقة السورية وفرض الانتداب عليها: جنوب شرق تركيا، وشمال العراق، ولبنان وسوريا للفرنسيين. فلسطين والأردن وجنوب العراق، ومنطقة صغيرة إضافية تشمل موانئ حيفا وعكا منفذًا إلى البحر المتوسط للإنكليز، هي “معاهدة سايكس – بيكو” (نسبة الى مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو). وكانت روسيا القيصرية طرفًا ثالثًا في تلك المعاهدة، لكنَّ قيامَ الثورة البلشفية أسقط دورها، وكان قائد تلك الثورة فلاديمير لينين اطَّلع عليها من الأرشيف القيصري، وهو أوّل مَن كَشَفَ عن مضمونها إلى العلن. وكانت إيطاليا الطَرَفَ الرابع المُصادِق على تلك المعاهدة.

وكان العاملُ الذي أسعفَ الإنكليز والفرنسيين في إحباط المسعى الأميركي، وجود قوات عسكرية لهم على الأرض، ففرضا أمرًا واقعًا، حتى على عصبة الأمم، لعلمهما ربما بأنَّ البلدان السورية كانت ستختار الانتداب الأميركي كما تبيَّن من الاستقصاءات الأولى لبعثة “كينغ – كراين”.

شَمَلت خطة الاستقصاء الأميركية، إضافةً إلى المنطقة المشرقية الحالية، اعتبار منطقة “كيليكيا” التركية جُزءًا من سوريا، لكن ضغوطًا دولية شديدة مورست، في السرِّ والعَلَن، لإسقاطِ تلك المنطقة من مهمة البعثة الأميركية فتوقّفَ الاستقصاءُ فيها. وكان ذلك أوّلَ تعثُّرٍ في طريق المسعى الأميركي. لكن أهمّ ما أنجزته تلك البعثة هو تقريرها المُوَجَّه إلى الرئيس ويلسون شخصيًا، ثمَّ إلى الشعب الأميركي، حول فلسطين وخطورة إقامة دولة يهودية هناك على الولايات المتحدة وعلى بقية العالم. وهذا يدلُّ على أنَّ هناك شعورًا، أو علمًا، لدى البعثة بأنَّ الرئيس ويلسون يميلُ إلى إقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين، ويسعى إلى ذلك.

وقد أُحيلَ تقريرُ البعثة إلى الكونغرس، الذي تعامل معه على طريقة الرئيس نبيه بري في لبنان، فأودعه الأدراج حيث نامَ فيها إلى ما بعد هدوء الصدمة من صدور وعد بلفور في لندن، قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يُعرَض على الكونغرس إلّاَ بعد ثلاث سنوات من صدوره، فأقرّه سريعًا من غير تدقيق. ولذلك لم يأخذ تقرير البعثة الأميركية ما يستحقّه من درسٍ ومُناقشة.

وأهمّ ما وردَ في التقرير، وينمُّ عن بُعدِ نظرٍ ملفت، قوله: ” إنَّ الدولة اليهودية في فلسطين لا تقومُ ولا تدومُ إلّاَ بالقوَّة العسكرية”. واستقراءُ الملاحظة المذكورة، بالتحليل المدعوم بالتجارب والأحداث التي تلت ذلك، يُبيِّنُ أنَّ بعثة “كينغ – كراين” إلى سوريا كانت تبغي تنبيه الرئيس ويلسون إلى أنَّ عبءَ إقامةِ وإدامةِ الدولة اليهودية في فلسطين، بالقوة العسكرية، سوف يقع على الولايات المتحدة، ما يعني في النتيجة أنَّ ذلك هو وصفةٌ لحربِ كَونِيّة مستدامة، فاعتبره بعضُ المصادر الغربية، في تحليله للتقرير، بأنه “إمساكُ العالم بالقوّة وتنصيبُ أُمَراء حرب عليه”!

وتكفي نظرة واحدة شاملة على مجريات العالم منذ ذلك الوقت لإدراك معنى الحرب الكَونِيّة المُستدامة المُتَرَتِّبة على وجودِ دولةٍ يهودية في فلسطين، لا تقوم ولا تدوم إلّاَ بالقوة العسكرية، وبالقوة العسكرية الأميركية تحديدًا، من الانهيار الاقتصادي العالمي عام 1929، إلى الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى الحروب المتواصلة في منطقة الشرق الأوسط منذ أواسط القرن الماضي حتى اليوم. وكل تلك الحروب السابقة واللاحقة تمحوَرَت حول القوة العسكرية الأميركية، كما توقّعت بعثةُ “كينغ–كراين” قبل أكثر من مئة سنة.

وكما إنَّ العربَ لم يلحظوا مضمون تقرير “كينغ – كراين”، ولا حتى أعاروه أيّ أهمية، كذلك لم يلحظوا عملية الافتراق التي أحدثها انتخاب ويلسون عن البنية الفكرية الأساسية التي أقامها الآباء المؤسِّسون للولايات المتحدة في المؤتمر الدستوري القارِّي العام في سنة 1787، حيث حذَّر الكاتب والمفكّر والفيلسوف السياسي المعروف ب”الأميركي الأوّل” بنجامين فرانكلين في خطابٍ له أمام زملائه المؤسّسين من مغبَّة السماح بهجرة يهود أوروبا إلى الولايات المتحدة، مُحَدِّدًا تلك المحاذير بالنقاط التالية:

  • إذا سُمِحَ لليهود بالمجيء إلى أميركا فإنّهم سوف يتجمّعون بأعدادٍ كبيرة ويُغيِّرون الحكومة؛

  • إنّهم سوف يُجَيِّرون تعبَ الشعب الأميركي وجهوده المُضنِية لصالحهم؛

  • إنّهم لن يندمجوا في المجتمع الأميركي الأوسع؛

  • إنّهم يَسخَرون من الديانة المسيحية وسوف يعملون على تقويضِها؛

  • إنّهم يتوقون توقًا شديدًا للعودة إلى فلسطين، لكن يهود أميركا لن يعودوا إلى هناك إذا أُتيحَ لهم ذلك؛

تلكَ المحاولة الأميركية القوية في انطلاقتها الابتدائية نحو الديار السورية بعدَ حربٍ عالمية طاحنة تفكّكت بفعلها امبراطوريتان كبيرتان هما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية، وانهارت أيضًا الإمبراطورية القيصرية الروسية على يد الثورة البلشفية، لم يُكتَب لها النجاح، لكن تقرير بعثتها ومسعاها الأولي أكَّدا نقطتين مهمّتين: النقطة الأولى، التأكيد على أنَّ كيليكيا هي منطقة سورية وليست تركية، والنقطة الثانية، استشراف المخاطر المُترَتّبة على قيامِ دولةٍ يهودية في فلسطين، ليس على العرب فحسب، بل على الولايات المتحدة وعلى بقية العالم، باعتبارها “وصفة لحربٍ كَونيّة مُستَدامة”.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (24)

يَهودُ نابليون ويَهودُ ويلسون

2024/03/22

يُؤخَذُ على اللبنانيين، والعرب، أنّهم على مدى القرنَين الماضيين، لم يستطيعوا بشكلٍ وافٍ تَقديرَ وفَهمَ أثرِ وتأثيرِ التدخّلِ الأميركي في لبنان، والدول العربية الباقية.

في الثُلثِ الأوّلِ من القرن التاسع عشر، كانت الإرساليات التعليمية والطبية الاحتكاكَ الأوّل للبنانيين مع الأميركيين. وخلافًا لحركة الاستشراق الأوروبية، لم يَظهَرعلى نشاطِ الإرساليات الأميركية، في بداياتها الأولى، أيُّ نشاطٍ سياسي، أو أيُّ مُبادراتٍ تُبطِنُ أهدافًا سياسية خَفيّة أو غير مُعلَنة.

إلّاَ أنَّ الاهتمامَ التجاري والاقتصادي في الشرق (العثماني)، في أواخر القرن التاسع عشر، حملَ معه اهتمامات سياسية بدأت تظهر مفاعيلُها في مطالعِ القرنِ العشرين، وذلك من خلال “المعرض التجاري الكولومبي الدولي” الذي أُقيمَ في مدينة شيكاغو في العام 1893 بمناسبة مرور 400 سنة على اكتشافِ البحَّار الإيطالي (المُمَوَّل من إسبانيا) كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية. في ذلك المعرض الكبير كان للوجودُ العثماني، واللبناني، والمصري، والمغربي تأثيرٌ فنِّيٌ وثقافيٌّ ملحوظٌ في الأوساط الأميركية آنذاك، وإلى جانبِ ذلك، برزت أصواتٌ لبنانيةٌ وعربيةٌ تطرحُ مسألةَ تقريرِ المصير والاستقلال عن السلطنة العثمانية.

ومع أنَّ السلطات الأميركية أوفدت إلى إسطنبول وفدًا رفيع المستوى لدعوة السلطان عبد الحميد الثاني للمشاركة في افتتاح المعرض، فقد اكتفى السلطان بفَتحِ جناحٍ للشركة الحميدية التي حملت اسمه، كما أصدرَ الأديب اللبناني المعروف المُعلِّم سليمان أفندي البستاني، بصفته من التابعية العثمانية، آنذاك، صحيفةً شهريةً باللغة التركية ظلّت تصدرُ طوال سنوات المعرض أُطلق عليها اسم “سروتي فنون”، أو “ثروة الفنون”، وتُرجمَ الاسمُ إلى الإنكليزية بمعنى “ثروة المعرفة”. فقد اهتمَّ السلطان عبد الحميد بمعرض شيكاغو لأنه وجد فيه مناسبة لنَسجِ علاقاتٍ مع الولايات المتحدة ظنًّا منه أنها يمكن أن تُخفف من وطأة التدخّلات الأوروبية في شؤون السلطنة.

لكن لا السلطان عبد الحميد، ولا مُعظم اللبنانيين، والعرب الآخرين، أدركوا تمامًا التحوُّلات الأميركية الداخلية، التي وصفها بعض الكُتَّاب البريطانيين، وقتذاك، بأنها “عبرنة أميركا”، نظرًا إلى ظاهرة التأثير الصهيوني في الميادين السياسية، والثقافية، والإعلامية، والمالية، وفي مراكز ومناطق أخرى حسَّاسة من الولايات المتحدة، وهو تأثيرُ أخذت ملامحه تظهر في أعقاب الحرب العالمية الأولى من خلال نشاط الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في “مؤتمر فيرساي للسلام” في فرنسا في العام 1919، والمبادئ الأربعة عشر التي أطلقها هناك.

فلا أحدَ في الشرق العربي أو العثماني تابَعَ باهتمامٍ حملةَ ويلسون الانتخابية الأولى في العام 1912، التي اعترفَ فيها بالهَوِيّةِ اليهودية المُتَمَيِّزة عن الهوية الوطنية ليهود أميركا، وهو ما رفضه نابليون بونابرت قبل مئة سنة من خطابِ ويلسون عندما وَضَعَ القانون المدني الفرنسي الذي حصر ولاء الفرنسيين، أيًا كانت مذاهبهم الدينية، بالولاء الوطني لفرنسا فقط. ثم استدعى أعيانَ اليهود في فرنسا وطلب منهم عقد اجتماع لمجلس الحاخامين (السندرين الذي ضمَّ 70 حاخامًا) وجعلهم يُوَقّعون تعهّدًا بعدم ازدواجية الولاء. وكان التنازل الوحيد الذي أعطاه نابليون للحاخامين هو السماح بمراسم الزواج الدينية حسب طقوسهم، لكن بعد عقد الزواج المدني بموجب القانون الفرنسي، وأي زواج آخر يُعدُّ باطلًا وغير معترف به.

أما الرئيس ويلسون فقد أعلن في خطابه الانتخابي في العام 1912 قائلًا: “أنا لستُ هنا لأعبِّر عن تعاطفي مع إخواننا المواطنين اليهود، بل لتأكيد إحساسنا معهم بهويتهم. هذه ليست قضيَّتهم وحدهم، إنها قضيَّة أميركا”. لقد اعترف ويلسون ليهود بلاده بهويَّة أخرى، وبالتالي بولاءٍ آخر، وذلك قبل خمس سنوات من “وعد بلفور”.

فقد غفل كثيرون من أهل الرأي، في لبنان وسوريا خصوصًا، وفي الشرق العربي عمومًا، عن معنى وجود الرئيس ويلسون في مؤتمر فرساي للصلح في العام 1919، بل كان معظمهم مفتونًا به وبمبادئه التي أطلقها، فلم يُقدِّروا تقديرًا صحيحًا ما كانَ يرمي إليه في نهاية المطاف. وقد بدت تلك السذاجة في فَهمِ وُجهاءِ لبنان وسوريا للموضوع من خلال مطالبتهم بانتدابٍ أميركي، إذا كان لا بدَّ من الانتداب، كما إنّهم استخفُّوا، ربما، بتأثير قيامِ دولةٍ يهودية في فلسطين على لبنان، وعلى العرب، وعلى بقية العالم.

لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (23)

رَفَضَ الدروزُ البروتستانتية فمَالَ الأميركيون إلى غَيرِهِم

2024/03/21

مع خروجِ الجيش السوري من لبنان في العام 2005، ازدادَ اهتمامُ السفراء الأميركيين المُتعاقِبين لدى بيروت، (إلى جانبِ دولٍ غربيةٍ أخرى أبرزها بريطانيا وفرنسا)، بالجيش اللبناني، مما أعطى انطباعًا بأنَّ التدخّلَ الأميركي في لبنان بدأ في مرحلةِ ما بَعد الوصاية السورية. وقد كان ذلك التدخّل ملحوظًا، لأنه مكشوف، لكنّهُ في الحقيقة قديمُ العهد، وعلى موجةٍ مُختلفة من التدخّلِ الأوروبي. فهو اتَّخَذَ في البداية شكلَ “التبشير البروتستانتي” المقرون بخدماتٍ طبيَّة وتعليمية. وفي الأصل كانت غايةُ التبشير الأنكلو-ساكسوني في لبنان (الأميركي-البريطاني) من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، تحويلَ الدروز إلى المذهب البروتستانتي (مما يُفسِّرُ الدعم البريطاني للدروز، في حقبة حرب الجبل في العام 1860، وليسَ فقط لمُواجَهةِ التدخّلِ الفرنسي كما هو شائع).

بدأ الأمر بفتحِ مدارس الإرساليات التبشيرية البروتستانتية انطلاقًا من المناطق الدرزية في جبل لبنان، حيث قامَ المُبَشِّران الأميركيان الدكتور وليام طومسون والمُستَشرِق كورنيليوس فان دايك، بتأسيسِ مدرسة وعيادة طبيَّة في بلدة عبيه، وكذلك فَعلَ البريطانيون بتأسيسهم مدرسة سوق الغرب، كما تمَّ تأسيس “مدرسة الأميركان” في صيدا.

ولما فشلت الإرساليات الأنكلو–سكسونية في إغراء الدروز وتحويلهم إلى مذهبها اتجهت إلى استمالةِ أبناءِ الطوائف المسيحية الأخرى بنجاحٍ ملحوظ.

عندما وَصَلَ الدكتور طومسون إلى بيروت في أوائل العام 1833 كان هناك ثمانية مُبشّرين، توفي منهم اثنان، ورجعَ اثنان إلى أميركا، فلما حدث هذا التغيير في الاتجاه، اقترحَ طومسون إنشاءَ مدرسةٍ إنجيلية في بيروت في العام 1866 برئاسة دانيال بليس (أُطلق عليها في البداية اسم “الكلية الإنجيلية السورية”، ثم تحوَّل اسمها إلى “الجامعة الأميركية في بيروت” في العام 1920 بعد إعلان دولة لبنان الكبير، وأُقيمَت على أرضٍ اشتراها المرسلون الأميركيون من الدروز).

وقد ترك الدكتور طومسون أثرًا مهمًّا عن عمله في لبنان وتجواله في سوريا وفلسطين من مطلع أربعينيات القرن التاسع عشر، وهو كتابٌ يتضمّنُ انطباعاته وأوصافه لأحوال وعادات ومجتمعات السكان فيها بعنوان: “الأرض والكتاب”. وسوف أكتفي الآن بمقطعٍ من كتابه هذا حول لبنان للتأكيد بأنه لم يتغيّر شيءٌ في هذا البلد منذ ذلك الحين، فكتب يقول:

“يبلغ عدد سكان لبنان (الجبل) نحو 400 ألف نسمة يعيشون في قرابة 600 بلدة وقرية ودسكرة. هناك ديانات ومذاهب عدة تعيشُ مع بعضها، وتمارس خرافاتها الدينية المتضارِبة عن قرب، لكنَّ الناسَ لا يَأتلفون في مجتمعٍ متجانس، ولا يُكنُّون لبعضهم البعض مشاعرَ أخوية، فالسنَّة يُقاطِعون الشيعة، وكلاهما يكره الدروز، وأهل المذاهب الثلاثة يمقتون النصيرية (العلويين). أما الموارنة فلا يكنُّون محبةً لأحد، وهم بدورهم مكروهون من الجميع. والروم الأرثوذكس لا يطيقون الروم الكاثوليك، وكلّهم يبغضون اليهود. وهذا ينطبق أيضًا على الطوائف الصغرى في تلك البلاد. وليس بين كل هؤلاء رابطٌ مشتركٌ من الوحدة، كما إنّه ليسَت للمجتمع طبقات متواصلة تجمعه يمكن أن تُفتَحَ للعمل من أجل المنفعة العامة للجميع، بل هناك عددٌ لا حَصرَ له من النتف المتفرّقة، والصدوع، والفواصل، يجري عبرها تطويع الجمهور في حالةٍ من الفوضى الميؤوسة، وهي تكمن في كلِّ زاويةٍ من الزوايا الكثيرة للعداء المُتبادَل بينها جميعًا. إنَّ روحاً خارقة مُهَيمنة على الفوضى البدائية السائدة يُمكِنُ وحدها أن تُقيمَ الانتظام في مثل هذه الحالة الفوضوية، وتجعلُ تلك العناصرَ المتنازعةَ قابلةً للسلام والوئام. ولستُ أظنُّ أنَّ أيَّ بلدٍ آخر في العالم يَضُمُّ مثل هذا التعدّد من الفئات المتنازعة، وهنا تكمن العقبة الكبرى أمامَ أيِّ تهذيبٍ أو تحسينٍ عمومي ودائمٍ لهذا النوع من الحالات، ومن طبيعة الأخلاق، والتصوّرات. إنهم لن يستطيعوا أبدًا تشكيلَ شعبٍ موحَّد، ولن يأتلفوا من أجل أيِّ هدفٍ ديني أو سياسي مهِم. ولذلك سوف يبقون ضعفاء، وغير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، ومُعرَّضين دائمًا لغزوات ومظالم أجنبيَّة. هكذا كان الأمر، وهكذا هو الآن، وهكذا سيبقى الى أمد طويل طالما بقي الشعب مُنقَسِمًا ومُهمَّشًا ومُداسًا”.

ولَمَسَ الدكتور طومسون أنَّ الناسَ في هذه البقعة من العالم يحبّونَ المال إلى درجةِ العبادة، وأنهم أينما ذهبت تجدهم يطلبون المال، وقال إنهم ما كانوا ليرموا علينا السلام لو لم نكن نُقدّم لهم ولأولادهم خدمات تعليمية وطبيَّة.

!وقال أيضًا، إن عشقهم للمال جعله على يقين بأن مجيء السيد المسيح إلى هذه المنطقة، دون غيرها من مناطق العالم، لينقذهم من عبادة المال

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (22)

!المسيحيون لدَفعِ القُروش والدروز لحَملِ السيوف

2024/03/20

مِن وَقتٍ إلى آخر، يدورُ في لبنان حديثٌ عن ضرائب الدولة وجبايتها. وتَعُمُّ الشكوى لأنَّ فئةً من اللبنانيين تُسَدّدُ ما عليها من ضرائب أكثر من غيرها. ويُشار بالبنان إلى المجتمع المسيحي الذي يَلتَزِمُ السداد، والجباية فيه أسهل، بينما يتهاون غيرهم ويتمنّعون. حتى أن الجُباةَ لا يتجرَّؤون على دخولِ مناطق مُعيَّنة، خوفًا من أن يقومَ فقراؤها بالاعتداءِ عليهم وإهانتهم وتعزيرهم.

والأغلب على الظن، أنَّ هؤلاءَ الجُباة يتذرّعون بذلك لتبريرِ عدم الجباية!

ناهيكَ بعمليات التلاعب بالدفاتر، خصوصًا في أرقامِ الأرباح وجداء حساباتها، إلى جانب التهرّب من ضريبة القيمة المُضافة!

هذا الكلام، يندرج في سياقٍ تاريخي، يعودُ إلى زمن الدولة العثمانية.

ففي سنة 1821، انفجرَ الوضعُ في جبل لبنان عندما طلبَ عبد الله باشا، والي عكا، من الأمير بشير الشهابي الكبير زيادة الضرائب على رعاياه، فتردّدَ أمير البلاد، لأنه كان يعرف مدى كراهية الناس لإرهاقهم بالضرائب، لكنه في النتيجة استسهل الجباية من المسيحيين، الذين عادوا فانتفضوا، وتمرّدوا، وشكّلوا ما سُمِّيَ “عامية أنطلياس”، وقد استمرت حتى حملة ابراهيم باشا المصري، التي أطاحت والي عكا.

وكانت فكرة “عامية أنطلياس”، تجربة رائدة، قلدها الفرنسيون في “كوميونة باريس”، خلال ثورة العام 1848.

في الزمن العثماني، أيضًا، لم يقتصر فرضُ الضرائب على عامة الناس، إنما، شمل الأديرة المسيحية، التي كان الرهبان فيها، يقومون بأعمالٍ إنتاجية. ولذلك سرى بين الناس في جبل لبنان مثلٌ يقول: “المسيحيون لدَفعِ القروش والدروز لحَملِ السيوف”، (رسالة إغناطيوس سركيس-“مجلة أوراق لبنانية”).

في الحربِ الأهلية في لبنان الصغير في العام 1860، كما في لبنان الكبير في العام 1975، يتشابه الموقفُ الجنبلاطي بين سعيد جنبلاط وبين وليد جنبلاط لجهةِ حَملِ السيوف وإعمالها في رقاب المسيحيين خلال الحربَين، بُغيةَ تهجيرهم. وكلاهما اعتمدَ على قوةٍ خارجية: سعيد جنبلاط اعتمد على الصدر الأعظم العثماني خورشيد باشا، الذي أوصى الزعيم الجنبلاطي “إبادة المسيحيين إبادة كاملة في جبل لبنان والبقاع”. وهذه التوصية، حسب التقارير الديبلوماسية في حينه، أدّت إلى مجازر عديدة شملت دير القمر، وجزين، وحاصبيا، وراشيا، وزحلة، وبلدات وقرى أخرى.

جاء في كتاب القنصل الروسي في بيروت قسطنطين فاسيلي “سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني” عن الهجوم على زحلة بقيادة شبلي آغا العريان ما مفاده: “لو لم يدافع الأمير خنجر بن ملحم الحرفوشي (من زعماء شيعة بعلبك) عن شعاب زحلة ومداخلها، لاجتاح الدروز كل لبنان”. وكان القنصل فاسيلي يهتمُّ بدراسة موضوع الأقليات مُرَكِّزاً بشكلٍ خاص على الدروز في سوريا ولبنان.

أما وليد جنبلاط في حرب 1975، خلال فترةٍ حرجة بين انسحاب القوات الإسرائيلية من الجبل ودخول القوات السورية، فقد اعتمد حسب قوله على “جيش حكمت الشهابي”. وإذا كان معروفًا مَن هي الجهة الخارجية التي أوصت سعيد جنبلاط بإبادة المسيحيين، فإنه من غير المعلوم على وجه اليقين مَن هي الجهة التي أوصت وليد جنبلاط بتهجيرهم. وفي الخلوة التي عقدها سيد المختارة مع كبار شيوخ الطائفة، وصف فيها الموارنة بأنهم “جنسٌ عاطل”، (بعد حوادث بيروت في السابع من أيار/مايو 2008)، قال له أحدهم عن المعارك مع مقاتلي “حزب الله”: “لقد أدمينا أنوفهم”، فأجابه جنبلاط: “وماذا عن غدٍ وبعد غد”.

والمعروف أنَّ جنبلاط، حينذاك، عندما شعر بالهزيمة أوكلَ أمره الى خصمه ومنافسه طلال أرسلان الذي تربطه علاقة حسنة مع السوريين ومع “حزب الله”، في نوعٍ من توزيع الأدوار، حيث ظهر الأمرُ بشكلٍ “ثنائي درزي” يُحاكي “الثنائي الشيعي”. والقصة ما زالت متواليةَ الفصولِ منها ما هو مليءٌ بالتناقضات، ومنها ما هو مليءٌ بالخداع، ومنها ما هو مليءٌ بالأحقادِ الدفينة أو بالمُجاملات التمويهية … وهكذا دواليك.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (21)

لبنان في عُيونٍ تُركِيَّة

2024/03/19

في وقتٍ كانَ القلقُ يُساوِرُ واشنطن من تمادي التعاونِ الروسي–الإيراني، الذي لم يُخْفِهِ ويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي إي)، طَرَحَ الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان فكرةَ عقدِ قمّةٍ رُباعيةٍ تضمُّ: روسيا، إيران، تركيا، سوريا، لبحثِ سُبُلِ التعاون المُشتَرَك بين تلك الدول، والأهم، تطبيع العلاقات التركية–السورية. ولم يكن مُستَبعَدًا أن يكون الوضع اللبناني المتأزّم على أجندة تلك القمّة الرباعية. إلّاَ أنَّ فكرة الرئيس التركي، لم تَخرُج من حَيِّزِ التشاور، ومع ذلك أثارت حفيظةَ الولايات المتحدة، ومَن تحالفَ معها من الأوروبيين، خصوصًا فرنسا.

بدءًا من سنة 2010 أخذت تركيا الأردوغانية تُبدي اهتمامًا مُلفتًا بلبنان، خصوصًا بالأقضية الأربعة ذات الكثافة السنّية التي كانت تحت الإدارة العثمانية قبل إنشاء دولة لبنان الكبير. فقد زار أردوغان لبنان في تلك السنة، (بدعوة من رئيس الحكومة اللبنانية يومئذ، سعد الحريري)، وزارَ بعضَ المناطق منها عكار ليفتتح مدرسة في قريةٍ نائية سكّانها من أصولٍ تركمانية، كما تبرّعَ بإنشاءِ مستشفى عصري في صيدا (اكتمل بناؤه وتجهيزه منذ سنواتٍ عدة، لكنه لم يُفتَتَح بَعد لأسبابٍ غامضة)، ولوحظَ أيضًا أنَّ الأتراك ينشطون بشكلٍ خاص في مدينة طرابلس، وأخيرًا في البقاع الغربي.

إنَّ بعضَ اللبنانيين أطلقَ على هذا النشاط التركي المُتَمَدِّدِ في لبنان (وفي سوريا أيضًا) صفةَ “العثمانية الجديدة”. ويتذكّرُ اللبنانيون أنهُ فورَ وقوعِ انفجارِ أو تفجيرِ مرفَإِ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020، وصلَ إلى القصر الجمهوري في بعبدا وفدٌ تركي رفيع المستوى ضمَّ نائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وآخرين قدموا عرضًا إلى لبنان يُبدي استعدادَ تركيا لإعادةِ بناءِ المرفَإِ وتجهيزه.

لكنَّ التدخّلَ التركي المُستَجِدّ في لبنان يُثيرُ تحفّظاتٍ من بعض الفئات اللبنانية التي ما زالت تشعرُ بالمرارة من الحُكمِ العثماني، وسوفَ يُثيرُ تحفّظاتِ بعضِ الدول الغربية. كما إنَّ هناك إشكاليةً أخرى، لا تقلُّ أهمّية، وهي أنَّ تركيا ما زالت عضوًا في “حلف شمال الأطلسي” وتُقيمُ علاقاتٍ مع إسرائيل منذُ عقود.

وبعضُ الكُتّابِ الأتراك المُعاصرين يُلَمِّحُ إلى أنَّ اللبنانيين مدينون لتركيا العثمانية، وخصوصًا المسيحيين منهم، لاعتبارَين: أوَّلهما، أنَّ التنظيماتَ الأخيرة للدولة العثمانية حقّقت المساواة بين جميع مواطنيها، ورفعت عنهم التمييز السابق ضدهم، فسمحت لهم بشراء الأراضي والبيوت، وأعطتهم حرية العمل والتجارة، فازدهرت أحوالهم الاقتصادية، وعيَّنت وزيرًا للزراعة والإصلاح الزراعي، لوَضعِ قوانين عصرية في هذا المجال، مُفَكّرًا مارونيًا مرموقًا هو المعلّم سليمان البستاني، الذي تركَ بصماتٍ جليلة في تحديث القوانين الزراعية. والمعروف أنَّ البستاني نقل إلى العربية إلياذة هوميروس عن اليونانية.

وثانيهما، أنها سمحت باستقلالٍ ذاتيٍّ للبنان بعد الحرب الأهلية 1860، وأنَّ مجازرَ جبل لبنان في تلك الحرب ما كانت لتحدث لولا تدخّلات الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا وبريطانيا.

ففي العام 1975 أصدر الكاتب التركي آنجن أكرلي كتابًا بعنوان: “السلام الطويل: لبنان العثماني 1861-1920” (هو أطروحته للدكتوراه)، حاجَجَ فيه بأنَّ لبنان شهدَ مرحلةَ سلامٍ طويلة بعد الحرب الأهلية امتدّت حتى الانتداب الفرنسي. واستنادًا إلى وثائق ومعلومات استقاها من الأرشيف العثماني، أقام الحجّةَ بأنَّ التجربةَ اللبنانية في الحُكمِ الذاتي، وفي الموالفة بين الجماعات الدينية المختلفة، أرست أساسَ الديموقراطية العلمانية، لكن تدخّلات الدول الأوروبية في السياسة اللبنانية عرقلت الجهود الرامية إلى تطوير مفهومٍ علمانيٍّ للوطنية اللبنانية.

والكاتب أكرلي يُجيدُ اللغة العربية التي اعتمد عليها في أطروحته لفَهمِ وجهة النظر العربية، لكنه انتقدَ اعتمادَ اللبنانيين والعرب على مصادر غربية في المسألة العثمانية من دونِ أيِّ اعتبارٍ لوثائق الأرشيف العثماني، ومنها أشياء لم يَطرُق بابها أيُّ باحثٍ لبناني غير مُنحاز، أو يحمل أفكارًا مُسبَقة من مصادر أجنبية.

وقد أشادت به “الصحيفة الدولية لدراسات الشرق الأوسط” لدقّةِ بحوثه، وغنى محتواه واستشرافيته، واعتبرته إضافةً قَيِّمة إلى المكتبة التاريخية حول لبنان (كتاب أكرلي صادر بالانكليزية عن مطبعة جامعة كاليفورنيا).

لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (20)

فرنسا، تَحورُ وتَدورُ وتَعودُ إلى لبنان

2024/03/18

لم يَكُن التدخُّلُ الفرنسي في المسألة اللبنانية بعد حرب الجبل في سنة 1860 على وَتيرةٍ واحدة. في تلك الحرب الأهلية الكبرى، آزرت فرنسا الموارنة مُنفَرِدةً، فلم يأتِ تدخُّلها بأيِّ مَردودٍ إيجابي. ذلك أنّهُ، عبر دوراتِ التاريخ، ثبتَ أنَّ “الدورَ المُنفرد” لا يؤدّي إلى نتيجةٍ إيجابية، إلّاَ إذا كانَ في الإطارِ الدولي الجماعي.

وهذا ما حَصلَ عندما عادت فرنسا إلى الدخول شريكًا مع القوى الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت (بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا). فالتدخُّلُ الدولي المُشتَرَك آنذاك أنتجَ “نظام المُتصرّفية” على غرارِ إنتاجِ “نظام الطائف” بعد الحرب الأهلية عام 1975.

والمُشابَهة بين هذَين النظامَين لا تقتصرُ على الشَكل، بل تتعدّاه الى مضمونهما المُتَمَثِّل بتشكيلِ “مشروع الوصاية الخارجية المُستَدامة” على لبنان كنتيجةٍ حتمية لحالةِ الحربِ الأهلية المُستَدامة.

حربُ الجبل الأهلية أعقبها سلامٌ طويلٌ امتدَّ حتى الحرب العالمية الأولى والانتداب الفرنسي، وهو سلامٌ يشبه “سلام الطائف”، الذي ما تمَّت تسويته الدستورية لولا التوافق الدولي، فكأنّهُ فاصلٌ بين حربَين.

بعدما تعاطت فرنسا مع المسألةِ اللبنانية مُنفَرِدةً، عادت إلى تسويةِ هذه المسألة في إطارِعملٍ دوليٍّ جماعيٍّ مع شُركاءٍ آخرين.

وربّما كان ذلك لسببَين: الأوّل، في المراحل التي كانت فيها لفرنسا طموحاتٌ إمبراطورية للهَيمَنة في أوروبا، في العهد النابليوني الأوّل (بقيادة نابليون بونابَرت)، وكذلك في العهد النابليوني الثاني (بقيادة نابليون الثالث)، لتعود فرنسا بعد هزيمة هذين العهدين، الأول على أيدي الإنكليز، والثاني على أيدي الألمان، إلى العمل المشترك مع مجموعة الدول الأوروبية.

أمّا السببُ الثاني، وهو لبناني، فيتعلّقُ بتعاطي السياسيين اللبنانيين مع أزماتِ بلادهم، من حيث استدراج التدخّل الخارجي.

فقد كتب القنصل الفرنسي العام الذي خَدَمَ في بيروت أثناء الأزمة السياسية في العام 1913 يقول: “إنَّ الشعورَ بالتفاني من أجلِ الوطن الصغير لبنان غير موجود بين المسؤولين اللبنانيين. فكلُّ واحدٍ منهم مُستَعِدٌّ دائمًا، كما يقول المثل الدارج: أن يحرقَ البلد من أجلِ أن يُشعِلَ سيجارته”. (من كتاب جون سبانيولو “فرنسا ولبنان العثماني 1861- 1914″، إيثاكا، أُكسفورد 1992).

لكنَّ الفرنسيين في الحالة النابليونية، الأولى والثانية، كانوا يشعرون بالمسؤولية التاريخية تجاهَ المؤسّسات الدينية الكاثوليكية في لبنان، خصوصًا في المرحلةِ الثانية. أما في المرحلة الأولى فقد وَقَفَ حاكمُ جبل لبنان الأمير بشير الشهابي ضدّ حملة نابليون بونابرت في حصاره لمدينةِ عكا بسبب تحالفه آنذاك مع واليها أحمد باشا الجزّار.

وقد أبلغني الصديق الراحل الأب أديب بدوي، الذي كان رئيسًا للرهبانية المُخَلّصية الكاثوليكية، في وقتٍ من الأوقات، أنَّ الكنيسة الكاثوليكية أوفدت إلى مصر، أثناء وجود نابليون بونابرت فيها، راهبًا اسمه رافاييل راهبة، كان ضليعًا باللغات، ليعمل مُترجِمًا لقادة الحملة الفرنسية، وأنَّ ذلكَ الراهب عملَ مع العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبليون في فكِّ طلاسم الكتابة الهيلوغريفية الفرعونية، وهو الإنجازُ الذي أدّى إلى كتابة التاريخ الحقيقي لمصر الفرعونية وحضارتها.

وأضاف الأب بدوي: إنَّ ذلك الراهب وَضَعَ قاموسًا فرنسيًا-عربيًا مع قاموس لاتيني-عربي.

وعن المرحلة النابليونية الثانية، التي فيها جرى التدخّلُ الفرنسي المُنفَرِد في حرب جبل لبنان، تعرَّضَ دير المخلص إلى النهب والتدمير، وبعد وقف تلك الحرب أوفدت إدارة الدير بعض الكهنة إلى الخارج لجمع التبرّعات من أجل إعادة بنائه، فأخبرني الأب بدوي أنَّ بين هؤلاء كاهن كانَ شجيَّ الصوت يجيد الترتيل بصوتٍ عالٍ يُمكِنُ سماعه إلى مسافة كيلومتر، تم إيفاده إلى فرنسا لتلك الغاية.

في باريس قصد الكاهن اللبناني القصر الإمبراطوري طالبًا مقابلة الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث التي عُرِفَت بأعمالها الخيرية. لكنَّ الحرّاسَ منعوه من الدخول لأنّهُ لم يكن لديه موعدٌ رسمي، فخرجَ إلى الشارع ووقفَ على الرصيف وراحَ يَنشُدُ ويُرَتّلُ بأعلى صوته، فسمعت الإمبراطورة أوجيني تلك الألحان البديعة فسألت عن مصدرها، فقيل لها إنّهُ كاهنٌ كاثوليكي من لبنان طلبَ مقابلة جلالتك فمنعه الحرّاس من الدخول، فبعثت موظفًا في القصر ليأتي بذلك الكاهن إليها، فحكى لها عن مآسي الحرب والدمار التي لحقت بدير المخلّص، فتبرّعت بعشرين ألف ليرة ذهبية لإعادة إعمار الدير.

ففي ذلك الوقت، وبعد سقوط الدولة النابليونية الأولى، نشأت في أوروبا فكرة المؤتمرات الكبرى للدول الأساسية أشهرها ثلاثة: مؤتمر فيينا (1814- 1815)، مؤتمر باريس (1856)، ومؤتمر برلين (1878). ونشأت منها مؤتمراتٌ دولية صُغرى هي التي تعاطت بشأن المسألة اللبنانية.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (19)

!”منَ “الحربِ الشيعيّة” إلى “السلم الشيعي

2024/03/17

في الرابع من كانون الثاني (يناير) 2023 قُتِلَ الجندي الإيرلندي شون روني، من قوّة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (“يونيفيل”)، وأُصيبَ ثلاثةٌ من رفاقِ سلاحه بجروح، عندما أَطلَقَ خمسةٌ عناصر من “حزب الله” النار عليهم، أثناء مرور سيارتهم المُدَرَّعة في منطقة “العاقبية” في الجنوب.

ومن غريبِ المُصادَفات أن يأتي الحادث في أعقابِ إشارتَين سياسيتَين لهما مدلولات تتعلّقُ بتدويلِ الأزمة اللبنانية المُستَعصِية: الأولى، فشلُ الفصل العاشر من مسرحيةِ انتخابِ رئيس للجمهورية في مجلس النواب، (15/ 9 / 2023) ومعها دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري للحوار بين القوى السياسية اللبنانية، والثانية، الإعلان عن زيارةٍ يُزمِعُ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان وصل إلى الدوحة في 14/ 12/2023 لحضور مباريات كأس العالم لكرة القدم التي تأهل فيها فريق بلاده للدور النهائي، القيام بها الى جنوب لبنان لتفقّدِ الكتيبة الفرنسية هناك ومُعايدتها بالميلاد ورأس السنة الجديدة. وتلك الزيارة هي أيضًا عنوانٌ من عناوين التدويل.

إنَّ وَضعَ حادث “اليونيفيل” تحت هذا العنوان يطرحُ بصورةٍ فورية السؤالَ المُحَيِّرَ حولَ إذا ما كان يستعجل التدويل للأزمة، أو يعرقله، سواء كان مُدَبَّرًا ومقصودًا، أو مُجرّد مُصادفة عرضية.

وَضعُ السؤال في هذا الإطار يدخلُ في جدليةِ التدويل والحرب، من حيث ازدواجية التفسير حول ما إذا كانَ دوامُ التدويل يَخدُمُ دوامَ الحرب، أم أنَّ دوامَ الحرب هو الذي يستدعي دوامَ التدويل.

ومن هذا المنظار، يُطلُّ مشهدٌ جديدٌ على المسرح الجنوبي، بعد اتفاق رسم الحدود البحرية، وما تتطلّبه عمليات التنقيب البحري عن الموارد الطبيعية من سلامٍ طويل الأجل. فإذا كانت حالةُ الحربِ السابقة لاتفاقية الحدود البحرية، قد انتفت مُبرّراتها، فلن تكونَ هناك حاجة إلى قوات دولية بعد استتباب السلام، كما تنتفي الحاجة الى سلاح “حزب الله”. وهذا سؤالٌ افتراضي يتبادرُ إلى الأذهان، من خلال طبيعة، أو أهميَّة ترسيم الحدود البحرية، لكون السبب المباشر للترسيم البحري هو تسهيل التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الحدودية مع إسرائيل، مما يتعارض مع استمرارِ حالةٍ من الحرب على مقربةٍ من تلك الحقول السريعة الاشتعال.

وهذه الجدلية، التي تبدو واقعية منطقيًا، فيها نوعٌ من الإشكالية بالنسبة إلى أهالي الجنوب الذين استفادوا اقتصاديًا لسنواتٍ طويلة من وجود قوات اليونيفيل، ومن وجود “المقاومة الإسلامية” أيضًا. لكن هذه الإشكالية تظهرُ بوجهها السلبي (كما لاحَ من خلال قرار “حزب الله” تسخين الجبهة الحدودية فور اندلاع حرب غزَّة)، من حيث الموازنة بين فوائد “السلام”، وكوارث الحرب. لأن الأبواق المعارضة للاشتباكات العسكرية في الجنوب، تُحاولُ قراءة هذا المشهد من خلال إظهارِ أنَّ حالةَ السلم والبحبوحة ترتَبِطُ بوجود قوات اليونيفيل، وأنَّ حالاتَ الخراب والدمار وارتفاع عدد الضحايا، تعودُ إلى تورّطِ “حزب الله” في الحرب، حتى لو كانت محدودة. ونقطةُ ضعف هذه المطالعة، أنّهُ لو صَحَّ الافتراض بأنَّ سلامًا ثابتًا يلوحُ في أُفُقِ تسويةٍ ما قريبة، فإنَّ الحالةَ الجديدة (أي حالة السلام الثابت) تُلغي الحاجةَ إلى قوّاتٍ دولية ومنافعها المحلية. ومع أنها، حسب هذا الافتراض أيضًا، تُلغي الحاجة إلى سلاح “المقاومة الإسلامية” (نظريَّاً)، فإنَّ ذلك لا يُلغي الحقيقة السياسية الداخلية المتمثّلة بقدرة “حزب الله” في حَشدِ مُكوِّنٍ لبناني أساسي لإحباطِ أيِّ محاولةٍ لتغييرِ موازين القوى الداخلية القائمة حاليًا.

وبالتالي، فإنَّ المُماطَلة في انتخابِ رئيسٍ للجمهورية، تُنبئُ بأنَّ أيَّ تسويةٍ دولية، أو إقليمية بغطاءٍ دولي، أو محلّية بغطاءٍ دولي-إقليمي، سوف تُعطي “حزب الله” (ثمنًا للسلام في الجنوب) وزنًا تقريريًا أكبر في الشأن الداخلي اللبناني.

إنَّ الانتقالَ من “حالةِ الحربِ الشيعية” إلى “حالةِ سلامٍ شيعي”، بكفالةٍ دولية وإقليمية، يُذَكِّرُني بمكتبي السابق في بيروت عندما عملتُ في مطبوعة “عالم النفط” في ستينيات القرن الماضي، فوَجَدتُ على الحائطِ صورةً لمَشهَدٍ من القرنِ التاسع عشر فيه ثلاثة رجال تحت شجرة سنديان كبيرة كُتِبَ تحتها العبارة التالية: “ترجمان من الموارنة واثنان من الشيعة”!

فالترجمان بطبيعة الحال يتكلّمُ لغةً أجنبية غير لغته، تكونُ الحاجةُ إليها أكبر في إطار التدويل الذي يشمُلُ لغاتٍ أجنبية مُتعدّدة.

ويخطرُ بالبال، من تلك الصورةِ القديمة التي تُمثّلُ زمنَ القناصل في مرحلةِ إرساءِ التدويل في أواخر سني السلطنة العثمانية، أنَّ نوعًا من “المُثالثة” يلوحُ في الأفق على قاعدة “واحد واثنان”.

وهذه أيضًا وصفةٌ لصيغةٍ جديدة للنظام اللبناني، تحملُ في طيّاتها بذورَ اضطرابٍ مُخلخلٍ للتوازنات القائمة، لأنها ستكون، بالضرورة، على حسابِ مُكَوِّناتٍ تأسيسية أُخرى للوجود اللبناني.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (18)

حِوارُ “رَقصَةِ الدَرَاويش”

2024/03/16

في 31 من آب (أُغسطس) 2023، خلال خطبته في الذكرى الخامسة والأربعين لتغييب الإمام موسى الصدر، جَدّدَ رئيس مجلس النوّاب نبيه بري الدعوةَ إلى حوارٍ بشأنِ رئاسةِ الجمهورية، فلم يُوَفَّق، وهو في الأصل، دعا إلى طاولةِ الحوار من قَبيلِ “رَفعِ العَتَب”، ليسَ إلّاَ، لأنّهُ يَعرِفُ عدم جدواها، قياسًا على محاولاتِ الحوارِ السابقة مُنذُ تشكيلِ “هيئة الحوار الوطني” في أيام الحكومة التاسعة للرئيس الراحل رشيد كرامي في بداية الحرب الأهلية (وكان فيها كميل شمعون نائبًا للرئيس)، فلم تَستَطِع تلك الهيئة أن تَعقُدَ سوى جلسةٍ واحدةٍ يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1975، لأنَّ أمراءَ الحرب، الحاكمين اليوم، أشعلوا جبهاتَ القتالِ خصّيصًا لإحباطِ الحوارِ الوطني. وكانت تلك الهيئة تضمّ: رشيد كرامي، كميل شمعون، عبد الله اليافي، صائب سلام، مجيد أرسلان، فيليب تقلا، غسان تويني، كمال جنبلاط، بيار الجميل، ريمون اده، رينه معوض، خاتشيك بابيكيان، رضا وحيد، الياس سابا، عباس خلف، نجيب قرانوح، إدمون رباط، عاصم قانصو، وحسين عواضة.

ثم غابَ الحوارُ الوطني لسنوات، إلى أن انعَقَدَ مرّتين خارج لبنان (في سويسرا، الأول في جنيف في 1983، والثاني في لوزان في 1984)، وأيضًا من دونِ نتيجة.

بَعدَ ذلكَ انعَقَدَت الحكومة في عهد الرئيس أمين الجميل عام 1986 كهيئةِ حوار، من غيرِ أيِّ نتيجة أيضًا. وكذلك الأمر عندما دعا نبيه بري إلى طاولةِ حوارٍ عام 2005، (حضرها السيد حسن نصر الله في جلساتها الأولى قبل الحرب مع إسرائيل في العام 2006).

ففي هذا المُسلسلِ من الإخفاقاتِ في الحوارِ الداخلي اللبناني، كانَ لا بدَّ من كَسرِ الدوران في الحلقة المُفرَغة، شأن “رقصة الدراويش”، بتدخُّلٍ من الخارج، وهو ما حدث فعلًا في مؤتمر الطائف. وكانت فرنسا، بعد الحرب الأهلية الأولى التي جرت عام 1843 بين الدروز والموارنة، وأدَّت الى “نظام القائمقاميتين”، قد أعطيت أرجحية في النفوذ الدولي في جبل لبنان، ظهر من خلال تكليفها تشكيل نصف عديد القوة الدولية الحافظة للأمن هناك.

ولهذا كانت فرنسا في الحرب الأهلية الثانية، الأوسع نطاقًا، في جبل لبنان (1860-1864)، هي القوة الدافعة للتدخّل في لبنان وسوريا تحت عنوان “الأسباب الإنسانية”. ولهذه التسمية أسبابها، وقد ظهرت لأوّلِ مرة في النقاشات الفكرية الأوروبية حولَ وُجوبِ أو عدم وجوبِ التدخّلِ الخارجي، ولم تكن “الأسباب الإنسانية” تلك، مِحوَرًا من محاورِ النقاشاتِ بهذا الشأن. مما يدلُّ على أنَّ تلك الحرب في جبل لبنان لم تكن حربًا بالمعنى التقليدي، بل مُسَلسَلًا من المجازِرِ الجماعية وعمليات التهجير، تمامًا كما حدث في حرب الجبل (1983-1984).

وعلى الرُغمِ من المصالحة الشكلية التي أجراها البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله صفير مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في مطلع الألفية الثالثة، تُضافُ إليها الأموال الطائلة التي هُدِرَت في “صندوق المُهَجَّرين”، فإنَّ مُعظمَ الذين تضرّروا من تلك الحرب لم يعودوا إلى قراهم، وهو مؤشرٌ مهمٌّ إلى الشعورِ بأنَّ الحربَ الأهلية لم تنتهِ فصولُها بَعَد.

التدخُّلُ الدولي في لبنان في القرن التاسع عشر، سبقته في ثلاثينيات ذلك القرن نقاشاتٌ فكرية أوروبية حوله تحت عنوان “الأسباب الإنسانية”، لم يشارك فيها أيٌّ من المفكّرين الفرنسيين في حينه، وكانَ من أقطابِ ذلك الحوار المُفكّرُ الإيطالي جوزيبي مازيني، الداعي إلى وحدةِ إيطاليا في ذلك الوقت، والمُفَكّر البريطاني جون ستيوارت ميل. لذلك، كان ملفتًا إناطة قيادة التدخّل الدولي في لبنان آنذاك بقوّاتٍ فرنسية بالدرجة الأولى.

لكنَّ النقاشَ حولَ التدخّلِ الخارجي بصورةٍ عامة (أي من غير اعتبارٍ للأسباب الإنسانية)، فقد انطلقَ في فرنسا خلال الثورة الفرنسية، ومرَّ بعدها بثلاثِ مراحل، أوّلها خلال الثورة برَفضِ التدخّلِ في شؤونِ الدول الأخرى، وثانيها ضرورة التدخّل في حال تعرّضِ أمن فرنسا ومصالحها للخطر، وثالثها التدخّل لمُساندة حركاتِ التحرّرِ للبلدان المُحتَلّة من دولٍ اُخرى. وقد فَلسَفَ هذه المبادئ في النصف الأول من القرن التاسع عشر ثلاثةٌ من كبارِ الكتّابِ والمُفكّرين الذين توَلّوا منصب وزير الخارجية في حكوماتِ زمانهم، وهم: فرانسوا رينيه دو شاتوبريان (المعروف بالفيكونت دو شاتوبريان)، ومن بعده المؤرّخ فرانسوا غيزو، ثم الكاتب والشاعر ألفونس دو لامارتين (بعد ثورة 1848).

ولم تكن “الأسبابُ الإنسانية” ضِمنَ التوجّهاتِ الفرنسية في تلك المرحلة، لكنَّ الحكومة الفرنسية برَّرت تدخّلها في الحرب الأهلية اللبنانية الأولى في ستينيات القرن التاسع عشر تحت هذا العنوان. ومُنذُ ذلك الوقت أصبحت فرنسا هي المُحرّكَ الأوّل للتدخّلِ الدولي في المسألة اللبنانية، وما زالت…

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (17)

أيُّ تَدويلٍ للبنان؟

2024/03/15

“التدويلُ” ليسَ بدعةً مَشبوهة، ولا هو غريبٌ عن لبنان، فقد جرَّبهُ بعدما فُرِضَ عليه خلال حروبهِ المُستدامة، من أواسط القرن التاسع عشر إلى أيامنا هذه.

وعودةُ مرجعياتٍ لبنانية نافذة، في مقدَّمها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، إلى الحديث عن “مؤتمرٍ دولي” لإيجادِ حَلٍّ للأزمةِ اللبنانية المُستدامة، والمُتَعَدِّدةِ الأطرافِ والأوجُه، مردُّهُ إلى عَجزِ القوى السياسية المحلّية، أو عدمِ رَغبَتِها في التلاقي التلقائي، لوَضعِ الصِيَغِ المحلّية الكفيلةِ بمُعالجةِ الأزمة مُعالجةً جدّية تُغني عن الاستعانة بالخارج. لكنَّ أحدًا لم يَقُلْ للبنانيين كيفَ يكونُ ذلك، والأزمةُ في جذورها ناشئةٌ من الحربِ الأهلية المُستدامة، التي تُمسِكُ بزمامِ أسبابها ونتائجها جهاتٌ دولية لها أتباعٌ بين معظم القوى اللبنانية، بمَن فيها بعض المراجع النافذة المذكورة المُطالِبة بالحلِّ الوطني المُستقل.

ولعلَّ هذا التناقض، في المعنى والمبنى للطَرحِ الآنف، أو بين القصد والقدرة، ما يُفسِّرُ جُزئيًا طبيعةَ مَنشَإِ الأزمةِ اللبنانية في رَحمِ الحربِ الأهلية المُستدامة.

ففي هذا المسعى، أو الطَرح، لا يخرُجُ أصحابه، ومنهم البطريرك الماروني، عن السياقِ التاريخي للحرب الأهلية اللبنانية المُستمرّة من أواسط القرن التاسع عشر إلى اليوم، وهي حربٌ في كلِّ مراحلها استدعت تدخّلًا خارجيًا أو مؤتمراتٍ دولية.

حتى في مرحلةِ ما بعد الطائف، وهو بدوره مؤتمرٌ دوليٌّ بالتكليف، كان أبرزَ إفرازٍ له فقدان الاستقلالية اللبنانية بصورةٍ شبه كاملة، من خلالِ فَرضِ وصايةٍ خارجيةٍ مدعومةٍ بقواتٍ عسكرية غير لبنانية، (وصاية سورية–سعودية في البداية ثم وصاية سورية كاملة لثلاثة عقود)، ولا يُخفِّفُ من هذه الحقيقة اختيارُ شخصٍ لبناني الجنسية، ليُمثِّلً تلك التوليفة (مثلها في البداية رئيس الحكومة المُنتَدَب من مؤتمر الطائف، رفيق الحريري)، بل إنَّ رئيس الحكومة الآتي مع الوصاية الخارجية، يُثبتُ ويؤكّدُ عبثية أي دعوة لحَلٍّ لبناني نهائي على أيدي اللبنانيين أنفسهم.

إنَّ الوصايةَ السورية التي حَكَمَت لبنان من خلالِ فئاتٍ لبنانية نافذة وقوية، وما زالت حاكمة حتى الآن، لم تَخرُج بدورها عن إطارِ التسويات الدولية التي قرّرت مصيرَ لبنان منذ القرن التاسع عشر. فخلال حكم رفيق الحريري، تحت جناحِ الوصاية السورية، انعقدت مؤتمراتٌ دوليّة عدة من أجلِ لبنان، مُغَلَّفةً بأغلفةٍ اقتصادية، بها بدأت مسيرة الدين العام، وتسهيل عملية الاستدانة، من الخارج ومن الداخل، مما أوصل لبنان تاليًا إلى الانهيار الكبير القائم الآن.

فالدَينُ العام اللبناني، قبل المؤتمرات الدولية “باريس 1″، ثم “باريس 2″، و”باريس 3″، لم يكن يتجاوز الخمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فتصاعدَ بعد ذلك إلى أكثر من 150 في المئة من ذلك الناتج، (وهي نسبةٌ تُضاهي هبوط قيمة الليرة اللبنانية ثلاثين ضعفًا بين المرحلة السابقة لمؤتمرات باريس الدولية وابنها المسخ “سيدر 1” الذي بقي حبرًا على ورق). ولذلكَ من المُستَغرَب اليوم أن يَنظُرَ بعضُ اللبنانيين إلى دعوةِ البطريرك الماروني وكأنّها “بدعةٌ” تُخفي وراءها شيئًا مَشبوهًا، ولم يكن قد جفَّ بَعد حِبرُ اتفاقية رسم الحدود البحرية مع إسرائيل برعايةٍ دولية (أميركية). وقد عاد الوسيط الأميركي، الغني عن التعريف، آموس هوكستين، إلى بيروت في 6 آذار (مارس) 2024 لترتيبِ تفاهُمٍ جديد، مع أهلِ التَرسيمِ البحري، بشأنِ تَقويمِ الحدودِ اللبنانية البرّية مع إسرائيل، بهدفِ وَقفِ العمليات العسكريَّة، التي يقوم بها “حزب الله” على تلك الحدود، منذ بداية حرب غزَّة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

وربّما فاتَ البعضُ أنَّ إسرائيل، والقوى الداعمة لها، هما “التدويل”، أو أنَّ التدويل في قبضتهما. وبالتالي، فإنَّ نتيجةَ أيِّ مؤتمرٍ دولي بشأن لبنان في الوقت الحاضر، وربما إلى أجلٍ طويل في المستقبل، ستكون بطبيعتها مؤاتية للجوقة العالمية الدائرة حول “أوليَّة إسرائيل”. فأيُّ تدويل، في أيِّ أمرٍ، وإلى أمَدٍ غير منظور، ستكونُ إسرائيل فيه اليد المُحَرّكة في السرِّ والعَلَن.

فأيُّ مؤتمرٍ دولي بشأنِ لبنان، في إطار هذه التركيبة الدولية القائمة منذ عشرات السنين، يُمكِنُ أن يأتي بحَلٍّ جديدٍ ونهائيٍّ ينفي أسبابَ تلك الحرب، أو يأتي، على الأقل، بأفضلِ من مؤتمراتِ التدويل السابقة، منذ إقامة “نظام القائمقاميتين” في أواسط القرن التاسع عشر، الى “نظام الطائف” في أواخر القرن العشرين.

ويبقى السؤال: متى تنتفي الحاجة إلى التدويل في لبنان، وتكونُ أيّ دعوة إليه مُستَهجَنة ومُدانة؟

الجواب، عندما يُقرّرُ اللبنانيون، أو يقبلون، بقيامِ نظامٍ مدنيٍّ مُحتَرَمٍ يُجَفّفُ مُستنقع الحرب الأهلية، وينفي إمكانية قيام ميليشيات سياسية تتقاسمه في السلم، وتتناهشه في الحرب.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (15)

حُكَّامُهُ أعداؤهُ

2024/03/13

مُنذُ تسعينيات القرن الماضي ولبنانُ في محنةِ التيهِ وانسدادِ الأفق، فانطوَت السنوات على الأزماتِ المُفرِطة في التشابك، والعَصِيَّة على الحلّ، حتى تجاوزت مداها بدءًا من سنة 2015، وباتت البلادُ على خيطٍ رَفيعٍ من العَجزِ المُزمِن والاحترابِ الداخلي الساخِن.

وحقيقةُ القول، أنَّ ولاةَ الأمر الحاكمين، الذين هم من بقايا الميليشيات المُتناحِرة، غَيرُ مؤهَّلين، ولا قادرين، على معالجة هذه الأزمات المستعصية، ذلك أنّهم هم الذين تسبَّبوا بها.

ومِثالُهم مِثالُ أحدِ الولاةِ العثمانيين الذي أراد أن يُعَيِّنَ “ياورًا” لَهُ لا يكونُ من أبناءِ العائلات الغنيّة لئلا يسيء استخدام منصبه، فقرّرَ أن يُعَيِّنَهُ من أبناء العامة. فنزل الوالي إلى السوق ليبحث عن رجلٍ بشوش، صبوحِ الوجه، ذَربِ اللسان، فوجدَ ضالَّتَهُ في حَمَّالٍ (عتَّال) ظريف، محبوبٍ من جميع أهل السوق، فاستدعاه وأرسله إلى حمّامِ البخار لتطهيره من أوساخ العتالة، واشترى له ملابس قشيبة، فأصبحَ رجلًا آخر، وسلّمه منصبه الجديد بعدما درَّبه على مهامه المطلوبة، فبرَعَ في وظيفته، بحيث أنَّ الوالي عندما نُقِلَ من منصبه أوصى بتعيين ياوره واليًا مكانه.

وعندما صدر فرمان تعيينه واليًا انتقلَ إلى القصر حيث الخدم والحشم، انهالت عليه الهدايا والأموال، وحامَ حوله السماسرة، واللصوص، والمنافقون، يحاولون استدراجه إلى عمليات النهب والنهش، وتعليمه من أينَ تُؤكلُ الكتف!

وذات يوم جاءه قاضي القضاة زائرًا ليطَّلِع على أحواله، فوجده جالسًا في زاويةٍ من قاعةِ الاستقبالِ يجهشُ في البكاء، فقال له مُستَغرِبًا: “لماذا تبكي؟ ألا ترى العزَّ الذي أنتَ فيه؟ سلطةٌ، وأموالٌ، وقصورٌ، وخدمٌ، فماذا تُريدُ أكثر من ذلك؟”.

مَسَحَ الرجلُ دموعه ونظرَ إلى القاضي المطبوعِ على الفساد كما تَطبَّعَ هو، وقال له: “لستُ أبكي لا عليَّ ولا عليك. إنني أبكي على هذا الشعب المُغَفَّل الذي أنا واليه وأنتَ قاضيه”.

وهكذا أولياءُ الأمرِ في لبنان، يذرفون دموع التماسيح على أحوالِ الشعبِ المُتَدَهوِرة، وهم الذين تسبّبوا بها، لكنهم لا يعترفون بمسؤوليتهم وعدم أهليتهم، وليس في نِيَّتِهم معالجة أي أمر، بل هم عاجزون وقاصرون عن ذلك.

شعاراتهم المزعومة، لم يعد لها معنى لكثرة ما لاكتها الألسن، وأصبحت ممجوجة وفاقدة المعنى والصلاحية.

كلُّ يومٍ يُنادون بالتوافق كذبًا ونفاقًا، وبالوحدة الوطنية الوهمية، وبالميثاق الوطني المهلهل لكثرة الخروقات، وبالعيش المشترك الذي يسير في اتجاه التباعد، وبالشراكة الوطنية التي يفهمونها على أنّها مُحاصَصَةٌ واقتسامٌ للمغانم، وكذلك الأمر في كلِّ المجالات الأخرى، من الدستور والقوانين الهمايونية، البعيدة من المفاهيم العصرية للتقدّم، إلى أبسطِ المهامِ الإدارية.

إنَّ النظامَ السياسي للبنان، والتركيبةَ المُستَحكمة فيه، لا يُمكن أن يبقيا على ما هما عليه، لأنه من المستحيل إصلاحهما، أو حتى ترقيعهما.

لبنان القائم الآن هو فضيحةٌ عالمية، وسقوطُهُ يبدو محتومًا، والمصيبة إذا كان ذلك مُتَعَذِّرًا. فهو لن يستطيعَ أن يستمرَّ على هذا النحو، مغارة للصوص، وساحة مفتوحة للغرباء، والمهربين، والجواسيس، والمخرّبين، وملايين النازحين الذين لا أحد يعرف كيف دخلوا، ولا أحد يُفكّر بحلٍّ يسمحُ بإعادتهم من حيثُ أتوا.

الذين جعلوا أجمل الجبال مقالع وكسَّارات، وأحلى الأنهار العذبة المياه سواقٍ للمجارير والصرف الصحي، والشوارع النظيفة، أيام “بلدية بيروت الممتازة”، في عهود جاءت قبلهم، أصبحت مكبَّات للزبالة. بل إنَّ كلَّ البُنى التحتية التي هي من البديهيات في بلدانِ العالم المعاصر، باتت مُعطّلة أو مفقودة، من الكهرباء إلى المياه النظيفة، ومن الطرقات والمجاري إلى شواطئ البحر، إلى انعدامِ الرقابةِ على الأدوية والمواد الغذائية، إلى أوضاعِ الجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية، وإلى جميع المرافق العامة من دون استثناء. فماذا يُمكِنُ أن يفعلَ أيّ عدوٍّ للبنان أفدح مما فعل به حُكّامه وولاة أمره؟

لبنان الذي كان مَضرَبَ المثل في الحداثة والإبداع والإشعاع قبل خمسين سنة، أُطفِئَت شعلته، وأُذِلَّ شعبه، وهو اليوم البلد الوحيد في العالم الذي عادت لتُفَرّخ فيه الأمراض السارية المُنقَرِضة، بسبب الفقر وانهيار الخدمات الصحية لعموم الناس، واختفاء الأدوية من الأسواق، وازدهار الأسواق السوداء، ورواج أعمال التهريب، وأي مجال آخر للكسب غير المشروع.

هذا ليس لبنان. ولن يكونَ إذا استمرَّ على هذا النحو. إنهم يقودونه في طريق الزوال، بينما المطلوب زوال الآفات الفاتكة فيه، وأوّلها الصيغة الكاذبة التي تحكمه وتتحكّم به.

:لبنان… الحرب الأهليَّة المستدامة (14)

دولةٌ تحاربُ شعبَها

2024/03/12

يَظُنُّ كثيرون، تحتَ وابِلٍ من الدعايةِ والإعلامِ التضليلي، أنَّ الأنظِمَةَ التي يُسَمُّونها “ديكتاتورية” أو “توتاليتارية”، تُحارِبُ شعوبها، وهذا كلامٌ غيرُ دقيق. نعم، هي تَقمَعُ مُعارِضيها في الداخل، وتتصدَّى لخصومِها في الخارج، وتُقيِّدُ بعضَ الحرِّيات، كإجراءٍ وقائي، لكن معظمها قدَّم خدماتٍ جليلةٍ لعمومِ شعبه. الأنظمةُ الميليشياوية المولودة في رحم الحرب الأهلية، هي التي تُحارِبُ شعوبَها أثناء جولاتِ القتال، وتنهبها خلال ما تُسَمّيه “السلم الأهلي”، وهو في واقعِ الحال “حربٌ أهلية” مُقنَّعة، كما شاهدنا ونُشاهِدُ في لبنان.

الشواهِدُ والأسانيدُ على ذلك كثيرة، نذكُرُ منها الأمثلة التاريخية الآتية:

(1) حَكَمَ نابليون بونابرت في فرنسا، كنظامٍ ديكتاتوري قامَ على أنقاضِ ميليشيات الثورة الفرنسية، التي سمَّاها البريطاني ريتشارد كوب، وهو المرجع الأكبر في أوروبا حول الثورة الفرنسية: “جيوش الشعب”. (منحه الرئيس فرانسوا ميتران وسام جوقة الشرف لدرسه الثورة الفرنسية بالعمق، وهو يُعاني من عَجزِ الشيخوخة، وعندما سأله أحد الصحافيين ماذا ستفعل بهذا الوسام، أجابه مُمازِحًا: “سوفَ أُعلّقه على صَدرِ ببجامتي!”.

كانَ حُكمُ نابليون حُكمًا عسكريًا فرديًا أرهقَ الشعبَ الفرنسي بالحروبِ المُتتالية، وأزهَقَ فيها أرواحَ ما لا يقلّ عن مليون جندي. لكنه كانَ يُحارِبُ بالشعبِ الفرنسي، ولا يُحارِبُ الشَعبَ الفرنسي. واليوم نَسِيَ الفرنسيون والعالم حروبَ نابليون، ويتذكّرون بفخرٍ “القانون المدني العصري” الذي وضعه لجميع الشعب الفرنسي وما زال ساري المفعول إلى اليوم… وسيبقى.

(2) الحالة الستالينية في روسيا والاتحاد السوفياتي، من مطالع القرن العشرين الى منتصف خمسينياته، كانت وما زالت في الإعلام التضليلي، أعلى مراحل الحكم الديكتاتوري الذي حارَبَ وقتلَ شعبه. وقد مارس ستالين سياسة الشدّة، في ظنٍّ منه أنَّ ذلك “من أجلِ تَقَدُّمِ جميع الشعب”.

إنَّ روسيا كما خلقتها الطبيعة هي أكبر دولة في العالم من حيثُ المساحة، تُساوي مجموع مساحة الولايات المتحدة، وكندا، والصين، وفيها ستة عشر نطاقًا زمنيا لأنَّ معظم خطوط الطول والعرض للكرة الأرضية تمرُّ فيها، وهي تمتدُّ من البحر الأسود إلى المحيط الباسيفيكي، ومن جورجيا جنوبًا الى المحيط المتجمّد الشمالي. هذه المساحةُ العُظمى من الأرض زرعها ستالين من أقصاها إلى أقصاها بشبكاتِ الكهرباء من أجلِ تَقَدُّمِ الشعب الروسي، لا من أجل مُحارَبته، وحَوَّلَ روسيا من دولةٍ إقطاعية تملكها عائلاتٌ أرستقراطية قليلة إلى دولةٍ صناعيةٍ مُتقدّمة، بل جعلها دولة عظمى مُهابة في العالم. ولستُ أظنُّ أنَّ أحدًا يُمكِنُ أن ينسى أنَّ روسيا هي أول دولة في العالم أطلقت قمرًا اصطناعيًا إلى الفضاء (سبوتنيك) في أواسط خمسينيات القرن العشرين، وأول قمر حمل حيوانًا الى الفضاء (الكلبة لايكا)، وأول رجل (يوري غاغارين)، وأول امرأة أيضًا. وإلى اليوم تُخرِّج كليات العلوم والرياضيات الروسية، أكبر عدد من الطلاب في هذه المجالات في العالم بالنسبة إلى عددِ السكان، ولا تَستَورِدُ العُلماء من الخارج.

(3) النظام الفرانكوي، الذي قام بعد الحرب الأهلية، كحالةٍ ميليشياوية في الحرب وفي السلم (كما في لبنان)، قتلَ من الشعب الإسباني، بعد حلول السلام، أكثر مما سقط في الحرب الأهلية.

فقد أعلنَ فرانكو فور انتصاره قائلًا: “صحيحٌ أنَّ الحربَ انتهت، لكنَّ العدو ما زال على قيد الحياة”. وفي السنوات الأربع التي تَلَت نهاية الحرب (1939 – 1943)، قامَ نظامُ فرانكو بعملياتِ إعدامٍ واغتيالاتٍ مُنظَّمة ذهبَ ضحيّتها نحو ربع مليون شخص من خصومه السابقين.

فقد قال الديبلوماسي والكاتب والمؤرخ الإسباني المعروف، سلفادور دي مادارياغا (رُشِّح لجائزة نوبل للأدب وجائزة نوبل للسلام):  “دولةٌ عسكريةٌ في حربٍ مع شعبها، ليس كلامًا مجازيًا. إنّهُ تعريفٌ فاضِحٌ للأساسِ القانوني لدولةِ إسبانيا الراهنة” (من كتاب أنطوني بيفور “الحرب الأهلية الإسبانية”، 1982).

نعم، هناكَ أنظمةٌ تُحارِبُ شعوبها، وهي الأنظمة الميليشياوية الأصل والجذور، تقتله وتنهبه في الحرب، وتُصادِرُ معاشه وجنى عمره في السلم، كالمنشارِ يأكل ذهابًا وإيابًا.

أنظروا إلى لبنان!

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (13)

إنَّهُم لا يَعرِفون لماذا يُقاتِلون

2024/03/11

ليسَ كلُّ المقاتلين يعرفون لماذا يُقاتِلون، بل أغلبهم لا يَعرِف. ولا أحدَ منهم يُدرِكُ أنّهُ يُقاتلُ في حربٍ لا يعرف عنها الكثير، وهو يُقاتلُ في حَربِ غيره، وأنه مجرَّدُ وقودٍ لتلك الحرب.

الكنيسةُ الكاثوليكية في إسبانيا أوهَمَت أتباعَها بأنَّهُم يُحارِبون من أجلِ المسيح. وجميعُ قادةِ الحروب الأهلية، قديمًا وحديثًا، يُعَبِّئون المقاتلين بدعاوى، أو عقائد، أو قضايا وهمية، يزعمونَ أنَّها عادلة وستكون لمصلحة المقاتلين إذا استَبسَلوا في القتال. لكنَّ المقاتلين أنفسهم لا يعرفون لماذا يُقاتلون أبناء بلدهم، ولماذا يستنجدُ قادتهم بقوى خارجية.

والبابا بيوس الثاني عشر، قال في رسالته إلى الجنرال فرانكو المُنتَصِر في الحرب الأهلية، عام 1939: “إنَّ هذا الانتصار هو الانتصار الكاثوليكي الذي ترغبه إسبانيا!”.

فالتَعبِئةُ الدينيّة هي أسهلُ وأفعَلُ أنواعِ الحَشدِ والتحريضِ للمُقاتلين البُسطاء الذين يؤمنون بجِدِّيةِ ما يُقالُ لهم من قادتهم الميدانيين، أو قادة أديانهم وطوائفهم.

ولذلك، أخذت الحربُ الأهلية اللبنانية منحى طائفيًا، بفعلِ التعبئة والحشد، وليس بفعل جوهر الموضوع. وكذلك الأمر، وعلى نطاق أوسع وأشد عنفًا في بعض البلدان العربية، مغربًا ومشرقًا، عندما انتشرت الحركات الإسلامية التكفيرية المُتطرّفة، وراحت تقتل وتُفجّر في كلِّ مكان، ظنًا من مقاتليها أنهم يُقاتلون من أجلِ دينهم وهم يقاتلون لخدمة أعدائهم.

لكنَّ كثيرين من المُضلَّلين، كما في الحرب اللبنانية، انخرطوا في القتال من أجل السرقة والنهب، وأحيانًا بمعرفة القيادات وتشجيعها لإغراء المقاتلين بالبقاء في ساحة القتال. وهذا يحدث في جميع الحروب، أهلية ونظامية، لكنَّ عملياتَ السَلبِ والنهب في لبنان انطلقت منذ البداية، من معركةِ مَرفَإِ بيروت، إلى معركة الفنادق، واحتلال وتدمير بلدة الدامور، كما وَرَدَ سابقًا. وعمليات النهب هذه، منها ما هو مُنَظَّمٌ بإشرافِ قادة الميليشيات، ومنها ما هو عشوائي يقومُ به أفرادٌ من المقاتلين على سبيل الانتفاع من الفوضى.

ولا يظنَّنَ أحدٌ أنَّ عملياتَ نهبِ ودائع اللبنانيين في المصارف، ومن خلال التلاعب بأسعار صرف العملة، تختلفُ في جوهرها عن عملياتِ النهبِ التي جرت خلال الحرب. فالمُمارساتُ الميليشياوية هي ذاتها، لأنَّ الحربَ الأهلية ما زالت مُستَمِرّة بطُرُقٍ أُخرى.

إنَّ الفئة الوحيدة التي كانت تعرِفُ لماذا جاءت تُقاتِلُ في الحرب الإسبانية، والوحيدة في تاريخ العالم، هي “السرايا الدولية للدفاع عن الجمهورية”، التي ضمَّت في غالبيتها المثقفين، والفنانين، والمُستنيرين من جميع أنحاء العالم. جاؤوا من فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والنمسا، وبولندا، وأوكرانيا، وإيطاليا، وأميركا (الشمالية والجنوبية)، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، والمجر، وروسيا، والبلدان الإسكندنافية. وقد قال المُتَطَوِّعُ الأميركي ألفا بيسي لزملائه في “السرايا الدولية”: “أنتم أولُ جنودٍ في تاريخ العالم تعرفون لماذا تُقاتلون”. (من كتاب فينسنت بروم بعنوان “السرايا الدولية” الصادر عام 1965).

وعندما اقترح رئيس الوزراء الجمهوري، خوان نغرين، انسحاب “السرايا الدولية” على أملِ إنَّ ذلك يُمكِنُ أنْ يُعجِّلَ في التدخّلِ الرسمي من قبل بريطانيا وفرنسا، فخاب ظنّه، وقفت السيدة دولوريس إيباروري (الشيوعية المعروفة باسمها الحركي “لا باسيوناريا” وصاحبة الشعار الأشهر في معركة مدريد “لن يمرّوا”)، تخطبُ في السرايا الدولية المُنسَحِبة من برشلونة في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1938، قائلةً: “إذهبوا بفخر. أنتم التاريخ. أنتم الأسطورة. أنتم المثالُ البطولي للتضامن، ولعالمية الديموقراطية. إننا لن ننساكم، وعندما تُورِقُ أغصانُ شجرة زيتون السلام، جنبًا إلى جنبٍ مع أكاليل غار نصر الجمهورية الإسبانية… عودوا إلينا”.

:لبنان…الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (12)

رفيق الحريري في الحَربِ والسِلم

2024/03/10

ما التَبَسَ على اللبنانيين أمرٌ مثلما التَبَسَ عليهم اغتيال رئيس الحكومة لمرحلة ما بعد مؤتمر الطائف، رفيق الحريري، في 14 شباط (فبراير) 2005. فالرَجُلُ كانَ خارِجَ الحُكم، ولا صفةَ رسمية له، وعملية الاغتيال، في الشكل، لا تَندَرِجُ في نظريةِ “قتل الرجل الواحد لإنقاذ البلاد”، إنّما ضمن مُخَطَّط لزعزعة أمن البلاد، و”النفخ في نار الحرب الاهلية”.

هذا ما عزَّزَ احتمال أنْ تكونَ جهةٌ خارجية ضالعة في الحادث. لكنَّ الالتباساتَ السياسية والانقسامات الداخلية في ذلك الوقت لم تترك مجالًا للتفكير في الأمر من زاوية الحرب الأهلية قبل الطائف، بل حُصِرَ في إطارِ “السلم الأهلي” بعد الطائف.

ذلك أنَّ دورَ رفيق الحريري في المسألة اللبنانية لم يبدأ في مؤتمر الطائف، وإن كان بدا كذلك لكثيرين من اللبنانيين. وهذه نقطة خلافية مهمَّة، تُظهِرُ فجوةً كبيرةً من الالتباس، بينَ أن يكونَ حضورُه في السياسة من خارجِ الطبقةِ السياسية اللبنانية التقليدية، محمولًا على موجةِ “السلم الأهلي”، أو على موجةِ “الحرب الأهلية”.

في أواسطِ تسعينيات القرن الماضي، وكنتُ أُصدُرُ جريدة “الميزان” من لندن، كتبتُ مقالًا في محاولةٍ لتوضيح هذا الالتباس، عنوانه: “لم يفهم اللبنانيون دور الحريري في الحرب فأساؤوا فهمه في السلم”. ومن غَيرِ المُستَبعَدِ أن يكونَ ذلك الالتباس مقصودًا، لأنَّ وَضعَ الحريري، في حياته السياسية بعد الطائف، وفي إزالته من الوجود ضمن إطارِ الحرب الأهلية، من شأنه أن يُضعِفَ دوره في السلم الأهلي، وهالته الوافدة معه على وقع الطائف كرجلِ سلامٍ وإنماءٍ وإعمار.

كنتُ في بيروت خلال النصف الأول من العام 1983، (بين اغتيال بشير الجميل وتفجير السفارة الاميركية في عين المريسة)، وشاهدتُ جرّافاتٍ وشاحناتٍ كبيرة تقوم بعمليةِ تنظيف الرُكام من وسط بيروت رُفِعَت عليها صور العاهل السعودي آنذاك الملك فهد بن عبد العزيز، وقيل إن رفيق الحريري هو مُتَعَهِّدُ ذلك المشروع، بصفته من المُقرَّبين إلى الملك فهد ومحلّ ثقته. وقد عُجِبتُ لعمليةِ التنظيف تلك لمُخَلّفات دمار الحرب قبل انتهاء الحرب، واندلاعِ مرحلةٍ جديدة وخطيرة منها في الجبل فور الانسحاب الاسرائيلي من بيروت ومناطق لبنانية أُخرى إلى الشريط الحدودي في الجنوب. فاتصلتُ بالصديق الراحل محمد عطالله، رئيس مجلس الإنماء والإعمار في ذلك الوقت، مُستَوضِحًا الأمر فلَمَستُ أنَّ لديه ضيقًا من الضجّةِ الدعائية لعمليات التنظيف تلك، فقال لي بالحرف: “ما بَدّها هَلقَد، هذه شَغلِة البَلَدِيّة”.

أليسَ مُلفِتًا تنظيفُ رُكامِ الحرب من بيروت قبل سبعِ سنواتٍ من مؤتمر الطائف وانتهاءِ العمليات الحربية؟

قد يكونُ ذلك من قبيل التغطية على دَورٍ آخر خَفِيّ في الحرب بتنظيف مُخلّفاتها باكرًا، تمهيدًا لدورٍ أكبر في إنهائها تاليًا، يُرادُ منها طمسُ شيءٍ ما وكتابة تاريخٍ جديد على صفحةٍ بيضاء.

غالبية الذين كتبوا عن الحرب الأهلية اللبنانية، من لبنانيين وأجانب، إنْ لم يكن كلّهم، لم تتطرّق إلى مسألةِ تمويلِ أُمراءِ الحرب وتموينهم. وجميع مؤرِّخي الحروب الأهلية يعرفون أنَّ المالَ هو العَصَبُ الأشَدّ في الحرب، ويفوق السلاح في أهمّيته. فالسلاحُ لا يُمكِنُ أن يَفعَلَ فعله من غير رفده بالمال. فقد عرَّفَ أحد الزملاء الثورة الفلسطينية أثناءَ وجودِ ياسر عرفات في لبنان وانخراطه في الحرب الأهلية اللبنانية بأنّها “مالٌ وسلاح”.

في صيف 1983، مَرَّ بنا إلى مكاتب مجلة “الحوادث” في لندن الصحافي الأميركي المعروف جوناثان راندال، بعد صدور كتابه عن الحرب اللبنانية بعنوان “مأساة لبنان”، وقال لنا إنه عمل قصارى جهده ليفهم الحالة اللبنانية، لكنّه مع ذلك يشعرُ بأنه ما زال مُقَصِّرًا عن فهمها، وأنه مهما حاولَ المُهتَمّون الأجانب بالوصول إلى كنهها، فإنَّ ذلك لا يحلُّ محلَّ قيام كتّاب لبنانيين بكتابةِ حقيقةِ قضيّة بلادهم وشعبهم. وقد تناقشنا معه في الموضوع أكثر من ساعتين، وهو يصرُّ على أنَّ فَهمَ الموضوع اللبناني ما زالَ ناقصًا، (أظنُّ أنه وقتئذ كان يعمل في جريدة “واشنطن بوست”).

واليوم نُدركُ أنَّ الفهمَ العالمي، والعربي، وحتى اللبناني، للمسألة اللبنانية، في إطار “الحرب الأهلية المُستدامة” ما زال ناقصًا. ويكفي إلقاء نظرة على كيفية تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري، والكلفة الباهظة التي تكبّدها الشعب اللبناني، لقاء تلك المسرحية الفاشلة، لمعرفةِ المَقصودِ بالنقص في فَهمِ المسألة اللبنانية. وقد فاقم ذلك النقص تغاضي المسؤولين اللبنانيين عن المخالفات القانونية والدستورية في تمرير مشروع المحكمة الدولية وتكاليفها الباهظة، من شارل رزق وفؤاد السنيورة، إلى المُطالبين بتشكيل المحكمة تحت البند السابع الذي يسمح بالتدخّل العسكري الدولي.

لا أحدَ أراد أنْ ينظرَ إلى رفيق الحريري على أنّهُ ضحيةٌ من ضحايا الحرب الأهلية لأنّهُ كانَ مُشارِكًا فيها من وراءِ الستار بتمويلِ أمراءِ الحرب نيابةً عن جهاتٍ خارجية، وليس من ماله الخاص. أرادوا فقط إظهاره بمظهر “بطل السلم الأهلي”، و”عرَّاب مؤتمر الطائف”، وهي عملية ترجمتُها الحقيقية نقل السلطة في لبنان من أيدي طبقة سياسية انتهت صلاحيتها إلى المليشيات وأمراء الحرب، مُكافأةً لهم على قيامهم بالمهام المُناطة بهم، على قاعدة “مَن صَنَعَ الحرب هو الذي يصنع السلم”.

وعملية التمويل تلك كانت أوسع نطاقًا مما يظنُّ معظم اللبنانيين، فهي لم تقتصر على جهةٍ مُحَدَّدة، بل شملت جميع الميليشيات المتقاتلة، يمينًا ويسارًا، وشملت جهات سورية مُتعاطية في الشأن اللبناني، والقوى المسلحة الفلسطينية، ومسؤولين وموظفين في الدولة، وشملت وسائل إعلام وإعلاميين، وصولًا إلى تمويلِ دراسة الطلاب في الخارج.

ولذلك، لا توجَدُ أيّ دراسةٍ جدّية عن كيفية، ومصادر، تمويل الحرب الأهلية اللبنانية، كما هو الحال بالنسبة إلى الحرب الأهلية الإسبانية مثلًا، حيث يستطيع الدارسون أن يعرفوا بالضبط ماذا قدم ستالين للجمهوريين اليساريين، وماذا قَدّم هتلر وموسوليني لقوات فرانكو اليمينية.

لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (11)

نَظَرِيَّةُ قَتلِ رَجُلٍ واحِد

2024/03/09

مُنذُ أقدَمِ الأزمِنة كانَت النزاعاتُ التَسَلُّطِيّة الديكتاتورية لبَعضِ الزُعماءِ والحُكّام من أسبابِ الحروبِ الأهليّة. وقد بَرَزَ ذلكَ بشكلٍ واضحٍ في الجمهورية الرومانية خلال القرن الأوّل قبل الميلاد، بسبب الحروب التوسّعية في الخارج، وبروز النزعة السلطوية لدى القادة العسكريين المُنتَصِرين في تلك الحروب.

أوّلُ هذه الظواهر تمثّلَت في شخصِ لوسيوس كورنيليوس سولا، المعروف بالديكتاتور سولا، الذي انتُخِبَ قُنصُلًا مرَّتَين، ثم عُيِّنَ من مجلس الشيوخ الروماني، ديكتاتورًا مُطلَق الصلاحية (82 – 80 قبل الميلاد) ليَحسُمَ عسكريًا أوّلَ حَربٍ اهلية رومانية قامت لأسبابٍ اجتماعية ضدّ أصحابِ الأملاك الزراعية الواسعة، فأنهى تلك الحرب من طريق الجيش الذي كانَ مُحَرَّمًا عليه دخول مدينة روما. لكن سولا خَرَقَ هذه القاعدة التاريخية، ودخلَ بعسكره إلى المدينة لأوّلِ مرّة، وقامَ بتصفيةٍ جسدية لزعماء الطبقة السياسية الحاكمة. فكانَ كلّ صباحٍ يُعلِّقُ لائحةً بأسماءِ السياسيين المطلوبين للمُساءَلة ويقومُ بإعدامهم. فصارَ أهالي المدينة يهرعون في الصباح إلى ساحة الكابيتول، حيث مجلس الشيوخ، بدافعِ الفضول ليعرفوا أسماءَ المطلوبين كل يوم. وقد شملت تلك التصفيات أكثر من 600 شخص من السياسيين والنافذين، (كان يوليوس قيصر وقت تلك التصفيات في العشرينات من عمره وما زالَ مُبتدِئًا في العمل السياسي، فحيَّد نفسه وغادر روما إلى بيت جدته في الأرياف بعيدًا من الأنظار).

ومن غرائبِ الأمور، أنَّ سولا هو القنصل السابق الوحيد في تلك الحقبة الذي مات موتًا طبيعيًا في فراشه!

حُسِمَت تلكَ الحرب الأهلية بالقوة، لكنها لم تَحسُم دور القوة في تأجيج الحرب، ولا حَسَمَت الأسبابَ الحقيقية لتجدُّدها، فبقيت نارُها تحت الرماد.

وعندما جاء يوليوس قيصر إلى الحُكم، وظهرت عليه علائم الرغبة في التَسَلّط، خَشِيَ بعضُ كبارِ أعضاءِ مجلس الشيوخ، أمثال ماركوس يونيوس بروتوس وغايوس كاسيوس لونغينوس، أن تتكرّرَ تجربة سولا، فتآمرَ لقتله داخل المجلس على قاعدةِ “إنَّ قتلَ رجلٍ واحدٍ يمنع قتل البلاد كلّها”. لكنَّ قتلَ هذا الرجل الواحد، كما حدث تاليًا، أثارَ حَربَين أهليتَين مُتتاليتين، إضافةً إلى الحرب الأهلية السابقة، بين يوليوس قيصر وصهره السابق الجنرال بومبيوس الكبير، وقد حَسَمَها يوليوس قيصر لصالحه في معركة “فرزاليا” المشهورة، وهي التي أدّت إلى محاولة تفرّده بالسلطة.

نَظَرِيَّةُ حَلِّ المشكلة بقتلِ رجلٍ واحدٍ أعطت مفعولًا عكسيًا مُضاعَفًاً. لقد أدّت إلى حَربَين أهليتَين لا إلى حَربٍ واحدة، وأدّت أيضًا إلى سقوطِ الجمهورية وقيامِ نظامٍ إمبراطوري ديكتاتوري دامَ مئات السنين، مِن حُكمِ أغسطس قيصر قبيل ميلاد المسيح بسنوات قليلة، إلى سقوط القسطنطينية بأيدي العُثمانيين في القرن الخامس عشر الميلادي.

ومُنذُ ذلك الوقت، لم يَتَوَقَّف الجَدَلُ حولَ “نظرية قتل الرجل الواحد” كوسيلةٍ لمَنعِ قَتلِ البلاد كلّها.

وهذا الجدلُ زادَت حدّته تاليًا في أوروبا منذ قيام الأنظمة الملكية بالحق الإلهي. فلننظر إلى ما قاله ملك بريطانيا جيمس الأوّل أمام البرلمان يوم 21 آذار (مارس) من العام 1610: “إنَّ الملوكَ يُدعَون آلهة بحق، لأنهم يمارسون ما يشبه السلطة المُقدّسة على الأرض. فإذا نظرتم في خصائل الله، سوفَ ترون أنها تتوافق مع مزايا شخص الملك. فالله له القدرة على الخلق وعلى التدمير، وله أن يُقيمَ وأنْ يُزيلَ كما يشاء، أن يَهِبَ الحياة أو أن يُسلّطَ الموت، يُدينُ الجميع ولا يَخضَع لدينونةٍ من أحد، يُعلي مَن يشاء ويُخفِّض مَن يشاء بغيرِ حسابٍ وعلى هواه. وهذه أيضًا هي سلطة الملوك”.

ولهذا تَكَرَّرَ الجَدَلُ حول “نظرية قتل الرجل الواحد” في الحرب الأهلية الإنكليزية بعد إعدام الملك تشارلز الأول، وانطلاق الحروب الأهلية الإنكليزية التي امتدت قرابة ربع قرن (1625 – 1649).

ففي العام 1628 قامَ ضابطٌ في جيشِ دوق باكنغهام الأوّل (جورج فيليير) بقتل سيّده الدوق بطعنه أمام الملأ مُبَرِّرًا جريمته بالقول: “ظننتُ أنه من الأفضل أن يموتَ رجلٌ واحد، من أن تذهبَ إنكلترا كلّها إلى الخراب”. وقد جاء في المراجع البريطانية لتلك الحقبة، إنه من أسباب ذلك انتشار أفكار مؤدّاها أنَّ النبلاء يمارسون سلطةً مفرطة، ويُسيئون استخدامَ تلك السلطة، وهذا هو السبب الرئيس للشرور والأخطار التي تُحيقُ بالملك وبالمملكة.

ولذلك، فإنَّ الحروبَ الأهلية ليست حالةً بسيطة تُعالَج بالتسويات المُرَقَّعة القائمة على مَصالحِ المُتحاربين دونما اعتبار لمصالح الشعب والأمة، كما حدث في لبنان فختم جرح حربه الأهلية على زغل، وخلافا للحروب الاهلية المماثلة، فإنَّ الحربَ اللبنانية مُستدامة، ودوامُها مُرتَبِطٌ بالتسويات، المتعمد فيها الإبقاء على جذور الحرب حيَّة، تأسيسًا لحربٍ جديدة متى حانَ وقتها.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (10)

“غرنيكا المُخَلَّدة“ و”الدامور المَنسِيَّة”

المُقارناتُ والمُفارَقاتُ بين حَربِ الإسبان الأهليّة وحَربِ اللبنانيين لا تنتهي.

وقد يكونُ تَدميرُ بلدة “غرنيكا” (Guernica)، في إقليم الباسك، يتساوى في الفعلِ والنتيجةِ مع تَدميرِ بلدةِ الدامور الساحلية في الشوف اللبناني. والبلدتان، إلى ذلك، تتساويان أيضًا في الحَجمِ والمَكانَةِ الاستراتيجية.

في ليلة 26 نيسان (إبريل) من العام 1937 قامت أسرابٌ من سلاحِ الجوِّ الألماني النازي، مع مشاركةٍ من سلاحِ الجوِّ الإيطالي الفاشي، بغاراتٍ مُتواصِلة على بلدةِ “غرنيكا” الإسبانية فدمَّرَتها تدميرًا كاملًا، وقتلت أكثر من ألفٍ من سكانها، وتركتها قاعًا صفصفًا. ذلك أنَّ “غرنيكا” كانت مَعقلًا جمهوريًا تتحكّمُ بالاتصالات والمواصلات اللازمة للجمهوريين مع الخارج. وإزالة تلك البلدة من الوجود مكَّنت “كتائب” الجنرال فرانكو من السيطرة على مدينة بيلباو القريبة، وتاليًا على شمال إسبانيا بكامله. وقد أنكرَ فرانكو قيامَ الطيران الألماني النازي والإيطالي الفاشي بتدمير البلدة، ونسبَ ذلك إلى القوات الجمهورية التي زَعَمَ أنها دمّرتها وهي تنسحبُ منها. وبقيت هذه القصة مَكتومَةً ومُلتَبِسَةً على الصعيدِ الرسمي، إلى أن اعترفت بذلك الحكومة الإسبانية في العام 1999، أي بعد مَضيِّ 62 سنة على تلك الواقعة.

أمّا بلدة الدامور اللبنانية، وسكانها جميعًا من المسيحيين، فهي أيضًا في موقعٍ استراتيجي يَتَحَكّمُ بالمواصلات بين بيروت والجنوب، وبين الساحل والجبل، وتقع في منطقة نفوذ الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، قائد الحركة الوطنية، المُتحالفة مع قوى الثورة الفلسطينية. وفي شهر كانون الثاني (يناير) من العام 1976 قامت قوّاتٌ من الحركة الوطنية والقوات الفلسطينية بمهاجمةِ الدامور وتدميرها وقتل عدد غير معروف من سكانها، واضطرار الناجين من الأهالي إلى الهروب بحرًا بملابسهم فقط إلى أماكن آمنة، لأنَّ المواصلات البرّية كانت مقطوعة.

كُنتُ وقتها ما زِلتُ في لبنان ومررتُ بالدامور المُدَمَّرة ثلاث مرات وأنا في طريقي مِن وإلى البقاع عبر الطريق الجبلي بين صيدا وجزين. وقد رأيتُ بعينَيَّ حَجمَ الدمارِ الشامل الذي حَلَّ بها، حيثُ لم يترك المهاجمون شيئًا لم ينهبوه حتى بلاط وقرميد المنازل، والإطارات الخشبية للأبواب والمراحيض، والمُقتنيات التي لم يحمل منها أصحابها شيئًا أثناء فرارهم بأرواحهم.

وقفتُ أتأمّلُ ذلك المشهد السوريالي، الذي يفوق الوصف، وخَطَرَ لي أنَّ إعصارًا أو زلزالًا قد ضَرَبَ المدينة، أو أنَّها تعرَّضَت لغاراتٍ جوِّية مُدَمِّرة كتلك التي تعرّضَت لها بلدة “غورنيكا” الإسبانية قبل أقل من أربعة عقود.

وكما في تَدميرِ “غورنيكا” الإسبانية، كذلك في تَدمِيرِ الدامور اللبنانية، أُبقِيَ الأمرُ مُلتبسًا من حيثُ تَجهيلِ الفاعل. فقد قيلَ انَّ القوّاتَ الجنبلاطية، المدعومة بقوّاتٍ فلسطينية، هي التي فعلت ذلك، ثُمَّ قيلَ إنَّ الفاعِلَ هو قوَّاتُ منظمة “الصاعقة” الفلسطينية الموالية للنظام السوري، الذي كان حينها على خلافٍ مع الجنبلاطيين.

في إسبانيا، على الأقل، كَشَفَت الحكومة رسميًا بعد ستين سنة عن الفاعلِ الحقيقي، لكن في لبنان لم تَكشُف أيُّ جهّةٍ رسمية أو دولية عن هوِّية الفاعل، فبقي معروفًا ومجهولًا في الوقت ذاته، كما كان في اسبانيا حتى نهاية القرن العشرين.

“غرنيكا” الإسبانية تخلَّدت، بينما الدامور اللبنانية طُمِسَت. “غرنيكا” خَلّدها الرسام المشهور بابلو بيكاسو بلوحةٍ رائعة تحمل اسم البلدة المنكوبة، هي الآن في مدريد موطنها الأصلي. والرسّام بيكاسو كان أوّلَ مَن اتَّهَمَ الألمان النازيين بتلك الفعلة الشنيعة.

بعدَ الاحتلال الألماني لفرنسا عام 1939، زاره في محترفه في باريس ضابطٌ كبيرٌ في جهاز “غيستابو” النازي راغبًا في اقتناءِ لوحةٍ من لوحاته، وفي رُكنِ المُحتَرَف رأى الضابطُ لوحة “غرنيكا”، فراحَ يتأمّلها، ولم يطلبها. واسترعى ذلك انتباه بيكاسو فبادَرَ الضابط: “أنتم فعلتموها.. أليس كذلك؟”.

رَسَم الضابطُ على شفتيه ابتسامةً وَشَتْ بموافقته على كلام الرسام الإسباني.

وشعرَ بيكاسو أنَّ لوحته العظيمة تلك لن تكونَ آمنةً في إسبانيا بعد انتصارِ فرانكو في الحرب الأهلية، ولن تكونَ آمنة في أوروبا بعد الاحتلال النازي، فأرسلها إلى الولايات المتحدة حيث عُرِضت لأوّلِ مرة في نيويورك.

وإلى جانب لوحة بيكاسو، خلَّدها الرسام الفرنسي رينيه ماغريت بلوحةٍ سمّاها “العلم الأسود”. وكذلك فعل النحَّات الألماني هاينز كيفيتز، المُتَطوِّع في السرايا الدولية المُناصرة للجمهوريين، بحفريةٍ على الخشب، وقد استشهد في المعارك هناك. ونحَّاتون آخرون نحتوا لها التماثيل التذكارية، وشعراء نظموا فيها القصائد، وأشهرها قصيدة بول إيلوار بعنوان “انتصار غرنيكا”، وخلدها موسيقيون أمثال باتريك أسيون وأوكتافيو فاسكيس. وكذلك فعل سينمائيون أمثال ألن رازنيه في فيلم قصير أنتجه في العام 1950 بعنوان “غرنيكا” أيضًا.

لكن أيًا من ذلك لم يحدث بالنسبة إلى الدامور اللبنانية، لا شاعر لبناني أو غير لبنانيٍّ نظم فيها قصيدة، ولا نحَّات نحتَ لها تمثالًا على حجر أو خشب، ولا رسَّام رسم لها لوحة على ورق أو قماش، ولا موسيقي ألّفَ لها مقطوعة، ولو للذكرى، ولا سينمائي فَكّرَ في إخراجِ فيلمٍ رمزيٍّ أو وثائقيٍّ عنها كمجرّد سجلٍّ تاريخي يُمكِنُ الرجوع إليه.

مَرَّ تدميرُ الدامور مرَّا عابرًا بدون أيِّ تذكار، وكأنه حادثُ سير، أو عاصفةٌ من البحر.

.ولذلك فإنَّ الحَربَ الأهلية الإسبانية ذهبت إلى غيرِ رجعة، بعدما تصالح الإسبان مع أنفسهم. وبقيت الحربُ الأهلية اللبنانية مُستَعِرةً ومُتَجَدِّدة بطُرُقٍ مختلفة، لأنها تقوم على قاعدة الإنكار والنفاق، والتكاذب بين المُتحاربين، فلا مساحة فيها للمُراجعة، أو المُصارحة، أو المُصالحة والاعتراف.

لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (9)

الحِيادُ لا يُوقِفُ الحَرب

2024/03/07

في الحروبِ التي يَعتَبِرُها كبارُ المُثَقَّفين، والفنّانين، والكتَّاب، والمُفكّرين “قضايا عادلة”، تَتَشَكَّلُ من خلالِ أفكارهم حالةٌ رومانسية واسعة قادرة على الاستقطاب.

فالمُثقّفون، ومُعظَمُ الكُتَّابِ في الغرب، استفزّتهم مواقفُ حكوماتهم الداعية إلى الحيادِ في الحَربِ الأهلية الإسبانية، مع أنَّ استقصاءً للرأي العام في الولايات المتحدة أظهر أنَّ 87 في المئة من الأميركيين يؤيّدون الجمهوريين الإسبان. لكنَّ الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي كان يصغي لتوجّهات الرأي العام، فشلَ في إقناع الكونغرس بتأييدِ الجمهوريين في الحرب الإسبانية

.“أمّا حكومة ليون بلوم الاشتراكية في فرنسا، فقد كانت في طليعة الداعين إلى الحياد، وكان رئيس الحكومة الفرنسية نفسه موضع سخرية في مجلس النواب عندما بَرَّر موقفه بالقول: “إنَّ الحيادَ يَمنعُ الحرب”.

ونتيجةً لذلك تشكَّلت في 52 دولة في العالم، من بينها فرنسا وبريطانيا وأميركا، ما سُمِّي “السرايا الدولية لنصرة الجمهورية الإسبانية”، بلغ عديدها 36 ألفًا من المُتَطَوِّعين للقتال إلى جانب الجمهوريين، بينهم أسماء كبيرة من الكتَّاب والفنانين، أمثال جورج اورويل البريطاني، وأرنست همنغواي الأميركي، وأندريه مالرو الفرنسي (كما انتجت هوليوود أفلامًا عدة خالدة حول الموضوع. (وكان بين المتطوِّعين نحو سبعة آلاف من المُثقّفين اليهود الهاربين من ألمانيا النازية).

ويَذكُرُ اللبنانيون، عشيّة حرب فلسطين، في أربعينيات القرن العشرين، كيف تَشكَّلَ “جيش الإنقاذ” بقيادة فوزي القاوقجي، وضَمَّ مُتَطَوِّعين من لبنان وسوريا، وبعض الدول العربية الأخرى، للقتال ضدّ العصابات الصهيونية في فلسطين، خارج إطار الجيوش العربية النظامية المُشارِكة في تلك الحرب.

فالقضايا العادلة، وإن كانت خاسرة في كثيرٍ من الأحيان، جاذبةٌ بطبيعتها لأهلِ الفكرِ والإنصاف إلى درجةٍ تَحمُلهم على التطوُّع للقتال في سبيلها. وهذا ما كان من أمر القضية الفلسطينية التي جذبت، في بداية الحرب الصهيونية لاغتصاب فلسطين الكثيرين في العالمَين العربي والإسلامي، كما بعض الأوساط الأوروبية.

هذا الإرث من النصرة الواسعة للقضية الفلسطينية، انسحبَ أيضًا على الوجودِ الفلسطيني في لبنان، حتى بَعدَ انقلابِ أجندةِ الثورة الفلسطينية من ” تحريرية لكامل التراب الفلسطيني” إلى “تسوية تقبل بأيِّ أرضٍ من فلسطين تتخلّى عنها إسرائيل في المفاوضات”.

ولذلك، لم يَنظُر العالمُ الخارجي إلى القضية اللبنانية، في المُقابل، على أنّها “قضية عادلة”، بل جرى تظهيرها على أنها “حالة عدوانية ضد الفلسطينيين وقضيتهم”، على الرُغمِ من جميع التضحيات التي قدّمها اللبنانيون في سبيل القضية الفلسطينية من أيام نجيب نصار في مطلع القرن العشرين إلى أيام فوزي القاوقجي في منتصفه، ثم في أيام ياسر عرفات أيضًا.

وكثيرون في الخارج، وفي لبنان أيضًا، لم يلحَظوا تحول الثورة الفلسطينية من التحرير الى التسوية، وبالتالي فاتهم أنَّ “حالة التسوية”، في ظلِّ هيمنة السلاح الفلسطيني، هي قَطعًا ستكون على حساب لبنان، وربما على حساب غيره أيضًا.

فمُعادَلَةُ التسوية تضمُّ خمسة شعوب وأربعة أقطار (لبنان، سوريا، الأردن، فلسطين)، وشعوبُ هذه الأقطار يضافُ إليها الشعب اليهودي في فلسطين المحتلّة.

فالتسويةُ المنشودةُ من الثورة الفلسطينية، لن تكون كلّها، أو معظمها، على حساب الفريق الإسرائيلي المُعتَدي أو المُحتَل، وبالتالي فإنّها بالضرورة سوف تكون على حساب الدول العربية المُحيطة بفلسطين، والتي تضمُّ أعدادًا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين المطلوب توطينُهم حيث هُمّ.

والذين هرعوا من الخارج، للقتال إلى جانب الثورة الفلسطينية في لبنان، وغالبيتهم ليست من المُثقّفين، كما في الحالة الإسبانية، كانوا غافلين بالفعل عن التوجّه إلى التسوية، فراحوا يُقاتلون من أجلها وهم يعتقدون أنهم يحاربون من أجل تحرير فلسطين. ولذلك لم تَجِد القضية اللبنانية آذانًا صاغية لا في العالم العربي ولا في بقيّة العالم.

ويجب أن يُقالَ أيضًا إنَّ اللبنانيين الذين تصدّوا للوجود الفلسطيني المُسَلَّح، المُتحالِف مع قوى لبنانية وازنة لها أجندتها الخاصة التي لا علاقة لها بفلسطين والقضية الفلسطينية، غلبت عليهم النزعة الفاشية الدموية، فكان ذلك مانعًا أمامَ إقناعِ العالم الخارجي بمنطقهم ومُنطلقاتهم، إن لم يكن بعدالة قضيتهم، فظهروا أمام العالم وكأنهم ينكرون عدالة القضية الفلسطينية التي تَنَكَّرَ لها دُعاةُ التسوية من الفلسطينيين أنفسهم حتى في عزِّ الحرب اللبنانية.

كم من الالتباسات والغشاوات تراكمت في أذهان اللبنانيين، وما زالت تتراكم، إلى درجةٍ أنَّ إسرائيل استخدمتهم للوصول إلى تسويةٍ مع الفلسطينيين، ومَن يدري ربّما تنجح مرة ثانية في استخدامهم للوصول إلى تسوياتٍ مُماثلة مع غير الفلسطينيين!


:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (8)

ذَرائعُ الحَرب

2024/03/06

.كما إنَّ لكُلِّ حركةٍ في العالم أسبابها، فللحروبِ أيضًا مُسَبّباتها التي تكونُ في أحيانٍ كثيرةٍ مُفتَعَلة، وتُشكّلُ ذريعةً للفِعلِ أو للحَرب، ولا يعني هذا عدم وجودِ أسبابٍ جوهريةٍ تُبَرِّرُها، أو تُطلِقُ دينامِيَّتها.

إنَّ الأسبابَ المُباشرة هي هذه: في الحربِ الإسبانية، مثلًا، لم يكن فوزُ الجمهوريين الشيوعيين والاشتراكيين في انتخابات 1936 هو سببَ الحَرب الفعلي، إنّما هو السبب المباشر. أمّا السبب الفعلي فهو وجود القوى اليسارية ذاتها، مما أَطلَقَ عجلةَ الصراعِ الطبقي، مع الإقطاعِ الزراعي، ومع الكنيسة الكاثوليكية ..الداعمة للطبقات العُليا والمدعومة منها.

ومن أسبابها الحقيقية أيضًا التحوّلات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، الناشئة في الإقليم المُجاور لإسبانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، مثل الفاشية الإيطالية بقيادة موسوليني، والنازية الهتلرية في ألمانيا، وصراعهما مع “الشيوعية الستالينية” ومع “الانكلوسكسونية” التي كانت، وما زالت، تُهَيمِنُ على العالم بقيادة بريطانيا ثم الولايات المتحدة.

وكذلك الأمرُ بالنسبةِ إلى الحربِ الأهلية اللبنانية. فالهجومُ الكتائبي على بوسطة عين الرمانة ليس هو السببَ الفعلي للحرب، لكنّه السببُ المُباشِر، أو الفتيل الذي أطلقَ الحربَ من عقالها. أمّا الأسبابُ الفعلية وغير المُباشِرة في اندلاع الحرب فهي عديدةٌ ومُتَشَعِّبة، أبرزها، بالنسبةِ إلى شريحةٍ تأسيسية واسعة من اللبنانيين، التهديد الوجودي للبنان بفعل وجود الكفاح الفلسطيني المُسَلَّح، وانتشاره على كاملِ الأراضي اللبنانية، خلافًا حتى للاتفاقية المعقودة مع الدولة اللبنانية، والمعروفة باسم “اتفاقية القاهرة”، التي سمحت بوجود السلاح الفلسطيني في مناطق جنوبية مُحَدَّدة ومُحاذية لفلسطين المُحتَلّة.

لكنَّ الأمرَ لم يَقتَصِر على هذا التجاوزِ الخطير، بل تعدَّاهُ إلى أمرَين كلُّ واحدٍ منهما يؤدّي إلى الصراع الأهلي. الأوّل، هو امتدادُ انتشارِ السلاحِ الفلسطيني إلى أيدي جماعاتٍ لبنانية في مُختَلَفِ المحافظات، وإلى أيدي جماعاتٍ وافدةٍ إلى لبنان من الخارج بحجّةِ دَعمِ الثورة الفلسطينية. والثاني، استقواءُ تجمّعاتٍ لبنانية بالثورة الفلسطينية لقَلبِ الموازين الداخلية التاريخية، وأبرزها “الحركة الوطنية” بقيادة الزعيم الدرزي الاشتراكي كمال جنبلاط.

والجديرُ بالذِكرِ هنا، على سَبيلِ المُقارنة، أنَّ “الحركة الوطنية اللبنانية” كانت أطلقت برنامجًا إصلاحيًا لتغييرِ الأوضاع القائمة في لبنان آنذاك، يُشبِهُ برنامجَ القوى الجمهورية الاشتراكية في إسبانيا، الذي حظي بدَعمِ الأحزاب الشيوعية في الدول المجاورة، ودعم الاتحاد السوفياتي نفسه بصورةٍ علنية. وهناكَ ما يدلُّ أيضًا على دَعمِ موسكو للحركة الوطنية اللبنانية وقائدها كمال جنبلاط الذي كان يحملُ أرفعَ وسامٍ سوفياتي في ذلك الوقت وهو “وسام لينين”.

وكُنتُ ذكرتُ في كتاب سيرتي الذاتية “علامات الدرب”، الصادر مطلع العام 2013، أنَّ صديقًا للرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس أبلغني أنَّ المُسَلَّحين الفلسطينيين في الجنوب اللبناني كانوا يُطلِقونَ الصواريخ باتجاهِ فلسطين المحتلة من جوارِ المدن والقرى الآهلة، ظنًاً منهم أنَّ ذلكَ يَردَعُ إسرائيل عن ضربِ تلك البلدات خشية ردود الفعل الإعلامية حول العالم. لكن ذلك لم يَردَع إسرائيل عن توجيهِ ضربةٍ قاسيةٍ إلى مدينة النبطية وجوارها، فقام الرئيس الياس سركيس باستدعاء ياسر عرفات قائد الثورة الفلسطينية طالبًا منه أنْ يُوقِفَ مثل هذه التكتيكات، لا سيما أنَّ في الجنوب مناطقَ جبلية وأوديةً كثيرة غير آهلة يُمكنه التحرّك فيها ومنها بحرية، فأجابه عرفات، حسب الرواية، “النبطية ليست أحسن من حيفا”. فردَّ عليه الرئيس سركيس بقوله له: “يعني إذا راحت حيفا، فهل من الضروري ان تروح النبطية. نعم، انا بصفتي رئيسًا للبنان، مؤتمنًا على وحدة أراضيه، أقول لك أنَّ النبطية عندي أغلى من حيفا”.

.لمشكلة هنا أنَّ الثورةَ الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات استهترت بحقوقِ وأنظمةِ الدولِ المُحيطة بفلسطين المحتلة، لا سيما منها لبنان الذي كان الوحيد الذي قدَّم لها قواعدَ ثابتة على الأرض.

:وربّما كان ذلك الاستهتارُ المدمِّرُ حالةً نفسانية وصفها الشاعر الأردني مصطفى وهبه التل (المعروف بلقبه “عرار”) بقوله:

“إنَّ الذي تُسبى مواطنه    تَحِلُّ له السبيَّة”.

.ي إنَّ الذي يَفقُدُ وطنه لا يُبالي بفقدانِ الآخرين لأوطانهم.

لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (7)

خبثُ الغربِ في التغييرِ الديموغرافي

2024/03/05

من المُلفِتِ أنَّ مواقِفَ الدولِ المُصَنَّفة ديموقراطية في الغرب، وأهمّها الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وفرنسا، كانت مُلتَبِسةً في الحرب الإسبانية، وكذلك في الحرب اللبنانية. وإذا سُمِعَ لها صوت، فقد كان صوتًا خافتًا، وفي بعض الأحيان صوتًا شامتًا مُتَهَكِّمًا، كما رأينا في تعليق البريطاني راندولف تشرشل على الحرب الإسبانية بوصفه التحقيري للمتقاتلين بأنهم “داغوس” يفتكون ببعضهم البعض. أو كما نُسِبَ إلى المبعوث الأميركي الى بيروت خلال الحرب اللبنانية، دين براون، قوله لأقطاب “الجبهة اللبنانية”: “ها هي سفن اسطولنا في البحر جاهزة فارحلوا”.

وقد كان من السذاجة أن تُعَوِّلَ القوى الجمهورية الإسبانية على دول الغرب لمجرّدِ اعتبارِها دولًا ديموقراطية، فالمسألة الديموقراطية هي آخرُ همّها. ذلك أنَّ العواصِمَ الغربية، واشنطن ولندن وباريس، كانت تنظرُ إلى الجمهوريين الإسبان على انهم “شيوعيون ماركسيون موالون للاتحاد السوفياتي”، لأنهم كانوا يتلقّون مساعداتٍ علنيّة من حكومة ستالين في موسكو، ومن الأحزاب الشيوعية الأوروبية، وأقواها في ذلك الوقت الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإيطالي.

أمّا في لبنان، فإنَّ الأجندة الغربية، وخصوصًا الأميركية، كانت وما زالت، توطين اللاجئين الفلسطينيين، كما هي اليوم توطين النازحين السوريين أيضًا. وهذا من الأدِلّةِ القويّةِ على أنَّ الحربَ الأهلية اللبنانية ما زالت قائمة بطُرُقٍ أُخرى، كما نُشاهِدُ على المسرح السياسي، والاقتصادي، والمالي، والنقدي، حيث يجري إفقار الشعب اللبناني بصورةٍ مُمَنهَجة.

وقد جاءَ في تقريرٍ لوكالةِ الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) حَولَ مُعَدّلاتِ الإنجابِ والوفيات، وحركةِ الهجرة في العالم، أنَّ مُعدّلَ الإنجابِ السوري هو الأعلى في العالم وقدره 4.4 في المئة، بينما يتناقَصُ الشعبُ اللبناني بسببِ الهجرة وارتفاع معدل الوفيات، بسبب تضاؤل الخدمات الصحية، بنسبة 8.6 في المئة، وهي أعلى نسبة في العالم. فالمُعَدّلُ السوري هو الأعلى من فوق، والمُعَدّلُ اللبناني هو الأعلى من تحت.

ولذلك فإنَّ إبقاءَ الحرب الأهلية اللبنانية مُستَعرةٌ بطُرُقٍ أُخرى، كما هو حاصلٌ الآن، هو الأمرُ الأخطر على الوجودِ اللبناني.

كانت دولُ الغربِ تَعرِفُ أنَّ هتلر في ألمانيا، وموسوليني في ايطاليا، يتدخّلانِ بصورةٍ مباشرة بقواتٍ جويّة وبرّية إلى جانب الجنرال فرانكو في إسبانيا، وتصرّفت وكأنَّ ذلك يُناسبها، كما ثبت في ما بعد عندما استتبَّ الأمرُ لصالح فرانكو، الذي أمر بتصفياتٍ جماعية للجمهوريين بعد الحرب، فاقت في عدد ضحاياها ما سقط في الحرب ذاتها، من غيرِ أيِّ كلمةِ احتجاجٍ من أحد.

إنَّ المشكلةَ الراهنة في لبنان، بفعل الحرب الأهلية المُستَمِرّة، عن عَمْد، وبموافقة دولية كما يبدو من مسألة النازحين واللاجئين، باتت أخطر وأصعب من أن تُعالَجَ من خلالِ الوَضعِ الراهن ورجالاته.

ولهذا، فإنَّ تجدُّدَ الحرب الساخنة في لبنان، بأطرافٍ وأهدافٍ مُختلفة، يزدادُ احتمالًا، وتتلبَّد غيوم إعصاره، لعدم وجود رغبة غربية في وقف التغيير الديموغرافي الحاصل.

لبنان…الحَربُ الأهليَّة المُستدامة (6)

تَدَخُّلُ الخارج وقابِلِيَّةُ الدَّاخِل

2024/03/04

في جميعِ الحروبِ الأهلية، ومن أقدمِ الأزمنة، تَحدُثُ تدخّلاتٌ خارجية بين المُتقاتِلين من الدولِ الإقليميّة المُجاوِرة عادةً، كما رأينا في التدخّلِ الفارسي إلى جانبِ سبارتا ضد أثينا في “حرب بيلوبينيز” في القرن الخامس قبل الميلاد. وهذا أمرٌ طبيعي لأنَّ مثلَ هذه الحروب يُمكنُ أنْ تمتدَّ إلى دولِ الجوارِ فتُزَعزِعُ أمنها، فضلًا عن تدخُّلِ المُهَرِّبين وتجّارِ السلاح.

لكنَّ الحروبَ الأهلية الحديثة تختلفُ من حيث كونها تستدرجُ تدخُّلاتٍ عالمية النطاق، وفي أحيانٍ عديدة قد لا يكون نشوبُها في أيدي القوى المحلّية، بل يُمكنُ أن يكونَ مُفتَعَلًا من قبلِ قوى خارجية كما شاهدنا في السنوات الأخيرة في بعض الدول العربية.

هذا النوعُ من التدخُّلِ الخارجي، وأبرَزُه “التدخّل الوقائي”، و “التدخّل المُفتَعَل” يختلف عن التدخُّلات التي حدثت في حالاتٍ أُخرى كالحالة اللبنانية، أو الحالة الإسبانية، حيث القوى الداخلية المُتصارِعة هي التي استدرَجَت التدخُّلَ الخارجي وَسَعَت إليه لأسبابٍ مختلفة أهمّها إثنان: الأوّل الحاجة إلى تمويلِ الحرب، والثاني هو الحاجة إلى الاستقواءِ بقوّةٍ خارجية لدَحرِ خصمٍ داخلي.

ففي الحَربِ الأهلية الإسبانية، عندما أعلن الجنرال فرنثيسكو فرانكو إنه سوفَ يُدَمّرُ مدينة مدريد العاصمة، ولن يتركها في أيدي الماركسيين، مُستَعينًا بطائراتٍ حربية من ألمانيا النازيَّة ومن إيطاليا الفاشية، أعلن راديو الجمهوريين صرخةَ استنجادٍ ساذجة بالغرب، جاء فيها: “إنَّ الجيوشَ الزاحفة اليوم على مدريد وبرشلونة وفالَنسيا، سوف تزحفُ غدًا على لندن وباريس وواشنطن (من دراسة روبرت كولودني بعنوان “الصراع على مدريد” الصادرة في كتاب عام 1985).

كذلك بثَّ الجمهوريون إذاعاتٍ تُعبّرُ عن فلسفتهم للحرب الأهلية بأنها “الحدود الكونية التي تفصل الحرية عن العبودية” (من كتاب هيو توماس بعنوان “الحرب الأهلية الإسبانية” الصادر عام 1990).

أمّا فلسفة الجنرال فرانكو، فإنّها تُفضّلُ الحربَ الأهلية الشاملة على الحرب العسكرية النظامية الحاسمة. فعندما أخفقَ الجيش الإيطالي الفاشي في اقتحام المعقل الجمهوري في “غوادالاجارا”، قال الجنرال فرانكو لرئيس أركان الجيش الإيطالي: “في الحرب الأهلية، يجري احتلالٌ مُمَنهَجٌ للأرض يرافقه التطهير اللازم، وهذا أفضل من إنزالِ هزيمةٍ عسكرية بجيوش العدو تترك البلاد في النهاية موبوءةً بالأعداء” (من “صحيفة التاريخ المعاصر”، المُجَلّد التاسع، 1974).

أمّا الحرب اللبنانية، فإنّها من البداية أخذت شكلَ الحرب الأهلية التطهيرية، كما عبّرَ عنها الجنرال فرانكو، لأنه لم تكن في البداية جيوشٌ نظامية. فالجيش اللبناني تم تحييده عن الصراع خشية انقسامه وتشرذمه. لكن جيوشًا نظاميةً أُخرى دخلت، أو استُدْرِجَت، إلى ساحة الصراع من غير نتائج حاسمة، منها جيش التحرير الفلسطيني، والجيش السوري، ثم الجيش الاسرائيلي، ثم القوات المتعدِّدة الجنسيات، التي تضمّنت فصائل من الجيش الأميركي (المارينز)، والجيش الفرنسي، والجيش البريطاني، والجيش الإيطالي، وغيرها.

ففي الحَربَين الأهليَّتَين الأهمّ في القرن العشرين، وهما الحرب الإسبانية والحرب اللبنانية، تحوَّلَ البلدان إلى ساحةٍ لصراعٍ عالميٍّ مفتوح. وقد ساهمت قوى إسبانية وقوى لبنانية في استدراج هذا النوع من التدخّلِ الخارجي للاستقواء به على خصومها في الداخل.

وفي الحالتَين دخلت إلى الساحة قوّاتٌ من المُتَطوّعين غير النظاميين، تمثّلت في الحالة الإسبانية بالألوية الدولية التي ضمّت مُتَطوِّعين من جميع انحاء العالم أغلبهم من المُثقَّفين والفنانين للقتالِ إلى جانب الجمهوريين اليساريين. وكذلك الأمرُ بالنسبة إلى الحرب اللبنانية حيثُ دخلَ إلى الساحة مُتطوِّعون من عَرَبٍ وغير عرب إلى جانب الثورة الفلسطينية التي كانت من مُحرّكات الصراع الأهلي اللبناني منذُ البداية.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستدامة (5)

سُقوطُ القِناع في عمليّةِ الإقناع

2024/03/03

المجلس النيابي المُنعَقد خارج بلاده، وبغَيرِ صفةٍ دستورية، لأنه مُمَدِّد لنفسه لعشرين سنة مُتواصلة، لا يستطيع أن يُقنِعَ أحدًا، بأنَّ ما فعله في مدينة الطائف السعودية يُمثّلُ إرادةَ الشعبِ اللبناني، طالما أنَّ ذلك المجلس لم تكن له صفةٌ تمثيلية.

ولذلك جرى، وما زال يجري حتى الآن، التكتّمُ حول حقيقة ذلك الاتفاق، وحقيقة مضمونه. وهذا التكتّمُ بحدِّ ذاته يلغي أي وسيلة إقناعية بدستوريته، أو فلنقل بمناعته أمامَ الطعنِ الجدّي. وهذا ما جعل “الطائفيين”، من طريق الترهيب والترغيب والإعلام، يضفون عليه هالة وهمية من الكمال المانع حتى لمناقشته مناقشة إقناعية حرَّة.

لكن البحر، كما يقول الصيَّادون، دائمًا يُكذِّب الغطَّاس. فلننظر في بعض المسائل البسيطة، من الزاوية الإقناعية:

أُعلِنَ في “اتفاق الطائف” أنَّ عددَ أعضاء مجلس النواب الجديد الذي سيجري انتخابه، ليحلّ محلّ المجلس المُمَدِّد لنفسه عشرين سنة، سيكون 108 نواب، بدلًا من 99 نائبًا حسب قانون ما قبل الحرب. ولكن عندما وضع المجلس إياه قانون الانتخاب الجديد في بيروت، ضربَ عرض الحائط بما اتفق أعضاؤه عليه في الطائف، ورفع العدد من 108 الى 128، ولم يظهر في البلاد أيُّ اهتمامٍ بالأمر او اعتراض عليه.

قرَّرت الحكومة اللبنانية القائمة على ثقةِ برلمانٍ ناقصِ العدد وناقصِ الشرعية، تعيين نواب في المقاعد النيابية الشاغرة بفعل وفاة عدد كبير من قدامى النواب المُمَدِّدين لأنفسهم. فكيف يكون شرعيًا مجلسٌ مُمَدِّدٌ لنفسه عشرين سنة، وعدد لا يستهان به من أعضائه باتوا مُعَيَّنين بمراسيم حكومية، في مخالفة صريحة لأبسط القواعد البرلمانية، وهي أنَّ النائبَ يجب أن يكونَ مُنتَخبًا من الشعب في دائرته بأغلبيةٍ واضحة غير قابلة للطعن.

إذا كانت حجّةُ، أو على الأصح، ذريعةُ تمديد مجلس النواب لنفسه، أنَّ الحربَ الأهلية حالت دون إجراءِ انتخاباتٍ عامة، فأيُّ ذريعةٍ هي التي أملت على المجلس المُنتَخَب في العام 2009، والبلد في حالةٍ من السلام التام في ظل “اتفاق الطائف”، أن يُمدّدَ لنفسه ثلاث مرات حتى العام 2018، وكأن شيئًا لم يكن. وهذا في المنطق، وقياسًا على ذرائع التمديد في خلال الحرب، يعني أنَّ الحربَ الأهلية في لبنان ما زالت مُستَعِرة تحت الرماد ولو كانَ ظاهرها السلام. وكلُّ الذين قبلوا، أو سمحوا، بتلك التمديدات المُستَخفّة بعقول الناس، فلا بدَّ من أن تجري مُساءَلتهم في يومٍ من الأيام، إن لم يكن من المواطنين، ففي سجلَّات التاريخ على الأقل.

كانت الذرائع السابقة تلقي بكامل المسؤولية على “الوصاية السورية” لعجز الطبقة السياسية عن الإقناع، لكنها في الوقت ذاته أظهرت مدى تبعيتها لتلك الوصاية (أو لغيرها) متى أتت.

إنَّ المقاطعة المسيحية لأوّلِ انتخاباتٍ بعد “اتفاق الطائف”، والتي جرت في العام 1992 بقيادة البطريركية المارونية، كانت مقاطعة شكلية سرعان ما تمَّ التراجعُ عنها تاليًا، لأنَّ البطريركية المارونية كانت من أهل الطائف وما زالت.

فلننظر الآن في مسألة القناعة والإقناع من منظار الحرب الأهلية الإسبانية:

بتاريخ 12 تشرين الأول (أكتوبر) 1936 أُقيمَ احتفالٌ في جامعة سالامانكا بمناسبة ذكرى اكتشاف البحّار كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية، بحضور السيدة ماريا مارتينيز–فالديز، زوجة الجنرال فرانثيسكو فرانكو قائد القوات “الفالانجية” اليمينية، وبحضور الجنرال السابق ذكره ميلان استراي قائد الفرقة الأجنبية المُقاتلة ضدّ الجمهوريين. وفي ذلك الاحتفال ألقى عميد الجامعة، وهو استاذ في الفلسفة من منطقة الباسك، اسمه البروفسور ميغيل دو أونامونو، كلمة حول القناعة والإقناع أدهشت كثيرين وفاجأت آخرين. فقد قال في تلك الكلمة: “هنا هيكل العقل والفكر وأنا كاهنه الأعلى، لكن أنتم هم الذين يُدنِّسون حَرَمَهُ المقدَّس. سوف تربحون، لكنكم لن تكونوا مُقْنعين. سوف تربحون لأنكم تملكون أكثر مما يكفي من القوّة الغاشمة، لكنكم لن تكونوا مُقنِعين، لأنَّ الإقناعَ يقتضي امتلاك الحجّة الدامغة. ولكي تمتلكوا حجّةَ الإقناع، يلزمكم شيءٌ تفتقرون إليه، ألا وهو العقل والمنطق والحق في الصراع”.

:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستدامة (4)

حُكمُ الثلاثين طاغِية

2024/03/02

إذا ألقينا نظرةً عابرةً على الحروب الأهلية الكُبرى عبر التاريخ، نَجِدُ أنَّ الحربَ اللبنانية كانت من أطولها وأعقدها. فلنأخُذ على سبيل المثال “حرب بيلوبينيز” الإغريقية التي وقعت بين أعظم حالة ديموقراطية في العالم القديم، (431 ق. م-404 ق. م)، وهي أثينا، وبين سبارتا، وهي ذات حكمٍ أوليغارشي مُستَبِد، حيث كانت الغلبة في البداية لأثينا الديموقراطية لولا التدخّل الفارسي من الخارج، الذي رَجّحَ كفّة سبارتا واطاح الديموقراطية الأثينية، وفَرَضَ على أثينا حُكمًا أوليغارشيًا من ثلاثين رجلًا (بما يشبه الحالة اللبنانية الراهنة بعد الطائف) سُمِّي “حكم الثلاثين طاغية”.

وقد كَتَبَ تفاصيلُ هذه الحرب، في أوّلِ كتابِ تاريخٍ علميٍّ مُفَصَّلٍ ومُوَثَّق، المؤرّخ الإغريقي الكبير ثوكيديدس الذي قال في مقدمته: “إنني أكتبُ هذا الكتاب لجميع الأزمنة”. وهو كذلك.

بعد هذا التحوُّل، ضربَ الفقرُ والمجاعةُ والانحلالُ بلادَ الإغريق كلها، وآلت الأمورُ الى السفلة والأوغاد.

فعندما يجري تطويعُ الحالةِ الديموقراطية البرلمانية على هذا النحو، كما حَدثَ في مؤتمر الطائف بشأن الحرب اللبنانية، فإنَّ مآلَ الأمورِ بعد ذلك يُصبِحُ معروفًا إلّاَ للذين ينظرون ولا يُبصِرون، ويسمعون ولا يفقهون.

لقد سقتُ هذا المثال لأنَّ الحربَ اللبنانية الحديثة والحربَ الإغريقية القديمة مُتشابهتان في إطالةِ أمَدِ الحرب، وفي التدخّل الخارجي، وفي المناخ السياسي.

لكن المهزلة البرلمانية التي أوصلت لبنان الى “اتفاق الطائف”، ومن ثمَّ إلى الوضع الراهن، هي الجديرة بالبحث، لتأكيد عدم شرعية الوضع القائم الذي يشبه “حكم الثلاثين طاغية” في أثينا بعد التدخّل الفارسي في الحرب الإغريقية.

أوّلًا، ما كانَ يجوزُ لمجلسٍ تشريعي وطني أن يجتمعَ في خارج بلاده لتقريرٍ أمرٍ داخلي.

ثانيًا، ذاك المجلس نفسه كان فاقدًا للشرعية لأنه غير مُنتَخَب، وقد مدَّد لنفسه نحو عشرين سنة، اي أكثر من أربعِ دوراتٍ انتخابية. فكلُّ ما صَدَرَ عن ذلك البرلمان الذي انتهت مدّته الدستورية في العام 1976، هو غير قانوني وغير شرعي بعد انتهاء ولايته الدستورية في ذلك التاريخ.

فكلُّ تشريعٍ صدرَ عن مجلسٍ نيابي بعد انتهاء ولايته الدستورية الطبيعية، بما في ذلك انتخاب الرؤساء، والقوانين، و”اتفاق الطائف” نفسه، هو تشريعٌ باطلٌ ولو تمَّ التوافقُ عليه بين جميع أمم الأرض. هذا ليس تشريعًا أو انتخابًا، بل هو فُرِضَ بالقوّة القاهرة التي لا تُقيمُ وزنًا للإرادة الوطنية. ولذلك بقيت هذه المهزلة البرلمانية سارية إلى اليوم، من التمديدِ للمجلس النيابي نفسه، إلى التمديد لرؤساء الجمهورية، بما في ذلك انتخاب بعضهم خلافًا للدستور.

ولذلك لا يجوز القول بأنَّ النظامَ القائم في لبنان، منذ الحرب الأهلية، هو نظامٌ برلماني حقيقي. وقد نشأ مثل هذا الجدل بعد الانتخابات الإسبانية التي أدّت إلى الحرب الأهلية في العام 1936، حيث كتبت جريدة “تايمز” البريطانية تقول (بتاريخ 10 آب/أغسطس 1936): “قد يكون أنَّ نظامَ الحُكمِ البرلماني الذي يُناسِبُ بريطانيا العظمى، لا يُناسِبُ دولًا كثيرة غيرها. فالحكومة الإسبانية الأخيرة حاولت الالتزامَ بنوعٍ برلماني من الحكم الديموقراطي، من غير أيِّ نجاحٍ يُذكَر”.

وها هو العالَمُ كلّهُ شاهدَ على الشاشات المهزلة البرلمانية اللبنانية ثلاث عشرة جلسة نيابية في محاولةٍ لانتخابِ رئيسٍ للجمهورية من غير جدوى، لأنَّ ما بُنِيَ على باطلٍ فهو باطِلٌ.

:لبنان…الحربُ الأهليَّة المُستدامة (3)

“عقائديَّةُ الحرب”

2024/03/01

لا يُمكِنُ لأيِّ حربٍ أهلية ان تَستَعِرَ من غيرِ تَعبئةٍ عقائدية غايتها حشد الناس في مزاجِ القتال حتى الموت ضد الفريق الآخر المنازع له على رقعةِ أرضٍ واحدة. فالعقائدية هنا ليس بالضرورة أن تكون عن قناعة، لكنها أداةٌ من أدواتِ الحرب كالمال والسلاح.

لكن أنجع العقائد للحشد في الحروب الأهلية هي العقائد الدينية، أو الطائفية، لأنها تلغي إمكانية التفكير العقلاني المُطفىء لنار التطرُّف. وقد شهد المسرح الأوروبي في الحروب الأهلية الدينية، المعروفة باسم “حرب الثلاثين سنة” في القرن السادس عشر، نماذج عديدة من هذا التطرّف العقائدي المُغَذّي للحروب الأهلية.

ففي تلك الفترة من القرن السادس عشر كان القَسَمُ الرسميُّ عند تتويج الملك الفرنسي ينصُّ على ما يلي: “أُقسمُ بأن أُحافِظَ على الديانة الكاثوليكية واستبعاد أي ديانة اخرى”. بل إنَّ الملك الفرنسي هنري الثاني قال اثناء توقيع معاهدة “كاتو-كامبريسيس” في شهر نيسان (أبريل) 1559: “أقسم لو أنني أستطيع إنهاء نزاعاتي الخارجية، لجعلتُ الشوارعَ تسيلُ فيها دماء ورؤوس الكلاب اللوثريين الأشرار”.

طبعًا، الحروب الأهلية لها أسبابٌ أخرى غير المسائل الدينية، لكن الدين يجري استخدامه كسلاح في الحرب، أو كأداةٍ للحشد والتحريض، من أجل تضليل البسطاء والمُغَفَّلين والسُذَّج من الناس لتسهيل جعلهم وقودًا لحربٍ لا علاقة لهم بها، وليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، فيدفعون الثمن راضين قانعين لتحقيق مصالح قادتهم.

ولذلك، فإن عقائدية الحرب الأهلية هي في معظم الحالات مُجرّد أداةٍ للتضليل والتحريض، وليست لها علاقة حقيقيَّة أو جدّية بجوهر الصراع او أسبابه الفعلية.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسائل العقائدية الدينية في الحروب الإسلامية المُعاصِرة، من الحركة الوهّابيَّة في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر، الى الحركة المهديَّة في السودان في القرن التاسع عشر، ومن حركة “الإخوان المسلمين” في القرن العشرين إلى حركات العنف والتفجيرات الانتحاريَّة التي ظهرت في مطالع القرن الواحد والعشرين.

وهذه سمةُ واضحة في الحالة الطائفية المُستَحكِمة بلبنان، حيث أبناء الطوائف هم مجرّد أدوات لمصالح لا علاقة لهم بها، ويُشَكّلون وقود الحرب الأهلية إذا اقتضى الأمر، سواء كانت تلك الحربُ ساخنةً، كما في الحرب التي امتدت من 1975 إلى 1990، أو باردة كما هي في الوقت الحاضر، وأدّت إلى سرقة أموال وودائع جميع اللبنانيين السُذَّج والبسطاء والمُغفَّلين، في مختلف الطوائف كافةً.

:لبنان… الحرب الأهليَّة المُستدامة (2)

سلاحُ نَشرِ الإرهاب

2024/02/29

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعاً شائكاً يتعلَّق بالأسباب والظروف التي جعلت من لبنان بؤرة لحروب أهلية متواصلة منذ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديم الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحو مقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجل استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان مسرحاً لحروب أهلية مستدامة، وبأشكال مختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعد والتنابذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، وربما بطرق أخرى مختلفة. كما تطرح إشكاليات التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظراً لارتباط بعض المكونات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

في الحروب الأهلية عمومًا، يُشَكّلُ الإرهابُ عُنصرًا أساسيًا من عناصر الصراع بين المُتقاتلين. والغاية من الأعمال الإرهابية ليست عسكرية او ميدانية، بل هي نفسية لتَرويعِ الخَصمِ وإحباطه وشَلّ إرادته. ولذلك تكونُ هذه الأعمال وحشيَّةً، وهمجيَّةً، ومروِّعةً، بغير أي وازعٍ إنسانيٍّ، أو أخلاقيٍّ، أو ديني.

ويتذكّرُ اللبنانيون جيدًا اليوم الذي جرت فيه أعمالُ قَتلٍ جماعية في بداية الحرب أواخر العام 1975، والمعروف بيوم “السبت الأسود”، عندما قامت جماعاتٌ مُسَلَّحة بعملياتِ قتلٍ عشوائية، في منطقة مرفَإِ بيروت وحواليها، ضدّ أناسٍ فقراء أو عمّال وموظّفين لا علاقة لهم بالسياسة، أو بالقوى المتصارعة، بل لمجرّد أنهم يحملون هوية طائفية مختلفة، وذلك لترويع عموم أهالي تلك المناطق أو تهجيرهم. كذلك فعل الفريق الآخر عندما هاجمت فرقٌ مسلّحة مدينة الدامور الساحلية واستباحتها ونهبتها وقتلت وهجّرت أهاليها قاطبةً.

وقد حدث مثل ذلك وأفظع منه في الحرب الأهلية الإسبانية، ومن بدايتها أيضًا، كما يُستَدَلُّ من الوقائع التالية:

في صيف العام 1936، أعلن الجنرال إميليو مولا القاعدة الإرهابية للحرب، بقوله: “إنه من الضروري إشاعةَ جوٍّ من الإرهاب. علينا أن نخلقَ انطباعًا بأننا سادة الساحة”. (من كتاب انطوني بيفور بعنوان “الحرب الأهلية الاسبانية” الصادر عام 1982). وقد شَكّلَ الفريق الوطني (الفالانج)، من بداية الحرب، فرق إعدام ميدانية للفتك بأعضاء الفريق الجمهوري المعادي، وكذلك فعل الفريق الجمهوري.

وتجدرُ الملاحظة هنا أنَّ مثلَ هذه التكتيكات طوّرتها في السنوات الأخيرة القوات الانتحارية الإسلامية المتطرّفة في العراق وسوريا لزيادة حجم ودوي العمليات الإرهابية من طريق السيارات المفخَّخة والأحزمة الناسفة، وغايتها قتل وتشويه أكبر عددٍ من الناس الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالصراع الدائر، أو بمحرِّكيه الظاهرين والمُستترين.

من الأمثلة التي أحدثت صدى عالميًا مدويًا حادثة إعدام الشاعر والمسرحي الإسباني الكبير فيديريكو غارسيا لوركا، صاحب المسرحية الشعرية الخالدة “عرس الدم”، ومن غير أيِّ محاكمة، في مدينة غرناطة. بل إن قاتله “الفالانجي” أعلن أنه، بعد إعدامه، أطلق عليه رصاصتين في مؤخرته لزعمه بأنه كان من المثليين!

راندولف تشرشل، نجل الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، عبَّر عن النظرة البريطانية إلى الحرب الأهلية الإسبانية بقوله: “كثيرون من “الداغوس” يقتلون بعضهم البعض”. وكلمة “داغوس” هي تعبير عامي (شبه عنصري) للدلالة على شعوب جنوب أوروبا المتوسطية، مثل الإسبان والبرتغاليين والطليان، باعتبارهم في مرتبة أدنى من شعوب أوروبا الشمالية. وربما قصد أنهم شعوب همجية تفتك ببعضها البعض.

تمجيد الموت. مع أنَّ المتطوعين في الفرقة الأجنبية المقاتلة في صفوف الوطنيين كان من بينهم كثيرون من المثقّفين، فإنهم اختاروا لقواتهم شعار “يعيش الموت”، الذي ابتدعه مؤسس تلك الفرقة الجنرال ميلان استراي (من كتاب بول برستون بعنوان “الرفاق! صور من الحرب الأهلية الإسبانية”).

وعلى بشاعة هذا الشعار، فقد أثار اشمئزاز فريق من الكتاب والفنانين الذين انخرطوا في الحرب إلى جانب الجمهوريين مُتَطَوِّعين من كلِّ انحاءِ العالم، كما اثار إعجاب بعضهم الآخر.

لبنان…الحرب الأهليَّة المُستدامة :(1)

حَربُ اللبنانيين وحَربُ الإسبان

2024/02/28

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسباب والظروف التي جعلت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهليةٍ مُتواصِلة منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى اليوم. ويجري فيها تقديم الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجل استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعد والتنابذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، وربما بطرقٍ أخرى مختلفة. كما تطرح إشكاليات التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعضِ المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

قديمًا وحديثًا، وقعت في أنحاءٍ عديدة من العالم مئاتٌ من الحروب الأهلية الطاحنة والمُدَمِّرة لأسبابٍ عديدة ومختلفة، لكن معظمها لم يَطُلْ كثيرًا. ويُمكِنُ القول إنَّ الحربَ الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) هي من أطولها زمنيًا إن لم تكن أطولها على الإطلاق (وما زالت مستمرة بطرُقٍ أخرى). والملاحظ، في جميع الحروب الأهلية القديمة والحديثة، أنَّ كلَّ حربٍ منها تُختمُ على زَغَلٍ بتسوياتٍ مُلَفَّقة، من غيرِ مُصارحة بأدقِّ التفاصيل، لتُشَكِّل اعترافًا بالمسؤولية، لا تؤدّي إلى مصالحة حقيقية مانعة لعودة الحرب، أو حتى لاستمرارها بطُرُقٍ أُخرى مانعة لتسويةٍ ثابتة ونهائية غير قابلة للجدل والطعن.

ومن بين الحروب الأهلية الحديثة، اخترتُ الحربَ الأهلية الإسبانية (1936 – 1939) للمقارنة بالحرب اللبنانية، مع أنها كانت أقصر منها زمنيًا بكثير، إنْ لجهة الفظاعات الهمجية التي ارتُكِبَت فيها، أو لجهة حجم التدخّلات الخارجية في مجرياتها الميدانية، وذلك من خلال ما ورد عنها في كتاب “التاريخ في مقتطفات”، الصادر في لندن عن دار “كاسل” للنشر في العام 2004 (الذي يشمل خمسة آلاف سنة من التاريخ العالمي). وفي ما يلي أبرز أوجه المقارنة:

القطبان الرئيسيان في الحربَين الإسبانية واللبنانية اسمهما “حزب الكتائب” (الفالانج). والقول الشائع في لبنان ان الشيخ بيار الجميل الجدّ عندما أسس “حزب الكتائب اللبنانية” استلهم في ذلك تجربة حزب “الفالانج” الإسباني، مما عزَّز الزعم، المُغرِض ربما، أنَّ “الفالانج اللبناني” تأسّس على فرضيّة حتمية الحرب الأهلية.

استحضارُ التحريض الديني لإعطاءِ مُبَرِّرٍ وجودي للحرب، كما ورد على لسان مطران برشلونة أثناء التصويت في انتخابات شباط (فبراير) 1936، مما أطلقَ شرارة الحرب الأهلية بفوز أحزاب الجبهة الشعبية اليسارية، التي استصدرت تشريعات جذرية أهمّها الإصلاح الزراعي، ما استفز كبار مالكي الأراضي والكنيسة الكاثوليكية. (هنا أيضًا تصحُّ المُشابهة بين برنامج “الجبهة الشعبية الاسبانية” التي ضمّت كل أحزاب اليسار، وبين برنامج “الحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة كمال جنبلاط، والتي ضمّت أيضًا جميع أحزاب اليسار).

فقد قال مطران برشلونة في موعظته قبيل الانتخابات: “إنَّ كلَّ صوتٍ للمُرَشَّحِ المُحافِظ هو صوتٌ للمسيح”!

إثارة المسألة الديموقراطية. في المجلس النيابي الإسباني السابق، في شهر حزيران (يونيو) 1936، وَقَفَ خوسيه ماريا جيل روبلز، زعيم التحالف الكاثوليكي لأحزاب يمين الوسط، ليُعلِن: “إن إسبانيا في فوضى وتخبُّط، ونحنُ اليوم نحضر جنازة الديموقراطية”. (من كتاب رونالد فريزر “دم اسبانيا: تجربة الحرب الأهلية 1936 – 1939” الصادر في العام 1979).

الإشارة أو الشرارة. يتّفق اللبنانيون على أنَّ أول إشارة أو شرارة للحرب الاهلية هي الهجوم الكتائبي المسلح على بوسطة عين الرمانة في يوم 13 نيسان (أبريل) 1975، وقتل ركَّابها من الفلسطينيين. أمَّا في إسبانيا، فقد كانت الإشارة رسالة إذاعية مُشَفَّرة بثَّها الجنرال إميليو مولا تقول: “في جميع أنحاء اسبانيا الجوُّ خالٍ من الغيوم”، مُطلِقًا بذلك بداية الانتفاضة الوطنية التي بها بدأت الحرب الأهلية في 18 تموز (يوليو) 1936. (من كتاب إيفان مايسكي بعنوان “ملاحظات اسبانية” الصادر في العام 1966. والكاتب كان سفيرًا للاتحاد السوفياتي في لندن في وقت اندلاع الانتفاضة العسكرية في المناطق الإسبانية من المغرب العربي، وامتدادها تاليًا إلى البرِّ الإسباني).

سعد الحريري: ما له وما عليه (الأخيرة)

فتح الثغور من باب" النأي بالنفس"

26/ 2 / 2024

 

لم تطل المصالحة التي أجراها سعد الحريري مع الحكم السوري كثيراً، لأن التحضير للحرب في سوريا، بهدف تغيير النظام القائم في دمشق، داهم معظم دول الجوار السوري. كانت هناك تخمينات بأن نجاح ما سُمِّي "الربيع العربي" في قلب الأنظمة القائمة آنذاك في تونس، وليبيا، ومصر، ربما سيواصل عصفه في بعض الدول العربية الأخرى، وتحديداً في الدول العربية الإفريقية. قلَّةٌ من المراقبين خطر لهم، في ذلك الوقت، أن "عاصفة الربيع العربي" ستهب على سوريا.

ومن العوامل التي جعلت المراقبين يستبعدون نجاح عملية من هذا النوع في سوريا، قوة وتماسك الجيش السوري، وتجذُّر النظام السياسي القائم هناك قرابة نصف قرن تقريباً، ووجود القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، مما سيجعل روسيا طرفاً في الموضوع، من مشاركة عسكرية مباشرة على الأرض، الى خوض صراع على نطاق عالمي.

وعندما بدأ التحرك باتجاه سوريا، وتوزعت الأدوار الإقليمية، الأطلسية والخليجية، صار لزاماً على سعد الحريري أن يأخذ المسار الخليجي (بصفته السعودية)، مما جعل القوى اللبنانية الموالية لسوريا، أن تنسحب من حكومته، فسقطت في لحظة وجوده مع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما في البيت الأبيض. وهكذا انتقل الحكم في لبنان الى الرجل المتمرس بملء الفراغات، نجيب ميقاتي، الذي شكل حكومته تحت شعار تضليلي هو "النأي بالنفس".

  وكان هذا الإعلان عن "النأيِ بالنفس"، في الحكومة اللبنانية البديلة عن حكومة الحريري المستقيلة، مريحاً للحريري، لأنه لو بقي رئيساً للحكومة وقتئذٍ، لما كان في مقدوره أن يسمح بفتح الثغور اللبنانية على سوريا، ولأنَّ أحداً لن يلحظ فتح الثغور في ظل حكومة شعارها "النأي بالنفس". وقد لعبت قوى 14 آذار / مارس، المحسوبة على الحريري، أو المحسوب هو عليها، دوراً في التضليل الهادف الى التغطية والتعمية، بأن نكرت وجود قوات من الإسلاميين التكفيريين المتطرفين في الجرود الشرقية على الحدود مع سوريا، بل قام ممثلون عن 14 آذار / مارس بزيارات الى بلدة عرسال في تلك الجرود لإثبات عدم وجود هؤلاء التكفيريين.

وبعدما انكشفت الأمور في العلن، وصارت بواخر السلاح، وقوافل الإرهابيين تمر عبر موانئ وثغور لبنانية، مما وضع لبنان أمام خطر حرب أهلية جديدة، ابتعد نشاط الحريري عن لبنان، واتخذ حزب الله في المقابل خطوة مماثلة بأن اختار أن يسدَّ الثغور اللبنانية المفتوحة على سوريا من الجانب السوري، لأن سدَّها من الجانب اللبناني كان سيؤدي الى تصادم داخلي ينذر بحرب أهلية (سنيَّة – شيعيَّة هذه المرة) أخطر فتكاً بلبنان من الحرب الأهلية السابقة. ولهذا أعلن السيد حسن نصر الله الأمين العام ل"حزب الله"، موجهاً خطابه الى الفريق المعارض، ومنهم "تيار المستقبل"، بقوله: إن من يريد أن يقاتلنا فليقاتلنا على الأرض السوريَّة".

بقي سعد الحريري في موقفه المعارض للنظام السوري، وبقي نشاطه في هذا الاتجاه، لكن ليس من الأراضي اللبنانية، وليس من الأراضي السورية أيضاً، بل انتقل نشاطه الى الثغور التركية، في منطقة الحدود بين تركيا وسوريا، ممثلاً بالنائب عقاب صقر عضو كتلته النيابة. وعندما انكشف نشاط هذا الأخير الى العلن، أعلن أنه وجوده على الحدود التركية "غايته توزيع البطانيات وعلب الحليب" على المحتاجين في سوريا. وتلك صيغةٌ لنفي تعاطيه مع المسلحين المعارضين للنظام السوري، من باب "توزيع السلاح والمال".

وقد يكون من باب التخمين الافتراض بأن ما أصاب سعد الحريري في المملكة السعودية قبل سنوات، ونقل مقرِّه من المملكة الى دولة الإمارات، يتعلَّق في جانب منه بما حدث خلال الحرب السوريَّة. وحتى هذا الانتقال من الرياض الى أبو ظبي، يبدو وكأن فيه "قطبةً مخفيَّةً". ذلك أن محمد بن سلمان، الرجل القوي في السعودية، ومحمد بن زايد الرجل القوي في الإمارات، كانا في ذلك الوقت على تفاهم تام وكأنهما توأمٌ. وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن اعتبار انتقال الحريري الى أبو ظبي، أنه يحمل، تأويلاً في غير محله.

يُضاف الى ذلك، أن دولة الإمارات والمملكة السعودية كانتا في طليعة الدول الخليجية التي سارعت الى إعادة فتح سفاراتها في دمشق، إيذاناً بالمصالحة مع النظام السوري، والدليل على ذلك أنَّ الرئيس السوري بشار الأسد قام، منذ سنتين (19 آذار / مارس 2022) بأول زيارة له الى دولة عربية منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011. كما حضر القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في شهر تشرين الثاني الماضي في الرياض، عاصمة المملكة السعودية، برئاسة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

وعلى هذا الأساس، يمكن القول بأن سعد الحريري، من مقره الراهن في أبو ظبي، له مكانٌ غيابيٌ محفوظٌ في المملكة السعودية، واستطراداً، ليس هناك ما يمنع أن يكون له موقعٌ غيابيٌّ في دمشق متى حان وقته. وبالتالي، يمكن الاستنتاج، ولو بصورة أوَّليَّة، بأن الزيارة الأخيرة لسعد الحريري الى بيروت بمناسبة ذكرى اغتيال والده، هي بمثابة "بروفة" للعودة الى لبنان بصورة نهائية. ومن هذا القبيل، كانت بمثابة "تمرين" لتنشيط قواعده الشعبية وإعادة تأهيلها.

وإذا صحَّ هذا التقدير، فإنَّ سعد الحريري يكون قد اختار هذه المرة أن يكون لبنانياً، بمعنى أنه سوف يودِّع شخصه "الخليجي"، ويأتي بعائلته للإقامة في بيته في بيروت. وكثيراً ما تساءل اللبنانيون أثناء وجود سعد الحريري في الحكم باستغراب، كيف أنهم لم يشاهدوا وجه زوجة وأبناء رئيس حكومتهم في بلدهم، وكأنهم لا رابط بينهم وبين الشعب اللبناني، حتى أنَّ بعض المغرضين زعم أن إقامة عائلة سعد الحريري خارج لبنان هي "إقامة جبريَّة"، أو أنهم "رهائن" لضمان سلوكه السياسي.

كلُّ اللبنانيين اليوم يُرحبون بسعد الحريري عندما يعود إليهم لبنانياً مثلهم.

www.sferzli.com

  

 

سعد الحريري: ما له وما عليه (5)

خطوات عاثرة في مسيرة حائرة

23/ 2 / 2024

 

إذا جاز اختصار وصف المسيرة السياسية لسعد الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، حتى الآن، بكلمتين، فإنه يمكن القول بأنها كانت "مسيرة حائرة". وبين مرحلة ومرحلة، حيث كان يرى ضرورة أن يبتعد عن رئاسة الحكومة، بدا كأنه بحاجة دائمة الى مرشح بديل عنه يُدفئ له المقعد الى حين تسمح الظروف بعودته اليه. والمرشحان اللذان قاما بمهمة "تدفئة مقعد الحريري" في السراي، فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي، أثارا جدلاً حين استطاب لهما القعود على ذلك الكرسي الدافئ، فاشتط بهما المقام، الى درجة تجاوز الحدود الدستورية الى درجة مُنفِّرة.

فؤاد السنيورة قضى سنواته في السراي يحكم بدون أي ميزانية للدولة، وبدون أي قطع حساب، مما جعل الميزانيات الهزيلة التي أُقرت بعده، فضلاً عن مخالفتها للدستور، مجرد أرقام عشوائية، فكانت أقرب الى "ميزانية دكنجية" منها الى ميزانية دولة. أما نجيب ميقاتي فإنه يحكم الآن بميزانية "وهمية" لدولة مفلسة، بل تعاني من إفلاس مزمن، جرت تغطيته بتلبيس الطرابيش.

فقد اختار سعد الحريري، فور اغتيال والده، عدم الاقتراب من رئاسة الحكومة، لعدم خبرته آنذاك بالعمل السياسي، مفضلاً أن يتعلم السباحة في بحر السياسة اللبنانية المتلاطم عن بُعد، بمراقبة صيادين بملابس سبَّاحين، فكانت تلك أول خطوة عاثرة للحريري، قبل أن يُدرك أن البحر هو المعلم الأكبر للسباحة، وبالتالي كان عليه أن يغطس فيه من البداية.

الصيادان السنيورة والميقاتي، نسيا سعد الحريري، وظنا أنهما باتا يملكان البحر، فراحا يُبلِّطانه. حَكَمَا بدون مسؤولية، لأن المسؤولية في أذهان اللبنانيين يتحملها الحريري. وهنا كانت الطامة الكبرى، عندما بدأ التلاعب والتزوير في قضيَّة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وتسليم الملف الى قوى أجنبية لها مصالح كبرى في العالمين العربي والإسلامي، وهي مصالح كانت، وما زالت، تقتضي إثارة صراع سنِّيٍّ – شيعي في لبنان والمنطقة. وكادت هذه الفتنة تقع في لبنان يوم السابع من أيار / مايو من عام 2008 عندما حاولت حكومة السنيورة البتراء، (لعدم وجود أعضاء فيها من الطائفة الشيعية)، وضع اليد على الشبكة الهاتفية الأرضية الخاصة التي أقامها "حزب الله" لحماية المقاومة من التنصت الخارجي على اتصالاته بين كوادره وقياداته.

ومن حسن الحظ أن شرارة تلك المحاولة، التي جعلت الحرب الأهلية في لبنان قاب قوسين أو أدنى، أُطفأت في الحال، بفعل عدم رغبة سعد الحريري في مثل هذه الفتنة، وبعمل شبه عسكري حاسم من قبل "حزب الله" وبعض حلفائه (وما زال يُعيَّر به الى اليوم)، ثم استُكْمِلَ ذلك على الفور بعمل سياسي وديبلوماسي، نتج عنه اتفاق الدوحة برعاية دولة قطر، حيث تم الاتفاق على انتخاب العماد ميشال سليمان، قائد الجيش آنذاك، رئيساً للجمهورية، وهو الذي وصفته تسريبات "ويكي ليكس"، عن لسان وزير الدفاع اللبناني الأسبق الياس المر، بأنه "أضعف ضابط في الجيش اللبناني".

تلك المرحلة الابتدائية في مسيرة سعد الحريري السياسية، كانت مليئة بالخطوات العاثرة، وبعضها استُدْرِجَ اليه، مع أنها مكتظَّة بالمخالفات الدستورية والميثاقية أقدمت عليها الحكومةُ المحسوبةُ عليه، وكانت أيضاً مشحونةً بالتطرف الفئوي من فريق 14 آذار، وهو الفريق الذي لم يكن سعد الحريري قادراً أن يميز نفسه عنه، كما جرى تالياً، لأن جرحه في ذلك الوقت كان ما زال حامياً. وقد أساء فريق 14 آذار للحريري بتأييده الغوغائي له، أكثر مما أساء اليه خصومه في معارضتهم لفريقه، بما في ذلك صدامات السابع من أيار / مايو 2008.

في ذلك الوقت كان العداء لسوريا في رأس نشاط الفريق المحسوب على سعد الحريري، بل إن أول جهة وجَّه اليها ذاك الفريق التهمة باغتيال رفيق الحريري كانت سوريا. لكن الحريري ما لبث أن تراجع عن هذا الموقف، ليس فقط لأنه أدرك أن تلك "الشطحة" كانت خطوة عاثرة، بل لأن الشراكة السورية – السعودية التي مكَّنت المغفور له والده من الحكم المتواصل في لبنان، كانت ما زالت قائمة، ولو بحدها الأدنى، قياساً على ذروتها خلال وبعد حرب الخليج الأولى (حرب الكويت) بين الرئيس السوري حافظ الأسد والعاهل السعودي فهد بن عبد العزيز، وبقيت قائمة بقوة الاستمرار خلال مرحلة حكم الملك عبد الله، سواء بالوكالة في عهد فهد، أو بالأصالة يوم اعتلى العرش بعد وفاة شقيقه الملك السابق.

بل إن سعد الحريري، على ذلك المفترق السوري، بدا وكأنه اكتشف مكمن قوَّة موقف والده النابعة من الشراكة السورية – السعودية في لبنان. ولذلك استجاب في أول حكومة ترأسها بعد اغتيال والده بسنوات عديدة، لمتطلبات تلك الشراكة بأن قام بزيارة رسمية الى دمشق حيث استقبله الرئيس بشار الأسد استقبالاً حافلاً، وأرفق تلك الزيارة بإعلان منشور في صحيفة سعودية تراجع فيه عن اتهام سوريا باغتيال والده. وكانت تلك أول مسافة ملحوظة ابتعد بها سعد الحريري عن حلفائه السابقين في 14 آذار / مارس، أو هو ربما استذكر كلمة عمته السيدة بهيَّة الحريري، يوم مغادرة الجيش السوري لبنان أواخر شهر نيسان / أبريل من عام 2005، ومفادها حرفياً: "لا نقول وداعاً سوريا، بل نقول الى اللقاء".

وفي هذه العبارة قولان: قولٌ فسَّرها على أنها تجديد للعهد مع النظام القائم في دمشق، كما كان قائماً خلال حكم الرئيس حافظ الأسد، وقولٌ فسَّرها على أنها إشارة الى نظامٍ بديلٍ آتٍ الى سوريا قريباً لكن لم تأتِ ساعته بعد.

زيارة سعد الحريري الى دمشق بضيافة بشار الأسد، تنبئ بالتفسير الأول، أما الخطوة العاثرة التي تراجع فيها الى مواقفه السابقة، فتنبئ بالتفسير الثاني، حيث عمل سعد الحريري بموجبه، فخسر الرهان.

www.sferzli.com

  

 

سعد الحريري: ما له وما عليه (4)

عودة الى الماضي أم بداية جديدة

21/ 2 / 2024

 

كان موضوع عودة سعد الحريري الى لبنان والى قواعده، مدار بحث في أوساط لبنانية مختلفة خلال الأيام الأخيرة منذ احتفال الذكرى التاسعة عشرة لاغتيال والده الشهيد رفيق الحريري. لكن القائلين بالعودة، أو المطالبين بها، أو المتوقعين لها، لم يعلنوا، أو ربما لم يفكروا، بالعودة الى ماذا. ففي أذهان معظم هؤلاء أن فترة تعليق النشاط، أو فترة الاعتكاف في الخارج، ما هي إلاَّ مجرَّد انقطاعٍ مؤقت، تعود بعدها مجاري "تيار المستقبل" الى سابق عهدها.

لكن مثل هذه العودة لا تلغي الأسباب الحقيقية التي أملت الاعتكاف وتعليق النشاط، فضلاً عن أنها تطرحُ الكثير من الأسئلة، وربما المساءلات، الحساسة حول ما جرى منذ استقالة الحريري الأولى من رئاسة الحكومة من إذاعة سعودية، الى استقالته الثانية خلال "ثورة تشرين"، وصولاً الى قرار التعليق ومغادرة البلد، وقرار عدم المشاركة في الانتخابات النيابية التي أنتجت المجلس الحالي.

فالوضع النيابي القائم حالياً، هو في جانب كبير منه نتيجة لخروج الحريري من الساحة. ولو خاض الحريري الانتخابات الماضية، لما أمكن لمرشحي المنظمات غير الحكومية أن يفوزوا بعدد من المقاعد يمنع أي فريق سياسي أساسي أن يشكِّل أكثرية نيابية مع حلفائه، ومن هنا نشأت استحالة انتخاب رئيس للجمهورية، مع ما استتبعه ذلك من انحلال للدولة وللاقتصاد الوطني.

ومن الصعب على أي مهتم جدي بالوضع اللبناني، في الداخل أو في الخارج، أن يُصدِّق أن سعد الحريري استقال واعتكف طوعاً. وبالتالي، تكون عودته إذا عاد، في هذه الحالة، مشروطةً، أو مقيَّدةً بأسبابها الحقيقية غير المعلنة. وربما كان ذلك من الموانع الأساسية، أو حتى المانع الأساسي، لطرح الموضوع على بساط البحث والمناقشة الحرَّة، داخل "تيار المستقبل"، أو في الندوات العامة ووسائل الإعلام.

فإذا كان الاعتكاف غير واضح الأسباب حتى الآن، فإنه يبقى غير ذي معنى، وتكون العودة الى الماضي بصورته ساعة الاعتكاف، هي الأخرى غير ذات معنى. وهذا الاستنتاج المنطقي، لا يوجد غيره له معنى في غيابِ سببٍ جوهريِّ مقنع، ليس فقط للاعتكاف، بل لدور سعد الحريري في الحياة السياسية اللبنانية من بدايته.

إن العودة الى الماضي، إذن، لا معنى لها، ولا تفي بالمطلوب الوطني، أي عودة التوازن بين مكونات الكيان اللبناني، وهذه العودة التي تستدعي التوازن الوطني لا تقوم ولا تدوم إلاَّ ببداية جديدة. لكن البداية الجديدة لها مستلزمات فكرية وتنظيمية قد لا يكون بعضها متوفراً، في الحالة الراهنة، ل "تيار المستقبل"، على أنه من الممكن أن تسير البداية الجديدة، بعقد مؤتمر وطني للتيار يُجري مناقشة مستفيضة للمسيرة السابقة، على معايير نقديَّة واضحة، حتى لو كانت السلبيات طاغية على الإيجابيات، فتكون البداية الجديدة قائمة على وضع خطوط عريضة لعقيدة حزبية تضم الأطر التنظيمية التي تسمح بمزيد من التطور.

وهذه البداية الجديدة، بالتالي، سوف تنعكس على بقية الأحزاب القائمة، ومنها أحزاب متجمدة أيضاً في الماضي، من حيث إن لبنان نفسه بحاجة الى بداية جديدة. فلا بد للبدايات الجديدة، بالنسبة الى لبنان والى أحزابه السياسية، من أن تبدأ في مكان ما.

وقد جُرِّبت البداية الجديدة من فوق، أي من رأس الدولة، في عهد الرئيس فؤاد شهاب، واستبشر بها الناس لفترة، لكنها في النتيجة أخفقت في التطور والاستمرار، لكونها محاولة فوقية، ولو أنها حسنة القصد. فالتحول الأنجح، خصوصاً حيث الحاجة اليه أكبر، يجب أن ينطلق من تحت، من القواعد الحزبية والشعبية، ومن النقابات والهيئات الاجتماعية، لأن هؤلاء يكوِّنون الشعب. فالاعتماد على الشعب ذاته أفعل من الاعتماد على ممثليه. ذلك أن تفعيل رقابة الشعب على ممثليه، من شأنه أن يُفعِّل رقابة ممثلي الشعب على الدولة. وهذه العملية معكوسة حتى الآن في لبنان، حيث الرقابة الشعبية على النواب معدومة، وبالتالي فإن رقابة النواب على الدولة معدومة بدورها. وها هو لبنان بفعل ذلك يسير القهقرى وعلى غير هدى، يترنح من اختلال توازناته.

وقد يقول قائل: لماذا يُطلب من "تيار المستقبل" أن يباشر بداية جديدة، دون غيره من سائر الأحزاب؟ والجواب هو الصدفة التاريخية التي وضعت "تيار المستقبل" على المحك، من خلال ما تعرَّض له رئيسه خلال السنوات القليلة الماضية، وهو وضع ما زال مستمراً ولم تُكتب نهايته في الأفق بعد. هي صدفة وهي فرصة. إذ إن أنجح التحولات تكمن في تحويل المصاعب المستعصية الى فرص واعدة.

هذا من حيث المبدأ. أما ما هو منتظر في الواقع، فما زال في طيِّ الغيب. لكنه يُقرأُ من ملامحه التي ظهرت قبل أيام في ذكرى اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ومنها طغيان المظهر على الجوهر. وذلك لا ينبىء بتحوُّل جذري حتى الآن.    

www.sferzli.com

  

 

سعد الحريري: ما له وما عليه (3)

"تيَّار المستقبل" على المحك

19/ 2 / 2024

 

الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة الأسبق، سعد الحريري، الى بيروت، بمناسبة ذكرى اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري، ما زالت محفوفة بالغوامض، وبالتالي تستوجب استكشاف غوامضها، ليس فقط بطرح الأسئلة، إنما بوضعها في الإطار الوطني اللبناني، لتداخل اعتكاف سعد الحريري، وتعليقه العمل السياسي لتيار المستقبل، بخيطٍ خارجيٍّ مقلق.

بدايةً، لا بد من التأكيد بأن "تيار المستقبل" يتمتع بمزايا عديدة وطنية وإيجابية في الوقت ذاته، يجعلها غير مفهومة، بالنظر اليها من خلال الإطار السلبي القائم حتى الآن، من حيث تعليق العمل السياسي بغير إيضاح صريح ومقنع. ولا يُسِرُّ أحداً من اللبنانيين تعليلُ ذلك بالأحوال السيئة القائمة حالياً في لبنان، أو بعدم وجود جهات سياسية مستعدة للتلاقي الوطني في الوقت الحاضر، لأن وجود هذه الأحوال السيئة تدعو الى مضاعفة النشاط السياسي وليس الى الاعتكاف وتعليق النشاط.

ومن المزايا الإيجابية العديدة لتيار المستقبل، أنه حزب منتشر في جميع المناطق اللبنانية من غير استثناء، وبالتالي من الأسهل عليه أن يؤثر في الوضع الوطني. والطامة الكبرى، أن يتبيَّن تالياً، وجود عوامل خارجية ضاغطة على رئيس "تيَّار المستقبل"، فينعكس ذلك سلباً على التيار ذاته متى رُفع القيد الخارجي الموجب للاعتكاف وتعليق النشاط السياسي. لأنه، عندئذ، يفقد قوَّة تلك الميزة من الانتشار الوطني، بالسماح لآخرين أن ينتقصوا من وطنيته.

ومن المزايا الإيجابية الأخرى لتيار المستقبل، أن له مقبولية عالية لدى المكونات اللبنانية عموماً. فهو أقل الأحزاب طائفيةً بين الأحزاب الطائفية في لبنان. وأهميَّة هذه الميزة في "تيَّار المستقبل" أنها قابلة للتطوير على الصعيد الوطني العام، متى خفَّ الانغلاق الطائفي المتزايد في هذه الأيام، حيث لكل فريق سياسي طائفي "بيئته الحاضنة".

ولكونه حزباً منتشراً في كل لبنان، فإنه يملك القابلية اللازمة للتفاهم مع باقي المكونات اللبنانية، أو أن يشكل اللحمة أو العمود الفقري، لوضعٍ ائتلافي، بل وصولاً الى وضعٍ اتحادي. ذلك أن لتيار المستقبل صداقات وازنة في مختلف البيئات اللبنانية. فهو على درجة عالية من الاعتدال، والمرونة، بحيث يمكنه أن يصبحَ مع الوقت عصيَّاً على الإرادات الخارجية المعوِّقة له، أو الهادفة الى ترويضه وتطويعه.

 لكن المؤسف أنَّ "تيار المستقبل" هذه الأيام في وضع لا يُحسدُ عليه، بسبب الغوامض الناشئة من أوضاع قيادته، أو خياراتها، الإراديَّة واللاإراديَّة. وهذه الغوامض لا يمكن لأحدٍ من خارج التيار أن يوضحها لأعضائه أولاً، ولأصدقائه ثانياً، ولعموم اللبنانيين ثالثاً. وهذا يلقي على عاتق قاعدة "تيار المستقبل" مسؤولية وطنية تدفعها الى الخروج من الجمود الراهن الذي يفاقم أزمة لبنان الداخلية.

وهذا أيضاً من شأنه أن يكثِّفَ الضغط على قائد التيار لتدارك الأمر، باعتبار أن العقدة التي أملت الاعتكاف وتعليق العمل، تتعلق بشخصه في الدرجة الأولى. وهو، تبعاً لذلك، ملزم بالاستجابة لقواعده، على قول الشاعر والمسرحي الألماني (الماركسي) بيرتولت بريخت: "أنت قائدُهم فعليك أن تتبعَهم".

ولا يعني ذلك التبعية، بمعناها الذي يقصد "فقدان الإرادة"، مما يجعله تابعاً لقوى خارجية أو داخلية، بل يعني الاستماع الى نبض القواعد الحزبية والاستجابة لها.  

إذ يبدو الأمر لمن ينظرون اليه من خارج التيار، دارسين، أو مراقبين، أو منافسين، أو إعلاميين، وما الى ذلك، وكأن هناك مشابهةً بين أزمة "تيار المستقبل" وأزمة الوضع الوطني اللبناني الذي يقف على شفا التزعزع. فإذا أُخذت هذه المشابهة الى مداها الأقصى، فإنها تضع "تيَّار المستقبل" على المحكِّ، إن لم يكن على المفترق. اتجاه ينبىء بأن الجمود الراهن لتيار المستقبل وقيادته، يفاقم الأزمة الوطنية اللبنانية، واتجاه ينبىء بأن عودته السريعة الى النشاط الوطني من شأنها أن تعجِّل بالانفراج اللبناني العام.

والخيارات المتاحة للخروج من هذا المأزق، ضيقة ومحدودة، وتستوجب العجلة، بسبب تفاقم الأزمة الوطنية في لبنان، وتعاظم تعقيداتها، السياسية وغير السياسية، وأبرزها اختلال التوازن الداخلي بفعل عوامل داخلية وخارجية عديدة، منها غياب "تيار المستقبل" عن العمل السياسي العلني، لكونه من أعمدة التوازن الوطني اللبناني. ذلك أنَّ المشكلة الأساسية في التردي الراهن هي في اختلال التوازن الوطني.

إن انهيار لبنان، بفعل اختلال التوازن الوطني، الذي هو المنصة الوحيدة للنهوض واستعادة التوازن المفقود، ليس مجرَّد حالة عرضية يحلها تقادم الزمن، بل هو أشبه "بالخروج من الجنَّة" كما وصفه الفرزدق بقوله:

وكانت جنتي فخرجتُ منها

كآدمَ حين لجَّ بها الضِرارُ

وكنتُ كفاقئٍ عينيه عمداً

فأصبحَ ما يضيءُ له النهارُ

www.sferzli.com

  

 

سعد الحريري: ما له وما عليه (2)

المخطوفون الثلاثة

16/ 2 / 2024

 

نجح سعد الحريري في حشد المحازبين، والمريدين، والطامعين، والطامحين أيضاً، لكنه مع الأسف، خيَّب آمال المنتظرين. حتى الكلام الذي قاله لشاشة سعودية، بدا متلعثماً ومتناقضاً. ردَّ على كلام سائله بأن المنظومة الحاكمة في لبنان الآن لا تؤمن بالسلام (والمقصود هنا في أغلب الظن السلام مع إسرائيل)، "إنهم سوف يؤمنون عندما تأتيهم الأوامر". ربما نسي سعد الحريري أن اعتكافه، لا يلغي واقع أنه كان من هذه المنظومة، بل من أقطابها. وهذا يعني أنه هو أيضاً ينتظر الإشارات (حتى لا نقول "الأوامر"). كما يعني، أنه هو من مؤيدي السلام أو حتى من أنصاره (حسب لغة قدامى الشيوعيين). وبالتركيب المنطقي للكلام، يمكن القول بأن الحريري لن يعود الى قواعده في لبنان قبل حلول "السلام".  

والسؤال الذي يتبادر الى الذهن قبل غيره من الأسئلة، هو: لماذا، إذن، هذا الحشد الكبير وغير المسبوق منذ اغتيال والده الشهيد؟ وبما أنه غير مسبوق منذ زمن طويل، فما هو المقصود منه طالما أن سعد الحريري غير عازم على العودة الى لبنان في الوقت الحاضر، وطالما أن "السلام المنشود" ما زال بعيد المنال؟

لا أحد يستطيع أن يعطي جواباً منطقياً، أو فلنقل معقولاً، من غير الرجوع الى أصل المشكلة الناجمة من اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري قبل نحو عقدين من الزمان، أو حتى الى ما قبل ذلك، عندما أيقن اللبنانيون أن رفيق الحريري هو الذي سيتولى إدارة لبنان. ومن المفترض أن يكون بعض المتابعين للشؤون اللبنانية، ما زالوا يتذكرون أن رئيس الحكومة المنتظر في ذلك الوقت قادمٌ من أجل إطلاق ورشة إعمار واسعة النطاق، لا إعمار ما هدمته الحرب فقط، بل لجعل بيروت عاصمة الشرق، إن لم يكن عاصمة الكون. وكان القول الدارج في حينه، إن رفيق الحريري قادم الى لبنان على جناح السلام السريع، أو، تخفيفاً من هذه الدرجة العالية من اليقين، على رهان السلام. فأين لبنان اليوم من ذاك اليوم قبل عدة عقود؟

والعبرة من ذلك، أن أي رهان على السلام مع إسرائيل هو من قبيل الوهم في المخيلات الضعيفة، لأن السلام مع إسرائيل، حتى لو تحقَّق في يوم من الأيام، سيكون حرباً بطريقة أخرى، لأن الذين خلقوا فكرة إسرائيل، قبل قرن من خلق دولة إسرائيل، هم آلهة الحرب المؤبدة.

ولذلك بدا سعد الحريري، في وقفته على قبر أبيه قبل يومين، شارداً مرتبكاً وكأنه مخطوف. والواقع أن سعد الحريري ليس هو المخطوف الوحيد. فقد خُطف سعد الحريري يوم خطفت "حركة 14 آذار" استشهاد رفيق الحريري في 14 شباط، وأمعنت فيه تسيُّساً وتزويراً. هذا الخطف الأول، أدى بدايةً الى استبعاد سعد الحريري. إذ إن ما حدث في عهد حكومة فؤاد السنيورة يومذاك، هو خطف لبنان، بإلغاء التوازن الميثاقي الذي قام عليه لبنان أصلاً، حيث مارست حكومته الحكم بتغييب المكون الشيعي، وكأنه غير موجود.

ولم يكن كسر الميثاقية اللبنانية مع الشيعة، على الرغم من الاعتصامات الشعبية الحاشدة في وسط بيروت لمدة سنة ونصف السنة، شيئاً بسيطاً أو قليلاً، لأنه في حقيقته هو إخراج للشيعة من لبنانيتهم، وليس فقط حزب الله، وهذا من الأسباب الجوهريَّة التي حملته تالياً على استخدام ما لديه من طفحٍ في القوة على المسرح الإقليمي ليصبح من أكبر اللاعبين على مسرح أوسع من لبنان بأضعاف مضاعفة، ناهيك بما هو عليه في لبنان. ذلك أن الشيعة هم الذين اختاروا لبنان بلسان كبير أئمتهم في ذلك الوقت الشيخ عبد الحسين شرف الدين، عندما عرض عليهم الملك فيصل الهاشمي أن يدخلوا في دولته العربية في دمشق. وشأنه في ذلك شأن مفتي طرابلس، الزعيم الوطني الكبير عبد الحميد كرامي، الذي أوصى الطرابلسيين بالتمسك بلبنانيتهم، وأدخل ذلك خطياً في وصيَّته عندما بلغه، قبل وفاته، أن بعض غلاة شبان المدينة يمزقون الهوية اللبنانية التي أعطيت لهم، وبعضهم كان يخزق الأرزة ويحتفظ بالهوية!

وقد تطرَّق الآباتي بولس نعمان في الجزء الأول من كتاب مذكراته بعنوان "الإنسان، الوطن، الحريَّة" (1968 – 1992)، الى موضوع "الأحقيَّة الشيعية في اللبنانية"، من خلال حديث له مع كاظم الخليل، الذي تحدَّث اليه عن الغبن اللاحق بالشيعة في أحقيَّتهم اللبنانية، ونقل عنه قوله: "كنت أودُّ أن يبدأ الوعي الشيعي في لبنان بالذات من خلال اتفاق بين الشيعة والمسيحيين". وقال له كاظم الخليل أيضاً: "إنَّ الشيعة هم سلاح قويٌّ ضد أعداء لبنان". وفي الختام قال كاظم الخليل للآباتي نعمان: "إن الدولة اللبنانية تتآمر حتى الساعة مع السنَّة على الشيعة، ولم تأتِ حكومة منذ الاستقلال عملت على تأمين حقوقهم" (الصفحات 284 – 286 من مذكرات الآباتي بولس نعمان).

لكن عملية خطف لبنان، بعد خطف قضية رفيق الحريري، لم تنتهِ فصولها بعد. فالذي يحصل اليوم في ظل حكومة نجيب ميقاتي هو الفصل الأخطر من عملية خطف لبنان، من خلال نزع الميثاقية عن المكون المسيحي الذي هو في الأصل السبب الموجب للكيان اللبناني. فالمشروع الذي بدأه فؤاد السنيورة بكسر الميثاقية مع الشيعة، يُستكمل اليوم بكسر الميثاقية مع المسيحيين. وقد تم ذلك مع الأسف، وفي الحالتين، بغطاء من فريق مسيحي وازن، من 14 آذار ومن بقاياه.

فبماذا سينفع حشد الحريري، وخطابه لم يتغير فيه شيء، خصوصاً أنه لم يقل للبنانيين الى أين سيصل بهذا الحشد، وقد بدا عليه، وهو يحيِّيه، أنه مخطوفٌ، مثل 14 شباط، ومثل الميثاقية اللبنانية المبرِّرَة لوجود لبنان؟

www.sferzli.com

  

 

سعد الحريري: ما له وما عليه (1)

أنا لستُ أبي

14/ 2 / 2024

ما من شك في أن رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الدين الحريري، الموجود حالياً في زيارته السنوية العابرة الى بيروت بمناسبة الاحتفال بذكرى اغتيال والده، الشهيد رفيق الحريري، يمثل ما لا يمثله معظم السياسيين السنَّة في لبنان. لا لأنهم أقل منه قدرة أو شأناً، بل لأن له حضوراً سياسياً وازناً على كامل الجغرافيا اللبنانية، من شبعا في أقصى الجنوب، الى حلبا في أقصى الشمال، ومن الصويري ومجدل عنجر وبر الياس في أقصى الشرق، الى صيدا وبيروت وطرابلس في أقصى الغرب. هذه ميزة لم تُتح لأي زعيم سني آخر، لا في السابق ولا في الحاضر، ربما باستثناء أبيه، بل ربما هو تفوَّق على أبيه، لأنه أضاف الى إرث أبيه عطفاً شاملاً من اللبنانيين عليه، لمزايا شخصيَّة فيه منفصلة عن إرث أبيه. إذ إنَّ ذاك الإرث شكَّل، في بعض الأحيان، عبئاً عليه كاد ينوءُ به. ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يقول أنا أبي، ولا يستطيع أن يقول أنا لستُ أبي. وهذه عقدةُ تُقعدُ وتُلعثمُ أي ممثل على مسرح سياسي معقَّد، كما هو الحال في لبنان.

لكن يمكن القول بأن سعد الحريري لم يستهدِ بعد على صورته الحقيقية بمعزل عن أبيه. فقد ظهر في المرحلة الأولى، بعد استشهاد والده، خجولاً شبه مذعور، عندما أحجم عن الإقدام، فأخلى مكانه لشخص مثير للجدل لا يوحي بالثقة، ثم عندما تقدَّم للمهمة، مارس دوره السياسي وكأنه على مسرح تمثيلي لا على مسرح سياسي، حيث صعد ليخطب على المنصة في ساحة الشهداء وخلفه جدارية للملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وفجأة خلع جاكيتاته وألقاها جانبا، وشمَّر عن ساعديه، وألقى كلمة ناريَّة، فكأنه أراد بذلك أن يظهر بصورة جديدة، فيها إشارة الى كونه رجل حزم وحسم. ويقال إنه فعل ذلك بتوصية من شركة أجنبية للعلاقات العامة مختصَّة بتعليم السياسيين المبتدئين تفانين اللعبة التي تجذب المتفرجين، وتُفرج كربة المحازبين. ويقال أيضاً إن سعد الحريري ندم على تلك المسرحية، والله أعلم.

واليوم أتى سعد الحريري الى بيروت، مشتاقاً ومشتاقاً اليه، بصورة جديدة، ليست صورة المعتد بشبوبيته، بقدر ما هي صورة الواثق من نُضجه في الطريق الى كهولته. هو الآن بإمكانه أن يودع أباه، ويودع ميراثه، وينطلق الى قمة جديدة بمفرده على ثنايا محبة اللبنانيين لشخصه.

وإذا كانت لا تجوز المقارنة بين سعد الحريري وأقرانه من السياسيين السنَّة في الوقت الحاضر، فإن مقارنته بمن سبقوه فيها أيضاً مفارقات، بمثل الفارق بين لبنان القديم قبل الحرب الأهلية، وبين لبنان الميليشيات الحاكمة الآن. حتى بالمقارنة بينه وبين الزعيم الاستقلالي رياض الصلح، من حيث الوضع السياسي لهذا الأخير في حينه، تعطي أرجحية لسعد الحريري. فقد كان رياض الصلح حائراً في اختيار دائرته الانتخابية، لأنه لم يكن واثقاً من شعبيته، فتارة هو صيداوي، وتارة هو بيروتي. أما سعد الحريري، فبعد أن حسم أمر دائرته الانتخابية من البداية، عمل على أن تكون له مكانة متقدمة في جميع الدوائر الانتخابية في طول لبنان وعرضه. أما رأساً لرأس، خارج العامل الانتخابي، فإن قامة رياض الصلح تبقى أعلى من قامة سعد الحريري مهما ارتفعت.

وقد حاول الرئيس ميشال عون أكثر من مرة أن يُدخل في رأس سعد الحريري أن يشكل معه ثنائياً شبيهاً بالثنائي الاستقلالي، بشارة الخوري ورياض الصلح، لكن هذه الفكرة لم تركب في رأس الحريري، ربما لأنه لم يقتنع بها، أو أنه لم يستوعبها. ومع ذلك فإن ميشال عون ما كان ليفوز بالرئاسة لولا دعم سعد الحريري. وكانت رئاسته ستبقى غير ميثاقية، لو كان فاز رغماً عنه.

لكن سعد الحريري عندما يزور بيروت في السنة مرَّة، تكريماً لذكرى والده الشهيد في 14 شباط / فبراير، يبدو وكأن هناك خيطاً غير منظور يشدُّه الى الوراء. أو لا يريده سوى أن يتذكر الموت على طريقة الرومان مع قياصرتهم. وفي نهاية المطاف، لا يستطيع أن يكون سعد الحريري زعيماً لبنانياً فاعلاً إذا بقي زعيماً زائراً. فهو ليس منفياً من قبل اللبنانيين، بل إن اللبنانيين اليوم مقبلون عليه أكثر من أي وقت مضى، وبعضهم يفتقده افتقاد البدر في الليلة الظلماء.

فإذا كان سعد الحريري نافياً نفسه بصورة طوعية، فإنه ملزمٌ بأن يقدم للبنانيين بوضوح تام أسبابه وأعذاره، لكي يتلمسوا طريقهم به أو بدونه. أما إذا كان منفاه مشروطاً من جهة خارجية، فلا يجوز أن يبقى ذلك في مدار الشبهة، لأن فيه احتقاراً للبنانيين، مكملاً لاحتقارهم السابق بفرض الاستقالة من رئاسة الحكومة عليه. ومن نافل القول، إن في هذه الحالة انتقاصاً من شرعية ومكانة أي جهة قامت بذلك كائنة من كانت.

فالأحرى بسعد الحريري أن يأتي الى بيروت يوم 14 شباط / فبراير باشتياق عيد العشاق، إذا كان يريد أن يَخرجَ، وأن يُخرجَ لبنان، من دائرة الضيق والموت، لأنه من المفارقات المؤسفة أن يكون الزعيم الأقوى في البلاد، هو الأكثر خوفاً من تحمُّل المسؤولية. ويجب أن يعرف اللبنانيون أن عامل الخوف، ممثلاً بذلك الخيط الافتراضي غير المنظور الذي يشدُّه الى الوراء، هو خيط افتراضي لأنه موصول بإرث أبيه.

!وبالتالي، فإن شرعية الزعامة الحريرية التي يلبسها سعد الحريري سوف تبقى ناقصة، وربما عبثية، ما لم يقف على قبر والده ويعلن على الملأ أنه باقٍ في بيروت ولن يتزحزح منها، هاتفاً بأعلى صوته: أنا لست أبي

www.sferzli.com

  

 

مذكرات محمد فايق مهندس الإعلام الناصري (الأخيرة)

عن لبنان: أخفى القبيحَ وأظهرَ الحَسَنَ

12/ 2 / 2024

 

كان الوسط الصحافي اللبناني، خلال الحقبة الناصرية، يعرف مدى اهتمام جمال عبد الناصر بما تنشره صحف بيروت، وكان الملحق الصحافي المصري في العاصمة اللبنانية، أنور الجمل، أنشط إعلامي في العاصمة اللبنانية، بين جميع الملحقين الآخرين، عرباً وأجانب. كان لأنور الجمل حضور، وكان له نفوذ، وكان له أسلوب متميز في العلاقات العامة. طبعاً، كان رأسماله الأول الدعوة الناصرية، لكن الدعوة على أهميتها، تلزمها دعاية أيضاً، والدعاية يلزمها مال، فكان أنور الجمل ينفق على الدعاية بمقدار قليل لأنه لم يكن بتصرفه مال كبير، بينما أصحاب المال الكبير كانوا ينفقون عن سعة ومن غير طائل.

لسنوات عديدة بقي أنور الجمل على المسرح الإعلامي اللبناني النجم الأول. ومع أنه بقي في الخدمة خلال عهد أنور السادات، فقد أفل نجمه لأن الدعوة الساداتية كانت ممجوجة وغير مقنعة من جهة، ولأن الدعاية بالمال الكبير انتقلت مصادرها الى أهل البترودولار.

بل إن الدعوة والدعاية الناصرية، في أواسط الستينات من القرن الماضي، ضعفتا كلتاهما عندما دعا عبد الناصر الى مؤتمر القمة الأول في القاهرة، تحت شعار وحدة الصف. وهنا تنفست الصحافة الناصرية في بيروت الصعداء لأن بعض أصحاب الصحف اللبنانية المحسوبين على عبد الناصر اشتاقوا الى المال الكبير، فاتخذوا من وحدة الصف معبراً الى الصف الآخر. وأذكر عندما كنت أعمل في دار الصياد في عام 1964، كان عميد الدار الراحل الأستاذ سعيد فريحة في مكتبه، وقد بلغه نبأ دعوة عبد الناصر الى مؤتمر القمة، فمررت به بمحض المصادفة فوجدته يكاد يرقص طرباً لذاك الخبر، وقال لي: "لقد انتظرت هذه اللحظة طويلاً. لو لم يدعُ عبد الناصر الى هذا المؤتمر، لكنت أنا سأفعل ذلك".

وفي محطات عديدة من مذكراته، يذكر محمد فايق وقائع، لا أهمية لها في السياق العام للمواضيع الأساسية، غايتها إظهار مدى اهتمام جمال عبد الناصر بالشؤون اللبنانية. ويؤكد محمد فايق، ما كنا نعرفه في الوسط الصحافي اللبناني من أن عبد الناصر كان يحرص على قراءة الصحف اللبنانية كاملة كلَّ يوم، وكانت تصله كلَّ يوم. كان يقرأ الجرائد اللبنانية بنسخها الورقية المباعة في الأسواق، وليس من خلال التقارير أو الخلاصات المختصرة.

ففي المقطع الرابع من الفصل التاسع بعنوان "عبد الناصر والصحافة اللبنانية" يقول محمد فايق إن الإعلام عند عبد الناصر كان هواية، ويضيف: "وبالتالي كان على وزير الإعلام أن يكون أكثر متابعة، ولم يكن الأمر سهلاً في الأيام الأولى لتوليَّ وزارة الإعلام". ويقول فايق إن الرئيس عبد الناصر كان يتصل به هاتفياً نحو الساعة الخامسة مساءً ويتحدث عن الصحف اللبنانية، فيسأل على سبيل المثال: "هل قرأت عمود ميشال ابوجودة؟ فأجاوب بالنفي، فيقول لي اقرأه لأنه مهم. هل قرأت مقالة فلان؟ فأجاوب بالنفي، فيقول هذه المقالة تحتاج الى الرد عليها"، الى درجة أن الوزير محمد فايق اعترف في مذكراته بأنه شعر بالتقصير وهو يجاوب بالنفي، الى أن اكتشف أن الصحف اللبنانية تصل الى عبد الناصر يومياً كاملة، بينما هو كان يقرأ خلاصات عنها لا وجود فيها لما يهتم به الرئيس. وقد اضطر محمد فايق الى إجراء ترتيب يمكنه من الحصول على الصحف اللبنانية قبل وصولها الى الرئيس. ويقول بعد وصول تلك الصحف اليه: "وفي أول يوم وجدت أن قراءة الصحف اللبنانية تحتاج الى وقت كبير، فهي كثيرة جداً، وبدأت أتساءل: لماذا الصحف اللبنانية؟ وكيف يستطيع الرئيس قراءة هذا الورق كله؟".

وقد أبلغني أحد الزملاء أنه كان ضمن وفد صحافي زار الرئيس عبد الناصر ينقدمه رياض طه نقيب الصحافة الراحل، وكان محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة "الأهرام" حاضراً، فقال له عبد الناصر: "بص يا أستاذ هيكل وشوف الصحافة اللبنانية كلها شباب ازاي".

والمعروف أن عبد الناصر كان يمحض رياض طه ثقته ومحبته، الى درجة أن اصطحبه معه الى اجتماع توقيع اتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا، فكان الوحيد الذي وقف وراء عبد الناصر، وهو ليس مصرياً وليس سورياً.  

ولم يقتصر الاهتمام بلبنان على الصحافة والصحافيين، بل شمل أيضا الفن والفنانين. وفي تقديم كتاب مذكرات محمد فايق يقول كاتب التقديم، أحمد يوسف أحمد، باعتزاز أن أول عمل قام به محمد فايق بعد تعيينه وزيراً للإرشاد القومي هو استقباله للسيدة فيروز في مكتبه. وفي مكان آخرمن الكتاب نشر محمد فايق صورته مع فيروز في مكتبه، وكتب عنوان الصورة رقم 18 "محمد فايق مع الفنانة الكبيرة فيروز في أول مقابلة له بعد تعيينه وزيراً للإرشاد القومي – أول أيلول / سبتمبر 1966".

بل إن عبد الناصر نفسه كان له مثل هذا التوجه. وفي هذا يقول محمد فايق، إنه كان أول وزير مصري زار دمشق بعد الانفصال، وإنه قبل مغادرته العاصمة السورية، أرسل في طلب الفنانة اللبنانية الكبيرة صباح، لأنه قبل ذهابه الى دمشق قابل الرئيس عبد الناصر للوقوف على أي توجيهات معينة، فكان الأمر الوحيد الذي طلبه منه هو أن يحاول إعادة الفنانة صباح وحل مشكلاتها، حيث إن "بتوع الجمارك طفشوها" كما نقل عن لسان الرئيس. وعبَّرت صباح عن فرحتها وامتنانها بهذه الرسالة، وعادت الى القاهرة لتتألقَ من جديد، كما كانت دائماً، على حد قوله.

هذا هو الوجه الحسن من الرأي الناصري عن لبنان. أما الوجه الآخر المعتم والذي ليس بالحسن، فلا يقاربه محمد فايق لا من قريب ولا من بعيد. ويجدر هنا إعطاء محمد فايق "منفعة الشك"، على قول الإنكليز، لأنه قبل تعيينه وزيراً للإرشاد القومي، كانت له مهام كثيفة خارج مصر، خصوصاً في إفريقيا، ولم يكن على تماس مع مجريات الأمور في لبنان.

ففي عام 1958، بدأت الأجهزة الأمنية الناصرية في سوريا حملة تدخُّل كثيفة في لبنان، جرى خلالها اغتيال الصحافي المعروف الأستاذ نسيب المتني، وبهذا الحادث انطلقت "الثورة" ضد الرئيس كميل شمعون بتسليح سوري، وسبق ذلك تأليب متواصل للمعارضة بحجة منع كميل شمعون من تجديد ولايته، وباتهامه بأنه ينوي الدخول في حلف بغداد. وقد كانت حملات عبد الناصر السياسية والإعلامية ضد حكم نوري السعيد في بغداد شديدة للغاية، بحيث أسهم ذلك في إطاحة النظام الملكي الهاشمي هناك، وإعلان النظام الجمهوري مكانه، مما دفع الولايات المتحدة الى إنزال قوة كبيرة من مشاة البحرية (المارينز) على شاطئ الأوزاعي في الضاحية الجنوبية من بيروت.

وعندما تسلم العاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز الحكم، بعد إبعاد شقيقه الملك سعود بن عبد العزيز، عام 1964، عكف على إقامة حلف إسلامي مضاد لعبد الناصر، وقد تولى الصحافي اللبناني كامل مروة، صاحب جريدة "الحياة"، مهمة الترويج لهذا الحلف، مما أدى الى اغتياله في مكتبه يوم 16 أيار / مايو 1966، من قبل شخص ينتمي الى تنظيم ناصري لبناني. وتندَّر بعض اللبنانيين يومئذ بالزعم أن برقية تعزية بوفاة كامل مروة وردت من القاهرة، قبل حدوث الاغتيال!

لعلَّ محمد فايق لم يكن على علم بكل ذلك، لأنه لم يتم تعيينه في منصب وزاري إلاَّ في شهر أيلول / سبتمبر 1966، أي قبل أربعة أشهر من اغتيال كامل مروة. ولهذا لم يتطرق الى ذلك في مذكراته، أو على الأرجح لم يكن على علم بكل ما جرى في تلك الحقبة من التوتر العام في لبنان والمنطقة، لأنه لم يكن في دائرة اهتماماته الرسمية في ذلك الوقت.  

www.sferzli.com

  

 

(6)مذكرات محمد فايق مهندس الإعلام الناصري

:مصر بين واشنطن وموسكو

أحبُّ الأعداء وأبغضُ الأصدقاء

9/ 2 / 2024

 

لم يتحدث محمد فايق في كتاب مذكراته عن طبيعة علاقات عبد الناصر مع واشنطن، ومع موسكو، خلال تعاطيه معهما في مرحلة الحرب الباردة. بل هو تحدث عن علاقة أنور السادات مع أميركا أكثر مما تناول علاقة عبد الناصر معها بأي درجة من العمق، ناهيك بالنقد. ففي المراحل الأولى التي انتهت بالعدوان الثلاثي (التواطؤ الدولي بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956)، اكتفى بجملة واحدة قال فيها: "اضطرت القوى المعتدية الى الانسحاب بعد إنذار الاتحاد السوفياتي، وضغط الولايات المتحدة برئاسة دوايت أيزنهاور (1953 – 1961)، الذي لم يكن راضياً عن مؤامرة العدوان الثلاثي. كانت هذه الأسباب الرئيسية التي أجبرت القوات المعتدية على الانسحاب".

أما عن أنور السادات، من حيث رؤيته للعلاقات الدولية، فيقول: "كان أنور السادات يجري وحده اتصالات مع المسؤولين الأميركيين، من دون أن يُطلع عليها أحداً من المسؤولين المصريين، وكان بعض الاتصالات يتم بمساعدة الاستخبارات الأميركية (سي آي ايه) الموجودة في السفارة الإسبانية في القاهرة التي أوكل اليها رعاية المصالح الأميركية بعد قطع العلاقات مع الولايات المتحدة". وهذا المقطع لم يكتبه محمد فايق، بل اقتبسه من كتاب "مصر من ناصر الى حرب أكتوبر (تشرين الأول)" للديبلوماسي الروسي فينوغرادوف!

أما فايق بعد ذلك، كتب بقلمه هو: "لكن السادات في هذا الوقت، الذي كنَّا نستعدُّ لبدء معركة تحرير سيناء، كان يحاول أن يكسب ثقة الأميركيين بأي حال من الأحوال، أملاً في أن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لإعادة سيناء من دون ضرورة للحرب، حتى لو كان الثمن تغيير تحالفاته الرئيسية لتكون مع الولايات المتحدة الأميركية، استناداً الى ما كان مقتنعاً به ويردده دائماً بأن أميركا تملك 99 في المئة من أوراق القضية الفلسطينية والشرق الأوسط". وفي رأي محمد فايق أن السادات أراد بذلك أن يتملَّص من القرار الذي اتخذه مجلس الدفاع القومي بأن تبدأ الحرب مع إسرائيل في ربيع عام 1971 (وهو قرار اتُّخذ في حياة جمال عبد الناصر).

كذلك يتحدث محمد فايق عن تعويل السادات على زيارة وليام روجرز، وزير الخارجية الأميركي الى مصر في بداية أيار / مايو 1971، بحيث أنه أقال علي صبري من مناصبه قبيل وصول روجرز الى القاهرة للتدليل على صدق نياته تجاه الولايات المتحدة. وكان علي صبري في ذلك الوقت ما زال مسؤولاً عن العلاقات المصرية – السوفياتية. ويقول فايق أيضاً إن السادات، قبل زيارة روجرز، كان قد أبلغ جوزف سيسكو، مساعد وزير الخارجية الأميركي، في زيارة سابقة عن عزمه على التخلص من المجموعة الناصرية المتشددة في الدولة. كذلك أبلغ الأميركيين عن عزمه على التخلص من الوجود السوفياتي في مصر من خبراء عسكريين ومدنيين.

لكن محمد فايق لا يتحدث مطلقاً عن العلاقات المصرية - الأميركية قبل أنور السادات، مكتفياً بنقل عبارة واحدة من خطاب عبد الناصر في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وصف فيها وعد بلفور لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين، بأنه "أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق".

ربما كان محمد فايق لا يدري أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قدَّمت الى عبد الناصر شخصياً مبلغ سبعة ملايين دولار فتبرع بها لبناء برج القاهرة. وهو لم يتطرق قط الى رغبة عبد الناصر في التفاهم مع واشنطن خلال رئاسة أيزنهاور، وما كانت الشروط الأميركية، أو ما كانت عليه النظرة العامة للرئيس عبد الناصر الى الولايات المتحدة، على غرار ما كتب صلاح نصر مدير الاستخبارات المصرية العامة لعشر سنوات متواصلة (1957 – 1967).

لقد أكَّد صلاح نصر أنَّ عبد الناصر أخفق في تصوره لأميركا، بمعنى أنَّ صورة أميركا في ذهنه لم تكن واقعية. كان عبد الناصر يتصوَّر، حسب تشخيص مدير استخباراته، أنَّ أميركا دولة تقدمية قوية، بلا أطماع استعمارية، بعيدة عن مكائد السياسة الأوروبية، فاعتبرها ملجأً لآمال الشعوب الصغيرة. لكن عبد الناصر، حسب صلاح نصر، عاد فاكتشف بالتجربة أن الأمر ليس كذلك عندما تضاربت سياسته مع مصالحها.

هناك روايات متعددة حول إمكانية التمويل الأميركي لمشروع السد العالي، وهو أول احتكاك سلبي حاسم لعبد الناصر مع واشنطن. لكن الرواية التي تُنسب الى سامي شرف، سكرتير عبد الناصر للمعلومات، تضع اللوم على السفير المصري في واشنطن أحمد حسين، حيث وصل الأمر الى حد اتهامه بأنه كان يميل الى الجانب الأميركي. وحسب هذه الرواية، أن السفير أحمد حسين أوهم وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالس، أن عبد الناصر يرغب في صداقة أميركا. لكن دالس وجد تضارباً بين هذه الرغبة المزعومة ومنطق المساومة بشأن التمويل الأميركي لمشروع السد العالي بوضعه في موازنة العروض الأخرى المتاحة وفي طليعتها العرض السوفياتي.

والمعروف عن جون فوستر دالس أنه كان يرفض رفضاً قاطعاً أن يتعاطى أصدقاء أميركا، أو طالبو صداقتها، مع الفريقين الدوليين بمنطق المساومة. وهذا ما قاله بوضوح للسفير المصري أحمد حسين ومؤداه: "إذا جاء بلد وأبلغنا أنه في وضع مساومة جيد، وإن لم نعطه ما يريد فسوف يحصل عليه من خصومنا، فلا يهمنا مثل هذه العلاقة".

بل كان دالس شديد القسوة على السفير أحمد حسين عندما ألمح هذا الأخير الى أن الرئيس عبد الناصر يحرص على صداقة أميركا، لكنه لا يستطيع أن يجاهر بذلك كما تريد واشنطن، لأنه يخسر شعبياً في مصر. فقال دالس للسفير المصري عندئذ: "إذا كان عبد الناصر يحرص على الصداقة مع أميركا، فإنه يجب أن يكون مستعداً ليدفع ثمناً محلياً لقاء هذه الصداقة".

أما رواية سامي شرف فإنها تضع فهم لقاء عبد الناصر بسفيره في واشنطن وما دار فيه من حديث في إطار مختلف. بمعنى أن شرف توخى أن يلقي ظلالاً من الشك بعلاقة ما للسفير أحمد حسين بالأميركيين. فقد كان عبد الناصر يُدرك في قرارة نفسه أن الأمر لا يخرج عن حدود المناورة، وأن أميركا لن تقدم على المساهمة في تنفيذ المشروع، وتمسك أحمد حسين بموقفه وبمحاولاته للتفسير والتبرير، وبعد أن استمع له عبد الناصر مطولاً بادره قائلاً: «حسناً سأعطيك الفرصة لكي تثبت شيئاً من أجل مصر يا أحمد، تروح لدالس وتقول له إنك قبلت بجميع شروطه، ثم لاحظ رد فعله، ومنشوف ايه حايجري بعد كده".

وأسقط في يد أحمد حسين، واستفسر من الرئيس عما إذا كان لا يريد أن يعدل من الشروط الأميركية فقال له عبد الناصر: "لا تعديل في الشروط، وأنت مفوَّض تفويضاً كاملاً ومعاك (كارت بلانش)، لكنه أوصاه ألاَّ يفعل شيئاً يسيء الى سمعة مصر وكرامتها، وقال له: "إن السبب الموجب لذلك هو أننا لن نحصل على السد العالي من الأمريكان".

وأتذكر الآن جلسة في بيروت مع الوزيرين العراقيين طارق عزيز وعامر عبد الله من الحزب الشيوعي العراقي بعد اتفاق إنهاء الحرب الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني في شمال العراق، وتشكيل حكومة جبهة وطنية في بغداد مطلع عام 1970، حيث دار الحديث عن مواقف الدول العربية في الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي، فقال عامر عبد الله: "إن الدول العربية تتصرف على أساس أن أميركا هي أحب الأعداء، والاتحاد السوفياتي أبغض الأصدقاء"!   

 

مذكرات محمد فايق مهندس الإعلام الناصري (5)

هل فقد عبد الناصر ثقته بعدم الانحياز؟

7/ 2 / 2024

 

لافت للنظر أن محمد فايق في كتاب مذكراته لم يعطِ حيزاً ملحوظاً للحديث عن حركة عدم الانحياز التي انطلقت من مؤتمر باندونغ في إندونيسيا، حيث كان ذلك المؤتمر أول منصَّة لانطلاق نجوميَّة الزعيم المصري على الصعيد العالمي. هذا مع العلم أن فايق، بقرار من رئيس الجمهورية، أصبح مسؤولاً عن الشؤون الآسيوية إضافة الى مسؤوليته عن الشؤون الإفريقية. كما نقل ما قاله له عبد الناصر عند تكليفه بهذه المهمة يحرفيته، وهو: " اللي عملته في إفريقيا نريد نعمله في آسيا"، وذلك في سياق حديث طويل عن أهميَّة آسيا، من حيث مواجهتها التحدي الحضاري نفسه الذي تواجهه إفريقيا من جانب الغرب.

لكن محمد فايق في هذا السياق ركَّزَ على نقطتين: الأولى، توثيق العلاقة بين عبد الناصر والزعيم الصيني شو إن لاي، وما أدَّت اليه من حصول مصر على أسلحة جديدة من المنظومة السوفياتية. وفي مؤتمر باندونغ، كما تشير مصادر أخرى (غير مذكرات محمد فايق)، كان شو إن لاي هو الذي اقترح أن يكون عبد الناصر رئيس لجنة الصياغة للبيان النهائي لمؤتمر باندونغ.

أما النقطة الثانية، وربما الأهم من المنظور العربي، على الرغم من أن محمد فايق لم يتوسع بها في النص، بل شرحها في حاشية من خمسة أسطر في أسفل الصفحة 105، فهي نجاح عبد الناصر في إبعاد إسرائيل عن المؤتمر، مع أنها كانت مدعوة اليه بصفتها دولة آسيوية. ويقول محمد فايق في شرح هذه النقطة في الحاشية رقم 13: "عند التحضير للمؤتمر الإفريقي – الآسيوي، الذي عُقد في باندونغ في عام 1955، دُعيَت إسرائيل بوصفها دولة آسيوية، فاعترض الرئيس عبد الناصر بوصفها دولة توسعية تحتل أراضٍ ليست لها، وطردت مليون فلسطيني من ديارهم، وترفض عودتهم على الرغم من قرارات الأمم المتحدة، وطلب منظمو المؤتمر من إسرائيل أن تعلن استعدادها لعودة اللاجئين الذين أُبعدوا عن ديارهم كي تحضر المؤتمر (وقد تم ذلك بإيحاءٍ من عبد الناصر). ورفضت إسرائيل إعطاء هذا الإعلان أو التصريح، وعلى هذا الأساس سُحبت الدعوة التي كانت وُجِّهت اليها".

وأودُّ في هذا السياق أن أعرض واقعة جرت في لندن عام 1977، عندما انتقلت مجلة "الدستور" اللبنانية، لصاحبها ورئيس تحريرها علي بلوط، الى العاصمة البريطانية وأنيطت بي نيابة رئاسة التحرير. في ذلك الوقت كان يكتب في المجلة بعض الصحافيين المصريين وأبرزهم محمود السعدني (كان السعدني يومئذ يكتب مسلسلاَ بعنوان "حمار من الشرق"). في تلك الأثناء زارنا في مكاتب المجلة السيد عبد المجيد فريد، الذي عمل لفترة في مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، حاملاً معه ملفاً يتضمن محاضر وملاحظات قال إنه جمعها خلال عمله في مكتب الرئيس المصري. وقد جاء بذلك الملف بغية نشره في "الدستور" بالاتفاق مع صاحب المجلة الذي أعطاني الملف وطلب مني أن أقرأه، وأن أقسمه الى حلقات، من أجل تسهيل نشره. وهذا ما تم فعلاً تحت عنوان "أوراق عبد الناصر".

كانت تلك الأوراق التي حملها عبد المجيد فريد الى لندن، قيمة ومفيدة، لكنها بالنسبة الي لم تكن في جزء كبير منها تحمل جديداً، إلاَّ ربما في التفاصيل. لكن محضراً فيها يعود الى الفترة الأخيرة من حياة عبد النصر لفتني لأنه يُستشفُّ منه عبارة نقد تدلُّ على شيء من الندم على الانخراط في حركة عدم الانحياز، بل لفكرة عدم الانحياز أصلاً. وقوام تلك الفكرة التي لم يركز الزعيم المصري عليها كثيراً، فجاءت بشكل عبارة عابرة، أنه من غير الممكن الحياد بين الإمبريالية وبين حركة الشعوب الساعية الى التحرر، بمعنى أن الحياد بين الظلم والعدل هو في واقع الأمر انحياز الى الظلم.

وقد لفتتني الفكرة عطفاً على أحاديثي السابقة في بيروت منتصف الستينات من القرن الماضي مع خوان لاشين، الزعيم العمالي البوليفي (من أصل لبناني من منطقة جزين)، حول "التردد الثوري"، وهو ما كتبت عنه ملياً في كتاب سيرتي الذاتية "علامات الدرب" (الفصل التاسع من القسم الثالث، الصفحات 413 – 432 بعنوان "على خط بارليف")، وقد سألته في سياق تلك الأحاديث، عن رأيه في الثورة المصرية، فقال لي إن طريقها مسدود لأنها تُشبه الثورة المكسيكية، من حيث تردُّدها وعدم قدرتها، أو رغبتها، على الحسم. ووجدت هذه الفكرة العابرة في أوراق عبد الناصر متوافقة تماماً مع فكرة خوان لاشين عن الثوريين المترددين الذين يُقدمون خدمة مجانية للإمبريالية من حيث يتصورون أن التردد موقف إيجابي.

وفي أواخر العام الفائت صدر في بريطانيا وأميركا كتاب جديد بالإنكليزية عن سيرة عبد الناصر للمؤلف البريطاني المقيم في لبنان أليكس رويل، بعنوان "نحن جنودك"، قال فيه إن عبد الناصر عاد من باندونغ رجلاً آخر، تحوًّل الى أيقونة في آسيا وإفريقيا، والى بطل في مصر والعالم العربي. حتى علاقته مع زملائه في الثورة تغيرت بعد باندونغ، وبعد استقباله في القاهرة استقبال المنتصر لدى عودته من المؤتمر. فلم يعد أحد منهم يناديه باسمه الشخصي كالسابق، بل صار اسمه "الريس" أو "سيادة الرئيس". وإذا دخل عليهم في القاعة فلم يعد مألوفاً، أو مسموحاً، أن يبقى أحدهم جالساً في مقعده جري العادة، فصاروا إذا دخل يقفون احتراماً وإجلالاً. من اليوم الأول بعد عودته من باندونغ، نشأت تقاليد جديدة في التعامل معه، وأخذت الأمور منحى أكثر جديَّة من ذي قبل.

وقد أثبت كتاب رويل الجديد (له كتاب سابق في عام 2017 عن "شعر الخمر للشاعر العباسي أبي نواس")، أنه على الرغم من صدور عشرات الكتب عن عبد الناصر، هناك دائماً شعور لدى الباحثين بأن الموضوع ما زال بحاجة الى كتاب جديد.

فهناك نقطة ما زالت جديرة بالبحث، وهي حقيقة العلاقة بين جمال عبد الناصر وخليفته أنور السادات. فقد كان السادات أشبه بالمبعد، أو المنفي، لفترة طويلة. لكن عندما شعر عبد الناصر بوطأة اشتداد مرضه، وأيقن أنه لن يستطيع تحمل ما هو مطلوب من مصر بموجب مبادرة روجرز الأميركية، التي كان أعلن قبوله بها، أعاد تأهيل السادات، وعينه نائباً للرئيس، وأخذ يأنس اليه فيزوره كل يوم تقريباً في منزله زيارة صديق. أو باختصار، عبد الناصر هو الذي اختار خليفته في حياته. أو ربما اختاره ليسير على النهج الذي اتخذه السادات، ولا يستطيع هو أن يتخذه. ولمست من بعض الزملاء المصريين خلال الزيارتين اللتين قمت بهما الى مصر، بعد زيارتي الى سيناء المحررة في عام 1974، زيارة في عام 1983، وأخيرة في عام 1998، أنهم يميلون الى هذا التصور.

وهذا يستدعي الحاجة الى كتاب جديد عن عبد الناصر يضعه باحث مجرد من الهوى.

مذكرات محمد فايق مهندس الإعلام الناصري (4)

!تنظيم سري" في مواجهة الجيش”

5/ 2 / 2024

 

  من المعروف أنَّ جمال عبد الناصر كان ضدَّ الأحزاب السياسية، وقد ظهر ذلك عندما أقدم مجلس قيادة الثورة، فور الانقلاب على نظام الملك فاروق يوم 23 تموز / يوليو 1952، على حل جميع الأحزاب السياسية العاملة في مصر حينذاك. بل إن الشرط الأول لعبد الناصر على السوريين الذين كانوا يفاوضونه على إقامة الوحدة المصرية – السوريَّة أواخر عام 1957، أن يجري حلُّ الأحزاب السوريَّة كافَّة ومن غير استثناء، قبل الاتفاق على أي شيء آخر.

لكن عبد الناصر، بعد انفصال سوريا عن دولة الوحدة بعد نحو ثلاث سنوات فقط من قيامها، شعر بضرورة نوع من التنظيم يشكل إطاراً للحكم من خلاله. ولهذا طوَّر فكرة "الاتحاد الاشتراكي" لكي يكون هذا الاتحاد هو الإطار المطلوب. ومع ذلك، فإن عبد الناصر ظلَّ يساوره القلق من ألاَّ يستطيع "الاتحاد الاشتراكي" تشكيل الإطار المطلوب، لكونه حالة بيروقراطية، يمكن أن تشكل عبئاً إضافياً على البيروقراطية الحكومية المتضخمة والمترهلة.

ويروي محمد فايق أن عبد الناصر فاتح رئيس وزراء حكومة الصين الشعبية، شو إن لاي، بموضوع التنظيم السياسي في الدولة، وخصوصاً إزاء الجيش. وقد جرى هذا الحديث مع الزعيم الصيني بداية صيف عام 1965، عندما زار القاهرة ليتحادث مع عبد الناصر، قبل سفرهما معاً الى الجزائر تلبية لدعوة الرئيس أحمد بن بلَّة لحضور قمة الدول الآسيوية والإفريقية المقرَّر عقدها في العاصمة الجزائرية. لكن في هذه الأثناء، أي في الوقت الذي كان فيه شو إن لاي في القاهرة، وقع انقلاب قائد الجيش الجزائري، هواري بومدين، ضد بن بلَّة، فبقي الزعيم الصيني أحد عشر يوماً في مصر، قضى خلالها إجازة في الإسكندرية مع عبد الناصر، لأن الحكم الجديد في الجزائر ألغى المؤتمر. وكان الوضع آنذاك حسَّاساً، ليس فقط بسبب الانقلاب الجزائري، إنما لوجود خلافات عميقة بين الصين والاتحاد السوفياتي على قضايا عدَّة من بينها القمة الإفريقية – الآسيوية.

ويقول محمد فايق في مذكراته أنه كان من الطبعي أن يهتمَّ جمال عبد الناصر اهتماماً خاصاً بالزعيم الصيني، صديقه منذ مؤتمر باندونغ عام 1956 (المؤتمر التأسيسي لمنظومة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز)، الذي ساعده على عقد صفقة السلاح التشيكي، كما ساعده وفتح له الطريق الى الدول الآسيوية. وكانت مصر من ناحيتها، أول دولة عربية وإفريقية تعترف بجمهورية الصين الشعبية، وتقيم معها علاقات ديبلوماسية منذ عام 1956. وأكد محمد فايق أنه خلال تلك الزيارة الطويلة للزعيم الصيني الى مصر حضر شخصياً جميع المحادثات واللقاءات التي تمت بينهما.

يقول محمد فايق، حول موضوع التنظيم السياسي، إن عبد الناصر أبلغ شو إن لاي قائلاً: "إننا لم نستطع بناء تنظيم سياسي قوي بسبب الجيش (وفي رأي محمد فايق أنه كان يقصد بذلك عبد الحكيم عامر)". وأضاف: "عندما أنشأ الاتحاد الاشتراكي ’ منظمة الشباب‘ عبَّر عبد الحكيم عامر عن قلقه الشديد، بخاصًّة أن علي صبري كان أميناً عاماً للاتحاد الاشتراكي، واضطر عبد الناصر إلى إبعاد علي صبري عن أمانة الاتحاد". وأكد محمد فايق أن هذا ما جعل عبد الناصر يلجأ الى بناء "التنظيم السري"، من غير أن يفصح شيئاً عن ماهية هذا التنظيم السري، أو عن مبادئه، أو هيكليته، سوى القول إن تلك المحاولات كانت "للاستقواء على عبد الحكيم عامر في الجبهة الداخلية بتنظيمات سياسية مدنية لم تكتمل".

يُخيًّل للقارئ من خلال هذا الكلام، أنَّ عبد الحكيم عامر كان هو الرجل الأقوى في النظام المصري، وأن عبد الناصر كان الطرف الأضعف الباحث عن وسائل تنظيمية في المجتمع المدني يستطيع بها مواجهة الجيش، أو الاستقواء عليه.

وتبقى مسألة التنظيم السياسي بطبيعته الحزبية مادة للنقاش، وسوف تبقى الى أمد طويل في المستقبل في ظل الحكم الفردي، حيث تكون السلطة في يد أفرادٍ قليلين، أو الحكم الانفرادي حيث تكون السلطة في يد فردٍ واحد. وكان الصحافي محمد حسنين هيكل، المقرَّب من عبد الناصر، قد فتح نقاشاً من هذا القبيل بعد الانفصال السوري، عندما حاول أن يلامس الثغرات التي أدَّت الى الانفصال من الناحية التنظيمية، بطرح عدم إمكانية نجاح وحدة عربية بين قطرين أو أكثر، من غير أن تكون هناك "حركة وحدوية" في الأقطار الساعية الى الوحدة فيما بينها أو الراغبة في ذلك. ومن ذلك الوقت وحتى الآن لم تكن في العالم العربي حركة بهذه المواصفات غير " حزب البعث العربي الاشتراكي" الذي عمل عبد الناصر ونظامه في سوريا ومصر على تهشيمه وتهميشه، بالإضافة الى الخلل العضوي في التركيبات التنظيمية لحزب البعث ذاته.

أما فكرة التنظيم السياسي، السري أو العلني، في الحكم الفردي، فهي محكومة بالفشل مسبقاً لأنها فكرة فوقية لا تستطيع أن تتجاوز كونها جهازاً إدارياً من أجهزة الدولة. فالتنظيم السري الذي راود عبد الناصر ليستقوي به على الجيش، أو ليوازي به القوات المسلحة، لن يكون، في أحسن الأحوال، أكثر من "جهاز أمني"، أو جهاز مخابراتي. فالحركات السياسية الأصيلة القادرة على التفاعل مع المجتمع لا تنبت إلاَّ من تحت. وقد سبق أن قامت في مصر حركات من هذا النوع أبرزها "حزب الوفد" و "حركة الإخوان المسلمين" بصرف النظر عن الفوارق بينهما، من حيث إن "حزب الوفد" كان حزباً مدنياً نخبوياً،

و"حركة الإخوان المسلمين" كانت حزباً دينياً شعبياً.

فالحاجة الى "التنظيم" أو "الحزب"، حتى بالنسبة الى نظام فردي يقوده زعيم له كاريزما جاذبة، أو تتحكم به نرجسية مميزة، ليست مسألة "ديكور" للزينة مكمل لنرجسية الزعيم، بقدر ما هي مسألة ديمومة. فالزعيم الكاريزمي قصير العمر، ولو طال عمر حكمه. أما الحركة أو الحزب أو التنظيم فلهم حياة متجددة، حتى لو فشلوا، لأن سمة التجدد في الحركات الأصيلة تجعلها طويلة البقاء. فهي تستطيع أن تنهض من كبوتها، وتستطيع أن تجدد شبابها وكوادرها، أو حتى تستطيع أن تؤسس نفسها من جديد.

.وفي المقابل، فإنَّ الحركة النازلة من فوق تنتفي في داخلها القدرة على المعارضة أو الاعتراض، وتبقى مؤلفة من شخص واحد ولو بلغ عديدها مليون عضو. وبالتالي، فإنَّ أحزاب، أو تنظيمات، أو حركات الرجل الواحد، هي حركات فارغة، أو مفرغة، تسقط بسقوط واضعها، أو تموت بموته

مذكرات محمد فايق مهندس الإعلام الناصري (3)

العلاقة الكارثية بين عبد الناصر والمشير عامر

2/ 2 / 2024

لعلَّ من أهم المقاطع في كتاب مذكرات محمد فايق، هو المقطع الذي تناول فيه ما أسماه "العلاقة الكارثية بين جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر" (المقطع السادس من الفصل التاسع الصفحات 200 – 202). وبقدر ما كانت تلك العلاقة كارثية، بسبب الهزيمة المدويَّة أمام إسرائيل في حرب حزيران / يونيو 1967، بقدر ما كانت حميمية بينهما. فقد وصف محمد فايق علاقة عبد الناصر مع المشير عامر بأنها "رفقة سلاح وصداقة" وفوق ذلك قال إن المشير عامر كان الى عبد الناصر "توأم روحه".

وكان من الطبيعي، والحالة هذه أن يداريه ويقف على خاطره، بل يقف مكتوف الأيدي بالنسبة الى تمسُّك المشير بالقرار العسكري، مما أحدث ازدواجية خطيرة في النظام المصري، بحيث أصبحت القيادة السياسية التي مثَّلها الرئيس عبد الناصر في واد، والقيادة العسكرية التي مثلها المشير عامر في واد آخر، مما أوجد مناخاً لحالة انقلابية عالجها عبد الناصر بالتراجع عن قرارات تتعلق بالمؤسسة العسكرية. بل إن عبد الناصر، حسبما نقل عنه محمد فايق، وصف تلك الحالة بأنها " انقلاب نصفي".

لكن أطروحة الانفراد بالقوات المسلحة من قبل المشير عامر، تضعف عندما يؤكد من جهة ثانية أنها كانت حالة عمومية من ناحية القيادات العسكرية، منذ العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956. ففي المقطع ذاته من مذكراته يقول محمد فايق: "على الرغم من الانتصار المصري بفشل العدوان الثلاثي (بريطانيا – فرنسا – إسرائيل) في عام 1956، فإن هذا الانتصار كان سياسياً، أما عسكرياً فقد كان أداء القيادات العسكرية متواضعاً، واتضح عدم كفاءة هذه القيادات، وبخاصة قيادات السلاح الجوي، وعلى رأسها قائد السلاح الجوي محمد صدقي محمود، ولم تُتَخذ أي إجراءات وقتها لتغيير تلك القيادات، أو حتى محاسبتها"!

وتعليله الغامض "للتطنيش" عن المحاسبة اللازمة، هو أيضاً بحاجة الى تعليل. في ذلك يقول محمد فايق أن غضَّ النظر عن محاسبة القيادات العسكرية في حرب 1956، كان "كي لا تنتقص من النصر الذي تحقَّق بجلاء القوات المعتدية". فالقيادات التي كان من المفترض محاسبتها في حرب 1956 بقيت كلها في مواقعها حتى حرب حزيران / يونيو 1967، وعلى يدها وقعت الهزيمة النكراء للجيش المصري في تلك الحرب.

هناك شيء في هذه العلاقة الكارثية بين الرجلين لا يستقيم بالنظر اليه من زاويته الوطنية، ومن حيث نتائجه الفادحة على الشعوب العربية، وهي نتائج ما تزال تجرجر أذيالها حتى اليوم. أي أن تكون الصداقة الحميمة بين قائدين كبيرين سبباً للهزيمة أو مبرراً لها.

وقد حاول محمد فايق أن يعطي لعبد الناصر أسباباً تخفيفية، بالقول إنه حاول أن يقصي المشير عامر من موقعه في قيادة القوات المسلحة بعد الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة، باقتراح تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية، لكنه لم يفلح في إقناعه.

ويقول محمد فايق أن المشير عامر كان العضو الوحيد في مجلس الرئاسة، وهو مجلس تشكل في أعقاب الانفصال السوري، الذي اعترض على مشروع التنظيمات العسكرية بهدف إقصاء القيادات التي ظهر عدم كفاءتها وطال بقاؤها في مواقعها، ومنها أيضا أن تكون ترقية الضباط من رتبة عقيد وما فوق من اختصاص مجلس الرئاسة. عندئذ غضب المشير وسافر الى مرسي مطروح حيث بدأ كبار الضباط يزورونه. ويقول محمد فايق: "وظهرت تحركات داخل القوات المسلحة تشير الى أن هناك نوعاً من التذمر. هنا أدرك عبد الناصر خطورة الموقف، حيث ظهرت قدرة عبد الحكيم عامر على تحريك الجيش وولاء القيادات العسكرية له شخصياً، وبذلك أصبح عبد الناصر في موقف بالغ الصعوبة، فإما أن يتراجع عن قراراته لتجنيب البلاد ذلك من خلال كارثة الانقلاب، وأملاً في أن يستطيع معالجة الموقف بعد ذلك".

وأود هنا أن أعرض رواية، كنت فيها شاهداً، تعطي وجهة نظر مختلفة من جانب المشير عامر. فقد زرت القاهرة من بيروت عندما انتقلت اليها رئيساً لتحرير مجلة "الصياد"، المعروفة جيداً في مصر آنذاك لكونها كانت "ناصرية" في زمن عبد الناصر، وكان ذلك في أواخر عام 1982. وخلال تلك الزيارة أبلغني الزميل الراحل فيليب جلَّاب أنه حادث السيدة برلنتي عبد الحميد، أرملة المشير عبد الحكيم عامر، وأبلغها عن وجودي في القاهرة، وعرض لها من أكون وماذا أمثل، واقترح أن نقوم بزيارة خاصة لها في منزلها فرحبت بذلك، وقضينا عندها سهرة امتدت أكثر من ثلاث ساعات. كانت وحدها في المنزل مع ابنها عمرو من المشير، فسلم الشاب عمرو علينا لكنه لم يجلس معنا.

وقد كتبت ملياً عن تلك السهرة في كتاب سيرتي الذاتية "علامات الدرب"، لكنني أريد هنا أن أركز فقط على جانب "العلاقة الكارثية" بين زوجها المشير عامر و"توأم روحه" جمال عبد الناصر، حسب توصيف محمد فايق. لم أكن أعرف السيدة برلنتي من قبل، لكنني كنت أعرف أنها سيدة مثقفة، وفنانة مرهفة الأحاسيس، وقد أبلغتنا أنها مدينة بثقافتها الى الدكتور محمد حسين هيكل، الذي كان من كبار الحقوقيين في مصر، وهو أحد أعضاء لجنة الثلاثين التي وضعت دستور مصر المستقلة عام 1923، كما تقلد منصب وزير المعارف ثلاث مرات بين 1938 و1943، ثم انتخب رئيساً لحزب "الأحرار الدستوريين" حيث بقي في رئاسة الحزب المذكور حتى ثورة تموز / يوليو 1952، التي قامت بحل جميع الأحزاب السياسية القائمة آنذاك.

طبعاً، في لقاء تعارفي من هذا النوع من اللياقة عدم الدخول مباشرة في المواضيع الحساسة، فسألتها في البداية عن أعمالها الفنية، ومن خلال هذا الحديث أخبرتني عن الدكتور محمد حسين هيكل. لم تكن تلك السهرة من قبيل الحديث الصحافي التقليدي، فلا أنا حضَّرت أسئلة، ولا هي كانت ربما في هذا الوارد، وما كان معدَّاً للنشر في المجلة التي كنت رئيس تحريرها. ثم سألتها عن علاقتها مع الرئيس أنور السادات، فأجابتني بكل صراحة أنه هو اتصل بها بعد شهر من توليه الرئاسة بعد وفاة عبد الناصر، واستدعاها الى مكتبه. وقالت لي إنه رحَّب بها "شبه باكٍ" (أسفاً على وفاة زوجها المشير) وقال لها عن ابنها عمرو: "دا عمرو ابن أخويا، وانا ملزم بيه، دا ابن أخويا". ثم قالت إن تلك كانت المقابلة الوحيدة والأخيرة، وإن السادات لم يصدق بوعده لها، فلم تراجعه أو تقابله مرة ثانية.

ثم سألتها عما شاع عن زواجها السري من المشير عامر لجهة أن أحداً من القادة المصريين كان يعرف شيئاً عن الغياب المفاجئ للمشير عن السمع والبصر، فهزَّت برأسها وقالت لي: "هل تصدق أن وزير الحربية وقائد القوات المسلحة يغيب أسبوعاً عن البلد ولا أحد من القادة يعرف مكانه، خصوصاً جمال عبد الناصر".

وعندما قالت إن أركان النظام كذبوا في مسألة زواجها، خطر لي أنها تنشد القول بأنهم كذبوا أيضاً في مسألة انتحاره بعد هزيمة 1967، لكنها لم تقل ذلك مباشرةً، أو كأنها كانت تقرأ ما يجول في خاطري من هذه الناحية، فقالت: "لقد دفع المشير ثمن حبه وولائه لصديقه جمال عبد الناصر، وتحمَّل عنه عثرات كبيرة. فقد حمَّلوه مسؤولية الانفصال السوري، عندما كان مسؤولاً عن سوريا ولم يقل شيئاً. فقد كان عبد الناصر يتجاوزه بالتعاطي المباشر مع عبد الحميد السراج من وراء ظهره. فهل تعتقد بأنهم كانوا أبقوه في منصبه بعد الانفصال السوري لو أنه كان بالفعل مسؤولاً عن الانفصال؟"

واستطردت تقول بعد ذلك:" ثم حمَّلوه مسؤولية ما آلت اليه حرب اليمن ولم يقل شيئاً، بينما المسؤول عن ذلك المداخلات السياسية المتناقضة والمترددة في الشأن اليمني، وكان من الطبيعي أن يدفع الجيش ثمن تلك المداخلات. وأخيراً حمَّلوه مسؤولية الهزيمة أمام القوات الإسرائيلية وخسارة سيناء في حرب يونيو / حزيران بعد ذلك، فلم يعد بمقدوره أن يتحمَّل".

وتعليقاً على ما قالته بهذا الخصوص، كتبت في كتاب سيرتي الذاتية "علامات الدرب" ما يلي: "هذه العبارة الأخيرة من كلامها (كلام برلنتي) حمَّالة أوجه. وتساءلت بيني وبين نفسي ما إذا كان المقصود بذلك أن الكيل قد طفح فحاول المشير أن يقلب الأوضاع فتخلصوا منه، أم أنه يئس وانهار تحت طائلة المسؤولية عن تلك الكارثة التي لم تنته فصولها بعد، فاختصر المشوار بوضع حد لحياته؟ لكن برلنتي في تلك السهرة، على الرغم من لهجة المرارة التي كانت تتحدث بها، بقيت منصفة لرجال الثورة المصرية عندما سألتها عن رأيها فيهم بصورة عامة. فقالت إنهم جميعا وطنيون لا غبار على وطنيتهم، بل هم من غلاة الوطنيين، لكنهم كانوا متعلقين بالسلطة بأظافرهم وأنيابهم. كان لديهم شبقٌ مرضيٌّ للسلطة بحيث أنهم كانوا مستعدين أن يفعلوا أي شيء من أجلها.

هذه مطالعة مختلفة عن مطالعة محمد فايق. هو يقول إن عبد الناصر تحمل إخفاقات المشير عامر بسبب صداقته اللصيقة به، والسيدة برلنتي عبد الحميد قالت على مسمعي في القاهرة إن عبد الناصر استخدم صداقته للمشير علاَّقة علَّق عليها إخفاقاته السياسية، بصفته صاحب القرار النهائي في كافة الأمور.

وفي موضوع نتائج تلك "العلاقة الكارثية"، حسب تعبير محمد فايق، أي أن تكون وفاة المشير عامر نتيجة يأسه وانتحاره، أم نتيجة محاولة انقلابية فاشلة، يشير فايق الى أنها كانت محاولة انقلابية. بل هو تحسَّب للمحاولة عندما توجه الى بيت عبد الناصر يوم إعلان الهزيمة، فطلب من الفريق أول محمد فوزي أن يُرسل كتيبة عسكرية لحراسة مبنى الإذاعة تحسُّباً لقيام قوات المشير عامر باحتلالها.

ومع ذلك، فإن ظروف تلك المرحلة ما زالت بحاجة الى مزيد من البحث والتدقيق.

مذكرات محمد فايق مهندس الإعلام الناصري (2)

حقوق الإنسان ... رسالة حياة

31/ 1 / 2024

 

كان بإمكان محمد فايق أن يجد لنفسه موقعاً في نظام أنور السادات، لكنه آثر أن يستقيل من الوزارة، كما جاء في مذكراته، لأنه أيقن أن السادات عازم على انتهاج سياسة مخالفة، بل مناقضة، لسياسة عبد الناصر التي تفانى فايق في سبيلها، وأعطاها زهرة شبابه. فالمحكمة التي اختار أنور السادات قضاتها ومحققيها بنفسه، بغية إصدار أحكام مسبقة، ومشدَّدة، بحق الرموز الناصريَّة الأساسية، أقيمت خصيصاً لإبعاد الناصريين، وإزالة آثار الناصرية، أو اجتثاثها إذا أمكن.

وحتى عندما قضى محمد فايق سنته الخامسة في السجن، فتح له السادات باباً للخروج والتعاون معه، شرط أن يقدم له اعتذاراً علنياً. لكن فايق رفض هذا العرض مؤثراً قضاء سنوات خمس أخرى في السجن بعيداً عن أهله وعياله، وحتى عن أصدقائه وزملائه القدامى الذين كان معظمهم في السجون.

والسجون المصرية، سواء في المرحلة الناصرية، أو في المرحلة الساداتية، وربما الى اليوم، ليست نزهة. ذلك أن جميع نزلاء تلك السجون، والكتاب العرب والأجانب الذين كتبوا عن معاملة السجناء فيها، يجمعون على قساوة القائمين عليها، وفي حالات كثيرة أدى تعذيب السجناء الى إصابتهم بتشوهات نفسية وجسدية عميقة، وأحياناً الى وفاة بعضهم.

وربما بسبب تجربته الطويلة في السجن، كتب محمد فايق في مذكراته، أنه بعد انتخابه مفوضاً لحقوق الإنسان في الاتحاد الإفريقي عام 2009: "كان وجودي مفوضاً في لجنة حقوق الإنسان، شيئاً مستحباً عندي، حيث كنت أجمع بين العمل الإفريقي الذي أحببته، وحقوق الإنسان التي أصبحت رسالة حياتي بعد خروجي من السجن". وفي مكان آخر يقول "إن الديموقراطية حقُّ من حقوق الإنسان، وإن الديموقراطية كانت هدفاً من أهداف ثورة 23 يوليو، لكنها لم تكتمل". قال ذلك ولم يشرح أو يفسر كيف كانت الديموقراطية من أهداف الثورة المصرية، وما هي المعوقات التي جعلتها لا تكتمل.

ولسنا ندري ما إذا كان محمد فايق، خلال مهماته العسكرية أو خلال مهماته السياسية بعد ذلك، على علم بما كان يجري في سجن أبو زعبل، وفي سجن الليمان، أو على علم بفنون "التشريفات" التي كان حراس السجن يمارسونها على السجناء كلَّ صباح. ربما كان انشغاله بالشؤون الإفريقية قبل تسلمه وزارة الإرشاد القومي، حائلاً دون الاهتمام بالشؤون المصرية الداخلية، أو ربما لم يخطر بباله أن أجهزة عبد الناصر الأمنية يمكن أن تقوم بمثل هذه الأعمال. أو ربما لم تكن قد تبلورت لديه قضية حقوق الإنسان التي جعلها رسالة حياته بعد خروجه من السجن.

أليس غريباً أو مستغرباً أن يكون الزعيم اليوغوسلافي المارشال تيتو، والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، هما اللذان طرحا على عبد الناصر شطط أجهزته الأمنية في تعذيب السجناء الشيوعيين واليساريين في دولة اعتبراها صديقة أو حليفة؟

تيتو فاتحه بمقتل المفكر الاشتراكي الأستاذ شهدي عطية تحت التعذيب القاسي في إحدى "التشريفات"، وخروتشوف فاتحه بمقتل القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو في أحد أقبية التعذيب التي كان يُشرف

عليها في دمشق عبد الحميد السراج، الحاكم بأمر عبد الناصر في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة. واحد في مصر مات بتشريفة التعذيب، والآخر في سوريا بمغطس التذويب.

لم يقل عبد الناصر لتيتو وخروتشوف بأنه لا علم له بالأمر، بل وعدهما بالتحقيق في الأمر، ومنذ ذلك اليوم توقفت جميع آلات التعذيب في الإقليمين الجنوبي والشمالي.

هناك احتمال شبه مؤكد أن الوزراء في حكومة عبد الناصر، لا يعرفون شيئاً عما تفعله الأجهزة الأمنية، خصوصاً الأجهزة السرية منها، المتعلقة بأمن الدولة، أو النظام الحاكم فيها. وفي تقديري أن محمد فايق بالذات لم يكن يعلم شيئاً عن وقوع تلك الحالات، إلاَّ ربما بعد انكشافها.

بعد شهرين من وفاة عبد الناصر كتب رئيس تحرير "الأهرام" محمد حسنين هيكل مسلسلاً من أربع حلقات بعنوان "قصَّة المعركة الأخيرة" تناول فيها بالهجوم حزب البعث العراقي، فاتهمه بأنه يسعى الى "سرقة دور مصر في النضال العربي"، جازماً بأن العراق لن يكون في مقدوره قيادة النضال العربي "لا في الطبيعة، ولا في الطبع"، على حد قوله. في ذلك الوقت خلال الأيام الأخيرة من عام 1970، كنت رئيساً لتحرير جريدة "الكفاح" البيروتية لصاحبها آنذاك رياض طه، نقيب الصحافة اللبنانية، فكتبت تعليقاً مسلسلاً من أربع عشرة افتتاحية متواصلة، غايتها الرد العقلاني على هيكل، بالمحادثة وليس بالمهاترة، في إطار سليم للبحث يتعلَّق بالقضايا القومية، وليس في الإطار الدعائي لأغراض سياسية.

وعندما وضعت كتاب سيرتي الذاتية بعنوان "علامات الدرب" قبل أكثر من عشر سنوات، كان هذا الموضوع من جملة القضايا التي أعدت النظر اليها في ضوء التجربة ومستجداتها، فأشرت الى أن ما كتبه الأستاذ هيكل في ذلك الوقت، قبل نحو نصف قرن، ربما كان من أهدافه تقديم أوراق اعتماد للنظام المصري الجديد بقيادة أنور السادات. ويُستدل من كتاب مذكرات محمد فايق الذي نحن بصدده، أن محمد حسنين هيكل كان على علم ودراية، قبل أي شخص آخر، بأن أنور السادات ينوي التخلص من الناصريين في الحكم وفي الدولة، وأن أنور السادات أبلغ هيكل بذلك على طريقته مع تعليل منطقي للأسباب الموجبة.

وفي ذلك يقول محمد فايق: "بدأت أتأمل الموقف، وهنا تذكرت ما قاله السادات لهيكل من قبل، إنه إذا حارب بأعوان عبد الناصر وانتصر، فسيذهب الفضل كله إليهم، وإذا هُزم، فستكون الهزيمة مسؤوليته وحده" (الصفحة 223).

وفي خلاصة شاملة عن أهمية مذكرات محمد فايق، على الرغم من اجتنابه الخوض في المسائل الإيديولوجية كما ورد في المقال السابق، يتبيَّن أن السيد فايق كان منسجما في عمله وأدائه مع قناعاته التي أودت به الى السجن، فهو واحد على المسرح الإفريقي، وعلى المسرح الإعلامي، وعلى مسرح حقوق الإنسان.

وبالنسبة الى المعلقين والباحثين الراغبين في "استنباش" تاريخ مصر خلال القرن الماضي، فإن كتاب مذكرات محمد فايق يصلح ليكون خارطة طريق للتعمق في البحث، ومن هنا يكتسب أهميته الاستدلالية، لأنه ليس سيرة ذاتية تضع كاتبها في مواجهة العالم، ولا هو كتاب تاريخ يُغني عن البحث التاريخي.

مذكرات محمد فايق مهندس الإعلام الناصري (1)

أمانةٌ في السرد واجتنابٌ للنقد

29/ 1 / 2024

 

لفتني الأستاذ سليمان بختي، مدير دار "نلسن" للنشر، عندما زرته في بيروت أوائل الخريف الفائت الى كتاب مذكرات محمد فايق، وزير الإرشاد القومي (الإعلام) في عهد الرئيس جمال عبد الناصر بعنوان "مسيرة تحرُّر"، فأخذت نسخة منه قرأتها تالياً في لندن. قرأتها، بل استمتعت بقراءتها، وإن لم أجد فيها جديداً غير معروف. ذلك أن كتب المذكرات والسير الذاتية للعاملين في أي شأن عام، وليس فقط في الشأن السياسي، تكتسب أهميَّة خاصَّة عندما تأخذ منحى نقدياً من خلال التجربة، لأنَّ اجتناب المنحى النقدي يعطي انطباعاً بأن كلَّ ما حدث لا غبار عليه، ولا شائبة تشوبه، على الرغم من النتائج الكارثية البينة غير الخافية على أحد.

أنا شخصياً لم أتعرف على محمد فايق، لكنني عرفته من بعض الزملاء المصريين الذين تعاطيت معهم في بيروت وفي لندن، أمثال أحمد بهاء الدين، ورجاء النقاش، وصلاح عيسى، وفيليب جلاَّب، ومحمود السعدني، وعبد المجيد فريد، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأحمد حمروش، وغيرهم. عرفته من غير أن أتعرف عليه، ولذلك حرصت على قراءة مذكرات محمد فايق وعلى أن أكتب عنها لأنها تغطي أهم مرحلة في التاريخ العربي الحديث، خصوصاً من أواسط القرن العشرين الى اليوم الذي نحن فيه ونعيش في إطار ذيوله وتداعياته.

من الواضح في الكتاب أن محمد فايق نجح نجاحاً باهراً في المهمة التي أوكلت اليه لتنسيق الدعم المصري لحركات التحرر الإفريقية، من الجزائر الى جنوب إفريقيا. ومن حقه أن يعتزَّ بتلك المهمة، التي تعاطى فيها مع أكبر الزعماء الأفارقة الذين قادوا بلدانهم الى الاستقلال الوطني والتخلص من الاستعمار الأجنبي. والواقع أن المهمة الإفريقية التي قام بها محمد فايق بتكليف من عبد الناصر، جعلت من مصر قطب الرحى في القارة الإفريقية، وتوافد اليها جميع زعماء الحركات الوطنية الإفريقية طلباً للمشورة والدعم.

نجاح محمد فايق في مهمته الإفريقية، من خلال حماسه للعمل الوطني الدؤوب، وقدرته على التواصل وبناء أسس الثقة مع الآخرين، هو الذي جعل الرئيس جمال عبد الناصر يُسند اليه وزارة الإرشاد القومي بهدف تنشيط وتحديث الوسائل الإعلامية الشعبية للدولة المصرية وأهمها في ذلك الوقت الإذاعة والتلفزيون. وفي كتاب مذكراته يشرح محمد فايق بالتفصيل خطته لإعادة هندسة المسار الإعلامي المصري، وهو المسار الذي داهمته هزيمة حزيران / يونيو 1967، فهزَّته وانتقصت من مصداقيته، لكنها لم تسقطه، فأسقطه تالياً أنور السادات الذي انتقم من محمد فايق بسجنه عشر سنوات بالتمام والكمال، وهو ما سأتناوله في مقال لاحق.

كان محمد فايق أحد المقربين من الرئيس عبد الناصر، الذي كان يأنس بمشورته عندما يحتاج اليها، لأنه كان أهلاً لثقته، بعد نجاحه الملحوظ في مهامه الإفريقية التي كانت كلُّها تقريباً محفوفة بالمخاطر ومعرَّضة للانتكاس والفشل. وقد يكون هذا من العوامل التي جعلته يجتنب الخوض في القضايا الإيديولوجية المثيرة للجدل، سواء تلك المتعلقة بالوحدة مع سوريا، أو تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية، أو بالصراع مع السعودية في اليمن، أو حتى في النواحي الرمادية المتعلقة بمرتكزات السياسة الخارجية في زمن الحرب الباردة. وفي أغلب الظن أنَّه أخذ هذا المنحى كي يتجنب الكتابة النقدية الجديَّة لمسار الأمور باتجاه الهزيمة المزلزلة في الحرب مع إسرائيل عام 1967.

ولذلك فإنَّ كتاب مذكرات محمد فايق يختلف، من هذه الناحية، اختلافاً جذرياً عن كتاب صلاح نصر، مدير المخابرات الناصرية لعشر سنوات (1957 – 1967)، بعنوان "عبد الناصر وتجربة الوحدة"، لأن كتاب صلاح نصر يتناول بالبحث مسائل إيديولوجية معقَّدة، مثل القومية العربية ومفاهيمها المختلفة عن مفهوم عبد الناصر، ومثل الأفكار غير الواقعية التي كانت في ذهن عبد الناصر عن الولايات المتحدة الأميركية.

فقد جاء في كتاب صلاح نصر، على سبيل المثال: "حقيقة الأمر، كان هناك عنصرٌ من التفاهم الإيديولوجي بين عبد الناصر والأميركيين والبريطانيين في بداية الثورة، أساسه تصميمٌ مشترك على سد الطرق في وجه أي ثورة اجتماعية حقيقية. لكن هذا التعاون المأمول لم يُكتب له التوفيق، لا لأنَّ عبد الناصر لم يقتنع به، ولكن لأنَّ عبد الناصر لم يجد أي سند للفكرة في الرأي العام المصري". (صلاح نصر، "عبد الناصر وتجربة الوحدة"، القاهرة، "منشورات الوطن العربي"، كانون الثاني / يناير 1976، الفصل الأول بعنوان: "عبد الناصر والولايات المتحدة" الصفحة 14).

ويمكن القول إنَّ كتاب مذكرات محمد فايد هو كتاب تقني لمسلسل نشاطه في الحقل العام، أو بمثابة روزنامة لذلك النشاط من العمل الإفريقي، الى العمل الإعلامي، ثم من سجون السادات الى مجال النشر، والعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان من خلال عمله التأسيسي في المجلس القومي لحقوق الإنسان.

لكن المحطات التي حدَّدها محمد فايق في مسيرته في كتاب مذكراته بعنوان "مسيرة تحرُّر" تصلح لتكون مجالات لمزيد من البحث في تأطيرها الفكري والإيديولوجي، لأنه من غير الممكن أن تنقلب تلك المسيرة في الاتجاه المعاكس، حيث كان محمد فايق من أبرز ضحايا ذلك التوجه المعاكس، لو لم تكن هناك ثغرات عضوية في مسيرة الثورة المصرية من الأساس.

(صدر كتاب مذكرات محمد فايق بعنوان "مسيرة تحرر" في بيروت في شهر تموز / يوليو 2023 عن "مركز دراسات الوحدة العربية

حرب غزة (12 الأخيرة)

:القديم على قدمه والجديد ليس جديداً

أوروبا وأميركا في حروب فلسطين

.

26 / 1 / 2024

 

قد تكون الأدوار التي لعبتها أوروبا والولايات المتحدة، وما زالت، في دعم وتمكين الكيان الصهيوني من اغتصاب فلسطين كلها، والتوسع والسيطرة في المحيط العربي، موضوعاً أكاديمياً في أنحاء مختلفة من العالم، لكنه بالنسبة الى الفلسطينيين والعرب، مسألة وجودية لا تقبل التجزئة. وأي بحث يتعلَّق بهذه "الحرب الكونيَّة المستدامة"، لا يستقيم من غير الرجوع الى أصل أو منبت أو منشأ الدولة اليهودية في فلسطين، أو الدول التي رعتها وحمتها وأطلقت لها العنان.

وعندما تتأزم الأمور عند أي مفصل من مفاصل هذا الصراع الكوني المستدام، عن سابق قصد وتصميم، وبموجب خطة مبرمجة من قبل الدول والقوى الدولية، التي تدير هذا الصراع وترعاه، منذ عشرات السنين، يطرحون لذر الرماد في العيون، موضوع "حل الدولتين"، كمخرج مؤقت تمهيداً لإطلاق حرب جديدة، وليس لإحلال السلام. ذلك أنَّ إحلال السلام لم يكن وارداً في أي يوم، لأنهم يعرفون أنَّ الموضوع غير قابل للتسويات الملفَّقة.

إنَّ "حلَّ الدولتين" المزعوم، لم يبدأ مع قيام دولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلَّة، ولا بمشروع التقسيم الذي اقترحته الأمم المتحدة في عام 1947. لقد بدأ قبل زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، وقبل نهاية الحرب العالمية الأولى. إنه متضمَّن بصيغة غامضة في وعد بلفور عام 1917، ثم نصَّ عليه صراحةً بعد عشرين سنة (في عام 1937) تقرير لجنة اللورد بيل التي تشكلت في لندن عام 1936 من أجل إيجاد حلٍّ للإضراب الذي أعلنه الفلسطينيون لمدة ستة أشهر احتجاجاً على موجة الاستيطان الصهيونية الوافدة من أنحاء أوروبا، وما سبق ذلك من عمليات لشراء الأراضي الفلسطينية (خصوصاً تلك الأراضي التي يملكها أناسٌ من غير أهل فلسطين)، بغية إنشاء مستوطنات عليها لإقامة أولئك الوافدين.

واللافت في الأمر، أن رئيس الحكومة البريطانية الأسبق ونستون تشرشل، وهو المعروف بدعمه للصهيونية وبعدائه العنصري للعرب، كان أبرز المعارضين لاقتراح لجنة بيل المذكور حول "حل الدولتين". وقد شرح تشرشل موقفه هذا في اجتماعاته مع أركان الحركة الصهيونية في لندن، أمثال حاييم وايزمان، ومناحيم بيغن، وفلاديمير جابوتنسكي، على اعتبار أن دولة يهودية متجزأة في فلسطين لن تكون قابلة للحياة. وهو الذي أشار عليهم باحتلال النقب لتوسيع مجالهم الحيوي. والمعروف أنَّ تشرشل عندما كان وزيراً للحرب في عام 1920 أمر بقصف رجال الثورة العراقية الكبرى في العراق بالمواد الكيماوية والغازات السامة، (كما ورد في كتاب جيف سيمونز" من سومر الى صدام"، ثم كتابه التالي المنقَّح حول الموضوع بعنوان "من سومر الى ما بعد صدام").

بل إن تشرشل في عام 1937 كتب مقالات صحفية حول الصراع العربي – الصهيوني في فلسطين رأى في بعضها أن دولة يهودية، مدججة بالأسلحة الحديثة الى أسنانها، سوف تتوسع في جوارها على حساب "العرب المتخلفين"، لأن فلسطين "صغيرة جداً على اليهود".

وكان يحلو لتشرشل أن يتذكر قولاً لرئيس الحكومة البريطانية في القرن التاسع عشر، اليهودي بنيامين دزرائيلي، مؤداه: "إن الربَّ يتعامل مع الأمم حسب تعاملها مع اليهود"، ما يعني أن نقمة الرب هي من نصيب الأمم التي تعاديهم، والنعمة الربانية ترافق الأمم التي تنصرهم!

أما في أميركا، فإنَّ التعاطي الجدي مع المسألة الصهيونية في فلسطين فقد بدأ خلال الحرب العالمية الأولى. وكان لونستون تشرشل يد في ذلك أيضاً من أجل إقحام الولايات المتحدة في تلك الحرب خلال ولاية الرئيس ويلسون (كما فعل في الحرب العالمية الثانية خلال ولاية الرئيس روزفلت)، لأنه كان يعرف أن الدول الأوروبية الحليفة في الحربين الأولى والثانية، لن تستطيع إلحاق الهزيمة بألمانيا بمفردها، بل تحتاج الى القوة الأميركية لتحقيق هذه الغاية.

ولم يوارب تشرشل في اتجاهه هذا، من حيث اعتناقه للصهيونية كوسيلة لدفع أميركا الى الحرب في صف الحلفاء الأوروبيين ضد ألمانيا، لأن الصهيونية، حسب تعبيره، هي "العامل الأفعل في تشكيل الرأي العام الأميركي".

وكان الرئيس وودرو ويلسون الذي فاز بالانتخابات الرئاسية عام 1912 بدعم صهيوني قبيل الحرب العالمية الأولى، ثم احتل مركز الصدارة في مؤتمر فرساي للسلام بعد تلك الحرب عام 1919، قد أوفد الى سوريا بعثة لاستقصاء آراء السوريين، كما هو معلن، حول تقرير مصيرهم بعد انحلال الإمبراطورية العثمانية وانفكاك السوريين والعرب منها (بعثة كينغ – كراين). لكن كان هناك هدف مضمر لهذا الاستقصاء يُستشف من تقرير البعثة ويتعلق بإقامة دولة يهودية في فلسطين. ولذلك طُمسَ ذلك التقرير ونام في أدراج الكونغرس عدَّة سنوات، وعندما أُعلن عنه لم يكترث له أحد. والسبب في هذا التجاهل المتعمد هو رأي البعثة في مشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، حيث لفت التقرير نظر الرئيس ويلسون شخصياً، ثم عموم الشعب الأميركي، الى أن دولة يهوديَّة في فلسطين "لا تقوم ولا تدوم إلاَّ بقوَّة السلاح"، وأن هذا المشروع هو "وصفة لحرب كونية مستدامة". وقد توخَّى واضعو التقرير إرسال إشارة واضحة الى أن عبء هذا المشروع سيقع في النهاية على كاهل الولايات المتحدة الأميركية.

 أما الاتحاد الأوروبي، فإنَّ تأييده لإسرائيل وتغطية جرائمها وارتكاباتها، هو مثالٌ صارخٌ على "كونيَّة" الصراع وإدامته. إذ يقول إعلانٌ للاتحاد الأوروبي: "إنَّ الاتحاد الأوروبي وإسرائيل يتشاركان في تاريخ طويل معاً يتميَّز بتعاضد متزايد وتعاون مشترك، لأنهما كلاهما يتشاركان في قيم الديموقراطية، واحترام الحريَّة وحكم القانون".  

وبعد أسبوع واحد من اندلاع حرب غزَّة، في 14 تشرين الأول / أكتوبر الماضي، أعلنت أورسولا فان در لين، رئيسة المفوضية الأوروبية، لكي تكون "واضحة" حسب زعمها، أن "حماس" وحدها مسؤولة عما حدث ويحدث في غزَّة من فظائع، لأنها هي التي أطلقت الحرب من عقالها، فأنزلت كلَّ هذه المعاناة بالشعب الفلسطيني. فكأنَّ الشعب الفلسطيني في غزَّة كان قبل الحرب يعيش في نعيم مقيم، وليس تحت حصار بغيض بتواطؤ دول عديدة، قريبة وبعيدة، من بينها، إن لم يكن في طليعتها، الاتحاد الأوروبي وشراكته الإنسانية والديموقراطية العظيمة مع الكيان الصهيوني القائم على حكم القانون. أو كأن السيدة فان در لين لا تعرف ماذا حلَّ بحكم القانون في الدولة العبرية من أشهر قليلة قبل حرب غزَّة عندما نجح نتانياهو في العبث بصلاحيات المحكمة العليا وإخضاعها للسياسة، او على الأصح لسياسته، ومخالفاته الشخصية.

عجيب أمر رئيسة المفوضية الأوروبية التي أكدت في زيارة قبل أسابيع الى راوندا حيث علَّقت على فظائع الحرب الأهلية هناك في التسعينات من القرن الماضي بالقول: "إنَّ الماضي لن يُنسى أبداً".

!إلاَّ في فلسطين حيث يجب نسيان الماضي والحاضر  

حرب غزة (11)

:أقنعة الإنكار الإسرائيلي

البحر يُكَذِّب الغطَّاس

24 / 1 / 2024

 

ليس جديداً على إسرائيل أنها تعتمد أساليب إعلامية ودعائية مطعَّمة بعِرقٍ من التجربة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، لكنها طبعة معدَّلة، بمعنى أنها ليست سلاحاً استراتيجياً ثابتاً، إنما سلاحاً تكتيكياً متحولاً حسب الحاجة الآنية، أو حسب صعوبة المأزق الذي يستدعي الإنكار. والأهم من ذلك، أن الكيان الصهيوني ووسائله الكثيرة والفاعلة حول العالم، ينطقون ما يريدون بلسان قادة حلفائهم الرئيسيين، وأحياناً بألسنة حلفائهم الهامشيين، حسب نوع الضرورة، حيث يراد للشيء غير العقول الذي يرتكبه أو يقوم به، خصوصاً تجاه الشعب الفلسطيني، أن يبدو لفترة من الزمن، قد تكون قصيرة، وكأنه معقول بفعل عملية تجميل لازمة للإنكار السريع.

وآخر مثال على ذلك، أن الكيان الصهيوني عندما شعر بأن دعوى دولة جنوب إفريقيا ضده أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، قد أحدثت موجة عالمية عارمة من الاستنكار لعمليات الإبادة والتدمير والتهجير التي قامت بها قواته في غزَّة، وأيقن أن مرافعته أمام محكمة لاهاي كانت ضعيفة ولم تفعل أي فعل مضاد، تحركت لنجدته آلته الخارجية من أبعد مكان في العالم عن فلسطين. فقد قامت حكومتا المكسيك وتشيلي في أميركا اللاتينية بتقديم مذكرة الى محكمة الجنايات الدولية الناظرة في دعوى جنوب إفريقيا تطالبها بالتحقيق أيضاً في ما قامت به المقاومة الفلسطينية خلال هجومها على مستعمرات غلاف غزَّة يوم السابع من تشرين الأول / أكتوبر من العام الماضي، الى جانب رد الفعل الإسرائيلي على ذلك.

 وهذا يعني أن الفريقين المتحاربين متساويان في الارتكابات غير الإنسانية، وبالتالي لا تعود إسرائيل مسؤولة عما ارتكبته، وتُحاكم عليه أمام محكمة لاهاي، باعتبار أنها الفريق "المعتدى عليه"، وما قامت به تالياً هو مجرد دفاع عن النفس.

إن القناع الأوسع للإنكار الإسرائيلي هو الظهور أمام العالم بأن القضية الفلسطينية بدأت يوم السابع من تشرين الأول / أكتوبر الماضي. وهذا المنحى ليس جديداً، بل أسهمت فيه دول عربية منذ عدة عقود. ففي مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في دمشق في 29 – 30 آذار / مارس 2008، تركزت خطابات بعض الزعماء العرب على المطالبة بالعودة الى حدود ما قبل حرب حزيران / يونيو 1967، فوقف الزعيم الليبي آنذاك معمر القذافي وقال لهم: إنكم تتحدثون عن الموضوع وكأن القضية الفلسطينية بدأت في عام 1967!

فالأقنعة التي تعتمدها إسرائيل لإنكار ما تقوم به من أعمال جرميَّة واسعة النطاق في فلسطين المحتلة، يصعب تصنيفها لكثرتها، وتعدُّد استخداماتها. لكن من أهم المراجع التي يُعتدُّ بها في هذا الموضوع كتاب البروفسور الراحل ستان كوهين، أستاذ السوسيولوجيا السابق في "كلية لندن للاقتصاد" بعنوان: "حالات الإنكار: ماذا نعرف عن المجازر والمعاناة"، الصادر عام 2000. وقد تساءل أحد زملائه في الأيام الأخيرة حول ما كان سيكون موقفه مما جرى ويجري في غزة لو كان اليوم على قيد الحياة (توفي ستان كوهين في عام 2013).

وفي كتابه المشار اليه يحدد كوهين أبرز الأقنعة الإسرائيلية التي درسها في حالات سابقة. فهو يهودي من جنوب إفريقيا، وكان صهيونياً في شبابه، لكنه عندما انتقل الى إسرائيل في عام 1980 للعمل في الجامعة العبرية في القدس المحتلة، تخلَّى عن صهيونيته وغادر إسرائيل. وقد انتقد في كتابه انتقاداً لاذعاً طريقة احتضان القوى الليبرالية في العالم لتصرفات إسرائيل. وتناول في بحثه ثلاثة أوجه من الإنكار الإسرائيلي: أولاً، الإنكار المباشر أو الحرفي. وهو إعلان صريح ووقح بأن ما حدث لم يحدث. ثانياً، الإنكار التأويلي أو التفسيري. وهو الإعلان بأن ما حدث ليس كما يُقالُ أو يُظنُ. ثالثاً، الإنكار الإيحائي أو الالتفافي. وهو الاعتراف بهول ما حدث، مرفقاً بالإيحاء أنه كان لا بدَّ منه، لأن الخطأ من الطرف الآخر. أي قلب الآية، أو تلفيق الحكاية، لإظهار المعتدى عليه بأنه هو المعتدي!

ويقول زميله السابق في كلية لندن للاقتصاد كونور غيرتي، وهو الآن أستاذ قانون حقوق الإنسان في مدرسة الحقوق التابعة لها، إن انتشار وسائل التواصل الإلكتروني أسقط القناع الأول للإنكار الإسرائيلي، وهو الإنكار المباشر بالزعم أن ما حدث لم يحدث. في هذا الموضوع "البحر يُكذِّب الغطَّاس" على قول المثل اللبناني. لكنه تفكَّرَ في ما كان يمكن أن يقول زميله الراحل ستان كوهين في القناع الإسرائيلي المتحول بدلاً من الإنكار المباشر، وهو إلقاء التهم الكاذبة على الطرف الآخر، وإرباكه بمحاولة إثبات براءته، وهو أمرٌ صعبٌ ويستغرقُ وقتاً طويلاً، فتكون التهمة الكاذبة قد لصقت بالمتهم ولو الى حين.

وفي تقديري أن هذا القناع الجديد الذي لفت اليه البروفسور كونور غيرتي (في مقال مهم نشره في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس")، مستوحى من الاستراتيجيات الفضائحية التي تُطلق فيها شائعات أو إيحاءات غير صحيحة، تُنزل ضرراً فورياً بالجهة المتهمة، التي يقع عليها عبء إثبات براءتها، فلا ينفعها إعلان حكم ببراءتها لاحقاً، لأن الضرر يكون قد وقع عليها من قبل.  

لكن في النتيجة ما يحدث في الميدان هو الأصدق من جميع الأقنعة، على قول أبي تمام:

السيفُ أصدق أنباءً من الكتبِ

في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ

بيضُ الصفائح لا سودُ الصحائف في

 متنهنَّ جلاءُ الشكِّ والريبِ

.وفي الحرب الدائرة الآن، بيض الصفائح هي عظمة القضية الإنسانية التي تحملها مقاومة العدوان والاغتصاب، وسود الصحائف هي وسائل الإعلام المزيَّف المتمرِّس في التزوير.  

حرب غزة (10)

:أربع درجات للانحدار الإسرائيلي

“من دولة شبه مدنية الى دولة "كاوبوي

 

22 / 1 / 2024

 

   حتى حرب غزَّة الجارية الآن منذ السابع من شهر تشرين الأول / أكتوبر من العام الماضي، كانت إسرائيل عالقة في مأزق سياسي داخلي لم تستطع خرقه في خمس جولات انتخابية عامة خلال أربع سنوات. فما استطاع أي حزب أو تجمُّع أن يحصل على أغلبية قاطعة من الناخبين تمكنه من تشكيل حكومة واضحة المعالم، كما كان الحال في البداية بالنسبة الى "حزب العمل" بعد قيام دولة إسرائيل في عام 1948. وهذه المرحلة الغامضة التي شهدت تلك الجولات الانتخابية، وطريقة تشكيل الحكومات المتعاقبة التي أفرزتها، يمكن وصفها بأنها مرحلة "اللاحكومة"، وقد ظهر ذلك جلياً في تخبطها المخجل في حرب غزَّة بحيث فقدت الهالة الخارجية المصطنعة التي كانت تظللها، فسقط عن وجهها القناع وأصبحت أضحوكة العالم وموضع اشمئزازه.

في إسرائيل الأولى بعد 1948، أمر أول رئيس للحكومة فيها دايفيد بن غوريون بعمليات إرهابية جماعية ضد الفلسطينيين بهدف تهجيرهم، وقد نجحت تلك العمليات في حمل مئات الألوف منهم على النزوح الى الدول العربية المجاورة. لكن عندما شعر بن غوريون أن تلك العمليات الإرهابية بدأت تشكل وصمة عار عليه، عاد فأمر بوقفها. وفي تلك اللحظة، وجد بن غوريون نفسه، ومشروعه الاستيطاني، على مفترق صعب، فاتخذ قراراً جريئاً بأن منح الجنسية الإسرائيلية لمن بقي من الفلسطينيين العرب في أرضهم، وباتت اللغة العربية في إسرائيل لغة رسمية الى جانب اللغة العبرية بموجب القانون الذي ما زال سارياً الى اليوم، ويطالب بعض المتطرفين بإلغائه. وقد شهدت هذه المرحلة نهضة ثقافية فلسطينية لافتة، لمع فيها عدد من الشعراء والكتاب الكبار، ومنهم من درس اللغة العبرية وبزَّ في مؤلفاته بتلك اللغة أكبر كتَّاب إسرائيل.

هذه هي الدرجة الأولى التي حكم فيها أشخاصٌ من السياسيين الإسرائيليين يمكن وصفهم بأنهم "رجال دولة"، أمثال بن غوريون، وموشى شاريت، وليفي أشكول، وغولدا مائير، وشيمون بيريز.

ثم جاءت بعد الرعيل الأول، حكومات جنرالات الجيش. ومع أن الجنرالات هم الذين كانوا في واجهة حروب إسرائيل ضد العرب، فإن بعضهم كان يميل بصورة أكثر جدية الى إيجاد صيغة من "السلام" مع الدول العربية، وأبرزهم الجنرال إسحاق رابين، والجنرال إيهود باراك. لكن حكومات الجنرالات كانت دائماً تعطي انطباعاً بأن السلام الذي تقبله هو المتأتي من نتائج الحروب التي سبق لهم أن خاضوها، أي "سلام الغالب والمغلوب". لكن اغتيال الجنرال إسحاق رابين على يد المتطرفين الذين لا يريدون سماع حتى لفظة كلمة "سلام" مع العرب، أظهر فيما أظهر، مواطن الخلل العضوي الناخر في قلب الكيان الصهيوني. وأبرز ما في ذلك الإفصاح عن الطبيعة العدوانية والإرهابية لذلك الكيان، أنه يجيز الاغتيال كنمط من أنماط العمل السياسي والأمني. وقد ظهرت بوادر هذا النمط من البداية عندما قام إرهابيون من منظمة "شتيرن" باغتيال الكونت فولك برنادوت (يوم 17 أيلول/سبتمبر من عام 1948)، وهو ديبلوماسي سويدي من العائلة المالكة في السويد، فيما كان يقوم بعمله كوسيط دولي في الصراع العربي – الإسرائيلي.

وبلغ التدهور في أنماط الحكم في الكيان الصهيوني الى درجة سمحت بوصول إرهابيين موصوفين الى قمة السلطة التنفيذية أمثال مناحيم بيغن (العضو المؤسس لمنظمة "أرغون" الإرهابية في فلسطين أثناء حكم الانتداب البريطاني)، وإسحاق شامير (زعيم جماعة "ليهي" الإرهابية المعروفة باسم "عصابة شتيرن"). فهذه الدرجات الثلاث من التقهقر في الكيان الصهيوني، بدأت برجال السياسة، وانحدرت الى درجة الجنرالات العسكريين، نزولاً الى الميليشيات التي قادها زعماء العصابات الإرهابية. لكن المعالم الحقيقية لهذا الانحدار وتأثيراته الفعلية على مجمل الأوضاع في العالم العربي وفي العالم الأوسع لم تظهر في حينه لسببين جوهريين: أولهما الغطاء الأميركي والأوروبي الذي ستر كل العيوب في الكيان الصهيوني، ودفاع حلفائه الغربيين عنه بما ليس فيه، كالادعاء بأنه "الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، أو إظهاره بأنه راغب في السلام العادل والشامل، بينما هو في واقع الأمر عازم من البداية على حرب مستدامة. أما السبب الثاني، فهو مع الأسف تهافت معظم الدول العربية، وبدرجات متفاوتة على عقد صلح منفرد مع الكيان الصهيوني، أو على تطبيع العلاقات معه، أو عقد اتفاقيات اقتصادية وأمنية تعترف به كدولة طبيعية في المنطقة العربية.

على أن حكم الدرجة الثالثة، أي حكم زعماء الميلشيات والعصابات الإرهابية، وأولهم مناحيم بيغن، وجدوا نظيراً لهم في لبنان أثناء الحرب الأهلية التي سمحت لهم بالتعاضد مع الميليشيات اللبنانية، مما أدى في النتيجة الى قيام إسرائيل باحتلال أكثر من نصف لبنان وصولاً الى بيروت حيث ارتكبت مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين. فقد كان التحالف الميليشياوي هذا أول بوادر ظهرت عن المستوى المتدني الذي بلغته دولة إسرائيل تحت حكم "الليكود" الذي ضم بقايا العصابات الإرهابية، بل إن التجربة اللبنانية مع "الليكود" الإسرائيلي، أعطت مؤشراً على ما سيكون عليه التعاطي الإسرائيلي والغربي في دول عربية معينة يراد لها أن تنهار بفعل الصراعات الداخلية المفتعلة من خلال حالات ميليشياوية شتى.  

والآن في حرب غزَّة دخل الكيان الصهيوني في الدرجة الرابعة من التقهقر بقيادة بنيامين نتانياهو، يمكن وصفها بأنها "مرحلة الكاوبوي"، كما يعرفها الناس حول العالم من خلال أفلام "الوسترن" الأميركية. أي كأن تدخل زمرة من رعاة البقر المسلحين الى مزرعة وتقتل أصحابها، رجالاً ونساءً وأطفالاً، وتستولي على أرضهم ومقتنياتهم ومواشيهم ودواجنهم، وتدمر بيوتهم وزرعهم، ثم تسكر نشوى بما فعلت.

ومن أبرز مظاهر هذا الانحطاط أن تعلن جهات رسمية ومسؤولة في الدولة بأنها أجازت اغتيال قادة في منظمات المقاومة الفلسطينية والإسلامية التي تخوض الحرب مع القوات الإسرائيلية. وقد أقرنت القول بالفعل في غزَّة، وفي لبنان، وفي أماكن أخرى من المنطقة.

إن مثل هذا النهج قد يُربك المنظمات المستهدفة لوقت قصير، ريثما تتمكن من سد الثغرات الأمنية واتخاذ الاحتياطات اللازمة لاجتناب ذلك، لكن وجه الخطورة فيه أنه سلاح ذو حدين. بل إن إسرائيل بنهجها هذا في مسارها التقهقري، تعرض مواطنيها وداعميها في أنحاء العالم كافة للخطر، ومحل استهداف مضاد.

عندئذٍ يمكن لهذه الحالة من الاحتراب الشامل بين "الأشباح" أن تتحول الى حرب عالمية بطريقة أخرى، أو ربما الى حروب شبه أهلية في مجتمعات بعيدة عن موضوع الصراع. والآن تُسمع دعوات في داخل الكيان الصهيوني، الى إجراء انتخابات جديدة غايتها إبعاد نتانياهو وإعادة تشكيل السلطة، ومن أبرز تلك الدعوات تلك الصادرة عن رئيس أركان الجيش غدي إيزنكوت، الذي شكك بمجريات حرب غزة، وبإدارة نتانياهو لها، في السياسة من حيث رفضه للموقف الأميركي الداعي الى حل الدولتين، وفي الحرب من حيث عدم الإفصاح عن حقيقة ما يجري في الميدان، ومن حيث إمكانية تحقيق الأهداف المعلنة.

.لكن من غير المضمون أن تؤدي انتخابات جديدة الى زحزحة نتانياهو عن موقعه وغاياته المضمرة، إلاَّ بصراع أهلي، شأن ما يجري في بعض الأفلام

 

   

حرب غزة (9)

بين قادة السياسة وقادة الميدان 

19 / 1 / 2024

 

كان رئيس الحكومة الفرنسية المشهور في مطالع القرن العشرين، جورج كليمنصو، هو الذي بعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) هندس مؤتمر السلام الذي انعقد في فرساي بالقرب من باريس عام 1919، وهو الذي هندس أيضاً مشروع إقامة لبنان الكبير بناء على مطلب البطريرك الماروني في ذلك الوقت الياس الحويك.  ومع كل ذلك فإنَّ كليمنصو لم يشتهر بشيء كما اشتهر في عبارة واحدة أطلقها عن إدارة الحرب حيث قال: "إن الحربَ مسألةٌ أكثرَ جديَّةً من أن يُترك أمرُها للعسكريين

لكن كليمنصو أطلقَ هذه العبارة عندما كانت حروبُ زمانه، وما قبله، هي عبارة عن معارك لها قوانينها وقواعدها وأعرافها بين جيوش نظامية. وهذا النوع من الحروب له مفكرون اشتهر منهم اثنان: واحد في التاريخ الصيني القديم هو صن تزو الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد (544 ق.م – 476 ق.م)، وكان في زمانه قائداً ميدانيا، وقد وضع كتاباً مهماً بعنوان "فنُّ الحرب"، وواحد في القرن التاسع عشر الميلادي، هو الجنرال والمنظِّر الاستراتيجي الألماني كارل فون كلاوسفيتش، الذي اشتهر بكتابه "في الحرب". وقد ظلَّ كتاب كلاوسفيتش مصنَّفاً حتى أمد قريب بأنه "من الكتب التي غيَّرت العالم"، الى أن أصدر هيو ستراكان أستاذ التاريخ العسكري في جامعة أكسفورد البريطانية كتاباً نقدياً عن سيرة كلاوسفيتش وأفكاره بذات العنوان "في الحرب". وجاء في خلاصة الناشر لكتاب ستراكان (منشورات أتلانتيك مونثلي في الولايات المتحدة): "إن كتاب كلاوسفيتش عن الحرب لم يكتمل إطلاقاً، وإن نُشِر وانتشر على نطاق هائل، فهو غامضٌ ومتناقضٌ، وما قاله في كتابه الأول أسقطه في كتابه الثامن، كما إن لغته مشوَّشة في كثير من الأحيان، وصلتها بالموضوع ليست دائماً واضحة. إنَّ كتاباً قد غيَّر العالم فعلاً، يبقى محيِّراً للقارئ العادي الذي يتناوله، أو يحاول مصالحته مع ذاته، أو يضعه في إطاره".

 أما المفكر الاستراتيجي الصيني القديم صن تزو فقد حدَّد خمسة عوامل ثابتة تحكم فنَّ الحرب هي: القانون الأخلاقي، الأحوال الجويَّة، طبيعة الأرض، القائد الميداني، وأخيراً حالة الانضباط. وركَّز صن تزو بشكل خاص على شخص القائد الميداني وحدَّد له صفات واضحة، وصفها بأنها "فضائل ثابتة" هي: الحكمة، والإخلاص، وعمل الخير، والشجاعة، والصرامة. ذلك أن القائد الميداني الحكيم والشجاع هو الذي يحدد مسار العمليات العسكرية حسب الظروف المحيطة به، بصرف النظر عن الاعتبارات السياسية التي أطلقت شرارة الحرب في الأصل.

وهذه النظريات العسكرية تغيَّرت كلها مع نشوء الحروب ذات الطبيعة الإيديولوجية أو العقائدية الدينية بشكل خاص، وتحديداً الحروب المتعلقة بالإسلام من أيام الرسول محمد بن عبد الله الذي هو الآن موضعُ درسٍ في بعض الأكاديميات العسكرية الغربية المهتمة بالتاريخ العسكري. وخلال السنوات القليلة الماضية صدرت عدة مؤلفات حول الموضوع للمؤرخ العسكري الأميركي روس رودجرز، أستاذ التاريخ العسكري في الكليات الحربية الأميركية، أبرزها كتابه "محمد قائداً ميدانياً: معارك وحملات رسول الله". وله أيضاً كتاب بعنوان " أساسيات الحرب الإسلامية غير المتكافئة: تحليل وثائقي لمبادئ محمد". وهذا ينقلنا الى الحرب الجارية الآن بين الكيان الصهيوني وحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين وفي المنطقة، وفحواها تحقيق نتائج ميدانية باهرة في ظروف غير متكافئة.

ولذلك فإنه من الطبيعي في حرب كهذه أن يكون هناك تفاوت أو تضارب بين اتجاهات القادة السياسيين واتجاهات القادة الميدانيين، وهو أمر يفرضُ نفسه على كلا الفريقين المتحاربين. فالقادة السياسيون لحركة حماس في غزَّة مقيمون خارج أرض المعركة، وبالتالي فإنَّ اتصالهم بمجريات الميدان وتطوراته بطيئة، أو ربما مقطوعة أو في أحسن الأحوال متقطعة، مما ينبىء بأن قادة الميدان هم الذين يقررون المسار السياسي، لعجز قادة السياسة عن توجيه مجريات الميدان.

يضاف الى ذلك أن القيادة السياسية لحركة حماس، بسبب انتمائها الأصلي الى حركة الإخوان المسلمين، تكتنفها بعض الإشكاليات المتعلقة بالواقع الإقليمي. فالمعروف منذ سنوات عديدة تعود الى بدايات بروز حماس على المسرح السياسي والعسكري في غزَّة أن سوريا كانت هي الداعم الأول والأفعل لها لمدة زمنية طويلة. وعندما بدأت الاضطرابات الموجهة من الخارج داخل سوريا في عام 2011 – 2012، آثرت حماس بشخص قائدها السياسي خالد مشعل، المقيم آنذاك في دمشق، أن تماشي المتمردين على النظام السوري، لكون حركة الإخوان المسلمين في صدارة الاضطراب المعادي لذاك النظام، فانتقل مشعل من العاصمة السورية الى الخارج. ولم يكن هذا تطوراً قليلَ الشأن، على الأقل لكونه غير متوقع من أحد، وربما ما كان متوقعاً من النظام السوري نفسه.

والآن تقيم القيادة السياسية لحركة حماس وتمارس نشاطها الديبلوماسي من دولة قطر وبصورة علنية، في الوقت الذي تعلن فيه إسرائيل عن عزمها على اغتيال قيادات حماس أينما وجدوا. وبالفعل قامت باغتيال صالح العاروري في شقة في عقر دار حزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية. والمعروف أن علاقة حزب الله بحركة حماس لم تتأثر على الإطلاق بالقطيعة بين حماس وسوريا، على الرغم من أن حزب الله انخرط بكل قوته في الحرب السورية الى جانب النظام الحاكم الذي انفكت عنه حماس وعارضته. وهذا الوجود العلني لقادة حماس في دولة قطر لافت للنظر وللتساؤل، لأن قطر هي مركز أكبر قاعدة جويَّة أميركية في الشرق الأوسط، وتبعد مرمى حجر فقط عن مركز الأسطول الأميركي الخامس في مملكة البحرين، وهي بالتالي ليست بعيدة عن المرمى الأميركي أو المرمى الإسرائيلي.

وفي مثل هذا الوضع يجوز الافتراض أن قادة الميدان في غزة هم الذين يحددون الخيارات السياسية، وبالتالي فإن القادة السياسيين ليسوا هم الذين يقررون مجريات الميدان. ولا يعني ذلك أن هناك صراعاً بين القيادتين، لكن من غير المستبعد، بل ربما من المحتمل، أن تكون بينهما رؤى مختلفة للحرب ونتائجها المطلوبة أو المتوقعة.

وكذلك الأمر بالنسبة الى الجانب الإسرائيلي، لأن إدارة الميدان من قبل الغزيين فرضت على إسرائيل خيارات ميدانية لم تكن في الحسبان، وكانت لها مضاعفات إقليمية وعالمية واسعة النطاق، من بداية الحرب وحتى الآن. فمن البداية كان رد الفعل الإسرائيلي على عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها قوات المقاومة الإسلامية في غزة، بطيئاً الى درجة الغياب عن الوعي لساعات، مما أربك القيادات السياسية والقيادات العسكرية. وهذا المسار من شأنه أن يتفاقم مع استمرار الحرب لمدة أطول، بحيث من المتوقع أن تكون الخيارات السياسية لقادة الميدان أرجح من الخيارات العسكرية للقادة السياسيين

.وربما كان هذا هو النجاح الأهم لعملية "طوفان الأقصى" في النتائج الموضعية للحرب بصرف النظر عن بقية التداعيات الخار 

(8) حرب غزة

صمت خجول وصمت خبيث 

17 / 1 / 2024

 

يستطيع المراقب للدينامية التي أطلقتها حرب غزَّة في جميع أنحاء العالم أن يفهم الموقف الداعم لإسرائيل من قبل الدول الأوروبية. فالدول الأوروبية هي جزء من الحالة الصهيونية العالمية، ومنضوية في حلف شمال الأطلسي الحامي للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، والشرطي الحارس للمصالح الغربية حول العالم. وهذا التشخيص للدول الأوروبية ليس من نسج الخيال، بل هو مسجَّل بالصوت والصورة عندما تهافت الزعماء الأوروبيون على زيارة الكيان الصهيوني للتضامن معه في بداية حرب غزَّة، مقتدين بالرئيس الأميركي ووزير خارجيته. وهم وقفوا هذا الموقف العلني حتى في وجه شعوبهم التي هالها حجم الإبادة والدمار الذي أنزله الصهاينة بالشعب الفلسطيني، وكأنهم يقولون لشعوبهم، قبل بقية العالم، إنهم مع الكيان الصهيوني ظالماً أو مظلوماً.

فالشعوب الأوروبية تضامنت مع اليهود عندما كانوا مظلومين، لكن القوى الحاكمة في أوروبا تريدهم أن يتضامنوا مع الصهاينة عندما يكونون ظالمين أيضاً. وتفسير ذلك ليس صعباً، وهو أن الدول الأوروبية هي التي أنشأت دولة الاغتصاب الصهيوني في فلسطين المحتلة، وهي التي رعتها من البداية، وترعاها اليوم تحت قيادة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. والشعوب الأوروبية في غالبيتها، بسبب السيطرة الإعلامية الصهيونية الشاملة، لم تكن تعرف كيف يُدار العالم. لكن معرفتهم أخذت تتزايد مع كل حرب كانت تشنها القوى الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الى اليوم، في بلدان عديدة نائية، تحت سرديات ملفقة، أو مفتعلة، ووحيدة الجانب. بمعنى منع أو طمس أي رواية للجانب الآخر المعتدى عليه بحجة أنه هو المعتدي.

لكن ما جرى في قطاع غزة خلال الأشهر الثلاثة الماضية كشف المستور، لأنَّ الفلسطينيين هناك محاصرون حصاراً خانقاً، وكأنهم جميعاً في معسكر اعتقال، وفريسة سهلة للصيد. كل المعابر مسدودة، وكل المسالك مقفلة. يعيشون عيشة مرَّةً في حالة نقص دائم في الغذاء والدواء والوقود، ومعظمهم في مخيمات للاجئين تعيش على صدقات متقطعة من الأمم المتحدة التي تعمل تحت أمرة الدول الغربية. هذا مشهد لا يستطيع العالم أن يتحمله ‘خصوصاً أن الكيان الصهيوني تمادى في عدوانيته الى درجة نفي إنسانيته هو بالإفراط في عمليات الإبادة النافية لإنسانية الشعب الفلسطيني، فكأنه ينحر قطيعاً من المواشي في مسلخ مغلق.

في البداية كان للحكومات الأوروبية حركة وضجيج، لكن مع الصمود الفلسطيني وتغيُّر المناخات الشعبية داخل بلدان تلك الحكومات، بدأت تلزم الصمت، خصوصاً بعد تحرُّك حكومة جنوب إفريقيا بإقامة دعواها أمام محكمة الجنايات الدولية ضد أعمال الإبادة التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في قطاع غزَّة. لكن هذا النوع من الصمت هو الصمت الخبيث. فاستهتار أميركا، وباقي الدول الغربية السائرة في ركابها، بالقوانين الدولية، وبالمبادئ الأخلاقية، وبالحقوق الإنسانية، هو منبت الاستهتار الصهيوني. فقد أسقطت القضية الفلسطينية من يد تلك القوى الموالية للصهيونية إشهار سلاح انتهاك الحريات، وحقوق الإنسان، والديموقراطية، والقوانين الدولية، في وجه كل جهة لا تعجبها كما كانت في السابق، لأنها الآن أمام حالة شعبية يقظة لا تنطلي عليها أي رواية وحيدة الجانب.

أما صمت الدول العربية والإسلامية فبعضه خجول وبعضه تستُّر على انحرافات لم يُتح لها أن تأخذ مداها. ومصدر الخجل أن جهة غير عربية وغير إسلامية هي التي تجرَّأت على مقاضاة إسرائيل نيابة عن الشعوب العربية والإسلامية. وهذا الشعور بالخجل هو شعور مركَّب، لأنه ليس نابعاً من شعور بالذنب لعدم المبادرة، أو للشعور بالعجز، بل لأنها كانت تقف على عتبة التطبيع مع الكيان الصهيوني عندما داهمتها الحرب، فوقفت حائرة مشدوهة.

 صحيح أن معظم دول العالم لا تعوِّل كثيراً على المحكمة الجنائية الدولية، لكن تلك الخطوة من قبل دولة جنوب إفريقيا، صاحبة التجربة الرائدة في دحر التمييز العنصري، والاستيطان الاستعماري، لها قيمة رمزية وأخلاقية كبرى، لأنها الأنموذج الأرقى والأرفع أخلاقية بين حالات مقاومة الاستعمار حتى الآن. وربما كان ذلك من أسباب الصمت العربي والإسلامي، من حيث إن كلمة جنوب إفريقيا هي كلمة مسموعة ولها صدى كبير في كل أنحاء العالم، بينما كلمة الدول العربية والإسلامية ليس لها مثل هذا الوزن في عالم اليوم، باستثناء الوزن المادي للدول النفطية، وهو حتى الآن وزنٌ ضاغطٌ عليها أكثر مما هو مبعث قوة فعلية في يدها

!هما صمتان أصمَّان إزاء حالة واحدة، صمت مفهوم وصمت غير مفهوم

   

حرب غزَّة (7) 

حريَّة الملاحة أم الدفاع عن إسرائيل

15 / 1 / 2024

 

باتت المحاولات الأميركية والأوروبية لاحتواء الوضع في البحر الأحمر أكثر دقة وحساسية بعد الضربات الجوية الأخيرة ضد اليمن. ومما زاد من حساسيتها مصادرة إيران في مضيق هرمز لحاملة نفط تنقل شحنة أميركية، ردا على مصادرة الولايات المتحدة سابقاً لشحنة إيرانية اعتبرتها طهران "عملية سرقة موصوفة". لكن ما يعقد المشكلة في البحر الأحمر، أن النيات الأميركية المعلنة من حيث عدم الرغبة في توسيع رقعة الصراع في المنطقة، دخلت حالياً في نقطة حرجة، لتنتقص من المصداقية الأميركية من حيث الرغبة المعلنة في احتواء الصراع

ومن الأسئلة التي تُطرح هي تلك التي تثير القلق والشك، في البلاد العربية خصوصاً، من حيث عرقلة الولايات المتحدة لجميع المساعي الدولية لوقف القتال في قطاع غزة، بما في ذلك استخدام حق الفيتو أكثر من مرة ضد أي قرار يدعو إسرائيل الى وقف الحرب وفتح باب المساعدات الإنسانية الى الشعب الفلسطيني المحاصر، والمعرض لأنواع شتَّى من الأخطار المهددة للحياة في كل لحظة منذ أكثر من ثلاثة أشهر. وفي الوقت الذي توسع واشنطن وحلفاؤها دائرة الحرب في البحر الأحمر، بحجة الدفاع عن حريَّة الملاحة، يبدو الصمت مطبقاً حيال تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية المتكررة بأن حربه في غزة سوف تستمر لعدة أشهر مقبلة.

وبذلك يكون التوازن الحرج الذي يزعم الغربيون أنهم يرغبون فيه كوسيلة احتواء لمنع تمدُّد الحرب في المنطقة، غايته دعم إسرائيل في إطالة حربها ضد الفلسطينيين، وتجريد حركات المقاومة ضد إسرائيل في الجبهات المحيطة من فاعليتها، سواء بمواجهتها عسكرياً كما يحدث في اليمن، أو بالضغط الديبلوماسي كما يحدث في لبنان، والى حدٍ ما في سوريا والعراق. فما يحدث الآن على مختلف الجبهات المفتوحة عل كل الاحتمالات، بفعل التوتر الحاصل في البحر الأحمر من جراء التأثير السلبي على الملاحة العالمية، لا ينبىء بأنه من قبيل التوازن بين الديبلوماسية والحرب، بقدر ما يشي بأنه نوع من "التناوب" بين وسائل الضغط في اتجاه واحد. فالضغوط الظاهرة الآن تبدو في اتجاهات مختلفة وعديدة باستثناء وجهة واحدة، هي الجهة التي ما زالت ترفض أي مسعى لوقف الحرب في غزة، بل تعلن عزمها على الاستمرار فيها لأشهر عديدة.

وبالنظر الى دقَّة الوضع، من زاوية الموقف الأميركي المبهم، فإن المعادلة الأسهل على الجميع تقول بأن أقصر الطرق الى استبعاد توسعة مسرح الحرب، هو وقف الحرب. وطالما أن وقف الحرب حتى الآن، وربما الى أمد طويل في المستقبل المنظور، ليس مطروحاً بصورة جديَّة من قبل أميركا وحلفائها، فإن ذلك يُلقي شبهة على موقف الأميركيين والأوروبيين، بأنهم يدفعون الأمور ببطء نحو الحرب الشاملة. فكيف يمكن للأطراف المعنية أن تكون ذات صدقية في زعمها بأنها تسعى الى منع اتساع رقعة الحرب، من غير أن تسعى لإطفاء شعلة الحرب في مهدها!

وبالتالي، فإنه من حق أيٍ كان أن يشتبه بحلفاء إسرائيل وداعميها في الولايات المتحدة وأوروبا، بأنهم لا يدافعون عن حرية الملاحة في البحر الأحمر، بقدر ما يدافعون عن إسرائيل.

ومن ناحية ثانية، فإن موضوع الملاحة في البحر الأحمر ليس هو الموضوع الاستراتيجي الأول في الصراع القائم حول اليمن. ذلك أن صنعاء تعرَّضت لحرب لا تقل عنفاً ودماراً عن حرب غزة ولسنوات عديدة دون هوادة، وكانت الولايات المتحدة طرفاً خلفياً فيها، ومن غير إبداء أي اهتمام أو اعتبار لليمن أو اليمنيين، على غرار ما يفعلون الآن بالنسبة الى الفلسطينيين في غزة. مع أن عمليات اليمنيين في البحر الأحمر لا تستهدف الملاحة العالمية، بل تستهدف فقط السفن المتوجهة الى إسرائيل ومنها، والتجارة الإسرائيلية عبر البحر الأحمر لا تشكل سوى نسبة ضئيلة جداً من حجم التجارة العالمية التي تمر في مضيق باب المندب، أو في قناة السويس.

حتى ليبدو أن دعوى حرية الملاحة في البحر الأحمر هي مجرد ذريعة ليس إلاَّ. ذلك أن المنطقة اليمنية عند باب المندب تقع على مسافة قصيرة قبالة جيبوتي على الشاطئ الإفريقي من البحر الأحمر، حيث لفرنسا وللولايات المتحدة قواعد عسكرية منذ أمد طويل. وهذه القواعد تبعد مرمى حجر، كما يُقال، عن الشاطئ اليمني. وفوق ذلك هناك وجود عسكري وأمني إسرائيلي ليس فقط في جيبوتي، بل في اريتريا، وإثيوبيا أيضاً.

فما هو الموقف الأميركي في البحر الأحمر من مطالبة إثيوبيا الآن بميناء بحري على البحر الأحمر، وقد فقدته منذ استقلال اريتريا عنها قبل أكثر من ثلاثين سنة. وفي الوقت الحاضر أعلن رئيس حكومة إثيوبيا آبي أحمد أن "البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا وسوف يظل كذلك". والأسئلة كثيرة حول هذا الموضوع، ولماذا تثيره إثيوبيا في الوقت الحاضر حيث البحر الأحمر محط أنظار كل دول العالم؟ وماذا إذا وقعت بسبب هذا الموضوع حرب واسعة بين إثيوبيا وجيرانها على الجانب الآخر من البحر الأحمر (الجانب الممتد من اريتريا والصومال الى جيبوتي وكينيا)؟ وماذا لو دخلت مصر، المعنية الآن بحرب غزة، طرفاً في هذا الصراع الإفريقي على البحر الأحمر، بالنظر الى خلافها مع إثيوبيا على مياه النيل بعد اكتمال مشروع "سد النهضة" الإثيوبي الذي تعارضه القاهرة منذ أن كان مجرد فكرة على الورق؟ وأين تقف أميركا وإسرائيل من هذا الموضوع، بل من الحرب الأهلية الإثيوبية القائمة بين حكومة أديس أبابا وحركة التمرد الأمهرية في مقاطعة "تيغري" منذ سنوات؟

هناك مشاكل ومعضلات كثيرة في البحر الأحمر غير الموقف اليمني المساند للفلسطينيين في غزَّة، بل ربما أهم وأشمل.

 

  

حرب غزَّة (6)

:إسرائيل أمام محكمة لاهاي

مفترق في العدالة الدولية منذ محاكمة المسيح

12/1/2024


شكَّل مثول إسرائيل أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي خلال الأيام الأخيرة، بموجب دعوى الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزَّة التي قدمتها دولة جنوب إفريقيا في الأسبوع الماضي، أياً كانت نتائجها، مفترقاً مهمَّاً في العدالة الدولية المجهضة بفعل تواطؤ الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية مع الدوائر الصهيونية الحاكمة من وراء الستار. وهو ما أدركته شعوب العالم قاطبةً، بما في ذلك الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية، بفعل حرب الإبادة التي تشنها آلة الحرب الصهيونية – الغربية ضد الشعب الفلسطيني في غزَّة، والتمييز العنصري الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.

كان يحلو لبعض المؤرخين في الغرب، تشبيه الولايات المتحدة ونظامها الإمبريالي بالإمبراطورية الرومانية من حيث اتساعها العالمي ونظامها السياسي القائم على إخضاع الشعوب بالقوة العسكرية، وبالتواطؤ السياسي. وفي هذا الادعاء أوجه شبه كثيرة، سوى أن الدولة الرومانية في جوهرها، خصوصاً في زمن الجمهورية قبل النظام الإمبراطوري الذي نشأ نتيجة الحروب الأهلية التي سبقت وأعقبت اغتيال يوليوس قيصر في 14 آذار / مارس من عام 44 قبل الميلاد، كانت تميل الى مؤاخاة الشعوب الواقعة تحت سيطرتها، والاعتراف بثقافاتها ودياناتها وخصوصياتها، أكثر مما فعلت أميركا حتى الآن. بل إن الطبقة السنا تورية في الكابيتول الروماني، كانت أرقى، وأنزه، وأثقف، وأكثر تهذيباً، من الطبقة السنا تورية الراهنة في الكابيتول الأميركي.

وعلى الرغم من تواطؤ الحاكم الروماني في فلسطين مع المؤسسة الدينية اليهودية، مما أدى الى الحكم بصلب السيد المسيح، إلَّا أن الحاكم الروماني في ذلك الوقت، بيلاطس البنطي، وجد في نفسه شجاعة التنصل من المسؤولية مرتين: مرة عند إبرام حكم الصلب عندما غسل يديه من المسؤولية، ما دفع المؤسسة الدينية اليهودية الى تحميل نفسها وجميع الأجيال اليهودية التالية الى الأبد مسؤولية "قتل الإله" بقولهم لبيلاطس: "دمه علينا وعلى أولادنا".

والمرة الثانية، عندما طلبوا منه أن يزيل عبارة كتبت فوق رأسه على الصليب باللاتينية واليونانية تصفه بأنه "ملك اليهود"، فرفض بيلاطس قائلاً لهم: "ما كُتب قد كُتب".

هذا مفترق ما زال سالكاً. حتى الأحداث التي جرت توجهاتها العدلية الحديثة على نمط مغايرفي عصر الإمبراطوريات الأوروبية الأخيرة، والإمبراطورية الأميركية الراهنة، تدلُّ على تواطؤ عضوي لا هوادة فيه بين تلك الدول الغربية وبين الحركة الصهيونية التي باتت أقوى من جميع الأنظمة السياسية في دول كثيرة نافذة في العالم اليوم.

ففي عام 1975، في أوج الحرب الإسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان، ما أدى الى نشوب الحرب الأهلية في لبنان، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصريًّة والتمييز العنصري، تتوجب إدانتها وإزالتها (القرار 3379 بتاريخ 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1975). وقد اتخذ القرار المذكور بأغلبية 72 صوتاً ضد 35 صوتاً، وامتناع 32 دولة عن التصويت.

لكن الجمعية العامة ذاتها عادت فألغت القرار 3379 المذكور امتثالاً لطلب من الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، بعد 16 عاماً من تصديقه، (بالقرار 86/46 بتاريخ 16 كانون الأول / ديسمبر من عام 1991). والملاحظة الملفتة، التي تدل على ثقل السيطرة الأميركية في الأمم المتحدة، أن قرار الإلغاء تم بأغلبية ساحقة بلغت 111 صوتاً ضد 25 صوتاً، وامتناع 13 صوتاً فقط عن التصويت.

والملاحظة الثانية التي تشكل فضيحة للأمم المتحدة أن إلغاء قرار إدانة الصهيونية بالعنصرية، تم بسطر واحد، من غير إبداء أي أسباب موجبة، أو أي شرح لحيثيات مثل هذا القرار، ولم يكلف أحد نفسه عناء مناقشة الموضوع، بما في ذلك الدول العربية والإسلامية. فقد نصَّ قرار السطر الواحد على ما يلي: "قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلغاء القرار رقم 3379 الصادر في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1975".

لا يحتاج المراقب الى كثير عناء ليعرف ما هي الأسباب التي حملت رئيس الولايات المتحدة الى إلزام الأمم المتحدة بذلك القرار الممسوخ. يكفي أن يقرأ سطراً واحداً من خطاب الرئيس بوش الأب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لتظهر أمام عينيه الملامح الصهيونية بأجلى صورها. فقد قال في خطابه ذاك: "إن مساواة الصهيونية بخطيئة العنصرية التي لا تُغتفر، هي تحريف للتاريخ، ونكران لمأساة اليهود في الحرب العالمية الثانية، بل عبر التاريخ".

لكن من حسن الحظ أن دعوى دولة جنوب افريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية والتمييز العنصري، هي الأصدق إنباء عن حقيقة الموضوع من جميع رؤساء أميركا منذ الحرب العالمية الأولى زمن الرئيس وودرو ويلسون الى اليوم زمن الرئيس جو بايدن.

ذلك أن نضال جنوب إفريقيا ضد النظام العنصري الذي أقامه الاستعمار الأوروبي الأبيض ضد أهالي البلاد الأصليين من السود، وما انتهى اليه بتفكيك النظام العنصري السابق سلمياً، هو بحد ذاته دليلٌ مقنعٌ بصوابية مضمون الدعوى، وجديتها. ولولا ذلك لما قبلت محكمة الجنايات الدولية النظر فيها.

وبالعودة الى قضية الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي الفرد درايفوس في أواخر القرن التاسع عشر، الذي اتهمته المؤسسة العسكرية في فرنسا بالخيانة العظمى بالادعاء أنه باع أسراراً عسكرية فرنسية الى العدو الألماني عام 1894، واستمر الجدل حول تورطه أو براءته الى عام 1906، يتبين أن تلك القضية التي لمع فيها نجم الكاتب الفرنسي إميل زولا في مقاله على الصفحة الأولى من جريدة "لورور"، بشكل رسالة موجهة الى الرئيس الفرنسي فيليكس فور بعنوان "إني أتَّهم"، دافع فيه عن الضابط اليهودي معتبراً أن التهمة بحقه كانت ملفقة، ما هي سوى مؤشر على إمكانية إخضاع العدالة للسياسة. وليس من عجب أن تبقى قضية درايفوس قابلة للاستعمال حتى اليوم، عندما يكون في مصلحة الدول النافذة تطويع العدالة لأغراض غير عادلة.

فالإشارة، تلميحاً أو تصريحاً، الى أن المؤسسة العسكرية الفرنسية اختارت ضابطاً يهودياً لإلصاق التهمة به تغطيةً على ما كان يجري آنذاك في داخل الجيش الفرنسي، وتوجيه الأنظار نحو اليهود ككبش محرقة عن إخفاقاته في مواجهة ألمانيا، ما زالت قابلة للاستعمال في أي اتجاه. فالتلاعب القضائي في هذه الدعوى، هو الشقيق التوأم للتلاعب الأممي بقرار المنظمة الدولية إدانة الصهيونية بأنها عنصرية، ثم التراجع عنه من غير تعليل سوى بعذر جورج بوش الذي هو أسوأ من ذنب، لأنه اعتبر أن اليهود تعرضوا للاضطهاد عبر التاريخ من غير ذنب ارتكبوه، بما في ذلك طبعاً صلب المسيح... ولذلك أعطاهم الحق في اضطهاد الآخرين.

حرب غزَّة (5)

لبنان المساندة ولبنان المواجهة

10/1/2024


في حرب فلسطين الأولى، 1947 – 1948، لم يكن عدد الدول العربية المستقلة يتجاوز عدد اليد الواحدة، وهم الذين أسسوا جامعة الدول العربية قبل ثلاث سنوات من قيام دولة إسرائيل. وقد شاركت فرق من بعض هذه الجيوش في تلك الحرب التي انتهت بتوقيع اتفاقيات الهدنة مع إسرائيل بعد سنة واحدة فقط من قيامها. ولما كانت تلك الدول التي شاركت في حرب فلسطين الأولى حديثة العهد بالاستقلال، فإن جيوشها كانت قليلة العدد وقليلة السلاح والعتاد، وهو ما اقتضى الاستعانة بمتطوعين من دول الجوار انضووا تحت ما أسموه "جيش الإنقاذ" بقيادة ضابط سابق في الجيش السوري، (لبناني من مدينة طرابلس)، هو فوزي القاوقجي، ومعظم هؤلاء المتطوعين لم تكن لديهم خبرات عسكرية وإن كان في عدادهم بعض العسكريين السابقين. كانت نتيجة حرب فلسطين الأولى مهزلة، أدت بالتالي الى انقلابات عسكرية في سوريا، ثم الى الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر. وهذه الانقلابات التي قيل إن القضية الفلسطينية كانت من محركاتها الأساسية، لم تكن النتائج التي حققتها في الميدان أحسن حالاً من جيوش 1948، بل أدت هزائمها الى توسع الكيان الإسرائيلي في كل الاتجاهات. وبين الهزيمتين العسكريتين، هزيمة 1948 التي أدت الى قيام دولة إسرائيل واتفاقيات الهدنة معها، وهزيمة 1967 التي أحدثت تغييرات نوعية، منها إطلاق ما أسموه "عملية السلام" بعد النجاح النسبي الذي حققه الجيشان المصري والسوري في حرب 1973، نشأت حركة فلسطينية مقاومة، باسم منظمة "فتح" وذراعها العسكري منظمة "العاصفة"، والتي انتهت الى عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل في أوسلو، لم يبق منها سوى حكومة محمود عباس الدهرية في رام الله. وخلال ذلك المسلسل الطويل من الانقلابات، والحروب، وعمليات المقاومة، جرى تصنيف للدول العربية التي كانت ما تزال في حالة حرب مع إسرائيل الى نوعين: دول للمواجهة ودول للمساندة. وقد جرى تصنيف لبنان بأنه "دولة مساندة" بسبب ضعف قوته العسكرية وتعقيدات تركيبته السياسية، ولذلك لم ينخرط في حرب فلسطين الثانية لعام 1967، أسوة بسوريا ومصر والأردن، وكلها على تماس حدودي مع إسرائيل. لكن هذا الوضع اللبناني لم يصمد كثيراً بسبب انتقال الثورة الفلسطينية وقيادتها الى لبنان بعد طردهم من الأردن. وبذلك انعكست الآية بحيث أصبح لبنان هو دولة مواجهة، بل دولة المواجهة الوحيدة، حتى بعد إطلاق ما سمي "عملية السلام". وقد اختارت الدولة اللبنانية أن تكون كذلك، بتوقيع اتفاق القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الاتفاق التي أجيز بموجبه أن تتواجد المقاومة الفلسطينية بشكل قانوني في الجنوب اللبناني، بل في معظم مناطق الداخل اللبناني فانتشر السلاح في جميع أنحاء لبنان، بحيث أصبحت الدولة اللبنانية هي الطرف الأضعف في بلدها، وما زال هذا الوضع سارياً من سيء الى أسوأ. وهكذا صار لبنان، وما زال، دولة المواجهة الوحيدة بين الدول العربية، بينما تحولت الدول العربية كلها الى "دول مساندة"، ومنها من أصبح دولاً مساندة لإسرائيل بطرق مختلفة، منها المعاهدات، ومنها التطبيع، ومنها التعاون الأمني، بما في ذلك حكومة رام الله الفلسطينية. ومما زاد الأمر تعقيداً، أن المقاومة الإسلامية في لبنان بقيادة حزب الله، ليست مجرد أمر واقع كما كانت المقاومة الفلسطينية من قبل. وشرعية حزب الله مكتسبة وليست طارئة ولا تحتاج الى معاهدة أو إجازة. بمعنى أن حزب الله هو جزء من النسيج الوطني اللبناني، ومشارك أساسي في الحكومة وفي العملية السياسية، بل هو الناخب الأول لرئيس الجمهورية. وأبرز أوجه هذا التعقيد أن الجزء بات أقوى من الكل في تركيبة سياسية يحكمها توازن دقيق لا يحتمل أدنى خلل، حيث الخلل هو المدخل التاريخي للحروب الأهلية المتواصلة في لبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر. لكن هناك مؤشرات على أن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، مدركٌ تماماً لدقة الموقف وحراجته. ومن ذلك مؤشران أساسيان: المؤشر الأول تأكيده على أن العمليات العسكرية التي أطلقها على الحدود مع الكيان الإسرائيلي في الثامن من تشرين الأول / أكتوبر الماضي، هي عمليات محسوبة من حيث مراعاة المصلحة الوطنية اللبنانية العليا، أي أنه يدرك أن مشاركته في الحرب الجارية مع إسرائيل حالياً، لا تحظى بموافقة فئات عديدة في لبنان، وربما في البيئة الحاضنة للمقاومة ذاتها. وثاني تلك المؤشرات، وصفه للوضع الميداني بأنه من قبيل "المساندة"، ما يعني إحياء الطريقة اللبنانية السابقة لتجنب المخاطر القصوى بإعلان لبنان دولة مساندة وليس دولة مواجهة، بالإضافة الى إعلانه عن فرصة مؤاتية لاسترجاع الأراضي اللبنانية المحتلة والعودة الى الحدود الدولية النهائية السابقة لقيام الكيان الإسرائيلي. فاللبنانيون، مع تزايد إمكانية اتساع رقعة الحرب، وما يرافق ذلك من دمار شامل، كانوا بحاجة ماسَّة الى نوع من التطمين الذي قدمه لهم السيد نصر الله، لكونهم يعيشون في حالة غير مسبوقة من القلق بفعل الوضع الاقتصادي والمالي والمصرفي غير الطبيعي الذي انساقوا اليه على غير هدى في المرحلة التي نشأت بعد اتفاق الطائف لإنهاء الحرب الأهلية، من خلال إقامة توازن غير متوازن، إذا صح التعبير، وبفعل ارتكاز اقتصاد ما بعد الحرب على أسس غير إنتاجية. ويمكن القول الآن، تبعاً لذلك، إن الديبلوماسية أخذت الآن تسابق الحرب، وربما سوف تسبقها في وقت قريب.

حرب غزَّة (4)

بدايات سيئة تنفي النهايات الجيدة

8/1/2024


بدأت الرواية الإسرائيلية بكذبة هي: "شعب بلا وطن (اليهود)، وبلد بلا شعب (الفلسطينيون). وكلُّ الذين في العالم، خصوصاً في الغرب، وعلى الأخص في الولايات المتحدة، الذين قدموا غطاءً أخلاقياً لهذا الادعاء، وقدموا جميع ما لديهم من إمكانيات لجعله مشروعاً قائماً على هذا الأساس يتحملون المسؤولية عن جرائم الإبادة والتمييز العنصري التي مارسها الإسرائيليون بحق الشعب الفلسطيني المحاصر في أرضه. بل إن داعمي الاغتصاب الصهيوني في العالم، ارتكبوا جناية أكبر بحق شعوبهم وبقية شعوب العالم، لأنهم أجازوا تدمير القوانين الدولية، وكشفوا خطل ادعائهم المشروخ بالدفاع عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان ودعاوى أخرى من هذا القبيل. حتى الدعاوى الصهيونية التي قامت على "تجارة الهولوكوست" كسدت تجارتهم بفعل جرائم الإبادة التي ارتكبتها في حرب غزة من خلال اعتماد سياسة الدمار الشامل وأسلحته. ولا يُخفف من هول ما حدث في غزة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بل خلال الحصار الخانق الذي فُرض على الشعب الفلسطيني هناك طيلة سنوات، لإذلاله وكسر إرادته، قول القائلين بأن الدول الغربية الداعمة لإسرائيل، والدول العربية الساعية الى التطبيع معها، وتلك المطبعة معها سابقاً، فوجئت برد الفعل الجنوني الذي قامت به إسرائيل على عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في غزة لتذكير العالم بمأساة الشعب الفلسطيني. ذلك أن من طبيعة العالم أنه ينسى أي حق ليس وراءه مطالب. وقد تبين الآن أن جميع الدعوات السابقة للسلام، والتسوية العادلة، والشرق الأوسط الجديد، وغير ذلك من الادعاءات المماثلة، كانت كلها بمثابة تقطيع للوقت بغية إضفاء الشرعية على الاغتصاب الصهيوني لفلسطين، وعزل الشعب الفلسطيني من خلال تطبيع علاقات إسرائيل مع العالمين العربي والإسلامي، وهو مشروع اكتسب ركيزتين أساسيتين، واحدة في العالم الإسلامي والثانية في العالم العربي هما تركيا ومصر. لكن البدايات السيئة، أو السيئة النية، لا تنتج نهايات جيدة، لا للمغتصب ولا لمعاونيه أو المعترفين به. وهذا المسار القائم على البدايات السيئة، من طبائعه الفوقية أنه لا يهمه النظر الى المدى البعيد، مفترضاً أن القوة الغاشمة المتاحة له من شأنها أن تحسم الأمر لصالحه في المدى المنظور. ومن مثل مسار من هذا النوع تنشأ إشكالية تاريخية من خلال التضارب بين نوعين من التاريخ، وليس مجرد قراءتين مختلفتين للتاريخ. نوع عنوانه البغي، باعتباره صراعاً بين فريق متفوق وفريق منحط. ونوع عنوانه الحق والعدل، باعتباره صراعاً بين فريق مظلوم وفريق ظالم. ولذلك تخفق كل المحاولات التضليلية القائمة على التساوي بين الظالم والمظلوم، مما يعطي انطباعاً خادعاً بأن أي تناقض وجودي، كالقضية الفلسطينية، يمكن أن يصحح نفسه بنفسه. وليس في التاريخ القديم أو الحديث أي شاهد أو برهان على أن التناقضات المصيرية يمكن أن تحل نفسها بنفسها. فلو كان الأمر غير ذلك، لما نشبت في الأصل أي حروب، وما كانت هناك أي حاجة للمؤتمرات والتسويات، أو للقوانين والهيئات الدولية الناظمة للخلافات والصراعات. والبدايات السيئة هذه تنطبق أيضاً على الدول العربية المطبعة مع إسرائيل أو الساعية الى التطبيع معها، لأنها تقوم ضمناً على التخلي العربي عن القضية الفلسطينية. وقد كان من الممكن أن يكون التطبيع العربي مبرراً لو أنه أعقب أي حل للقضية الفلسطينية يرضى به الفلسطينيون وينتهي به الصراع العسكري. لكن أن يجري التطبيع مع استمرار الصراع، من شأنه أن يعطي انطباعاً بأنه يتجاوز التخلي عن القضية الفلسطينية الى انحياز ضمني داعم ليس فقط لإسرائيل، بل للحالة الصهيونية العالمية برمتها، من إسرائيل وصاعداً، ومن أميركا ونازلاً. ومن مخاطر هذا التوجه أنه يحول السياسة الى معارك عسكرية، بدلاً من تحويل المعارك العسكرية الى سياسة. لكن مثل هذا التحول، الذي يمكنه الوصول الى نهايات جيدة، من غير الممكن أن يحصل انطلاقاً من البدايات السيئة.

حرب غزَّة (3)

بين البحر المتوسط والبحر الأحمر

6/1/2024


لعل من أبرز وأخطر التطورات التي جرت خلال حرب غزَّة، التدخل اليمني في وقف السفن الإسرائيلية وأي سفينة تجارية أخرى متجهة الى ميناء إيلات على البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب اليمني. فهذا التطور كان له فعل استراتيجي عالمي من حيث إنه أربك الملاحة التجارية العالمية في البحر الأحمر بشكل غير مسبوق. والمرة الوحيدة التي حدث فيها اضطراب مماثل، لكنه لم يدم أكثر من أسبوعين، كانت عندما طلب الرئيس جمال عبد الناصر من الأمم المتحدة سحب قواتها على الحدود المصرية مع فلسطين المحتلة في 22 أيار / مايو من عام 1967، ثم أقفل مضائق تيران المصرية في وجه الملاحة الإسرائيلية، فكان ذلك من الأسباب الأساسية لقيام إسرائيل بشن حربها الخاطفة في الخامس من حزيران / يونيو 1967، والتي أدت الى احتلال كامل سيناء وإقفال قناة السويس، واحتلال الضفة الغربية التي كانت تحت السيادة الأردنية، والى احتلال الجولان السوري في الوقت ذاته.

لكن حرب حزيران/ يونيو 1967 لها بُعدٌ آخر لا يقل أهميةً يتعلق بحرب اليمن، من حيث الصراع المصري – السعودي في اليمن، واستطراداً في البحر الأحمر. ولذلك فإن هزيمة مصر في حرب حزيران / يونيو 1967 أدَّت تلقائياً الى سحب الجيش المصري من الأراضي اليمنية، وربما كان هذا هو السبب الأهم لتلك الحرب، وما تحرُّك إسرائيل بمباغتة مصر بالحرب يومئذ سوى الذريعة أو الشرارة.

فقد بعث العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز برسالة رسمية الى الرئيس الأميركي ليندون جونسون بتاريخ 27 كانون الأول / ديسمبر 1966 (حملت الرقم 342 من أرقام مجلس الوزراء السعودي) حضَّه فيها على دعم إسرائيل في توجيه ضربة قاصمة الى عبد الناصر، وهي رسالة يمكن وصفها بأنها "خارطة طريق" لما حدث فعلياً في حرب حزيران / يونيو. وبعد الديباجة المعتادة تقول الرسالة "... من كل ما تقدَّم يا فخامة الرئيس، ومما عرضناه بإيجاز، يتبين لكم أن مصر هي العدو الأكبر لنا جميعاً، وأن هذا العدو إن تُركَ يحرض ويدعم الأعداء عسكرياً وإعلامياً، فلن يأتي عام 1970 – كما قال الخبير الكبير في إدارتكم كيم روزفلت – وعرشنا ومصالحنا في الوجود (كيم روزفلت هذا هو الذي خطط للانقلاب على حكومة الدكتور محمد مصدق الوطنية في إيران وأعاد الشاه محمد رضا بهلوي الى عرشه بعد فراره من البلاد صيف عام 1953).

وجاء في رسالة الملك فيصل ما يلي: " لذلك فإنني أبارك ما سبق للخبراء الأمريكان في مملكتنا أن اقرحوه، لأتقدم بالاقتراحات التالية:

أن تقوم أميركا بدعم إسرائيل بهجوم خاطف على مصر تستولي فيه على أهم الأماكن حيوية فيها، لتضطرها بذلك لا الى سحب جيشها صاغرةً من اليمن فقط، بل لإشغال مصر عنا مدة طويلة لن يرفع أي مصري رأسه خلف القناة ليحاول إعادة مطامع محمد علي وعبد الناصر في وحدة عربية. بذلك نعطي لأنفسنا مهلة طويلة لتصفية المبادئ الهدَّامة لا في مملكتنا فحسب، بل وفي البلاد العربية... ومن ثم بعدها لا مانع لدينا من إعطاء المعونات لمصر وشبيهاتها من الدول العربية اقتداءً بهذا القول (ارحموا شرير قوم ذُل)، وكذلك لاتقاء أصواتهم الكريهة في الإعلام.

سوريا هي الثانية التي يجب ألاَّ تسلم من هذا الهجوم، مع اقتطاع جزء من أراضيها كي لا تتفرغ هي الأخرى فتندفع لسد الفراغ بعد مصر.

لا بد أيضاً من الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة كي لا يبقى للفلسطينيين أي مجال للتحرك، وحتى لا تستغلهم أي دولة عربية بحجة تحرير فلسطين، وحينها ينقطع أمل الخارجين منهم بالعودة، كما يسهل توطين الباقين في الدول العربية.

نرى ضرورة تقوية الملا مصطفى البارزاني في شمال العراق، بغرض إقامة حكومة كردية مهمتها إشغال أي حكم في بغداد يريد أن ينادي بالوحدة العربية شمال مملكتنا في أرض العراق، سواء في الحاضر أو المستقبل، علماً أننا بدأنا منذ العام الماضي (1965) بإمداد البارزاني بالمال والسلاح من داخل العراق أو عن طريق تركيا وإيران".

وختم بالقول: "إنكم، ونحن متضامنين جميعاً، سنضمن لمصالحنا المشتركة، ولمصيرنا المعلَّق بتنفيذ هذه المقترحات أو عدم تنفيذها، دوام البقاء أو عدمه".

لقد كانت عين إسرائيل من بداية وجودها تريد منفذا لها على البحر الأحمر، وهو ما لم يكن قائماً بعد حرب فلسطين وبعد توقيع الدول العربية المجاورة اتفاقيات الهدنة عام 1948. فالمنطقة المعروفة سابقاً باسم "مثلث أم الرشراش"، وتعرف اليوم باسم إيلات، هي أرض مصرية بموجب الفرمان السلطاني العثماني لعام 1906، وقد استولت عليه إسرائيل في عام 1949، أي بعد سنة من توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل، لكي يكون لها موطئ قدم على البحر الأحمر، وذلك عندما قامت العصابات الصهيونية بمهاجمة الحامية العسكرية المصرية في أم الرشراش وقتلت جميع أفرادها في خرق مفضوح لاتفاقية الهدنة.

وعملية الاستيلاء هذه يسمونها "عملية عوفيدا"، وقد قادها في حينه إسحاق رابين، الذي أصبح تالياً رئيساً للحكومة الإسرائيلية، وجرى اغتياله تالياً على يد جماعة يهودية متطرفة. وكان الإنكليز قد وعدوا الأردن بمنع اليهود من الوصول الى البحر الأحمر لوجود قواتهم العسكرية آنذاك في منطقة خليج العقبة المجاورة لمثلث أم الرشراش، لكنهم أخلفوا بوعدهم بحجة أنهم تعرضوا لضغوط أميركية شديدة لم يستطيعوا حيالها شيئاً!

أما مضيق تيران وجزيرة صنافير المجاورة، فقد انتقلت السيادة عليهما الى المملكة السعودية بموجب اتفاقية عُقدت بين السعودية ومصر في نيسان 2016، وأقرها البرلمان المصري بعد معارك قضائية فاشلة، وصدق عليها فوراً الرئيس عبد الفتاح السيسي في شهر حزيران / يونيو من عام 2017.

فالمخططات الإسرائيلية للوصل بين البحر الأحمر والبحر المتوسط قائمة منذ استيلاء إسرائيل غير الشرعي على مثلث أم الرشراش المصري. ففي عهد شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي تم الاتفاق مع إسرائيل على مد خط لنقل النفط الإيراني من إيلات على البحر الأحمر الى عسقلان على البحر المتوسط، ثم توقف بفعل الثورة الإسلامية، ويقال إن دولة الإمارات العربية تزمع على تشغيله في الوقت الحاضر.

وفي زمن الرئيس جمال عبد الناصر اقترح الأميركيون إقامة جسر من أم الرشراش لوصل المشرق بالمغرب براً، لكن عبد الناصر رفض العرض قائلاً إنه لا يستطيع أن يتنازل عن أرض مصرية من أجل جسر في الهواء يمكن أن ينسفه الإسرائيليون في أي لحظة.

أما الآن فإن مشروع قناة بن غوريون الموازي والمنافس لقناة السويس، يقع في صلب حرب غزَّة الراهنة لأن القناة المذكورة مخطط لها أن تمر عبر قطاع غزَّة، مما يقتضي أن تقوم إسرائيل بتهجير جميع سكان القطاع الى صحراء سيناء، وهو أمر بات متعذراً بفعل المقاومة الفلسطينية. وكان من الطبيعي أن ترفض مصر تهجير أهل غزة الى أراضيها، لأن قناة بن غوريون، إن تمًّت، من شأنها أن تلغي قناة السويس تماماً بفعل عوامل طبيعية وتقنية عديدة أبرزها ثلاثة: أولاً، طبيعة الأرض حيث قناة السويس رملية تحتاج الى تجريف دائم بينما القناة الإسرائيلية صخرية لا تحتاج الى مثل هذه العمليات. ثانياً، القناة الإسرائيلية المزمعة تقلص المسافة التي تقطعها السفن عبر السويس لأنها لا تتسع لخطين ذهاباً وإياباً في وقت واحد. وثالثاً، لأن قناة بن غوريون ستكون على خطين متوازيين واحد من البحر الأحمر الى البحر المتوسط، والآخر من المتوسط الى البحر الأحمر.

كلُّ ذلك متوقف على المقاومة الفلسطينية في غزة، وعلى المساندة اليمنية التي فاجأت العالم كله!

حرب غزَّة (1)

نكسة استراتيجية لإسرائيل

ومأزق سياسي للغرب

2/1/2024

ظنَّ كثيرون في العالم، بعد الحرب الواسعة والخائبة التي شنَّتها إسرائيل على لبنان في صيف عام 2006، أنها سوف تنهض من خيبة جيشها، وتستعيد هيبتها المكتسبة في حروبها السابقة مع الجيوش العربية، وهي في زخم جديد يتيح لها توسعة مشروعها، من خلال التطبيع المجاني والتحالفات الفوقية مع عدد من الدول العربية، مترافقاً ذلك مع اندفاعة استيطانية غاصبة في ما تبقى من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. وقد نشأ هذا الانطباع الخاطئ بعد المراجعة الشاملة التي أجرتها لجنة فينوغراد للتحقيق في أسباب النكسة التي مني بها الجيش الإسرائيلي في لبنان.

بل إنَّ بعض العرب، أو من كان منهم معادياً للمقاومة (إسلامية ووطنية)، ومن بقي مشككاً بجدواها، اعتبر ما قاله الأمين العام لحزب الله اللبناني في مطلع القرن، بعد تحرير الجنوب وانسحاب الجيش الإسرائيلي وأتباعه من الشريط الحدودي، بأن إسرائيل ’ أوهى من بيت العنكبوت’، هو مجرد كلام لرفع المعنويات. لكن التغييرات التي حدثت بعد ذلك، والمناورات العسكرية التي جرت على أساسها، لم تستطع أن تُقنع المراقبين الجديين بأن الجيش الإسرائيلي بإمكانه أن يحقق ميدانياً أي اختراق نوعي واضح وحاسم. أو يسمح له بخوض حرب شاملة على جبهتين في وقت واحد.

والحقيقة أنَّ هذه الثغرة التي ظهرت في النظام العسكري الإسرائيلي، انكشفت قبل نشوء المقاومة اللبنانية والإسلامية، وقبل نشوء المقاومة الفلسطينية في غزَّة. فقد انكشفت لأول مرة على يد الجيش المصري في حرب تشرين الأول / أكتوبر عام 1973، وهو الجيش الذي أعاد الرئيس جمال عبد الناصر تركيبه بعد هزيمته المدوية في حرب حزيران /يونيو 1967. ويقول محمد فايق وزير الإعلام المصري السابق في حكومة عبد الناصر، في كتاب مذكراته بعنوان ’ مسيرة تحرٌّر’، إن الجيش المصري كان جاهزاً لمواجهة الجيش الإسرائيلي ودحره في حياة عبد الناصر الذي حدَّد عام 1971 موعداً للمنازلة الكبرى مع إسرائيل، لكن خليفته أنور السادات أرجأ ذلك مفضلاً استرجاع الأراضي المصرية المحتلة في سيناء بالمفاوضات السلمية عن طريق الولايات المتحدة. وما يؤكده محمد فايق أيضاً أن السادات أبلغ الصحافي الناصري المشهور محمد حسنين هيكل أنه أرجأ الحرب مع إسرائيل في موعدها المقرر من عبد الناصر حتى لا يدعي الناصريون الفضل في النصر. وكان ذلك مؤشراً مبكراً على عزم السادات إزاحة الناصريين من المناصب العسكرية والسياسية الحساسة في الدولة.

وكنت بنفسي في ربيع عام 1974، قمت بزيارة صحافية الى سيناء المحررة عبر قناة السويس، من خط بارليف على القناة الى عيون موسى، مقر القيادة العسكرية الإسرائيلية السابقة ومرابض مدفعيتها المرتدة التي دمرت المدن المصرية على القناة، وشاهدت ما جرى في تلك الحرب على الطبيعة، وتحدثت حول الموضوع مع الفريق حسن أبو سعدى، قائد الجيش الثالث الذي حاول الجنرال الإسرائيلي آرييل شارون محاصرته وقطع إمداداته من خلال ثغرة الدفرسوار. وشاءت الظروف أن يتعين أبو سعدى بعد تسريحه من الجيش سفيراً لمصر في لندن حيث كان لي معه لقاء في أكثر من مناسبة. وقد كتبت عن هذا الموضوع مليَّاً في كتاب سيرتي الذاتية (المنشور بكامله على هذا الموقع) تحت عنوان ’ على خط بارليف ’. وكان واضحاً لكل من شاهد ذلك المسرح المهيب لمعركة سيناء، أن الصورة السابقة للكيان الصهيوني، من حيث أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، التي حاول الإعلام العالمي ترسيخها في أذهان الشعوب العربية، قد ولَّت الى غير رجعة. فالحروب الإسرائيلية السابقة، أي الحروب الخاطفة والحاسمة على جبهات متعددة في وقت واحد، كانت في واقع الأمر حروباً محميًّة أشبه بالجريمة المنظمة المحميَّة من الشرطة.

وما ظهر في حرب لبنان عام 2006، وما أكدته حرب غزَّة في هذه الأيام، أن مجرَّد الصمود الذي لا يلين لمدة طويلة نسبياً في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية، يشكل بحد ذاته نكسة استراتيجية للكيان الصهيوني، على الرغم من طاقته التدميرية المدعومة من حلفائه في الغرب وحول العالم. لكن تلك الطاقة التدميرية لها أكثر من انعكاس سلبي، كونها تستهدف المدنيين والبنى التحتية من غير تمييز، مما شكَّل ويشكِّل مأزقاً سياسيا لحلفاء إسرائيل وداعميها ومزوديها بوسائل الدمار الشامل.

وليس شيئاً بسيطاً أن يهدد بعض المسؤولين المتطرفين في إسرائيل باستخدام الأسلحة النووية ضد قطاع غزَّة المقاوم، لأنه مؤشر على مدى الإحباط الذي أصاب الكيان الصهيوني، وما أفرزه من ذعر في المجتمع الإسرائيلي ذاته. وهناك قرائن عديدة عن إمكانية اللجوء الى مثل هذا الخيار، منها على وجه الخصوص القرائن التي تشير الى تدمير مرفأ بيروت بصاروخ يحمل رأساً نووياً من اليورانيوم المنضب.

ويمكن القول في المحصلة أن ما يُعتبر من مزايا القوة في الكيان الصهيوني، وهو ما لديه وما يأتيه من طاقة تدميرية فائقة، أصبح في واقع الأمر عبئاً عليه وعلى حلفائه، لأن تلك الطاقة التدميرية باتت في نظر جميع شعوب العالم حالة إبادة منكرة ومستنكرة، أفقدت كلَّ مؤيدي إسرائيل وداعميها رصيدهم الأخلاقي والإنساني والمعنوي.



فلسطين والعالم (12)

جردة حساب

13/12/2023


بين العامين 2011 و2012، فيما كنت أضع كتاب سيرتي الذاتية "علامات الدرب" طال بي التفكير حول ما ينبغي أن أكتب عن تجربتي مع القضية الفلسطينية منذ طفولتي، عندما بدأت قوافل اللاجئين الفلسطينيين تحط في معسكر تابع لقريتنا القرعون في البقاع الغربي، على ضفاف نهر الليطاني، وكنت في العاشرة من العمر، وحتى شيخوختي في لندن وأنا قد أكملت بالأمس السادسة والثمانين. وكلما أطلت التفكير والتأمل في الموضوع، يمرُّ في خاطري شيءٌ جديدٌ. ومن الخطرات التي خطرت لي قبل عشر سنوات من الآن، أن يقوم أحد موثوق بوضع جردة حساب مالية واقتصادية للصراع مع الصهيونية على فلسطين منذ بداية القرن العشرين، على أن تشمل الجردة الكلفة الحقيقية التي وقعت على الفلسطينيين، وعلى اليهود، وعلى العرب مجتمعين ومتفرقين، وعلى بقية دول العالم.

والخاطرة الثانية التي راودتني وأنا أضع كتاب "حروب الناصرية والبعث" (2014 – 2015) تتعلق بالوعي الفلسطيني والعربي بمخاطر الحركة الصهيونية على الفلسطينيين والعرب، منذ نشأتها في القرن التاسع عشر، فتبيَّن لي أن الصيدلي والصحافي اللبناني نجيب نصَّار الذي ترك مهنة الصيدلة التي مارسها في مدينة طبريا، ليؤسِّس في حيفا جريدة "الكرمل"، في بداية القرن العشرين، كان أول من اهتم بتوعية الفلسطينيين والعرب الى الخطر الداهم الذي ينتظرهم، وقد فارق الحياة يوم النكبة في عام 1948، ودُفن في الناصرية وعلى ضريحه لوحة تصفه بأنه "شيخ الصحافة الفلسطينية". وقد كتبت ملياً عن الموضوع في كتابي المذكور.

لكن مسألة "جردة الحساب" تتعلق بالعالم كله من ناحيتها المادية، بصرف النظر عن مسألة العدالة والحق. وقد تساءلت عمَّا إذا كان هناك من يعطي الناس، الذين باسمهم دُفعت تلك الأموال وقبضت منذ مطلع القرن الماضي، عندما بدأت فلسطين تشهد هجرات يهودية متلاحقة، جواباً أكيداً وموثوقاً عن الأسئلة التي تقتضيها تلك الجردة:

كم دفعت "الوكالة اليهودية"، والمنظمات المماثلة في العالم، لتسهيل الهجرات اليهودية الأولى الى فلسطين؟

كم دفع يهود العالم من أموال لتسليح وتجهيز المنظمات الإرهابية الصهيونية، التي تحوَّلت بعد إقامة إسرائيل الى ما يسمُّونه "جيش الدفاع الإسرائيلي"؟

كم دفعت الأمم المتحدة من أموال أعضائها، بمن فيهم الدول العربية، طوال ما يزيد على سبعة عقود، لإقامة وإدامة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، لتغطية نفقات الإعاشة الشهرية للاجئين، ونفقات بناء المدارس لتعليم أبنائهم في المخيمات، ودفع رواتب جيش من الموظفين الذين يقومون على إدارة تلك الوكالة، وتوزيع إعاشاتها، طيلة تلك العقود؟

كم دفعت الولايات المتحدة الأميركية من أموال دافعي الضرائب الأميركيين من مساعدات عسكرية ومالية واقتصادية للكيان الصهيوني منذ إنشائه حتى اليوم؟

كم دفعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الى مصر منذ اتفاقيات الصلح المنفرد مع إسرائيل بعد كامب دايفيد، والى الأردن بعد وادي عربة للغاية ذاتها؟

كم دفعت الدول والشركات الأوروبية، وخصوصاً في ألمانيا وسويسرا، بسبب ما حلَّ باليهود في العهد النازي، من تعويضات الى إسرائيل، وما زالت تدفع الى اليوم؟

كم دفع المتبرعون اليهود في أميركا وأوروبا من هبات ومنح، معفية من الضرائب في بلدانها، الى إسرائيل والى الجمعيات الأهلية فيها؟

كم دفعت الأمم المتحدة لإقامة وإدامة قوات الطوارئ الدولية في سيناء والجولان وجنوب لبنان لعشرات السنين، وعشرات آلاف الجنود والضباط المتعددي الجنسيات، وما زالت تدفع الى الآن في الجولان وجنوب لبنان؟

كم من الموارد الطبيعية والأراضي العربية استنزفت إسرائيل في الأراضي التي احتلتها منذ حرب 1967، وما زالت تستنزف؟

كم دفعت الدول العربية مجتمعة ومتفرقة لتسليح جيوشها، مثنى وثلاثاً، من الشرق ومن الغرب، باسم فلسطين والدفاع عن فلسطين، والصمود والتصدي في وجه إسرائيل؟

كم دفعت الدول العربية، مجتمعة ومنفردة، لإدامة منظمة التحرير الفلسطينية، وتمويل مختلف المنظمات الفلسطينية من أكبرها الى أصغرها، وما زالت تدفع؟

كم دفع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول العربية لإقامة وإدامة السلطة الوطنية الفلسطينية الشكلية، وقوات أمنها المتضخمة؟

كم دُفع من هنا وهناك على مؤتمرات السلام المزعوم، وعلى الوفود، وعلى تذاكر الطيران، وعلى المؤتمرات والوفود الجانبية، والمتزايدة، بما في ذلك نفقات الفنادق والمطاعم، والمصاريف النثرية وغير النثرية، حتى في دول عربية مفلسة أو شبه مفلسة؟

فليحسبوا كل ذلك، وما سها عن البال منه، وليعطوا رقماً... مجرد رقم يكون صحيحاً لا غشَّ فيه. فلو كانت فلسطين مجرد أرض عقارية، لكانت تلك النفقات الخيالية أعلى كثيراً من قيمتها العقارية المجرَّدة، لكنها ليست للبيع، ولو كانت للبيع لوافق السلطان العثماني عبد الحميد الثاني على بيعها الى ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة، يوم كانت في عهدته، وهو مفلس ودولته على شفا الانهيار!

لا أظن أن أحداً في العالم قام بمثل هذا الحساب أو الجردة. لأنه لو فعل، لطلعت في وجهه أرقام مخيفة لا تتسع لها الدفاتر، ولا حتى أجهزة الكومبيوتر... بما فيها الذكاء الاصطناعي!

حرب غزَّة (2)

التطور النوعي في الجبهات الموازية

4/1/2024


كان من أبرز الظواهر التي كشفت عنها حرب غزَّة، بالإضافة الى الصمود المتين للمقاومة الفلسطينية، ما حدث على الجبهات الموازية، وأبرزها لبنان واليمن. وقد يكون من الصعب فهم هذا التطور، وتأثيراته البعيدة المدى على الوضع الاستراتيجي لحركات المقاومة في العالمين العربي والإسلامي، وعلى مستقبل وجود الكيان الصهيوني وطبيعة علاقات حلفائه الدوليين معه ومع الدول العربية والإسلامية، من غير استبانة الخطوط العريضة للمقارنة بين ما كان وما هو قائم الآن قبل أي استشراف واقعي لما سيكون في المستقبل القريب منه والبعيد. ففي لبنان بالدرجة الأولى، مرَّ الوضع العام بثلاث مراحل أساسية، بحيث يمكن القول إن هناك منذ الاستقلال اللبناني في عام 1943 وحتى الآن ’ ثلاثة لبنانات’، إذا صحَّ التعبير. لبنان ما قبل قيام دولة إسرائيل، ولبنان بعد قيام دولة إسرائيل وقبل الوجود الفلسطيني المسلح على أرضه، ولبنان ما بعد الخروج الفلسطيني المسلح بفعل الاحتلال الإسرائيلي وظهور المقاومة الوطنية والإسلامية لهذا الاحتلال. كذلك في اليمن بعد قيام الثورة اليمنية في الشمال وإعلان الجمهورية اليمنية، وما أدى اليه ذلك من زعزعة للوضع الإقليمي، لا سيما بعد دخول الجيش المصري الى اليمن لدعم الجمهوريين، وتأثير ذلك على الوجود البريطاني في عدن وجنوب اليمن. والمرحلة الثانية هي مرحلة استتباب الجمهورية وبالتالي توحيد اليمنين الشمالي والجنوبي بعد الانسحاب البريطاني من الجنوب وزوال الحكم الموالي للاتحاد السوفياتي هناك وقوامه الحركات التي قاومت الوجود البريطاني بالسلاح، والمرحلة الثالثة التي قام بها حكم الرئيس علي عبد الله صالح بشن ست حروب متتالية ضد الحوثيين انتهت أخيراً بمقتله وسيطرة الحوثيين على الوضع اليمني بقيادة عبد الملك الحوثي ابن المجاهد الراحل بدر الدين الحوثي. ثلاثية لبنانية تقابلها ثلاثية يمنية وبينهما قاسم مشترك، يضم المملكة السعودية والغرب وإسرائيل وفكرة الحرب الأهلية حيث لا ينفع التدخل العسكري المباشر لدحر المقاومة. وهذه النظرية التي نشأت ضد جيش مصر في اليمن، قبل عشر سنوات من إرهاصات الحرب الأهلية في لبنان، كانت إسرائيل في صلبها، كما كانت في حرب لبنان. والفارق أن التدخل الإسرائيلي في اليمن بقي طي الكتمان، وكان علنياً في لبنان. يؤكد الباحث والمؤرخ البريطاني مارك كورتيس في كتابه "اللاشعب: الانتهاكات البريطانية السريَّة لحقوق الإنسان" (’فينتيج’، لندن، 2004)، أن البريطانيين هم الذين أشاروا على الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال أن يتفاهم مع السعوديين حول موضوع اليمن من اليوم الأول لقيام الجمهورية اليمنية عندما زار الملك حسين لندن واجتمع الى وزير الطيران البريطاني جوليان آميري، وكانت غاية الوزير المذكور المعروف بولائه الشديد لإسرائيل، ومعه زميله دنكان سانديز الشديد العداء لعبد الناصر، إقامة صلة مباشرة بين الأمير فيصل بن عبد العزيز وزير الخارجية السعودي (الملك فيصل تالياً) وبين الإسرائيليين. والشخص الذي قدَّم الأمير فيصل الى الوزير آميري هو مدير المخابرات البريطانية آنذاك ديك وايت الذي حضر جانباً من الاجتماع بينهما. ويقول كيرتيس في كتابه المذكورإن الوزير البريطاني أبلغ الوزير السعودي أنه يجب عدم السماح لعبد الناصر بأن يكون له موطئ قدم في الجزيرة العربية لكونها مركز أكبر الاحتياطيات النفطية في العالم، وأنه ينبغي على جميع الأطراف المتأثرة مصالحها مقاومته. وبيت القصيد في الموضوع أن الوزير البريطاني أبلغ الأمير السعودي عدم جدوى أية محاولة لمواجهة عبد الناصر عسكرياً، وأن مثل هذه المحاولة لن يكتب لها النجاح، وأن الحل هو إقحام اليمن في حرب أهلية يكون فيها لإسرائيل دور أساسي ومباشر، مما يقتضي إيجاد تحالف قوي بين السعودية والأردن، وإزالة حالة التوتر القائمة بينهما في ذلك الوقت. وبناءً على ذلك، اتفق الوزير البريطاني مع الملك حسين على تكليف صديقه البريطاني نيل ماكلين بإدارة العمليات السرية بالتفاهم مع دين حيرام الملحق العسكري الإسرائيلي في لندن. وقد وافق رئيس الحكومة البريطانية آنذاك هارولد ماكميلان على خطة وزيره السرية. وبدأ على الفور تجنيد جماعات مرتزقة معظمهم من الفرنسيين، وجرى التمويل السعودي بسبائك ذهبية كان يقدمها الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران السعودي لإبقاء مصدر التمويل مجهولاً. كذلك الأمر في لبنان كان لجوء إسرائيل وحلفائها الى إشعال الحرب الأهلية، في ضوء التجربة اليمنية السابق ذكرها، الطريقة الأضمن من التدخل العسكري المباشر أو الى جانبه. وعلى الرغم من أن هذا النهج أدى الى نتائج عكسية في النهاية، من خلال نشوء حركات للمقاومة أشدَّ مراساً وأصلب عوداً، فإنَّ العمل به من قبل إسرائيل وحلفائها ما زال قائماً. لكن التطور النوعي في الجبهات الموازية، القريبة من فلسطين المحتلة والبعيدة منها، هو أن إشعال الحروب الأهلية في تلك البلدان بات متعذراً أو ربما مستعصياً. ولذلك فإن الفرضية التي قامت في حرب اليمن، وامتدت الى لبنان تالياً، من حيث الاعتماد على الحرب الأهلية لكون المواجهة العسكرية من الخارج عديمة الجدوى، كما أبلغ الوزير البريطاني جوليان آميري الأمير السعودي فيصل آل سعود، باتت في حكم الساقطة. وهذا بحد ذاته إعلان بانتصار حركات المقاومة التي سدَّت منافذ الحرب الأهلية، فجعلت التدخل العسكري المباشر عديم الجدوى.

فلسطين والعالم (11)

احتلال عالمي ... مقاومة عالمية

11/12/2023

منذ منتصف القرن التاسع عشر نشأت فكرة في الغرب (بقيادة بريطانيا آنذاك) تقضي بشق العالم العربي بدق إسفين بين مصر وسوريا، لأن النهضة المصرية التي أفرزت جيشاً قوياً شكَّلت تحدياً للمصالح الاستعمارية العالمية. فقد هزَّت انتصارات الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا الموازين العالمية القائمة في ذلك الوقت، على ثلاثة محاور: المحور الأول، في الجزيرة العربية حيث استطاع إبراهيم باشا إسقاط الدولة السعودية الوهابية، لحساب السلطنة العثمانية (1816 – 1819)، وتدمير عاصمتها الدرعية، وتسليم أميرها عبد الله آل سعود الى السلطنة التي أعدمته شنقاً في إسطنبول. المحور الثاني، في أوروبا ولحساب السلطنة العثمانية أيضاً (1826 – 1828)، حيث استطاع الاسطول المصري البحري، بقيادة إبراهيم باشا أيضاً، احتلال اليونان والاستيلاء على موانئها البحرية، لأن الأوروبيين دعموا العصيان اليوناني على السلطنة العثمانية، فشكَّل الأوروبيون حلفاً ثلاثياً ضمَّ أساطيل بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وقاموا بتدمير الأسطول المصري في معركة نافارينو (1827)، على غرار التواطؤ الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر الناصرية عام 1956. المحور الثالث، في سوريا حيث استطاع جيش إبراهيم باشا السيطرة على سوريا (بما فيها فلسطين، ولبنان، وسوريا الحالية وصولاً الى الأناضول وأنطاكية، لكن ضد العثمانيين هذه المرة (1831 – 1839). ففي معركة نصيبين حقق الجيش المصري انتصاراً استراتيجيا كبيراً على الجيش العثماني مدعوماً بقوة ألمانية وازنة قادها اثنان من كبار ماريشالات ألمانيا هما فون مولتكي وفون مولباخ. وبعدما نجحت الأساطيل الغربية في إخراج الجيش المصري من سوريا، بعد تأليب جماعات محلية على المصريين، بدأ التفكير الاستعماري الغربي بكيفية منع تكرار تجربة إبراهيم باشا ووالده محمد علي، ووأد أي محاولة وحدوية أو نهضوية في الشرق العربي وإبقائه تحت السيطرة الاستعمارية الغربية. ومن هذا المنطلق نشأت فكرة زرع كيان غريب في فلسطين يفصل بين مصر وسوريا، ويبقي المصالح الغربية في مأمن. وهذا يعني أن إقامة دولة يهودية في فلسطين هي في الأصل فكرة عالمية، وهذا الكيان الغريب المزروع في وسط الشرق العربي، والمحمي من قبل دول كبيرة في العالم، بما في ذلك دول عربية وإسلامية، لا يمكن أن يستمر إلاَّ بحماية دولية وتحالف مع دول إقليمية عربية وغير عربية. لكن المقاومة الفلسطينية والعربية للمشروع الصهيوني الاستعماري، لم تتنبَّه الى مسألة عالمية الصراع ضد هذا المشروع بصورة جديَّة إلاَّ بعد إخراج مصر من هذا الصراع. ذلك أن خروج مصر من محور المقاومة العالمي للكيان الصهيوني، وانضمامها الى محور حلفاء الصهيونية، في خط معاكس لنهجها التاريخي المقاوم للاستعمار الغربي، أفقد بقية العالم العربي وزنه، ووضعه على سكة التبعية للحلف الاستعماري الصهيوني بقيادة الولايات المتحدة. للوهلة الأولى بدا وكأن جامعة الدول العربية، في قمتها العاشرة المنعقدة في تونس يوم 20 تشرين الثاني / نوفمبر 1979، قد صحت من غفوتها ومن الصدمة التي انتابتها بخروج مصر منها، وخروجها من مصر. وفي فترة انعقاد تلك القمة في العاصمة التونسية من دون مصر، حدَّد رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات الملامح الدولية للتوجُّه المطلوب، بأن اختار سفره الى تونس عبر طهران وموسكو. وقد كتبنا في حينه مقالاً في مجلة "الحوادث" من لندن جاء في مقدمته: "دخل أبو عمار الى قاعة مقر الجامعة العربية في تونس، حيث يجتمع قادة الدول العربية، متأبطاً الإمام الخميني الى يمينه، والزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف الى يساره...". وقد فسَّر بعضهم ذلك بأن عرفات أراد أن يستقوي بقوى إقليمية ودولية وازنة ليلوي ذراع الدول العربية ويدفعها الى مكان لا ترتاح فيه، حيث قلبها وسيوفها عليه. ربما كان في ذلك شيء من الصحة، لأن الدول العربية من بداية حرب فلسطين الأولى في عام 1947، لم تكن مشاركتها في تلك الحرب جديَّة أو مجدية، لا بقلوبها ولا بسيوفها. ومع ذلك فإن مقررات تلك القمة، ولو انها بقيت حبراً على ورق، فذهبت ريحها وانفخت دفُّها، قد بقيت على الورق مؤشراً على وجهة الصراع العالمي بين أنصار المشروع الصهيوني المزمن، وهم كثر ولهم أكثر من موطئ قدم في البلاد العربية التي وقَّعت على بيان قمة تونس توقيعاً شكلياً، ما لبثت أن خالفته. وتكفي نظرة على البند الأول من تلك المقررات ووضعها في سياق ما يجري اليوم، سواء على المسرح الفلسطيني أو على المسرح العربي، لتبيان الفارق، أو الفالق، بين القول والفعل. فقد جاء في ذلك البند: "الصراع مع إسرائيل طويل الأمد، وهو عسكري، وسياسي، واقتصادي، وحضاري". فكيف يستقيم هذا الكلام مع الهرولة الراهنة في بعض الدول العربية الى التطبيع مع إسرائيل، وإدارة الظهر الى ما وقعت عليه سابقاً من تشخيص لطبيعة الصراع. فإذا كان الصراع مع إسرائيل طويل الأمد، فقد برهنت تلك الدول العربية بأنها هي قصيرة الأمد، وتظن أن التطبيع مع إسرائيل يمكن أن يطيل أمدها! وجاء في البند الثاني من مقررات قمة تونس: "تجديد الإدانة العربية لاتفاقيات كامب دايفيد بين مصر وإسرائيل برعاية أميركية". وها هم في غالبيتهم تحت الرعاية الأميركية. وجاء في البند الثالث: "التصدي لمؤامرة الحكم الذاتي في فلسطين المحتلة، وتوسيع نطاق التضامن العالمي مع نضال الشعب الفلسطيني من أجل إفشال مخططات الاحتلال الصهيوني وهزيمته". وهنا أيضاً لم يحدث شيء من هذا القبيل، بل نرى أن المقاومة الفلسطينية الجارية الآن في غزة هي التي وسَّعت نطاق التضامن العالمي مع نضال الشعب الفلسطيني. وجاء في البند الرابع: "التصدي لنقل العاصمة الإسرائيلية الى القدس". لكن أحدا من الحكام العرب لم يتصدَّ لذلك عندما أمر به رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب، فمرَّ مرور الكرام، بل زادت وتيرة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني. وجاء في البند الخامس: "إدانة سياسة الولايات المتحدة الأميركية، واعتبارها تؤثر سلباً على العلاقات والمصالح بين الدول العربية وأميركا". وها هي الولايات المتحدة اليوم تحتل أجزاء عديدة من الدول العربية، من أمام الستار ومن وراء الستار، ولا أحد ينبس ببنت شفة. أما البند الخامس المتعلق بلبنان فيبدو كاريكاتورياً بالنظر الى ما يجري في لبنان اليوم، وما جرى في السنوات الأخيرة. فقد جاء فيه: "إدانة العدوان الإسرائيلي على الجنوب اللبناني، والتأكيد على سيادة لبنان واستقلاله ووحدته الوطنية. تعمير لبنان ومساعدة الفلسطينيين في الجنوب اللبناني"! وتتبيَّن أهمية نقل الصراع حول فلسطين الى مدار عالمي، بصفتها قضية عالمية، مع توسيع دائرة الصراع في الداخل الفلسطيني المقاوم للاحتلال الصهيوني، ليس فقط من خلال الضغط الشعبي على حكام العالم الموالين للصهيونية داخل بلدانهم، إنما أيضاً لتعديل الموازين العربية الراهنة الراجحة الآن الى جانب حلفاء إسرائيل في العالم الأوسع. فلا شكَّ بأن الدول الأجنبية الحليفة للكيان الصهيوني والحامية له مباشرة، مثل أميركا وأوروبا، والحليفة لحلفائه (أو الحليفة له بالواسطة)، في العالمين العربي والإسلامي، تعرف تماماً أين يكمن الحق في هذه المسألة، لكنها آثرت أن تختار الباطل. ومن يعرف الحق ويختار الباطل فهو الطرف الأضعف في المدى البعيد، ولو بدا في الأجل القصير كليَّ القدرة.

فلسطين والعالم (10)

فلسطين دولة واحدة: ممكنة ومستبعدة

08/12/2023


عندما انطلقت المقاومة الفلسطينية في أواسط ستينات القرن الماضي بقيادة ياسر عرفات، من خلال منظمة "فتح" وذراعها العسكري "العاصفة"، كان الشعار المعلن والمتداول في ذلك الوقت أنَّ هدف المقاومة هو "تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر الى البحر". لكن هذا الشعار تلاشى مع الوقت، لأنه فقد صدقيته ولم يعد يصدقه أحد بمن فيهم الذين طرحوه سابقاً وتخلوا عنه لاحقاً. ثم فاجأ ياسر عرفات العالم، وهو في ذروة نجوميته في الإعلام العالمي المتهافت عليه في منتصف السبعينات، بطرح جذري آخر مثير للجدل، وهو المطالبة بأن تبقى فلسطين موحدة في ظل دولة ديموقراطية علمانية تتسع لليهود وللمسلمين وللمسيحيين على حدٍ سواء". وأذكر أن مناحيم بيغن أول رئيس ليكودي لحكومة إسرائيل مرَّ في لندن قادماً من الولايات المتحدة، وأجرى معه الإعلامي البريطاني المشهور في ذلك الوقت دايفيد فروست مقابلة مطولة، وسأله عن رأيه في طرح ياسر عرفات للدولة الفلسطينية الواحدة، بمواصفاتها المعلنة، "ديمقراطية علمانية تتسع لليهود والمسلمين والمسيحيين"، فأجابه بلهجة المزايدة قائلاً: "هذه هي إسرائيل متسعة الآن لليهود والمسلمين والمسيحيين وللملحدين أيضاً، فهل تتسع دولة عرفات للملحدين"، وكأنه يقول لمحدثه إن عرفات لا يستطيع أن يلفظ على لسانه كلمة "الملحدين" بسبب "إسلاميته". أو كأنه يجاهر بأنه هو شخصياً من الملحدين! طبعاً، السوابق التاريخية تشير الى أن جميع رجال السلطة هم من "الملحدين" بشكل أو آخر لأن معبودهم هو السلطة ويستخدمون الدين من أجل أغراضهم السلطوية، ولخداع قواعدهم الشعبية المتدينة. وفي العالم العربي والإسلامي، بشكل خاص، عبادة السلطة، وجعلها سلطة مطلقة، وإرثاً موقوفاً على الحاكم وذريته، خلافاً للمنشأ الديني الأصلي، بدأت بولاية معاوية بن أبي سفيان في الدولة الأموية في دمشق، عندما ورَّث السلطة لابنه يزيد، خلافاً للأعراف الإسلامية المعمول بها قبل ذلك. وبذلك تكون عبادة السلطة هي "أعلى مراتب الإلحاد" إذا جاز التعبير! وبعدما تلاشى هذا الطرح المؤمل والجديد، بل جرى تسخيفه، سواء عند المتطرفين الإسرائيليين الذين يريدون دولة يهودية صافية، أو عنصرية، على كامل التراب الفلسطيني المحتل، أو من قبل المزايدين في الحركة الفلسطينية والحركات القومية العربية، فاجأ ياسر عرفات العالم مرة أخرى بالمطالبة بسلطة وطنية فلسطينية على أي أرض من فلسطين يمكن الحصول عليها، وكان ذلك في صلب تفاهمه السري مع الإسرائيليين والمعروف "باتفاقيات أوسلو" التي عقدها محمود عباس نيابة عن منظمة التحرير، وما زال الى الآن يبلها ويشرب من مائها! وعندما كنت في رئاسة تحرير جريدة "الكفاح" لصاحبها نقيب الصحافة اللبنانية الراحل رياض طه، عام 1970، كتبت مقالاً افتتاحياً حول التقلب الفكري لقيادة الثورة الفلسطينية بعنوان "رؤوس القرنبيط". وفي اليوم التالي زارني شاب فلسطيني قدم نفسه بأنه الدكتور عصام السرطاوي، وهو طبيب قلب متخرج من جامعة بغداد ومتخصص في الولايات المتحدة، وكان يومئذ يعمل مستشاراً للرئيس ياسر عرفات في الشؤون الأميركية والأوروبية، وقال إنه يزورني للحديث عن الموضوع الذي طرحته في "الكفاح". وبالفعل وجدت من خلال الحديث، أن السرطاوي رجل مثقف، عالي الكفاءة والكياسة، يتحدث بمنطق الاحتمالات العقلانية للصراع حول فلسطين، ما هو ممكن وما هو مستحيل. وبعد جلسة التعارف تلك، كان السرطاوي يزورني كلما سنحت له الظروف. وبعد انتقالي الى لندن وانتسابي الى مجلة "الحوادث" في أواخر السبعينات ومطالع الثمانينات، حافظ السرطاوي على تلك العلاقة بيننا، فكان كلما مرَّ بلندن يتصل بي أو يزورني في المجلة لتبادل الآراء. وغالباً ما كان يمرُّ في لندن ذاهباً الى فيينا أو عائداً منها، لأنه كان على علاقة وثيقة مع المستشار النمساوي برونو كرايسكي، الذي كان في حينه قطب الرحى في هيئة "الاشتراكية الدولية"، وسرُّ صحبته مع كرايسكي أنهما كلاهما مقتنع بأن الحل الأمثل لمشكلة الصراع على فلسطين هو بقاء فلسطين موحَّدة في دولة ديموقراطية علمانية. وكان الجسم السياسي الفلسطيني كله تقريباً معارضاً لطروحات السرطاوي، وحاولوا مراراً طرده من المجلس الوطني الفلسطيني وإبعاده عن ياسر عرفات، لكن عرفات استطاع حمايته واحتضانه في البداية، لكنه ما لبث أن تخلَّى عنه مبتعداً مسافة ملحوظة عن طروحاته. في البداية كانت أفكار السرطاوي عن الدولة الديموقراطية على كامل التراب الفلسطيني تلقى رواجاً في أوساط اليسار اللبناني والعالمي، لكنها لم تكن مقبولة في أوساط "فتح وحلفائها، وقد تبناها ياسر عرفات الى حين تبنياً لفظياً وإعلامياً لكنه سرعان ما أقلع عن ذلك لحساب الدولة الفلسطينية المستقلة الى جانب إسرائيل. إن من أسباب دوام علاقتي مع عصام السرطاوي حتى آخر لقاء بيننا في لندن قبل سنة تقريباً من اغتياله على باب مؤتمر الاشتراكية الدولية في لشبونة في نيسان / أبريل من عام 1983، على مرأى من الأمين العام للاشتراكية الدولية بيرنت كارلسون، الذي كان سابقاً مستشاراً لرئيس حكومة السويد المغدور أولاف بالمي، وكما دوَّنت في كتاب سيرتي الذاتية "علامات الدرب"، قناعتي التامة بوجوب بقاء فلسطين موحدة، وكذلك لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، والسودان، وكل بلد عربي آخر مرشَّح للتفكك. وإضافة الى ذلك أنني لم أكن على ثقة بأن الثورة الفلسطينية، كما شاهدناها في لبنان، بكل فصائلها مجتمعة ومتفرقة، هي بمستوى القضية التي ادعت أنها تحملها وتكافح من أجلها، فأضرَّت بلبنان ولم تنفع فلسطين والفلسطينيين. وفي الاجتماع الأخير بيننا قبل نحو سنة من اغتياله، حدثني السرطاوي عن علاقته الشخصية مع مستشار النمسا كرايسكي، بقوله: إن رئيس الحكومة النمساوية آنذاك تبناه وكأنه ابن له، فوق تبنيه لمشروعه القاضي بإقامة دولة ديموقراطية على كامل التراب الفلسطيني، وإنه وعده بتسويق هذا المشروع بين الدول الأوروبية، وفي أوساط الأحزاب الاشتراكية في العالم، وفي المحافل الدولية. وقال لي إنه عندما يذهب الى العاصمة النمساوية فيينا، لا يسمح له كرايسكي بأن ينزل في الفنادق، بل يصرُّ على استضافته في منزله طوال مدة إقامته هناك. وفي لقاء سابق لنا في مجلة "الحوادث" في لندن، ناقشته في بعض المخاطر الكامنة في مشروعه، لأنه يتضمَّنُ عنصراً دينياً وطائفياً غير معلن، لكونه سيضم اليهود والمسلمين والمسيحيين على اختلاف شيعهم ومذاهبهم، وبالتالي سيقوم على الاقتسام الديني والطائفي والمذهبي للسلطة مما سيدفع بالدولة الموحدة الى منزلقات التناحر، وربما العنف، على خطوط التماس الدينية والطائفية، كما هو الحال في لبنان. وكان جوابه، كما دونته في مفكرتي، إن هذا الاحتمال وارد، لكنه يبقى أقل خطراً من قيام دولة يهودية صافية وقوية، الى جانب دويلة فلسطينية ضعيفة يطغى عليها الطابع الإسلامي، لأن الأديان والطوائف المتباينة في دولة ديموقراطية تظل محكومة بالتوافق مهما طال بها التعارض، وبالتالي فإنها تبقي البلاد موحدة وقابلة للتطور في الاتجاه المدني العلماني، وما يحمله ذلك من تأثير في محيطها. هذا التصور التقدمي للحل النهائي للقضية الفلسطينية، يبدو للوهلة الأولى، من نسج الخيال، أو أنه حلم ليس له مكان في اليقظة. صحيح أنه مستبعد في الوقت الحاضر، بعدما تم الإجهاز عليه باغتيال الدكتور عصام السرطاوي على أبواب الاشتراكية الدولية، لكنه ممكن عندما تتساقط الاحتمالات البديلة بفعل الصراع العالمي.

فلسطين والعالم (9)

استحالة حل الدولتين

06/12/2023


عندما انعقد "مؤتمر مدريد للسلام" في أعقاب حرب الخليج الأولى (حرب الكويت) خريف عام 1991، برعاية أميركية صهيونية، وروسية مرتدة، ساد جو مزيَّف من التفاؤل، أسهمت في تزييفه، مع الأسف، دول عربية وازنة وحاقدة، تحت شعار كاذب، "الأرض مقابل السلام"، ظن كثيرون في العالم العربي والإسلامي، أن مرحلة من السلام والازدهار، آتية لا ريب فيها مع "الحل العادل للقضية الفلسطينية"! وقد راقبت عن كثب مجريات ذلك المؤتمر، لأنني حضرته في الغرف الإعلامية في العاصمة الإسبانية، وحضرت المؤتمر الصحافي الذي عقده بنيامين نتانياهو في استوديو جريدة الشرق الأوسط السعودية، وكان وقتها مرافقاً لرئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق شامير، بصفته آنذاك وكيل وزارة الخارجية، ومعه أيضاً مستشار عربي لشامير يدعى الكولونيل أسعد الأسعد. وقد خرجت بانطباع في حينه بأن الضجيج الذي رافق مؤتمر مدريد، يشي بأن المراد منه تقطيع الوقت، وتطمين دول الخليج، ورفع العتب تجاه الدول العربية الأخرى المطعونة بصدقتيها بسبب ولائها المزمن للولايات المتحدة، والضائقة ذرعاً بالقضية الفلسطينية الضاغطة عليهم باستمرار. ويتبين الآن بعد أكثر من ثلاثة عقود أن مؤتمر مدريد للسلام كأنه لم يكن، فاقتضى الأمر التذكير به بمبادرة عربية (أطلقها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز)، هي الأخرى لا تختلف في إطارها عن السياق التسويفي الذي أرسي في مؤتمر مدريد. فكيف لا تكون كذلك وقد اشترط القائمون عليها عدم حضور المعني الأول بالموضوع في ذلك الوقت رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، الذي سبق له أن التف عليهم بفتح محادثات سرية مع الإسرائيليين في العاصمة النرويجية أوسلو عام 1993. ذلك أن الغاية، التي برزت تاليا، من مؤتمر مدريد هي تشجيع الدول العربية المحادَّة لفلسطين المحتلة، الأردن، ولبنان، وسوريا، على عقد معاهدات سلام منفصلة، على غرار مصر الساداتية. ولم يمضِ في هذا المسار سوى المملكة الأردنية الهاشمية التي عقدت اتفاقية سلام اعترفت فيها بالدولة العبرية وأقامت معها علاقات ديبلوماسية على مستوى السفراء، وذلك بعد سنة من المحادثات الفلسطينية – الإسرائيلية في أوسلو، ومثَّل منظمة التحرير الفلسطينية فيها محمود عباس (أبو مازن)، وقطف ثمارها من خلال رئاسة فلسطينية وهمية قابضة على خناق ما تبقَّى من الفلسطينيين في الضفة الغربية. ومن عجبٍ أنَّ هناك دولاً عربية ما زالت تنادي اليوم، رفعاً للعتب ربما، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لأن حلَّ الدولتين في الواقع الراهن لم يعد ممكناً، أو أصبح بعيد المنال، بسبب التوسع الاستيطاني الصهيوني في الضفة الغربية، وتقطيع أوصالها، وظهور دعوات صهيونية لضمها بالكامل الى الدولة اليهودية. ربما كان ذلك ممكناً في المرحلة السابقة لاغتيال اسحق رابين أواخر عام 1995، بإطلاق النار عليه وهو يخطب في مهرجان للسلام وسط تل أبيب. حتى ذلك الوقت كان ما زال ممكناً أن تقوم دولة فلسطينية من هذا النوع، إما وجهاً لوجه مع إسرائيل، أو ظهراً لظهر، لكن اليوم لم يعد مثل هذا الاحتمال وارداً لعدة أسباب، منها أن الولايات المتحدة والأوروبيين وسائر حلفائهم لم يكونوا جادين يوماً في منع التوسع الصهيوني في الضفة الغربية، وما بعض الدعوات الى مقاطعة إنتاج تلك المستعمرات سوى لذر الرماد في العيون. فهي لم تكن جديَّة في أي وقت. ومنها أيضاً أن إطلاق العنان للمستوطنين الصهاينة بغزو الضفة الغربية، والمنحى الذي اتخذته بالتدريج حكومات نتانياهو المتعاقبة، من حيث تحويل المستوطنين اليهود في الضفة الغربية الى ميليشيات مسلحة لمضايقة السكان الفلسطينيين وحملهم على الهجرة الى خارج فلسطين، وهذا المنحى يُطبَّق الآن في غزة من خلال سياسة الأرض المحروقة، بغية قطع كل أسباب الحياة عن أهل غزة لتهجيرهم باتجاه الصحراء في مصر. ومن تلك الأسباب أيضاً أن سلطة محمود عباس في أريحا لا تُحرك ساكناً باتجاه اتخاذ مواقف وإجراءات حقيقية للوقوف في وجه الحكومة الإسرائيلية، بل هي ما زالت تتعاون معها في المسائل الأمنية. فالذين ما زالوا يتحدثون عن حل الدولتين في البلدان العربية، إما أنهم يعرفون الحقيقة ويقولون بذلك لحفظ ماء الوجه، وإما أنهم غير قادرين أن يفعلوا شيئاً ويقولون ما يقولون على قاعدة "فليسعد النطق إن لم تسعف الحال"، ثم كيف يحققون ذلك، إذا حزموا أمرهم، وهم يهرولون فرادى وجماعات الى التطبيع مع إسرائيل! الزعيم العربي الوحيد الذي كان صريحاً حيال القضية الفلسطينية هو الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي قال أمام أعضاء المجلس التشريعي لقطاع غزة في عام 1962 ما يلي باللهجة العامية المصرية: "أنا باقول لكم، أصعب قضية في العالم النهار ده هي قضيتكم. اللي بيجي ويقول ان انا وضعت خطة على شان أحلها، والله بيضحك عليكم. ما باقولكوش أنا عندي خطط، عندي قوة من ربنا وإيمان بحقنا، وانا بعتبردا أكبر شيء وأمل في المستقبل وأمل فيكم، ما اقدرش أقول إن انا عندي خطة لتحرير فلسطين، لو باقول لكم دلوقت أنا عندي خطة لتحرير فلسطين أبقى بضحك عليكم وبقيت سياسي، ماناش وطني بتاجر بالسياسة. أي واحد النهار ده بقول عنده خطة لتحرير فلسطين يبقى بيضحك عليكم. أنا بقول لكم قدامنا قضية صعبة معقدة، عايزة نستعد لها بكل القوى المعنوية والمادية؛ القوى المعنوية أساسها الأخلاق وأساسها الوحدة: وحدة الكلمة ووحدة الصف. أما القوى المادية ربنا بقدرنا، واحنا بنعمل كل ما يمكن عمله في هذا السبيل علشان لا نصاب كما أصبنا في سنة 48". ويمكن القول في النتيجة إنَّ العرب الذين يقولون أشياء يعرفون أنهم غير قادرين على تحقيقها، يعربون بهذا التبجح عن رفض المقاومة الفعلية للأمر الواقع!

فلسطين والعالم (8)

!الحلم الإمبراطوري

04/12/2023



منذ أن قامت الدولة اليهودية في فلسطين المحتلة، بدعم من الأميركيين والأوروبيين، نشأ في بعض الأوساط الصهيونية حلم توسعي (بدعوى دينية) تحت شعار توراتي يقول: "من الفرات الى النيل ملكك يا إسرائيل"! وقد توسَّع هذا الحلم بعد اتفاقيات السلام بين مصر الساداتية والكيان الصهيوني برعاية أميركية، لكن يبدو أن الولايات المتحدة لم تكن مرتاحة لتوسيع الدائرة الإسرائيلية أكثر مما يجب، لأنها تعرف بالتجربة أن المزيد من التوسع يحمل معه المزيد من الأعداء. وربما كان أن واشنطن أرادت تذكير الرؤوس الحامية في الكيان الصهيوني بأمرين: الأمر الأول أنها يجب ألاَّ تعوِّل كثيراً على الاندفاع كثيرا نحو الدول العربية، لأنها في المدى البعيد تضرُّ بتلك الدول، ولا تنفع إسرائيل. والأمر الثاني هو تذكير قادة إسرائيل بأن الولايات المتحدة هي التي تقود الدفَّة وتقسِّم الأرزاق! وقد قال لي صحافي أميركي، على هامش مؤتمر "أسواق المال في الشرق الأوسط" الذي انعقد في لندن ربيع عام 1994، برعاية دوغلاس هيرد وزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت، وحضره مسؤولون وحكام بنوك مركزية من مصر، والأردن، وإسرائيل، وعدد كبير من ممثلي بنوك وشركات مالية كبرى، إن الذين يديرون السياسة الخارجية والدفاعية في واشنطن لا ينظرون بارتياح الى محاولات "الانتفاخ" من قبل دول حليفة وصديقة للولايات المتحدة، على قاعدة أن "الضفدع الذي يحاول نفخ نفسه ليصبح ثوراً هائجاً" ينفجر ويذهب ضحية حلم سخيف. وتطرقنا الى الحديث عن لبنان الذي يعرفه جيداً، بما فيه وبمن فيه، فأشار الى مقابلة جرت بين كاسبار واينبرغر، وزير الدفاع الأميركي الراحل في عهد الرئيس ريغان، مع الرئيس اللبناني المنتخب خريف عام 1982، بشير الجميل، فور انتخابه، وسأله عن تصوراته للبنان الذي يريد، فقدم له بشير الجميل عرضاً حماسياً لدور إقليمي للبنان في عهده يقوم على إنشاء جيش قادر فعلاً على إسناد هذه المهمة بدعم من الولايات المتحدة وحلفائها. وزعم الراوي أن واينبرغر قال لبشير الجميل بعدما استمع اليه مطولاً ما معناه أن أميركا بالكاد تتحمل أعباء إسرائيل واحدة، فكيف ستتحمل إسرائيلين! ومع ذلك فإن القادة الإسرائيليين لم يتخلوا عن الحلم الإمبراطوري في الشرق الأوسط. وفي أيام الرئيس الإسرائيلي الراحل شيمون بيريز، ظهرت بوادر عديدة ومتطورة في هذا الاتجاه، حيث قال مرةً في كلام موجَّه الى العرب: "لقد جربتم البيزنطيين، والعثمانيين، والإنكليز، والفرنسيين، فلم تنتفعوا بشيء، جربونا نحن، فماذا تخسرون". هذا على القاعدة الإعلانيَّة القائلة "جربونا تجدون ما يسرَّكم"! والمفارقة في هذا التوجه أن العرب واللبنانيين قد جربوا بيريز في أكثر من محطة: فهو الذي أنشأ القوة النووية الإسرائيلية بالتواطؤ مع فرنسا، وعادت إسرائيل في بداية ثمانينات القرن العشرين، فتواطأت مع الفرنسيين على تدمير المفاعل النووي العراقي بالقرب من بغداد، والذي أقامه الفرنسيون أنفسهم، مستغلين انشغال عراق صدام حسين بالحرب مع إيران. واللبنانيون بوجه خاص جربوا بيريز عندما قصف مدنيين من أهالي الجنوب في مجزرة قانا، وهم محتمون في مقر للأمم المتحدة ويرفع رايتها! وها هي اليوم حرب الإبادة والتهجير بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بحيث جرى تدمير ممنهج لقطاع غزة، وتوسيع ممنهج للمستعمرات اليهودية في الضفة الغربية بالاستيلاء على أملاك الفلسطينيين هناك (أو تدمير المنازل في البلدات الفلسطينية هناك كلما قام فتى فلسطيني برشق حجر على جنود الاحتلال). ثم عاد بيريز وطوَّر طرحه التوسعي في إطار اقتصادي، باعتبار أن الإطار السياسي يولِّد الحساسيات، بينما يمكن تغليف الكأس المرَّة بمسحة من العسل كي يسهل بلعه على العرب، فقدَّم مشروعاً اقتصادياً متكاملاً أسماه "الشرق الأوسط الجديد". فالتوجه الإمبراطوري هذه المرَّة طُرح من مدخل اقتصادي، حيث المال يُحلِّي مرارة الإمبريالية! ومن الملفت أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كان له في الآونة الأخيرة طرحٌ للشرق الأوسط الجديد أكثر طموحاً، وأشد حلاوة، وأروع أنساً وبهجة، حيث وصف الأمير السعودي الشاب شرقه الأوسط بأنه "أوروبا الجديدة"، باعتبار أن أوروبا أصبحت متخلفة ودقة قديمة! لكن فكرة "الشرق الأوسط الجديد" هي فكرة أميركية في الأصل. وقد انطلقت في بداية القرن الحالي من دوائر إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، وهي دوائر "المحافظين الجدد"، وجلُّهم من الصهاينة. وأول ما ظهرت هذه العبارة على لسان كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت. وقد بدأ تنفيذ هذا المخطَّط باحتلال أفغانستان والعراق، واستكمال ذلك تالياً بإشعال اضطرابات قلبت عدداً من الأنظمة العربية، وخلَّفت وراءها موجة من عدم الاستقرار في المنطقة العربية ما زالت جارية حتى الآن. والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هو: "هل هذه المشاريع الثلاثة للشرق الأوسط الجديد"، الأميركي، والإسرائيلي، والسعودي، متكاملة وفي اتجاه واحد، أم هي متعارضة وفي اتجاهات مختلفة؟". وأيَّاً كان الأمر، فإنَّ المنطوق التاريخي هو الأصح، ففي السياق التاريخي العالمي، الشيء المؤكد هو أن الإمبراطوريات الى زوال!

فلسطين والعالم (7)

سلاح " اللاساميَّة"

01/12/2023



من المعروف تاريخياً أن ما يسمَّى "المشكلة اليهودية" قديمة جداً، من أيام الملك سرجون الأشوري وابنه سنحاريب في القرن التاسع قبل الميلاد، الى الملك البابلي نبوخذ نصَّر في القرن السادس قبل الميلاد، الى الملك السوري (المقدوني) أنطيوخوس الرابع أبيفانس في القرن الثاني قبل الميلاد، وهو الذي قاد بنفسه حملة قمعية ضد اليهود في 168 قبل الميلاد، بعد الحملة التأديبية الأولى في عهده قبل ذلك بعشر سنوات، أي في عام 178 قبل الميلاد، الى الحروب الرومانية العديدة ضد اليهود في الدولة الرومانية وابرزها حملتان، الأولى بقيادة الجنرال تيتوس الذي هدم هيكل هيرودوس في القدس عام 70 م (وصار إمبراطوراً في روما تالياً)، ثم الأهم من ذلك القمع الشرس الذي مارسته الدولة الرومانية في عهد الإمبراطور هادريان عام 138م ضد التمرد اليهودي الذي قاده شيمون بار كوخبا. لم يُوفَّق الجنرال روفوس قائد الجيش الروماني في سوريا الجنوبية في مواجهة ذلك التمرد، لأن المتمردين اليهود اعتمدوا حرب الأنفاق (على الطريقة الغزاوية اليوم)، مما جعل خسائر الجيش الروماني كبيرة وغير مقبولة لدى قيادة الدولة في روما. وبالتالي تم تكليف حاكم بريطانيا الرومانية، الجنرال سكستوس يوليوس ساويرس بمواجهة التمرد اليهودي، فاعتمد تكتيكات الأرض المحروقة (كما يفعل نتانياهو اليوم في غزة) بإبادة كل شيء يتحرك فوق الأرض وتحتها، بحيث أباد من اليهود جميعاً، متمردين وغير متمردين، نحو نصف مليون نسمة، وقبض على بار كوخبا، قائد التمرد، وصلبه مع أعوانه على الطرقات. ومن ذلك الوقت بقي العداء لليهود في أوروبا مستحكماً الى أواسط القرن العشرين. ففي التاريخ القديم لم تكن هناك عبارة "اللاساميَّة" للتعبير عن العداء المستحكم لليهود. بل إن هذه العبارة لم يجرِ تداولها على النطاق العالمي إلاَّ خلال العقود الأخيرة بعد الحرب العالمية الثانية. وبصرف النظر عن التسميات والفذلكات اللغوية، هناك سؤال يُسأل في نطاق القمع الواسع لليهود في العالم القديم وحتى أمد قريب: وهو: "هل من المعقول أن تكون جميع الدول والإمبراطوريات التي تعاقبت في العالم القديم حتى اليوم (باستثناء الفرس والعرب والأتراك) على خطأ واليهود وحدهم على صواب؟، وهل ما حلَّ بهم عبر التاريخ، حقَّاً أو باطلاً، يبرر قيامهم بممارسة ما مورس عليهم بحق شعب لا علاقة له بكل ذلك؟". لكن المشهد العالمي منذ المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة "بال “السويسرية بقيادة اليهودي النمساوي تيودور هرتزل في عام 1897، تغيَّر تغيُّراً جذرياً، لأن الصهيونية باتت قوة عالمية غير منظورة بأهداف خفية، ما بان منها غير هدف واحد معلن هو إقامة وطن قومي لليهود. ÷م في البداية لم يقولوا أين سيكون هذا الوطن القومي، لكن اختيار فلسطين رجح خلال الحرب العالمية الأولى وما تلاها، من رئاسة وودرو ويلسون في الولايات المتحدة، الى وعد بلفور. فالمشكلة اليهودية هي في أصلها مشكلة أوروبية، لأن معظم الدول الأوروبية طردت أو اضطهدت مواطنيها اليهود في مراحل مختلفة من القرن الثالث عشر وحتى القرن العشرين. ففي 18 تموز / يوليو من عام 1290 أصدر الملك الإنكليزي إدوارد الأول مرسوماً بطرد جميع اليهود من بلاده بحلول عيد جميع القديسين في الأول من شهر تشرين الثاني / نوفمبر من العام ذاته. والمعروف أن إدوارد قاد حملة صليبية الى فلسطين وهو ولي للعهد، فكانت الحملة الأخيرة، وكان المماليك بقيادة الظاهر بيبرس البندقداري يحاصرون عكا، فاستطاع إدوارد أن يفك الحصار ويتخذ من عكا مقراً له. وفي عكا أرسل اليه بيبرس رجلاً حاول اغتياله بخنجر مسموم، فتمكن من قتل الرجل، لكنه أصيب بطعنة مسمومة أقعدته سبعة أشهر تحت العلاج الى أن شفي تماماً، ثم استدعي الى إنكلترا ليصبح ملكاً بعد وفاة والده في هذه الأثناء. ومنذ أن قام إدوارد بطرد اليهود لم يُسمح لهم بالعودة والإقامة في بريطانيا إلاَّ بعد مرور 366 سنة، عندما سمح لهم بذلك عام 1656 "حامي الحمى" أوليفر كر ومويل بعد ثورته ضد الملك تشارلز الأول. ومع ذلك لم تكن لهم حقوق مدنية حتى عام 1853 عندما صدر قانون يسمح لهم بالانتخاب وبالترشح للانتخابات أسوة ببقية الإنكليز. وفي إسبانيا طُرد اليهود من شبه القارة الإيبيرية مع طرد العرب بعد سقوط غرناطة، آخر معقل عربي في إسبانيا، عام 1492. ولم يسمح الأسبان بعودة اليهود حتى الأمس القريب، الى ما بعد وفاة الجنرال فرانكو في عام 1975، أي بعد 480 عاماً. أما الذين آثروا البقاء منهم فهم الذين اعتنقوا المسيحية الكاثوليكية. أما في روسيا فقد تعرضوا الى تضييق شديد واضطهاد مرير في العهود القيصرية. وقد أُطلق على تلك المضايقات تعبير "بوغروم"، وهو الطبعة السابقة لعبارة "هولوكوست" في الحرب العالمية الثانية، لأن المضايقات الروسية لم تصل الى حد القتل الجماعي والإبادة. لذلك عندما تعاظم النفوذ الصهيوني في الغرب، استطاعت الحركة الصهيونية عبر حكومات الدول الغربية أن تجعل من تهمة "اللاسامية" (أي العداء لليهود) خاضعة للقوانين الجزائية، خصوصاً بحق الذين ينكرون المحرقة النازية التي أودت بحياة الملايين من يهود ألمانيا وأوروبا الشرقية. ففي بريطانيا مثلاً تعرض المؤرخ دايفيد ايرفينغ الى ملاحقات بهذه التهمة في بريطانيا، وفي أوروبا، وأميركا الشمالية، وأستراليا، لأنه شكك بحدوث المحرقة الألمانية، وبالعدد المتداول من الضحايا، بل زعم أن أدولف هتلر لم يكن على علم بذلك، وقال إن هتلر كان الصديق الوحيد لليهود في النظام النازي! وهكذا تحولت "اللاسامية" من مجرد تعبير لغوي لتوصيف حالة معيَّنة، كانت وما زالت موجودة تحت الرماد وفوقه في أنحاء عديدة من العالم، وخصوصاً في الغرب، الى سلاح سياسي في يد الحركة الصهيونية بلغ حد الإرهاب الفكري تجاه المثقفين والمفكرين الذين لا تنطلي عليهم السردية الصهيونية. حتى في الولايات المتحدة، العرين الأول للصهيونية، أصبحت تلك التهمة من الكبائر المحظورة. فعندما جرى انتخاب النائب الجمهوري نوت غينغريتش الرئيس الخمسين لمجلس النواب الأميركي في أواسط تسعينات القرن الماضي، منتزعاً هذا المنصب الحيوي من يد الديموقراطيين الذين احتلوه لأربعين سنة متتالية، وقام بتعيين مديرة لمكتبه هي أستاذة للتاريخ في إحدى الجامعات الأميركية، قامت ضده حملة صهيونية أجبرته على التخلي عن تعيينها في اليوم التالي. والتهمة المساقة ضدها أنها قبل ثماني سنوات من تعيين غينغريتش لها في مكتبه برئاسة مجلس النواب، ألقت محاضرة على تلامذتها في الجامعة قالت فيها إن ما نعرفه عن الحرب العالمية الثانية هي رواية وحيدة الجانب، أو من طرف واحد، بمعنى أنه من الممنوع معرفة رواية الفريق الآخر! لكن يبدو حتى الآن أن الغزوة الإسرائيلية الهمجية لغزة في الآونة الأخيرة قد قلَّصت من تأثير رواية الطرف الواحد على الرأي العام الأوروبي، والرأي العام العالمي عموماً. هي مجرد فتحة في الجدار!

فلسطين والعالم (6)

الكيان الصهيوني فوق القانون الدولي

29/11/2023



منذ إنشاء الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وجعل مقرها في نيويورك، كان واضحاً أنها ستكون أداة في يد الولايات المتحدة. وقد اتضح ذلك بالدليل القاطع بعد فترة وجيزة، عندما أشعل الأميركيون الحرب الكورية تحت راية الأمم المتحدة، وبمشاركة أعضاء فيها، من بينهم تركيا. وقد أدَّت تلك الحرب الى تقسيم شبه الجزيرة الكورية الى دولتين، شمالية شيوعية وجنوبية رأسمالية تابعة لأميركا. وما زالت مقسمة الى اليوم على هذا النحو. لكن التأثير الفعلي للولايات المتحدة هو في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، حيث هناك خمسة من الأعضاء الدائمين هم "الخمسة الكبار" الحلفاء ضد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، ولكل من هؤلاء الأعضاء الخمسة حق النقض (الفيتو) ضد أي مشروع قرار في أي قضية. وثلاثة من أصحاب حق الفيتو، أميركا وبريطانيا وفرنسا، هم الذين أقاموا دولة إسرائيل في فلسطين وقدموا لها الدعم الدولي والحماية، وأمدوها بالسلاح، ومكنوها من التوسع، وشاركوها بقواتهم في حرب السويس ضد مصر عام 1956. أما الجمعية العامة للأمم المتحدة فهي مجرد منبر للخطابة، وغطاء سياسي من خلال مؤسسات ذات طابع إنساني في الظاهر، لكن ما يُسمح لها أن تعطيه يكون دائماً بحساب. وقد حدث مراراً أن اتخذت الجمعية العامة قرارات ضد أميركا وإسرائيل، لكنها بقيت حبراً على ورق أو ألقيت في سلة المهملات، والقرار الوحيد الذي تراجعت عنه الجمعية العامة يتعلق بالصهيونية. ففي العاشر من شهر تشرين الثاني / نوفمبر من عام 1975 اتخذت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قراراً اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري ما يستوجب إدانتها وإزالتها. وقد صوت على القرار المذكور 72 دولة، وامتنع عن التصويت 32 دولة، وعارض القرار 35 دولة. وهذا القرار هو الوحيد الذي اتخذته الأمم المتحدة بهذه الصراحة ثم عادت فتراجعت عنه بخجل، أو ربما باعتذار من الصهيونية! والمضحك أن القرار الذي ألغى قرار الإدانة بالعنصرية للصهيونية صدر بسطر واحد فقط ينص على ما يلي: "قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلغاء القرار 3379 الصادر في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1975"! وقد أُلغي القرار المذكور بمبادرة من الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في 16 كانون الأول / ديسمبر من عام 1991. والملفت في قرار الإلغاء هذا الصادر تحت رقم 46 / 68، أنه أقر بأغلبية ساحقة تكاد تكون نادرة، حيث نال 111 صوتاً، وصوتت ضده 25 دولة فقط، وامتناع 13 دولة لا غير عن التصويت. وفي خطابه أمام الجمعية العامة في ذلك الوقت قال الرئيس الأميركي جورج بوش الأب: "إن مساواة الصهيونية بخطيئة العنصرية التي لا تُغتفر، هي تحريفٌ للتاريخ، ونكرانٌ لمأساة اليهود في الحرب العالمية الثانية، بل عبر التاريخ"! فهل يستغربنَّ أحد بعد هذا الكلام أن يكون الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة فوق القانون الدولي، وله حصانة قضائية مطلقة في المحاكم الدولية؟ ولا تتردد إسرائيل لحظة واحدة بفعل هذه الحصانة الدولية في رفضها تنفيذ أي قرار أو توصية تصدر من الأمم المتحدة، وهيئاتها، أو من أي محفل سياسي أو قانوني، وقد رفضت بالفعل قرارات وتوصيات كثيرة، ومنها القرار 425 الصادر من الأمم المتحدة بحقها بشأن احتلالها جنوب لبنان في أواخر سبعينات القرن الماضي. وعندما انسحبت من الأراضي اللبنانية بعد عشرين سنة من الاحتلال بفعل عمليات المقاومة اللبنانية والإسلامية، ادَّعت أنها انسحبت تنفيذاً للقرار 425، وهذا ادعاء غير صحيح. ولهذا تكتسب مقاومة الاحتلال الإسرائيلي اليوم في لبنان وفلسطين شرعية مضاعفة من شعوبها لمواجهة الحصانة الدولية شبه المطلقة لإسرائيل. ومن الأسئلة التي تُسأل لحماة إسرائيل في أميركا والغرب، ما إذا كان خطر ببالهم أن الحصانة التي يقدمونها لإسرائيل، وتجعلها فوق القانون وفالتة من العقاب، هي التي تشجع إسرائيل على تصعيد عملياتها الاستيطانية في الضفة الغربية، وعملياتها التدميرية الفتاكة في غزة وفي لبنان وسوريا؟ لم يسمع أحد شيئاً من أي مسؤول غربي عن تسليح إسرائيل للمستوطنين اليهود في الضفة الغربية للقيام باعتداءات ممنهجة ضد أهالي القرى والمدن الفلسطينية بهدف تهجيرهم والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم. بل إن ما يجري في الضفة الغربية تحت ستار من التعتيم الإعلامي قد يكون أفدح وأبعد أثراً مما حدث في حرب غزة على فظاعته. إن جميع الدول الغربية تعرف جيداً من هي الجهة التي دمَّرت مرفأ بيروت، وهي جريمة بحق جميع اللبنانيين، بل جريمة ضد الإنسانية. وجميع تلك الدول أسهمت بشكل أو آخر في التغطية على تلك الجريمة النكراء، وكأنها حادث طبيعي وعابر. وهذا السياق الجرمي في المشرق العربي من أربعينات القرن الماضي الى اليوم، وفي كل الاتجاهات، ما كان ليحدث ويتمادى في شتى أنواع الإرهاب والقتل والتشريد، لولا الحصانة الغربية الممنوحة للكيان الصهيوني وجعلته فوق القانون، متنكراً للعدالة. هي كلها جرائم محميَّة، وحامي المرتكب لا يقل ذنباً عن المرتكب، حتى ولو غابت العدالة من وجه الأرض.

فلسطين والعالم (5)

أميركا العبرانية

28/11/2023


في كتابي "حروب الناصرية والبعث" الصادر عام 2016 عن دار "هاشيت – أنطوان (نوفل)، ذكرت أن انتخاب وودرو ويلسون رئيساً للولايات المتحدة لدورتين متتاليتين (1912 – 1920)، شكَّل أول افتراق حاسم للولايات المتحدة عن التصوُّر الذي وضعه الآباء المؤسسون للاتحاد الأميركي في مؤتمرهم القاري العام سنة 1787. وقلت إن هناك ما يشير في تلك الحقبة أن الرئيس ويلسون هو أول رئيس أميركي صُنع بالكامل في المطابخ الصهيونية. وقد أعلن ويلسون في خطاب أثناء حملته الانتخابية الأولى عام 1912 موجَّه الى اليهود الأميركيين بقوله: "أنا لست هنا لأعبر عن تعاطفي مع إخواننا المواطنين اليهود، بل لتوكيد إحساسنا معهم بهويتهم. هذه ليست قضيتهم وحدهم، إنها قضيَّة أميركا". وهكذا اعترف ويلسون ليهود بلاده بهوية أخرى غير الهوية الوطنية الأميركية! فالاعتراف بهوية أخرى لشريحة من الشعب، كبيرة كانت أم صغيرة، يعني الاعتراف لهم بولاء آخر غير الولاء الوطني. ويبدو من مطالعة أوضاع المرحلة الانتقالية في الشرق العربي، مرحلة الانتقال من الحكم العثماني الى مرحلة الانتداب الأنكلو – فرنسي، أن أهل الرأي في الشرق العربي غفلوا عن المعنى الأساسي خلف وجود الرئيس ويلسون في مؤتمر فرساي للصلح عام 1919 في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بل كان كثيرٌ منهم مفتوناً به وبالمبادئ الأربعة عشر التي أطلقها في ذلك المؤتمر. كان ويلسون في ذلك المؤتمر جسر عبور عبرت عليه الصهيونية من لندن الى واشنطن كعاصمة عالمية جديدة. إن كثيرين في الشرق العربي، ممن اطلعوا على تقرير بعثة "كينغ – كراين" التي أوفدها الرئيس ويلسون الى سوريا لاستطلاع رأي السوريين حول تصوراتهم لمرحلة الانفكاك عن السلطنة العثمانية، لم يقدروا تقديراً صحيحاً ما يرمي اليه في نهاية المطاف. وربما كان ذلك لاستخفافهم في ذلك الوقت المبكر بتأثير قيام دولة يهودية في فلسطين على العرب وعلى بقية العالم. وقد قلت في كتابي "حروب الناصرية والبعث" (ص 172 – 173) إن سوء الفهم في هذه النقطة بقي حتى أمد قريب، لأن كثيرين من العرب ظلُّوا يعتقدون بأن في أميركا أملاً يُرتجى بصفتها "مسند الحريات والديموقراطية". بل إن أفكار الرئيس جمال عبد الناصر نفسه عن أميركا كانت، بحسب ما ورد في كتاب مدير استخباراته صلاح نصر "عبد الناصر وتجربة الوحدة"، مشوَّشة وغير واقعية، فوضع في أميركا آمالاً وهميَّة خابت كلها، بما في ذلك قبوله بمبادرة روجرز قبيل وفاته. أما في النقطة الثانية، وهي الأهم، فإن ملاحظة البعثة الويلسونية الى سوريا، حول إقامة دولة يهودية في فلسطين، ما زالت غير مفهومة تماماً. ففي الشكل لا بد من التوقف عند توجيه تلك الملاحظة في التقرير الى شخص الرئيس ويلسون، ثم الى الشعب الأميركي. وهذا يعني أن في أوساط البعثة شعوراً بوجود رغبة شخصية لدى الرئيس ويلسون في إقامة دولة يهودية في فلسطين. وفي المضمون فإن المسألة تنمُّ عن بعد نظر ملفت، أو عن تقدير صحيح للتبعات المترتبة من جراء ذلك على أميركا وعلى بقية العالم، لأنَّ قول البعثة في تقريرها "إن الدولة اليهودية في فلسطين لا تقوم ولا تدوم إلَّا بالقوة العسكرية"، يشير الى افتراض ضمني في أذهان أعضاء البعثة بأن مسؤولية القوة العسكرية اللازمة لإقامة وإدامة الدولة اليهودية سوف تقع في النتيجة على كاهل الولايات المتحدة. وقد كتبت حول هذه النقطة أنه "يمكن استقراء مضمون الملاحظة الأخيرة، بالتحليل المدعوم بالتجارب والأحداث التي تلت ذلك، بما يعني أنَّ إقامة وإدامة الدولة اليهودية في فلسطين، ما هو إلاَّ وصفة لحرب كونية مستدامة. وتكفي نظرة واحدة شاملة على مجريات العالم منذ ذلك الوقت، من الانهيار الاقتصادي العالمي في عام 1929، الى الحرب العالمية الثانية، وصولاً الى حرب سوريا (2011)، ومن قبلها حروب أفغانستان والعراق، وزعزعة الاستقرار في معظم الدول العربية، لإدراك معنى الحرب الكونية المترتبة على وجود دولة يهودية في فلسطين لا تقوم ولا تدوم إلاَّ بالقوة العسكرية. بل إن بعض المتحفظين على مشروع الدولة اليهودية في بعض الأوساط الغربية المحافظة، فسَّرت الموضوع بأنه "يقتضي إمساك العالم بالقوة وتنصيب أمراء حرب عليه"! لكن تقرير بعثة "كينغ – كراين" الى سوريا (من حزيران / يونيو 1919 الى 28 آب / أغسطس من العام ذاته) طُمس عن عمد في أغلب الظن، ولم يُنشر في حينه، لأنه كان معداً للنشر بعد تصديق الكونغرس على معاهدة الصلح في فرساي، وهو أمرٌ لم يحدث، فبقي التقرير مكتوماً حتى عام 1922 بعد إقرار مجلس النواب الأميركي توصية تدعو الى إقامة دولة يهودية في فلسطين وفق "وعد بلفور"! وفي العقدين السابقين لولاية ويلسون، كانت قوة النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة قد أصبحت بادية للعيان، بحيث أن بعض الباحثين في الغرب أطلق على الزحف الصهيوني اسم "عبرنة أميركا"، ليس فقط بالمعنى السياسي كالانتخابات التي جاءت بأول رئيس صهيوني لأميركا، بل من حيث الهيمنة الثقافية والإعلامية والاقتصادية والمالية، مما جعل الهيمنة السياسية أمراً واقعاً. لكن "عملية العبرنة" في هذا الإطار لم تقتصر على الولايات المتحدة، بل شملت الغرب كله بدرجات متفاوتة. وما لا يعرفه كثيرون من المثقفين العرب أن حركة الاستشراق في الغرب بدأت باللغة العبرية، لجعلها منطلقاً نحو اللغات الشرقية أو السامية القديمة. لكن هذه المحاولة الاستشراقية الأولى لم تنجح، فاتجه المستشرقون الغربيون تالياً نحو اللغة العربية. ومن عجب أن الاستشراق الروسي لم يلقَ في البلاد العربية اهتماماً يضاهي الاهتمام الذي لقيه، وما زال يلقاه، الاستشراق الغربي. ذلك أنَّ الاستشراق الروسي من بدايته في مطلع القرن التاسع عشر اعتمد اللغة العربية، وأسَّس لها كليات متخصصة. وقد لا يكون التغاضي عن الاستشراق الروسي في العالم العربي مقصوداً، بل ربما كان أن هناك عوامل عديدة أدت الى ذلك منها الحاجز اللغوي لأن قلة قليلة من المثقفين العرب تتقن اللغة الروسية إتقانها للفرنسية والإنكليزية. وهناك عامل آخر هو التعتيم الإعلامي الغربي المتصهين على الثقافة الروسية، لأن الحركة الصهيونية تنظر بريبة الى روسيا في مختلف مراحلها من المرحلة القيصرية، الى المرحلة السوفياتية، الى اليوم حيث تخوض من أكرانيا حربا ضروساً ضد روسيا. هي في الحقيقة "حربٌ كونيةٌ مستدامة".

فلسطين والعالم (4)

:"الترانسفير"

!في عرين الشيطان

27/11/2023

للحركة الصهيونية باعٌ طويلٌ في أساليب الهجرة والتهجير. ولم تكن كلُّها تتمُّ بالعنف والإرهاب وقوة السلاح، بل إن أكثرها تمَّ بالتواطؤ الدولي، وبالوسائل الإعلامية، وبالنفوذ السياسي العالمي المدعوم بالقوة الإعلامية والقوة المالية والاقتصادية. وليس هذا المنحى مجرد تخمين، أو تقدير، أو تحليل. بل هو موثَّق بوقائع تاريخية لا يرقى اليها الشك.

ولئن كانت فلسطين هي مختبرها الأساس، في الحجم والزمان، فإنَّ أحداث كثيرة غامضة حول العالم، كان لها انعكاس على المنطقة العربية، أو كانت المنطقة العربية مسرحها‘ يتبيَّن أنها كانت حروباً بالوكالة، منذ الانتداب الفرنسي – البريطاني في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حتى الاحتلال الأميركي للعراق، وما سُمِّيَ بالربيع العربي، وتأسيس منظمات إسلاميَّة متطرفة عاثت فسادا وتقتيلاً وتهجيراً في معظم أرجاء العالم العربي والإسلامي وأشهرها "داعش" و"النصرة"، بعدما استنفدت "القاعدة" أغراضها في الحرب ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.

ففي كتاب "ترانسفير" للكاتب والمؤرخ الأميركي إدوين بلاك، حول الاتفاقية التي عقدتها الحركة الصهيونية مع النظام النازي بقيادة أدولف هتلر، تتوضح أكثر صورة الأساليب التي تعتمدها في عمليات الهجرة والتهجير كما نطق القائمون بها. وقد جاء في كتاب بلاك المذكور في طبعته الثانية الصادرة عام 1999 (الطبعة الأولى صدرت في عام 1984) تحت عنوان "اتفاقية الترانسفير": "هذه المرَّة، وهي مرَّة حاسمة وليس لها نظير، سوف يجري استخدام هذه الحالة الطارئة (الاتفاقية مع ألمانيا النازية) من أجل تأمين مستقبل، وليس من أجل افتداء ماضٍ. سوف يخرج من أزمة الذل والمرارة والطرد ملجأ آمن، ووطن، وإنسان يهودي جديد بوطن جديد يسميه وطنه. إن هؤلاء القلة من الرجال (الذين عقدوا الاتفاق مع النازيين) كانوا مستعدين أن يتخذوا تلك القرارات. هل هذا جنون؟ أم كان عبقرية؟" (الصفحة 250، في ختام الفصل 26 من القسم الرابع من الكتاب المؤلف من سبعة أقسام).

وتحت القسم الثاني بعنوان " اللحظة الصهيونية" في الفصل 14 وعنوانه "صفقة السيد سام كوهين" يقول الكاتب: "من المفارقات أنه على الرغم من الكراهية النازية لليهود، فإن فلسطين اليهودية كانت أمراً حيوياً في استراتيجية ألمانيا الاقتصادية". (هو يقصد الاستراتيجية الاقتصادية لألمانيا النازية).

أما خاتمة الكتاب، فقد كتبها الصهيوني المدعو أبراهام فوكسمان لتبرير ما أسماه "مساكنة الشيطان"، أو التفاهم معه لغرض غير معلن، فيجري تعريف "اتفاقية الترانسفير" على أنها كانت مدفوعة "بالرغبة في إنقاذ الجماعة المهددة، والجماعات الأخرى في المستقبل (وهو يقصد على الأرجح الجماعات اليهودية في الدول العربية). وكان على الصهاينة أن يفترضوا ببرود بأنهم أمام مسؤوليات كريهة، والمسدس في رأسهم، تجعلهم يقفون وجهاً لوجه مع الشيطان في عرينه والتفاوض معه لإيجاد مخرج. تلك هي "اتفاقية الترانسفير".

وما جعلني أفترض أن كاتب تلك الخاتمة يشير الى البلدان العربية في عبارته "الجماعات الأخرى في المستقبل"، قوله أيضاً: "إن الصهاينة تعلموا من هذه التجربة، واستخدموها وإن بطرق مختلفة"، مشيراً الى الوسائل التي استخدمتها الحركة الصهيونية في إخراج اليهود من الاتحاد السوفياتي، وحدد بالاسم اليهود السوريين، والعراقيين، واليمنيين، والإيرانيين والأثيوبيين وغيرهم مثل يهود العراق ومصر والمغرب.

والأهم من ذلك، أن فوكسمان، في خاتمته لكتاب أدوين بلاك المذكور، يشير الى "عدم فهم أعداء الشعب اليهودي لجوهر الموضوع من خلال رؤيتهم له على أنه مجرد وسيلة لتشجيع الهجرة الى فلسطين".

وهذا يعني أن هناك جوهراً مضمراً، أو غاية غير معلنة، لعمليات الهجرة والتهجير، غير توسيع دائرة الهجرة اليهودية الى فلسطين. وهذا يفتح المجال لبحث أو تقصي ذلك الجوهر غير المعلن. وفي هذه الحالة فإن أفق الافتراض تبدو واسعة من الجوار العربي لفلسطين، الى العالم الإسلامي، الى بقيَّة العالم.

وقد لامس هذه النقطة الباحث جورجي كنعان في كتابه "الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي" بقوله: "في تحليلهم للتاريخ المعاصر، من حيث هو تحقيق لعملية الخلاص، ينظر الأصوليون اليهود الى المجزرة النازية على أنه طريقة الله لإكراه شعبه المختار على العودة الى أرض الميعاد، وإقناعه بالأهمية الكونية لاجتماعه وتوحده الكامل – شعب إسرائيل كله في أرض إسرائيل كلها".

إن عبارة "الأهمية الكونية" لها مدلول كبير، وإن كان ما زال مضمراً. ما ينبىء بذلك ما جاء سابقاً هنا عن كتاب "ترانسفير" للباحث الأميركي أدوين بلاك، بأن الحركة الصهيونية موًّلت النظام النازي في ألمانيا، بل كانت جزءاً من استراتيجيته الاقتصادية!

فتلك المجزرة، أو المحرقة حسب التعبير الدارج، كانت متعددة المنافع بالنسبة الى الحركة الصهيونية حتى ولو ذهب ضحيتها مئات الألوف من اليهود الأبرياء. إذ إن "جوهر الموضوع" هو الأساس، وجوهر الموضوع هذا يتعدى كثيراً مسألة هجرة اليهود الى فلسطين، بحيث يمكن القول بأن قيام إسرائيل كدولة يهودية صافية في فلسطين المحتلة ما هو الاَّ وسيلة لا غاية، ومنصة انطلاق الى مدار أوسع وليست المدار النهائي.

وتبدو الصورة العربية المقابلة لصورة الاتفاق الصهيوني مع النازية الألمانية هزيلة وبائسة. وأقصد بذلك اجتماع مفتي القدس الحاج أمين الحسيني مع هتلر في عام 1941، وهو اجتماع لم ينتج عنه أي نفع ملموس للقضية الفلسطينية. والشيء الوحيد الباقي منه في الذاكرة العربية هو التمويل الألماني النازي لإذاعة روما التي أقيمت بعهدة الأستاذ أكرم زعيتر، ولمع فيها نجم المذيع العراقي يونس البحري وعبارته المشهورة "حيي العرب"، وغايتها تحرض مسلمي البلقان والشرق الأدنى ضد الإنكليز والحلفاء. بل إن أجهزة الإعلام والدعاية الصهيونية في الغرب استخدمت تلك المقابلة لتحريض الرأي العام الغربي المعبأ ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، ضد العرب عموماً وضد الفلسطينيين بشخص الحاج أمين بشكل خاص.

فالموجة العالمية العارمة ضد المجازر التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين عموماً، وفي غزة خصوصاً، تنبئ بأن شعوب العالم بدأت تتلمس "جوهر الموضوع" في فلسطين المحتلة.

فلسطين والعالم (3)

:من بن غوريون الى نتانياهو

 جدلية الإرهاب والتهجير

25/11/2023

في كتاب سيرته بعنوان "محارب"، قال آرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي الذي أشرف على احتلال لبنان في عام 1982: "نحن جئنا الى هنا (أي الى فلسطين) لنقيم دولة يهودية لا دولة ديموقراطية". وهذا الاعتراف الصريح من أحد كبار قادة إسرائيل منذ قيامها، يفضح بغير أي التباس المزاعم التي روَّجها العالم الغربي بكافة وسائله، بأن "إسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"!

طبعاً، النظام العالمي الغربي أطلق تلك الكذبة وروَّجها على أوسع نطاق إعلامي، وعلى مدى عقود من الزمن، منتظراً من العالم تصديقها، في قياس سيء النيَّة إزاء الأنظمة العربية الاستبدادية التي أقامها وأدامها ذلك النظام العالمي.

وإذا شئنا المقارنة الفعليَّة، إزاء الواقع العربي المتلازم مع نشوء دولة إسرائيل، فإنه يمكن القول بأن الدولة اللبنانية، على علَّاتها، هي في ضوء تصريح شارون في كتاب سيرته، الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة العربية، لا إسرائيل!

وأهمية هذا التصريح، أو الاعتراف، الذي أدلى به شارون في كتابه، أنه وضع "الدولة اليهودية" نقيضاً للدولة الديموقراطية. وهذا اعتراف يؤكد، كما أثبتت الحروب الإسرائيلية ضد حركات المقاومة في العقود الأخيرة، وخصوصاً حرب غزة الجارية الآن، بأن المرادف الفعلي للدولة اليهودية، هو "العنصريَّة"، و"الأبارتيد"، ورفض قبول الآخر، خصوصاً أهالي البلاد الأصليين المطلوب "إبادتهم" أو "تهجيرهم" كضرورة لقيام "دولة يهودية"!

وهذه الجدلية فُتحت في الكيان الصهيوني في أواسط ثمانينات القرن الماضي من قبل جماعة من المثقفين أُطلق عليهم اسم "المؤرخون الجدد"، ومن أبرزهم بني موريس الذي اشتهر بكتابه "أصل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" (1988). وقد أثارت كتابات موريس حول الموضوع ضجة في إسرائيل خلال تسعينات القرن الماضي، وفي الأوساط الثقافية العالمية التي عُرف عنها دعمها لدولة إسرائيل كونها جزءاً من الجسم الثقافي في "النظام العالمي الغربي". وبذلك انطلق نقاش بدأ بالاعتراف بالمجازر التي قامت بها العصابات الإرهابية الصهيونية ضد السكان الفلسطينيين (دير ياسين، وكفر قاسم وغيرهما) بقصد تهجير أكبر عدد ممكن من أبناء الشعب الفلسطيني من بلادهم الى البلدان المجاورة.

(ملاحظة: أصدر بني موريس طبعة جديدة ومنقَّحة من كتابه "أصل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين". والجدير بالذكر بأن موريس شارك في حصار العاصمة اللبنانية بيروت عام 1982 بصفته "جندي احتياط" في جيش شارون).

لكن عندما انطلقت هذه الجدلية بظهور أفكار المؤرخين الجدد انقسمت الآراء النقدية حول عمليات الإرهاب والقتل والتهجير التي أمر بها دايفيد بن غوريون أول رئيس للحكومة في الكيان الصهيوني الوليد. رأي أدانها كجرائم حر ضد الإنسانية، ورأي مناقض أدان بن غوريون لأنه عاد فأمر بوقف تلك المجازر، وهو الرأي الراجح في الكيان الصهيوني اليوم بقيادة نتانياهو لكون حكومته قائمة على مشاركة الأحزاب الدينية العنصرية المتطرفة. وإذا كان كلُّ العالم يعرف لماذا أطلق بن غوريون موجة تهجير الفلسطينيين بالإرهاب والمجازر في البداية، لكن الأمر بوقف تلك المجازر ما زال موضع جدل. ولذلك فإن عودة الإرهاب الصهيوني بهذا الزخم الاستيطاني الدموي، ينبىء بأن بن غوريون لم يوقف عمليات التهجير لأسباب إنسانية، بل توخَّى تثبيت الكيان المصغَّر حتى يشتد عوده فيعيد الكرَّة بطرق مختلفة!

أما الذين أدانوا بن غوريون لوقف عمليات القتل الأولى، فإن منطلقهم هو ذاته الذي عبَّر عنه شارون في كتاب سيرته، لأنه من غير الممكن إقامة دولة يهودية صافية في فلسطين من غير تهجير جميع الفلسطينيين، سكان البلاد الأصليين، لكي تكتمل الأكذوبة الصهيونية الأساسية بأن "فلسطين أرض بلا شعب واليهود شعب بلا دولة".

بل إن شارون في كتابه ذهب الى أبعد من ذلك عندما أنكر وجود شعب اسمه "الشعب الفلسطيني" زاعماً أن سكان فلسطين هؤلاء هم مهاجرون قدموا من مصر!

لاحظوا الآن كيف سعت إسرائيل في حربها الراهنة على المقاومة الفلسطينية في غزة الى تهجير شعبها الفلسطيني بكامله الى سيناء في مصر!

فلسطين والعالم (2)

تلاشي فكرة التطبيع

24/11/2023

بعد مسلسل الحروب الفاشلة التي خاضتها الأنظمة العربية ضد إسرائيل، عكفت الدوائر الصهيونية وحلفاؤها في الغرب على ابتداع صيغ غايتها تيئيس العرب من جدوى الاستمرار في صراعهم مع إسرائيل، تحت مقولة "السلم خير من الحرب"، أو مقولة "السلم جلاَّب الرضاب سيَّال اللعاب، والقتال جلاَّب الخراب باعث اليباب".

وقد سلكت بعض دول الجوار الفلسطيني، ومعها منظمة التحرير الفلسطينية، هذا الطريق، ربما لتجرِّبَ حظها مع عدو زعموا أنه يملك جيشاً لا يقهر، ربما على قاعدة "إلحق الكذاب الى باب الدار"، أو ربما لأنها مغلوبة على أمرها وعزَّ نصيرها، أو ربما لأنها مرتبطة برباط لا انفكاك منه مع النظام العالمي الذي صنع دولة إسرائيل في الأصل، وأمدها وما زال يمدها بأسباب القوة والبقاء على أشلاء الشعب الفلسطيني وعلى حساب الدول العربية. أو كما قال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب: "نأخذ من العرب ونعطي إسرائيل"!

ولذلك فإن ما أطلقوا عليه "عملية السلام" منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، كان مجرد سراب أو خدعة خبيثة، لأنه تبين أن إسرائيل وحماتها في النظام العالمي كانوا يريدون "سلاماً بغير مقابل". ومع ذلك مضت دول عربية عديدة في هذا الطريق تحت مسميَّات جديدة، مثل "التطبيع"، و"الشرق الأوسط الجديد"، والاهتمام بالتطوير الاقتصادي ومباهج الحياة. وفي هذا المسار الذي غلفوا فيه "التطبيع" بلفائف "السلام" بدا وكأن الدول العربية المهرولة الى التطبيع تبتغي التخلص من القضية الفلسطينية أكثر مما هي حريصة على حقوق الشعب الفلسطيني الذي اعتبره بعضهم، خصوصاً في منطقة الخليج، بأنه بات حالة مزعجة أو منغِّصة!

ويمكن القول، تبعاً لذلك، أن إسرائيل ورعاتها في النظام العالمي، أخطأوا فهم المسألة من أولها الى آخرها عندما ظنوا أن الأنظمة العربية السائرة في ركابهم تستطيع، مهما فعلت، أن تحمل شعوبها على التخلي عن القضية الفلسطينية. كذلك فإن الدول العربية المهرولة الى التطبيع واهمة إذا كانت تظن أنها بالتطبيع مع الكيان الصهيوني تستطيع أن تلغي القضية الفلسطينية من قاموسها.

فالقضية الفلسطينية فريدة من نوعها لأنها القضية الوحيدة في العالم التي هي بحجم العالم كله. ولهذا فإنها لا تحتمل حلين، أو رزمة من الحلول. هي قضية ليس لها سوى حلٍّ واحد فقط لا غير هو إعادة جميع الحقوق المشروعة والمسلوبة للشعب الفلسطيني.

ومن عجبٍ أن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني فهم مغزى هذه القضية أكثر من الزعماء العرب جميعهم من بداية القرن العشرين الى اليوم. فقد ردَّ السلطان عبد الحميد الحركة الصهيونية خائبة عندما عرض عليه زعيمها تيودور هرتزل أن يبيع اليهود جزءاً من فلسطين مقابل إغراءات أقلها التعويم المالي للسلطنة، بالإضافة الى إعادة إحياء قوتها لتمكينها من الصمود في وجه الدول الأوروبية الطامعة بمناطق تابعة للسلطنة. وكان ردُّ السلطان عبد الحميد بسيطاً وواضحاً، وكان يُدرك أبعاد ذلك الرد وعواقبه، إذ قال لهرتزل: "وفروا أموالكم وجهودكم. أعرف أن إمبراطوريتنا سوف تتفكك على أيدي القوى العالمية المتحالفة، وسوف يعطونكم فلسطين بالمجَّان. لكن فلسطين ليست ملكاً لي أو لأي جهة أخرى، هي ملك شعبها وأنا مؤتمن عليها. ولهذا فإنني لا أستطيع أن أبيعها، حتى لو أعطيت العالم كله بديلاً عنها. إنني لا أستطيع أن أسجل على نفسي في سجلات التاريخ أنني خنت الأمانة".

أي تطبيع هو هذا الذي يزحفون اليه على غير هدى، وأي زعيق في الدفاع عن الفلسطينيين يطلقه اليوم الزعيم التركي الجالس على عرش السلطان عبد الحميد وهو معترف بدولة إسرائيل ويقيم معها علاقات ديبلوماسية واقتصادية، وهو من أبرز أعضاء حلف شمال الأطلسي الذي مؤسسوه أقاموا تلك الدولة ويقومون بحراستها وتمكينها!

فلسطين والعالم (1)

ليست من هذا العالم...هي العالم

23 / 11 / 2023

عندما أعلن السيد المسيح في فلسطين الرومانية، ومعها المؤسسة الدينية والسياسية اليهودية في ذلك الوقت، أن مملكته ليست من هذا العالم، قصد في واقع الأمر آنذاك أن مملكته ليست، ولن تكون، من النظام العالمي القائم في زمانه، أي النظام الروماني المتواطئ مع المؤسسة الدينية اليهودية في حينه. تماماً كما هو الحال اليوم بين النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وبين الكيان الصهيوني العنصري في فلسطين المحتلة. إن عبارة "هذا العالم" تعني، بأي تفسير عقلاني، عالم الاستبداد، والظلم، والاستعمار، والنهب، والقهر، والاستعباد، والقتل، والتدمير، والتهجير، والتجويع، والإبادة، والتحكم، تماماً كما نشاهد اليوم في فلسطين المحتلة بالصوت والصورة. والنظام العالمي، المتضمَّن في هذه العبارة، مارس كل ذلك على شعوب كثيرة قبل الصوت والصورة، وقبل أي وسيلة إعلامية من أي نوع. وإلَّا كيف تسنَّى لحفنة من المهاجرين والمغامرين البيض أن يستولوا على قارات بأكملها مثل أميركا الشمالية، وأميركا الجنوبية، وأستراليا، ونيو زيلندا، وغيرها؟ وكيف تسنَّى لدول أوروبية هي الآن قليلة الشأن، ومنها دول صغيرة ومجهريَّة حتى، مثل بريطانيا، وهولندا، وفرنسا، والبرتغال، واسبانيا، أن تستولي على مستعمرات في الصين والهند وكامل الشرق، الأقصى والأوسط والأدنى، ومنها بوجه خاص فلسطين. وفي معظم مراحل التاريخ والقديم والمتوسط والحديث، كانت فلسطين الصخرة التي تحطمت عليها جحافل الغزاة والطامعين. فيها انهزم الفرس الساسانيون بقيادة كسرى الثاني أبرويز في مطلع القرن السابع، قبيل ظهور الإسلام بسنوات قليلة، وفيها تحطمت وانهزمت الحملات الصليبية من فرنجة أوروبا الغربية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر وانهارت دولهم القائمة على الاستعمار والاستيطان بقوة السلاح في فلسطين وجوارها. وفيها انهزمت الغزوة المغولية الجامحة التي أطاحت الدولة العباسية (في معركة عين جالوت بين بيسان ونابلس وجنين) في القرن الثالث عشر، وعلى صخرتها تتحطم الآن شوكة الاحتلال الصهيوني الذي اغتصب أرض فلسطين وأقام فيها المستعمرات لشعوب غريبة عنها، بدعم وتمويل دائم من "هذا العالم" الذي تقوده اليوم أميركا وحلفاؤها. فإذا كان النظام العالمي الراهن، بقياداته الموالية والحاضنة للصهيونية، استطاع أن يغتصب فلسطين ويقتل ويشرد شعبها، فإن أي مقاومة نابعة من أعماق الشعب الفلسطيني المشرد والمظلوم، ستكون حتماً منطلق المسار نحو عالم جديد، بديل عن "هذا العالم". فلسطين الآن هي العالم لكونها نقيض العالم الذي سمح باغتصابها وشارك فيه. ولذلك رأينا كيف أن معظم شعوب العالم الرازحة تحت نير الاستغلال والتضليل هبَّت من سباتها ورفعت علم فلسطين في عواصمها وحواضرها، ليس فقط لأن تلك الشعوب شاهدت أعمال القتل والتدمير والتشريد بحق الشعب الفلسطيني المظلوم، بل لأنها اكتشفت، من خلال القضية الفلسطينية، سرَّ بؤسها هي على أيدي نظمها المتصهينة. وربما كان ما هو أهم من أي نتيجة أخرى أنَّ الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة قد خسر لأول مرة ربما عطف شعوب العالم قاطبة، وبالتالي تعطُّلت في يده تهمة "العداء للساميَّة" التي كان يُرمى بها كلُّ من ينتقد إسرائيل، خصوصاً في الدول التي شرَّعت عقوبات جنائية للمتهمين بأنهم "أعداء الساميَّة". اليوم فلسطين هي العالم ... والعالم هو فلسطين

الميمات" الخمسة"

27 / 1 / 2023

قلَّما يحدثُ في أي بلد أن يتزامن انهيار مقوماته السياسية والاقتصادية في وقت واحد، ويعيش أهله داخلَ فراغٍ تام من غير أي أفق لحلول داخلية منطقية، كما يعيش لبنان واللبنانيون في هذه الأيام. فالمقوِّمات السياسية المتعطلة حالياً خمسة، تقابلها أعطالٌ في "الميمات الخمس" التي اشتهر بها لبنان في عزِّ ازدهاره. الأعطال السياسية والبنيوية في الدولة هي:

1)الفراغ في رأس الهرم، أي في رئاسة الجمهورية. 2) الفراغ الحكومي حيث تدير حكومة مستقيلة، ومستمِرَّة بثقة المجلس النيابي السابق وبدون ثقة المجلس القائم، إدارة شؤون البلاد تحت غطاء تصريف الأعمال، مع أنه لم تبقَ أعمالٌ تُذكر للتصريف. فقد صرَّفت جميع الأعمال المزعومة بأموال المودعين في المصارف ولم تنصرف لفقدان البديل. 3) أعطال تشريعية في مجلس النواب الذي تحوَّل، بصفته هيئةً ناخبةً محظوراً عليها التشريع قبل انتخاب رئيس للجمهورية، الى مسرح كوميدي بانتظار "غودو" الذي لم تأتِ بعد بشائره من الخارج. 4) أعطال في القضاء جعلت من قصر العدل حلبة للملاكمة بين القضاة والقضاة، وبين أصحاب الحقوق والقضاء، وبين الجميع ووزير العدل، وهي حلبة قدَّموا عليها مباراة في الزعيق والصراخ أسموها "هرج ومرج". 5) أعطال في الإدارة العامة حيث تلجأ الوزارات الى ما يشبه جمعيات الاستعطاء من الدول المانحة. الجيش وقوى الأمن ينتظرون مؤونتهم ومكافآت جنودهم من هذه الدولة أو تلك، وخصوصاً من سفيرة الولايات المتحدة التي تدير هذا الاستعراض المخزي، ووزارة التربية تنتظر مكافأة المعلمين، والمتعاقدين، والمتقاعدين، من قرضٍ يأتيها من هذه المؤسسة الدولية أو غيرها.

ومسألة الجيش لها حساسية وحسابات خاصة لأن اسم قائد الجيش مطروح كمرشَّحٍ لرئاسة الجمهورية من جهة، ولكون قيادته تاريخياً لا تنخرط في الصراعات الأهلية، تحت ذريعة الخشية من انقسام الجيش بين الفئات المتصارعة. ولا ينسى أحد أن الصراعات الداخلية بدأت تلوح في الأفق عندما أقدم الرئيس الراحل سليمان فرنجية على تفكيك الأجهزة الأمنية (الشهابية) الماسكة للوضع، ولجوء ضباطها الى الخارج، وعندما نشبت الحرب الأهلية بعد ذلك، اضطر الرئيس فرنجية نفسه الى إخلاء قصر بعبدا والانتقال الى مكان أكثر أماناً في شرق العاصمة بيروت..

أما "الميمات" الخمس التي قام عليها ازدهار لبنان في سالف العصر والزمان، وقد تلاشت الآن فهي: 1) "المرفأ" الذي هو أحد الركنين اللذين تغنَّى بهما ميشال شيحا في وصفه للبنان. 2) "المصرف" الذي هو الركن الثاني في الأنشودة اللبنانية، التي وُصفَ فيها لبنان بأنَّه "مرفأٌ ومصرفٌ". 3) "المدرسة" التي فاخر بها المثقفون والمفكرون في لبنان والعالم العربي والعالم الغربي أيضاً، وخرَّجت نخباً كان لها شأنٌ على امتداد العالم. 4) "المستشفى" الذي جعل من لبنان موئلاً للطبابة الموثوقة يَقْصُدُهُ المرضى من جميع أنحاء الشرق. 5) "المصيف" الذي جعل من لبنان ذات يوم (قبل أن تتراكم فيه القمامة، وتُحفَّر الجبال والتلال، وتتلوَّث بيئته الفريدة، وتنتشر فيه الكوليرا) قبلة السائحين والشعراء من الشاعر الفرنسي لامارتين والوادي الذي حمل اسمه، الى أمير الشعراء العرب أحمد شوقي الذي خلَّده بقصيدة "جارة الوادي" عن مدينة زحلة التي جاء فيها:

لا أمسُ من عمر الزمان ولا غدُ


جُمِعَ الزمانُ فكانَ يومُ لقاكِ

هذه "الميمات" الخمس العظيمة كلُّها طمستها همجية المتقاتلين فوق ترابها، المتصارعين على امتصاص دمها، العابثين بجمال طبيعتها، الممسكين بخناقها، والمتشبثين بقيادها وكأنها وقفٌ لهم ولذريتهم من بعدهم، يعضُّون عليها بأظافرهم الجارحة وأنيابهم الكاسرة، بغير رحمة أو شفقة على شعبها الطموح الذي نجحوا في تدجينه، أو طبيعتها الخلاَّبة التي شوهوا صورتها بعدوانية جشعة، وأفقروها بعدما كانت من أغنى وأجمل بلدان العالم، وكانت عاصمتها بيروت من أبهى المدن المشهورة بنظافتها ، ولطالما وصفها الواصفون الزائرون بأنها "باريس الشرق"، حيث كانت بلدية بيروت الممتازة مضرب المثل فتتلقى التهاني من بلدية برلين، والشكر من شعب ودولة هولندا للمساعدة المالية السخيَّة التي تبرَّع بها لبنان في خمسينات القرن الماضي لضحايا الفيضانات من الهولنديين في ذلك الوقت .

كلُّ تلك المآثر والمنجزات ذهبت أدراج الرياح وكأنها لم تكن، أو كأنها أضغاثُ أحلامٍ لن تعود. فقد سُدَّت آفاقها حتى الاختناق.

 

جمهورية الريع

28 / 1 / 2023

من الخطأ أن يظنَّ أحد من اللبنانيين أن الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة من شأنها أن تُسقط "جمهورية الريع" التي قامت بعد الحرب الأهلية، من خلال تسوية بين الميليشيات المدجَّجة بالسلاح وبين الميليشيات المالية المرتكزة على السريَّة المصرفية وعلى حريَّة انتقال الأموال. والدليل على ذلك أن الأزمة العميقة الراهنة تدخل الآن عامها الرابع من غير أي نيَّة جدِّيَّة لإلغاء السريَّة المصرفية أو إقرار قانون فاعل للحد من هروب الرساميل الكبيرة الى الخارج (كابيتال كونترول) .

فإذا كان ذلك متعذراً، بعد كل ما جرى من انهيارات، فإنَّ "جمهورية الريع" ما زالت هي الأقوى من الشعب كله، لأن السلطة السياسية، أو ما يسميه البعض "المنظومة الحاكمة"، قامت بعد اتفاق الطائف على دمج السلطة السياسية مع الثروة المالية الوافدة معه، فحوَّلت الشعب من مواطنين في جمهورية ديموقراطية الى زبائن في سوق حرَّة، أو على الأصح، "سائبة". وكان من نتيجة ذلك إفقار الناس وإلغاء الطبقة الوسطى التي كانت تقود الفكر السياسي، والفنون الجميلة، والأحزاب العقائدية، وتشيع في البلاد مناخاً صحيَّاً من الحرية المنعشة. ومهما حدث من تطورات، فقد يكون من الصعب الآن نجاح أي حركة أو مسعى للفصل بين السلطة السياسية وبين الثروة المالية. والبرهان على ذلك الانتخابات النيابية الأخيرة، وكل العمليات الانتخابية التي جرت خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث " الصوت للدولار" وليس للمواطن الحر.

بل إن جمهورية الريع التي قادها رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، كرَّست الممارسة القائمة على شراء السلطة بالمال (بشراء ولاء السياسيين أولاً بغية ربطهم بمصالح مالية) ضمن نظريَّةٍ بدت مغريةً في زمانها مؤدَّاها أن تسريع إنجاز المخططات في الوضع اللبناني المركنتيلي غير ممكن من غير "تزييت". فأصبحت الرشوة هي القاعدة التي يقوم عليها الإنجاز، فعمَّ الفساد من فوق الى تحت. وما هو أفدح من ذلك، ربط العملة الوطنية، الليرة اللبنانية، بعملة أجنبية هي الدولار الأميركي، بسعر صرف ثابت من غير الممكن إدامته كما هو ظاهر اليوم للعيان من تفلُّت في سعر الصرف من غير سقف. ولأن نظام الريع لا يقوم على الإنتاج، بل على الحركة المالية المنفلتة من أي قيد، فقد أُطلق العنان لتمويل الدولة (وأركان الدولة من زعماء الميليشيات) بالاستدانة من كل حدب وصوب، فتحوَّلت المصارف الى ماكينة لتلبية الديون المتراكمة تراكماً هندسياً، وانصرفت عن وظيفتها الأصلية بتمويل المشاريع الخاصة المنتجة، فصار من الأصعب على المنتجين اللبنانيين أن يحصلوا على تسهيلات مصرفية، لأنه كان أربح للمصارف تمويل سندات الخزينة بفوائد عالية ومضمونة من تمويل مشاريع خاصة، صناعية أو زراعية معرَّضة للمخاطر.

وهذا بدوره زاد من إفقار الطبقات الوسطى، لأنه حوَّلها الى بؤرة استهلاكية، فصار الاستهلاك من الأسس الاقتصادية الثابتة، وبتسهيل من المصارف أيضاً، فكان من الأسهل على أي فرد الحصول على قرض مصرفي لشراء سيارة، من أن يحصل الصناعي على قرض لشراء معدات جديدة أو متطورة لتحسين إنتاجه، فتحوَّل هذا التوجه الى فعل سلبي على وجهين: عجزٌ متصاعدٌ في الميزان التجاري للبلاد، وهبوط متواصل في الإنتاجية الوطنية. وحتى اليوم ما زال العجز في ميزان التجارة اللبناني عبئاً ثقيلاً لا يقلُّ عن 18 مليار دولار سنوياً. أما هبوط الإنتاجية الوطنية فمَرَدُّه الى تقلُّص القدرة التنافسية للإنتاج اللبناني بسبب ارتفاع كلفته جرَّاء ارتفاع الفوائد على القروض، وارتفاع كلفة استيراد المواد الخام والمعدات الصناعية.

كانت نظرية رفيق الحريري في إطلاق العنان لاستدانة الأموال بصورة مفرطة، وجريئة الى درجة التهوُّر، لأنها قامت على فرضية غير مؤكدة مفادها أن السلام في المنطقة حاصلٌ لا محالة وفي وقت قريب، ومتى حلَّ السلام (في الصراع العربي – الإسرائيلي) فإنه سوف يجري شطب كل الديون المترتبة على لبنان. لكن الحريري، مع الأسف، دفع حياته ثمناً لدخوله من هذا الباب في معضلة لا مخرج لها في ذلك الوقت. وهذا ما انعكس تالياً على الحريرية السياسية من بعده، فاغتيلت هي الأخرى ولو بعد حين.

لكن التطور الأهم بعد اغتيال رفيق الحريري، أن السلطة السياسية من بعده صارت ملعباً للغوغائية الشعبوية سيطر عليه شركاؤه السابقون من زعماء الميليشيات. فقد زال الحريري، وتلاشت الحريرية من بعده، لكن جمهورية الريع التي ورثتها الميليشيات المموَّلة من الخارج، ما زالت أقوى مما هو ظاهر للعيان، لأنها قائمة في الدرجة الأولى على الشعبوية لاستقطاب الناس بشراء السلطة من خلالهم.

ونشاهد اليوم بأُم العين، كيف أن فئة قليلة من السياسيين الميليشياويين، تتموَّل من الخارج وتستولي على الموارد من الداخل، هي التي تشكل النظام السياسي، وتدير السلك القضائي بما يتناسب مع مصالحها. فالديماغوجية الشعبوية (اللاديموقراطية بطبيعتها) تتمكن من التسلُّط على البلاد وأهلها من خلال استماتتها للحصول على أكثرية نيابية من خلال الناخبين الذين تعملُ ضد مصالحهم.

وهذه من أكبر المفارقات في الوضع اللبناني، حيث تعيد الناس انتخاب جلاَّديها بحماس منقطع النظير. فالصوت المرجح يبدو أنه ما زال للتعصُّب الفئوي، لكن الصوت الاحتياطي هو للدولار أولاً وأخيراً. ولذلك فإنَّ جمهورية الريع ما زالت بخير، عصيَّةً على الاقتلاع.

عدد ونوع

17 / 1 / 2023

تثار في لبنان بين حين وآخر، أو بين أزمة وأزمة، مسألة تشكيل السلطة بين ما يسمُّونه المكوِّنات، أو في واقع الأمر بين الطوائف المذهبية. لكن النظام اللبناني المركَّب على هذا النحو من البداية، يبقى دائماً عرضة لاختلال التوازن لأن كلَّ مكوِّن من تلك التي تتشكل منها السلطة السياسية عندما يستقوي بعامل خارجي، أي عندما يحصل على دعم من دولة أو دول قويَّة عربية أو غير عربية، أو يستقوي بعامل داخلي، مثل تزايد عدد أتباعه أو تعاظم ثروته الماديَّة، يحاول أن يهيمن على السلطة أو يستأثر بها . حاولت المارونية السياسية ذلك من الاستقلال الى الحرب الأهلية، وحاولت ذلك الدرزية السياسية خلال الحرب الأهلية عندما تزعَّم كمال جنبلاط الحركة الوطنية ليستقوي بفئات أخرى، منها المنظمات الفلسطينية، لأن طائفته قليلٌ عديدها وظن َّأنه مستحقٌّ على قاعدة "إنَّ الكرام قليل". وحاولت ذلك السنِّية السياسية، بعد تسوية الطائف على حساب المكوِّن المسيحي، عندما جاء رفيق الحريري بقوة دفع هائلة داخلية وخارجية، حتى راودته نفسه أن يتمدَّد بزعامته الى خارج حدود لبنان الضيِّقة. واليوم يتمدَّد المكوِّن الشيعي طولاً وعرضاً من البحر المتوسط الى البحر الأحمر، ومن الليطاني الى شط العرب، ويزعم الزاعمون أنه الآن حاكم لبنان الفعلي ويهيمن على مفاصل السلطة فيه. لكن التجارب السابقة للمكونات الأخرى التي حاولت التمدُّد خارج نطاقها الداخلي المألوف أظهرت أنها ضمرت، وقلَّ نفوذها، وتحولت قوتها العارمة الى ضعفٍ يُشبه الانكسار، وأصبحت ثنائياتها ظهراً لظهر، وتبدَّدت أوهام الهيمنة والانتفاخ. ولن تكون الديموقراطية التوافقية في لبنان، وهي تسمح بالهيمنة للفريق الأكثر استقواءً، أحسن حالاً من الديموقراطية الأثينية في بلدها الأم وأصل منشأها قبل خمسمائة سنة قبل الميلاد، حيث كانت بلاد الإغريق تناطح بقوَّة ديموقراطيتها الدولة الإخمينية الفارسية المستقوية بعديد جيشها الذي كان يقوده نظام استبدادي الى درجة العبودية. ففي معركة سلاميس البحرية عام 480 ق.م، هزم مواطنو أثينا الأحرار، بزوارق صغيرة، أسطول بلاد فارس ومعه أسطول مصر وأسطول فينيقيا أيضاً. ومع ذلك فقد ظل النقاش الديموقراطي في أثينا جارياً على محورين يمكن موازاتهما اليوم بعد آلاف السنين بالحالة اللبنانية حيث تستقوي الفئات الداخلية على بعضها، وكلٌّ يقيس قوَّته بضعف مواطنيه لا بقوَّة أعدائه. هذا أحد هذين المحورين الذي يتَّخذ أهميته من الخطر الوجودي، وهو خطر في الوقت ذاته على الديموقراطية والنقاش الحر. فليس من مدخل الى معالجة الخطر الوجودي إلاَّ بالنقاش الحر في الدرجة الأولى لئلاَّ يكون خطراً وهمياً أو مفتعلاً فيكون مدخلاً الى الاستبداد والاستئثار. أما المحور الثاني فهو مسألة التعدُّديَّة، لأنه لا ديموقراطية بدون تعدُّديَّة فكريَّة وهي أرجحُ من التعدُّديَّة الفئوية التي يمكن أن تُخفضها بوضعها في الإطار العددي. ولذلك أفتى الفيلسوف والمفكِّر الإغريقي الأول أرسطو، في الإطار المنطقي لجدلية التعدُّديَّة والعدد، بأن التعدُّديَّة ليست العدد، بل هي نوعيَّة المتعَدِّدين. فلو كان لبنان يستقيم في إطار النزعة الإمبراطورية لاستقام في إطار السلطنة العثمانية. ولو كان يستقيم في إطار الاستعمار لاستقام تحت الاستعمار الفرنسي. إنه لا يستقيم إلاَّ في الإطار الوطني الداخلي من خلال التعدُّديَّة في الإطار الفكري وليس في الإطار العددي، وليس غير ذلك من طريق الى الدولة المدنية النظيفة والعادلة والمترفعة عن أي غاية سوى ترقِّي ورفاه مواطنيها.

حدث ... ولم يحدث

بقلم سليمان الفرزلي

قمت أخيراً بزيارة الى لبنان امتدت شهراً كاملاً، وذلك لأول مرة منذ ست سنوات. كانت تلك الزيارة ممتعة ومؤنسة ومفتحة لأبواب التأمل والتفكُروالتجوال في الماضي. التقيت الأهل والأصدقاء وبعض بقايا قدامى الزملاء ، وتجولت فيه جنوباً وشمالاً. وطرحت أسئلة وسمعت أجوبة فزادت حيرتي في فهم ما رأيت وما سمعت. وفيما كنت أحاول صوغ خلاصة مفيدة لكل هذا الخليط المعقَد والمتناقض من المشاهد، وللتنافر بين الفكرة البهية التي قام عليها لبنان والحقيقة المظلمة والظالمة التي آل اليها، تذكرت مقالاً كتبته في جريدة "الميزان" التي كنت أصدرتها من لندن في مطلع تسعينات القرن الماضي (العدد السادس، المجلد الخامس، نبسان/أبريل 1998 ) قلت فيه إن القيصر بطرس الأكبر مؤسس الدولة الروسية الحديثة كان يصف بلاده روسيا بأنها "المكان الذي تحدث فيه الأشياء التي لا تحدث". وقلت أيضاً إن هذا التوصيف تحديداً ينطبق على لبنان حفراً وتنزيلاً

ففي لبنان حدث استقلال ولم يحدث

وحدثت دولة ولم تحدث

وحدث دستور ولم يحدث

وحدث قانون ولم يحدث

وحدث برلمان ولم يحدث

وحدثت انتخابات ولم تحدث

وحدثت أحزاب ولم تحدث

وحدثت ثورات ولم تحدث

وحدثت انقلابات وتمردات عسكرية ولم تحدث

وحدثت إصلاحات إدارية وقضائية ولم تحدث

وحدثت حكومة شباب ولم تحدث

وحدثت حكومة "كل لبنان" ولم تحدث

وحدث اتفاق القاهرة (مع الفلسطينيين) ولم يحدث

وحدثت حرب أهلية ولم تحدث

وحدثت وحدة وطنية ولم تحدث

وحدث تقسيم ولم يحدث

وحدث اتفاق الطائف ولم يحدث

وحدثت وثيقة الوفاق الوطني ولم تحدث

وحدث اتفاق مع إسرائيل (17 أيار) ولم يحدث

وحدثت اتفاقات وعلاقات مميزة مع سوريا ولم تحدث

وحدث تمديد وتجديد للرئاسات والمجالس مرات ومرات ولم تحدث

وحدث فيه جيش ولم يحدث وحدث فيه إعمار ولم يحدث

والى ما هنالك مما حدث ولم يحدث الانتخابات البلدية والزواج المدني وهلمَّ جرَّاً

وفي لقاء عابر مع الأخ الأستاذ سليمان بختي صاحب "دار نلسن للنشر" أهداني كتاباً صغيراً من إصداراته الأخيرة هو "حصاد الذاكرة" للدكتور منح خوري الأستاذ في جامعة بيركلي بولاية كاليفورنبا الأميركية، قرأته في غضون ساعات قليلة. وقد لفتتني فيه رسالة تلقاها من زميله الأستاذ توفيق الصايغ في بيروت قبل نحو نصف قرن من الآن وصف له لبنان بعبارة "هذا البلد الغريب المدهش"

غريب لأنه حدث . .. ومدهش لأنه لم يحدث!

إشكالية " البيئة الحاضنة" (1)

30 / 1 / 2023

يعرف اللبنانيون أن حزب الله بات هو القوة المقررة في الوضع اللبناني الراهن. أو على الأقل هذا ما يعترف به رئيس حكومة تصريف الأعمال (أو على الأرجح أعمال التصريف)، نجيب ميقاتي نفسه الذي يستند الى هذه القوة التقريرية في أعماله التصريفية.

وكون رئيس الحكومة يعترف بأن الكلمة الأخيرة في السلطة التنفيذية ليست له، يخلق إشكالية تتعدَّى التركيبة الدستورية للنظام اللبناني الى المسألة الوجودية التي قامت عليها الشراكة الوطنية للجمهورية اللبنانية منذ الاستقلال والميثاق الوطني. وهذا يؤكد مقولة اختلال التوازن الوطني بفعل فائض القوة لأي مكون من مكونات الكيان اللبناني.

منذ ما قبل دخول حزب الله شريكاً في السلطة السياسية، تصرَّف علناً على أساس أن المقاومة ليست بحاجة الى إذن من أحد، بل دَحضَ علناً، فكرة الإجماع الوطني لتحصين المقاومة. فقد آثر حزب الله استناد المقاومة الى فكرة "البيئة الحاضنة" الموثوقة لتحصين نفسه بدلاً من التضامن الوطني غير الموثوق. ومن هنا نشأت إشكالية التناقض بين المقاومة كعمل سرِّي في زمن الاحتلال الإسرائيلي، وبين المشاركة في السلطة كعمل علني بعد التحرير. وفي ذهن بقية اللبنانيين، خارج إطار "البيئة الحاضنة"، أن حزب الله أراد من مشاركته في السلطة تالياً، أن يتقاضى منهم ثمن ذلك التحرير، مما يفسِّر في رأي بعضهم هيمنة الحزب على القرار فصارت له، حسب تعبير رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، "الكلمة الأخيرة".

لكنَّ إشكالية "البيئة الحاضنة" لا تكمن في السيطرة السياسية، سرَّاً أو علناً، بل في أصل التركيبة الكيانية المتفق عليها للوجود اللبناني التعدُّدي المانع لاختلال التوازن حيث يؤدِّي اختلاله دوماً الى تجدُّد الحرب الأهلية بأوجه مختلفة. ذلك أن فكرة "البيئة الحاضنة"، والمقصود بها البيئة الشيعية تحديداً، تعطي انطباعاً بأن المقاومة ليست بحاجة الى أي طرف آخر لتحصين نفسها، بمعنى أنَّ أي بيئة أخرى من المستبعد، أو ربما من المستحيل، أن تكون حاضنة. وإذا أُخِذت بهذا المعنى فهي تعطي انطباعاً بأنها فكرة انفصالية، أو انعزالية، أو حتى تقسيمية، في حال أَخذِ هذا المعنى الى مداه السلبي. فالتحصين بالمعنى المانع للاختراق من العدو الخارجي، يمكن في وضع تعدُّدي كالوضع اللبناني أن يتحوَّل الى مانع للتلاقي مع بقية البيئات اللبنانية باعتبارها غير موثوقة أو لديها أجندات مختلفة.

والإشكالية هنا، أن التهمة التقسيمية التي طالما رمي بها المكوِّن المسيحي، كذريعة من ذرائع الحرب الأهلية، هي تهمة باطلة من الأساس، لكن التعامل معه ما زال مستمراً على أساس هذه التهمة، مع أن ذلك المكوِّن هو الذي اختار "لبنان الكبير" للعيش مع الآخرين بالشراكة والتوازن. وفي هذه الإشكالية يكمن سرُّ استمرار إثارة النزعة التقسيمية في وجه المكوِّن المسيحي كلما طالب بشيء من شأنه تصحيح الاختلالات الحاصلة بفعل اختلال الموازين التاريخية.

على أنَّ ذلك يبقى أقلَّ مدعاة للاختلال الكياني من تحوُّل "البيئة الحاضنة" (الشيعية)، تحت دعوى الاضطرار الى التحصين، الى ما يشبه "الغيتو" الخائف من الآخرين وهو الذي يخيفهم، فتنشأ فيه مع الوقت ثقافة مغايرة، ومصالح متباعدة، أو حتى طرائق عيش مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يأخذ مفهومُ الشراكة الوطنية معنى مختلفاً ليصبح، كما بدأ يظهر الآن من خلال القول بأن لحزب الله "الكلمة الأخيرة"، على قاعدة "ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم". ومن الملامح المقلقة لبقية اللبنانيين أن يكونَ شريكٌ مؤسسٌ في الوطن، من لبنان ظاهرياً وليس فيه عملياً، لأنَّ فكرة "البيئة الحاضنة" تعطي معنى عدم الثقة بالشركاء الآخرين، بحيث يمكن للقائلين بالتحصين في البيئة الحاضنة، أن حلَّ هذه الإشكالية هو في السيطرة على الآخرين من خلال الاستحواذ على "الكلمة الأخيرة"، فيصبحون مهمَّشين ومنقسمين فيخفُّ وزنهم وتذهب ريحهم.

وما كانت فكرة "البيئة الحاضنة" لتتجذَّر وتأخذ بعدها الخلافي في السياسة، والاختلافي في الثقافة، لولا الأوضاع الإقليمية والدولية المؤاتية لمثل هذا التوجه، الذي ربما لم يكن مقصوداً في الأساس من أهل تلك البيئة. لكن ما حدث قد حدث، والتفكير قد ينصبُّ الآن على البحث عن صيغة ستكون بطبيعتها سلبية، في حال لجأت المكونات الأخرى الى اعتماد نظريَّة "البيئة الحاضنة" ذاتها، لحماية نفسها من استقواء فريق واحد ببيئته الحاضنة.

وفي غالب الظن أن مثل هذا التطور، الممكن نظريَّاً، مستبعد في الوقت الحاضر، بسبب الانقسامات الكثيرة في البيئات الأخرى، مقابل التراص والتماسك في "البيئة الحاضنة" القائمة.


إشكالية "البيئة الحاضنة" (2)

31 / 1 / 2023

موقف حزب الله إزاء الموقف المسيحي من موضوع اجتماعات مجلس الوزراء، على الرغم من حدَّة ووضوح التعليل الذي أعلنه "التيار الوطني الحر"، شريك الحزب في ورقة التفاهم التي يبلغ عمرها بعد أسبوع سبعة عشر عاماً، تضمَّنَ رسالة تهديد مبطَّنة، حسب التفسيرات السارية في الكواليس، مفادها أنَّ التمادي في المناكفة وعرقلة وصول مرشَّح حزب الله الى رئاسة الجمهورية، لن يعطي المسيحيين أكثر مما هم حاصلون عليه، وأنَّ إصرارهم على تحصيل المزيد من خلال الإلحاح على تصحيح ما يسمُّونه "اختلال التوازن"، سوف يعرِّضَهم الى خسارةِ المزيد مما تبقَّى لهم حتى الآن.

وهذا يعني في المعادلة اللبنانية التاريخية، منذ تأسيس الكيان المسمَّى "لبنان الكبير" منذ مئة سنة، إعلان المكوِّن الشيعي، حجر الرحى في هذا الكيان، وليس أي مكوِّن آخر، وأن بقيَّة المكوِّنات مجرد أجرام تدور في فلكه تُصغي وتمتثلُ للكلمة الفصل التي يمارسها علناً، على حد تصريح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. الحزب القائد يتكلم وبقية اللبنانيين عليهم "السمع والطاعة". وأي مطالبة بالشراكة الفعلية (الشراكة في القرار الوطني) هي من قبيل الشِركْ.

وعندما تناقش أصحاب هذا القول بما يقولون، فإنَّ جوابهم فحواه أن حزب الله لا يعلن ذلك على الملأ، لكنَّه يتصرَّف على هذا الأساس، ويعملُ من ضمنِ هذا الإطار. فإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ المقصودَ منه، هو جعل أحقيَّة السيطرة على "البيئة الحاضنة" من الناحية الإيديولوجية تسري على جميع اللبنانيين، من حيث تقديمها باسم المقاومة بغلاف "المطلق الأخلاقي"، بما يُشبه المبارزة الفكرية الكبرى، خلال القرنين الماضيين، بين الاشتراكية والرأسمالية، حيث اعتبر كل منهما أنه "يضمُّ الأخيار، والآخر يضمُّ الأشرار".

لكن فكرة "البيئة الحاضنة" كما تقوم عليها الآن، من حيث تكوينها الإرادي أو الإضطراري من جناحين، يشكِّلان في نظر بقية اللبنانيين خليطاً من الأخيار ومن الأشرار. وحتى الآن لم يقدِّم أحدٌ تبريراً لهذه الثنائية المغلقة على الآخرين، غير القول بتماسك البيئة الحاضنة لمقتضيات حماية المقاومة، على الرغم مما يُساق لدى بقيَّة اللبنانيين من المسؤولية الجسيمة التي يحملها أحد جناحي هذه التركيبة التي أوصلت لبنان الى ما وصل اليه من انهيارات.

وقد وصلت كيانات كبرى في العالم، مثل الولايات المتحدة الأميركية، التي قامت أيضاً على "المطلق الأخلاقي"، ممثَّلاً بالبيوراتينية البروتستانية في أوج نقائها، الى ما هي عليه اليوم من انهيار أخلاقي بفعل تمازجها مع العنصرية ومع الوحشية الرأسمالية. ومن هذا القبيل، يتعرض رونق المقاومة، المطروحة من الأساس كمطلق أخلاقي، الى التآكل والتلوُّث، بفعل الحرص أو الهوس بفكرة "البيئة الحاضنة"، التي باتت ترى وجودها السياسي ووحدتها الاضطرارية (أو الضرورية)، في الانعزال الكياني والثقافي والعقائدي عن الشركاء الأتباع خارج تلك البيئة.

إنَّ هذا الهوس بفكرة "البيئة الحاضنة" لا يقيم وزنا لإمكانية أن يأكل الشريك الآخر في الثنائية الشيعية التي تتكوَّنُ منها تلك البيئة من رصيد المقاومة في الذهن الشعبي العام، وبالتالي ينتقص من رونقها في إطارها الأصلي، إطار "المطلق الأخلاقي"، مما ينبىءُ بأن المقاومة نفسها تبتعد أكثر فأكثر عن إطارها الأصلي باتجاه النزعة السلطوية القائمة على الاستئثار، وهو شيءٌ يشبه ما حدث في أميركا عندما طغت الوحشية الرأسمالية على البيوراتينية البروتستانتية (كمثال أعلى لفكرة "المطلق الأخلاقي" ذات المقومات الدينية في الأصل). ففي الولايات المتحدة أنتج التباعد بين "المطلق الأخلاقي" وبين الوحشية الرأسمالية، حالة عدوانية تجاه بقيَّة العالم، أنتجت التمدُّد الإمبريالي في جميع الاتجاهات.

ومن الواضح أنَّ هذا التحوُّلُ في "البيئة الحاضنة"، بعيداً ببطء عن "المطلق الأخلاقي" للمقاومة في ثوبها الأصلي القائم على التضحية المطلقة بالذات في سبيل أهداف سامية، سوف ينتقص في المضمون من التعدُّديَّة اللبنانية، ليس باتجاه الوحدانية وهو أمر غير ممكن، بل من حيث حصر الانتفاع من الوضع القائم في اتجاه واحد. ففي حين كانت المعادلة اللبنانية تقوم على أساس أن الاختلاف التعدُّدي ينفع فئات مختلفة بطرق مختلفة، تبرز الآن معادلة جديدة للتفرُّدِ بالانتفاع من خلال امتلاك "الكلمة الأخيرة" أو الكلمة الفصل المقرِّرَة في جميع الشؤون المحليَّة من انتخاب رئيس الجمهورية، الى تشكيل الحكومات، الى الأحكام القضائية، الى أصغر معاملة في دوائر الدولة، التي صارت كلُّها هياكل شكليَّة.

فالوحدانية في لبنان لا تقوم من خلال حكم الحزب الواحد، لكن حزباً واحداً لديه القوة الداخلية القصوى، ومدعوم من جهة إقليمية كبرى، يمكنه تطويع التعددية التقليدية في خدمة سلطته وأهدافه، فلا يعود هناك كبير فرق بين الوحدانية والتعدُّدية الشكليَّة. حتى في داخل البيئة الحاضنة حيث تسود الوحدانية الثقافية، خصوصاً في مجال تثقيف الأجيال الجديدة على التميُّز الثقافي عن بقية اللبنانيين، فإن هذا التركيز على تثقيف الأجيال الجديدة بثقافة مغايرة للثقافة اللبنانية التعدُّدية، من شأنه في المستقبل أن يوقع تلك الأجيال في مأزق عند أي اختلال في تلك الأسس والأطر الثقافية من جرَّاء التطور الطبيعي للأوضاع العالمية.

وهنا تكمن إشكالية أخرى، أي أن يكون ممكناً عزل "البيئة الحاضنة" الشيعية عن بقيَّة اللبنانيين، واستحالة عزلها عن بقيَّة العالم.

 

إشكالية "البيئة الحاضنة" (3)

1 / 2 / 2023

في جميع الظروفِ التي أملت نشوءَ حركات مقاومة وطنية، سواء في حالات الاحتلال الأجنبي، أو في حالات الصراع الاجتماعي، كانت تلك الحركات تسعى الى الاطمئنان وتلتزم الحذر خوفاً من الانقسام أو الطعن في الظهر، ومن هذا الباب تدخل فكرة "التحصين" أو "البيئة الحاضنة"، أي إقامة نوع من الدرع الواقي من الخطر الداخلي في حال الصراع مع قوة خارجية، وخصوصاً في حالات الاحتلال الاستعماري أو الاستيطاني. ذلك أن فريقاً واسعاً من الشعب الواقع تحت الاحتلال يصبح شريكاً في المشروع الاستعماري، من خلال الوظائف العامة، والخدمات المتاحة له بحكم الأمر الواقع، أو الحاجة المعيشية الطبيعية.

وقد عالجت هذا الموضوع أخيراً المؤرخة الإيرلندية المختصة بالتاريخ الثقافي صوفي كوبر في دراسة مقارنة صدرت لها أخيراً عن مطبعة جامعة أدينبره الأسكتلندية، بعنوان "تشكيل الهويات في العالم الإيرلندي"، تناولت فيه أنماط الهجرة الإيرلندية الى الخارج (الى ملبورن في أستراليا والى شيكاغو في الولايات المتحدة)، ومنها إشكالية أن يكون شعب ما واقعاً تحت حكم الاستعمار ويكون شريكاً في المشروع الاستعماري، وكيف تتشكَّل هويته الثقافية من خلال تلك الإشكالية. وفي المناقشات والتحليلات لتلك الدراسة، خلص بعضهم الى الاستنتاج بأن أقرب تجربة الى التجربة الإيرلندية، هي التجربة اللبنانية، خصوصاً في أنماط الهجرة ودوافعها، ومنهم من ضرب على ذلك مثلاً بهجرة الهنود الى شرق إفريقيا، حيث الوجود للاستعمار البريطاني المهيمن على الهند، وبهجرة اللبنانيين الى غرب إفريقيا حيث الوجود للاستعمار الفرنسي المهيمن وقتها على لبنان.

إذ إنَّ موضوع تشكيل الهويات، وأبرزها الهوية الثقافية بعد الهوية الوطنية، هو الذي يرسم حدود الصراع الداخلي في المدى البعيد. وهو من هذه الناحية يحمل أيضاً وجهين متعاكسين: وجه الازدهار الاقتصادي والثقافي (وهو ما يسمِّيه بعض اللبنانيين "الزمن الجميل")، ووجه هدَّام عندما تتشكل مع الوقت هوية مغايرة تُعطي الأولوية للولاء لها فوق الولاء الوطني العام. وفي الحالة اللبنانية الراهنة الولاء لما أفرزته المقاومة الإسلامية في لبنان، مجتمعيَّاً وثقافيَّاً، تحت مسمَّى "البيئة الحاضنة". فالولاء الأول للبيئة الحاضنة كهويَّة مميَّزة، ومركَّبة أيضاً، كونها تحمل هويَّةً إسلاميَّةً في مرتبة أعلى وأوسع من هويتها الوطنية، وأعلى وأوسع من "البيئة الحاضنة"، يعقِّد هذه الإشكالية فوق التعقيدات الناشئة من تميُّزها عن بقيَّة اللبنانيين، ومن تماسكها السياسي مع نقيضها الفكري والسياسي في مجتمعها، تحت ضرورة الحفاظ على "وحدة البيئة الحاضنة بأي ثمن".

ففي هذا التركيب المعقَّد الذي يصفه بعض اللبنانيين بأنه "دولة داخل الدولة"، من غير الممكن فهم كيفية تشكُّل هذه الحالة بحصرها في إطار حالة الصراع السابقة مع العدو الإسرائيلي، لكون ذلك قاسماً مشتركاً مع معظم اللبنانيين الآخرين، الأمر الذي يبرِّر التغاضي عن إشكالية "البيئة الحاضنة" من حيث كونها ذات هويَّة إسلامية، تتجاوز لبنان أو حتى بقية المسلمين في العالم العربي.

ولذلك فإنَّ ما يصحُّ في حالة المواجهة المباشرة مع العدو الإسرائيلي، لا يصحُّ في الوضع اللبناني الفسيفسائي على المدى البعيد. وبالنظر الى حركات المقاومة الناجحة في العالم كلِّه، وعبر التاريخ، من ثورة سبارتاكوس (ثورة العبيد في الدولة الرومانية) في القرن الأول قبل الميلاد، الى كلِّ الحركات الثورية وحركات المقاومة في العصور الحديثة، من الثورة الفرنسية الى الثورة البلشفية في روسيا، ومن المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، الى المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال والاستيطان الفرنسي، وانتهاءً بالمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، يظهر جليَّاً أنَّ أيَّاً منها لم يأخذ فكرة المقاومة أو "البيئة الحاضنة لها" على أنها حالة مستدامة في المدى البعيد، وإن كانت تُسهم وتؤثِّر في تشكيل صورة المستقبل. وقد أخفقت جميع المحاولات اليسارية المتطرفة في العالم في طرح فكرة "الثورة الدائمة"، لأنَّ الناس في المجتمعات السويَّة ترغب في السلام والاستقرار والازدهار والاستمتاع بمباهج الحياة.

والفارق قيدَ أنملةٍ فقط بين أن تكون حركة عقائدية ما حالة إيجابيَّة منفتحة ومبدعة وخلاَّقة، وبين أن تتحوَّل الى وضعية سلبية هدَّامة ومعزولة، في نزاعٍ صامتٍ داخلها، وفي نزاع صاخب مع بقية المواطنين، فتصبح "الهجرة"، كما شخَّصتها الباحثة الإيرلنديَّة صوفي كوبر في كتاب "تشكيل الهويَّات، هي الحالة الدائمة على المدى البعيد، فتنقلب فكرة استنزاف العدو، المبرر الأصلي لنشوء حركة المقاومة، الى نزف واقعي لشعب الوطن وموارده وطاقاته الإبداعية.

إن قيام بيئة حاضنة ذات هويَّة خاصَّة ومميّزة، أياً كانت الذرائع التي أملتها، هي بطبيعتها حالة استقطابيَّة، في حال تشكُّلِ بيئات حاضنة مضادَّة لدى الآخرين تحت مسمَّيات مختلفة مثل "الأمن الذاتي" أو غيره من الذرائع، كما كاد يحدث في لبنان أيام حكومة فؤاد السنيورة في عام 2008 عندما استمرت تلك الحكومة غير آبهةٍ بغياب الشيعة منها. بل هي كادت تطلق في ذلك الوقت شرارة حربٍ أهليَّةٍ مدَمِّرة

وإذا كان لبنان بلداً فريداً من حيث هو في حالة تأسيسية دائمة، بمعنى أن نظامه السياسي والكياني لم يستقر بعد على صيغة نهائية، فإن الحالة الراهنة المتولِّدة من الاستقطاب الحاد، سوف تجعل من الولادة التأسيسية الجديدة "عملية قيصرية" واستنزافية مؤلمة، بفعل تصارع الهويَّات في غياب هويَّة وطنية جامعة فوق بقيَّة الهويَّات.

 

عن التدويل اللبناني (1)  

14 / 12 / 2022

دأب البطريرك الماروني بشارة الراعي في الآونة الأخيرة على الدعوة الى مؤتمر دولي لإيجاد حل للأزمة اللبنانية الراهنة، المتعددة الأوجه والأطراف، بسبب عجز القوى السياسية المحلية، أو عدم رغبتها في التلاقي التلقائي لوضع الصيغ المحلية الكفيلة بمعالجة الأزمة معالجة جدية تغني عن الاستعانة بالخارج.

 وفي هذا المسعى، أو الطرح، لا يخرج البطريرك الماروني عن السياق التاريخي للحرب الأهلية اللبنانية المستمرة من أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم، وهي حرب في كل مراحلها استدعت تدخلًا خارجيًا أو مؤتمرات دولية.

حتى في مرحلة ما بعد الطائف، وهو بدوره مؤتمر دولي بالتكليف، وهو مؤتمر أفرز وصاية سورية - سعودية، مثَّلها في البداية رئيس الحكومة المنتدب من المؤتمر المذكور، رفيق الحريري، انعقدت عدة مؤتمرات دولية من أجل لبنان، رُوج لها انها لخاطر الحريري، مغلفة بأغلفة اقتصادية، لكن من هناك بدأت مسيرة الدين العام، وتسهيل عملية الاستدانة من الخارج ومن الداخل، فتشكَّلت في لبنان منظومة حكومية أرست في البلاد سياسة "خديوية" (أي الاستغراق في المديونية فوق القدرة المتوقعة للسداد، على غرار ما فعل خديوي مصر مما أدَّى الى الاحتلال الأجنبي لأرض الكنانة في أواخر القرن التاسع عشر).

فالدين العام اللبناني قبل المؤتمرات الدولية "باريس ١"، ثم "باريس ٢"، و "باريس ٣" لم يكن يتجاوز الخمسة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، فتصاعد بعد ذلك الى أكثر من ١٥٠ في المئة من ذلك الناتج (وهي نسبة تضاهي هبوط قيمة الليرة اللبنانية ثلاثين ضعفًا بين المرحلة السابقة لمؤتمرات باريس الدولية وابنها المسخ "سيدر ١" الذي بقي حبرًا على ورق).

فالمؤتمرات الدولية حول لبنان لم تنقطع يومًا منذ الحرب الأهلية الأولى في جبل لبنان قبل أكثر من قرن ونصف القرن، ولذلك من المستغرب اليوم ان ينظر بعض اللبنانيين الى دعوة البطريرك الماروني وكأنها "بدعة" تُخفي وراءها شيئًا مشبوهًا، ولم يكن قد جف بعد حبر اتفاقية رسم الحدود البحرية مع إسرائيل برعاية دولية.

فأي مؤتمر دولي بشأن لبنان في إطار الحرب الأهلية المستدامة، هو الشيء الطبيعي والمنتظر على جري العادة.

فمتى تنتفي الحاجة الى التدويل في لبنان، وتكون أي دعوة اليه مستهجنة ومدانة؟

عندما يقرر اللبنانيون، أو يقبلون، بقيام نظام محترم ينهي أسباب الحرب الأهلية المستدامة، وينفي إمكانية قيام عصابات سياسية تتقاسمه كما تتقاسم الذئاب فرائسها.

 

(في الجزء التالي: "التدخل الفرنسي وفلسفته التاريخية")

**

عن التدويل اللبناني (2)

15 / 2 / 2022

لم يوفق الرئيس نبيه بري في دعوته الى طاولة حوار لبناني - لبناني. هو أصلًا دعا اليها من قبيل رفع العتب، لأنه يعرف عدم جدواها، قياسًا على محاولات الحوار السابقة منذ تشكيل "هيئة الحوار الوطني" في أيام الحكومة التاسعة للرئيس الراحل رشيد كرامي في بداية الحرب الأهلية (وكان فيها كميل شمعون نائبًا للرئيس)، فلم تستطع الهيئة المذكورة ان تعقد سوى جلسة واحدة يوم 25 أيلول 1975، لأن أمراء الحرب الحاكمين اليوم أشعلوا جبهات القتال خصيصًا لإحباط الحوار الوطني. وكانت تلك الهيئة تضم: رشيد كرامي، كميل شمعون، عبد الله اليافي، صائب سلام، مجيد أرسلان، فيليب تقلا، غسان تويني، كمال جنبلاط، بيار الجميل، ريمون اده، رينه معوض، خاشيك بابكيان، رضا وحيد، الياس سابا، عباس خلف، نجيب قرا نوح، إدمون رباط، عاصم قانصو، وحسين عواضة.

ثم غاب الحوار الوطني لسنوات، الى ان انعقد مرتين خارج لبنان (في سويسرا، الأول في جنيف عام 1983، والثاني في لوزان 1984)، وأيضًا من دون نتيجة.

بعد ذلك انعقدت الحكومة في عهد أمين الجميل عام 1986 كهيئة حوار، من غير أي نتيجة. وكذلك الأمر عندما دعا نبيه بري الى طاولة حوار عام 2005، (حضرها السيد حسن نصر الله في جلساتها الأولى قبل الحرب مع إسرائيل في عام 2006).

ففي هذا المسلسل من الإخفاقات في الحوار الداخلي اللبناني، لا بد من كسر الدوران في الحلقة المفرغة بتدخل من الخارج، وهو ما حدث فعلًا في مؤتمر الطائف.

وقد كانت فرنسا منذ الحرب الأهلية الأولى في جبل لبنان (1860 - 1864)، هي القوة الدافعة للتدخل في لبنان وسوريا تحت عنوان "الأسباب الإنسانية". ولهذه التسمية أسبابها، وقد ظهرت لأول مرة في النقاشات الفكرية الأوروبية حول وجوب أو عدم وجوب التدخل الخارجي، ولم تكن "الأسباب الإنسانية" محورًا من محاور تلك النقاشات. مما يدل على ان تلك الحرب في جبل لبنان لم تكن حرباً بالمعنى التقليدي، بل مسلسلًا من المجازر الجماعية وعمليات التهجير، تمامًا كما حدث في حرب الجبل الأخيرة 1983 – 1984.

وعلى الرغم من المصالحة الشكلية التي أجراها البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في مطلع الألفية الثالثة، وعلى الرغم من الأموال الطائلة التي أهدرت في "صندوق المهجرين"، فان معظم المهجرين في تلك الحرب لم يعودوا إلى قراهم، وهو مؤشرٌ مهمٌ على الشعور بأن الحرب الأهلية لم تنته فصولها بعد.

فالقيادة الفرنسية للتدخل الدولي في لبنان في القرن التاسع عشر، سبقتها في ثلاثينات ذلك القرن نقاشات فكرية أوروبية حول التدخل الخارجي لأسباب انسانية، مع العلم أنه لم يشارك في تلك المناقشات أيٌّ من المفكرين الفرنسيين في حينه، بل كان من اقطاب ذلك الحوار المفكر الايطالي متزيني، الداعي الى وحدة ايطاليا في ذلك الوقت، والمفكر البريطاني جون ستيوارت ميل.

لكن النقاش حول التدخل الخارجي بصورة عامة (أي من غير اعتبار للأسباب الإنسانية)، انطلق في فرنسا خلال الثورة الفرنسية، ومر بعدها بثلاث مراحل، أولها خلال الثورة برفض التدخل في شؤون الدول الأخرى، وثانيها ضرورة التدخل في حال تعرَّض أمن فرنسا ومصالحها للخطر، وثالثها التدخل لمساندة حركات التحرر للبلدان المحتلة من دول اخرى. وقد فلسف هذه المبادئ في النصف الأول من القرن التاسع عشر ثلاثة من كبار الكتاب والمفكرين الذين تولوا منصب وزير الخارجية في حكومات زمانهم، وهم: شاتو بريان، ومن بعده المؤرخ فرانسوا غيزو، ثم الكاتب والشاعر الفونس دو لامارتين (بعد ثورة 1848).

لكن التدخل الفرنسي تحت عنوان "الأسباب الإنسانية" لم يظهر الا لتبرير التدخل في الحرب الأهلية اللبنانية الأولى في ستينات القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الوقت أصبحت فرنسا هي المحرك الأول للتدخل الدولي في المسألة اللبنانية، ... وما زالت.

( “في الجزء التالي "إدامة أسباب الحرب لإدامة التدخل)

 

عن التدويل اللبناني (3)

16 / 12 / 2022

من غريب المصادفات أن يأتي الحادث الذي تعرضت له دورية من القوات الدولية (يونيفيل) العاملة في جنوب لبنان منذ سنوات عديدة، في أعقاب إشارتين سياسيتين لهما مدلولات تتعلق بتدويل الأزمة اللبنانية المستعصية: الأولى، فشل الفصل العاشر من مسرحية انتخاب رئيس للجمهورية في مجلس النواب، ومعها دعوة نبيه بري للحوار بين القوى السياسية اللبنانية، والثانية، الإعلان عن زيارة يزمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الموجود في قطر لحضور مباريات كرة القدم العالمية التي تأهل فيها فريق بلاده للدور النهائي، القيام بها الى جنوب لبنان لتفقد الكتيبة الفرنسية هناك ومعايدتها بالميلاد ورأس السنة الجديدة. وهذه الزيارة هي أيضًا عنوان من عناوين التدويل.

إن وضع الحادث في إطار التدويل يطرح بصورة فوريَّة السؤال المحير حول ما إذا كان ماكرون يستعجل التدويل للأزمة الراهنة، أو يعرقله، بصرف النظر عمَّا إذا كان مدبرًا ومقصودًا، أو مجرد مصادفة عرضية.

وضع السؤال في هذا الإطار يدخل في جدلية التدويل والحرب، من حيث ازدواجية التفسير حول ما إذا كان دوام التدويل يخدم دوام الحرب، أم أن دوام الحرب يستدعي دوام التدويل.

ومن هذا المنظار يطل مشهد جديد على المسرح الجنوبي، بعد اتفاق رسم الحدود البحرية، وما تتطلبه عمليات التنقيب البحري عن الموارد الطبيعية من سلام طويل الأجل. فإذا كانت حالة الحرب السابقة لاتفاقية الحدود البحرية، قد انتفت مبرراتها، فلن تكون هناك حاجة الى قوات دولية بعد استتباب السلام، كما تنتفي الحاجة الى سلاح المقاومة.

وهذه الجدلية، التي تبدو واقعية منطقيًا، فيها نوع من الإشكالية بالنسبة الى أهالي الجنوب الذين استفادوا اقتصاديًا لسنوات طويلة من وجود قوات اليونيفيل، ومن وجود المقاومة أيضًا.

وبالتالي، فإن المماطلة الراهنة في انتخاب رئيس للجمهورية، تنبئ بأن أي تسوية دولية، أو إقليمية بغطاء دولي، أو محلية بغطاء دولي - اقليمي، سوف تعطي حزب الله (ثمنًا للسلام في الجنوب) وزنًا تقريريًا أكبر في الشأن الداخلي اللبناني.

إن الانتقال من حالة الحرب الشيعية الى حالة سلامٍ شيعي بكفالة دولية وإقليمية، يذكرني بمكتبي السابق في بيروت عندما عملت في مطبوعة "عالم النفط" في ستينات القرن الماضي، فوجدت على الحائط صورة لمشهد من القرن التاسع عشر فيه ثلاثة رجال تحت شجرة سنديان كبيرة كتبت تحتها العبارة التالية: "ترجمان من الموارنة واثنان من الشيعة “!

فالترجمان بطبيعة الحال يتكلم لغة أجنبية غير لغته، تكون الحاجة إليها أكبر في إطار التدويل الذي يشمل لغات أجنبية متعددة الألسن.

ويخطر بالبال، من تلك الصورة القديمة التي تمثل زمن القناصل في مرحلة إرساء التدويل في أواخر سني السلطنة العثمانية، أن نوعًا من المثالثة يلوح في الأفق على قاعدة "واحد واثنان “.

وهذه أيضًا وصفة لصيغة جديدة للنظام اللبناني، تحمل في طياتها بذور اضطراب جديد، لأنها ستكون على حساب مكونات تأسيسية أخرى للوجود اللبناني.

 

(“في الجزء التالي "الدور الفرنسي المتقطع في مسيرة التدويل)

 

عن التدويل اللبناني (4)

17 / 12 / 2022

لم يكن التدخل الفرنسي في المسألة اللبنانية على وتيرة واحدة منذ الحرب الأهلية الأولى في عام 1860. فقد تدخلت في تلك الحرب الى جانب الموارنة منفردة. والملاحظ تاريخيًا ان الدور المنفرد لا يفعل فعلًا إيجابيًا إلا في الإطار الدولي الجماعي. وهذا ما حصل عندما عادت فرنسا الى الدخول شريكًا مع القوى الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت (بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا). فالتدخل الدولي المشترك هو الذي أنتج نظام المتصرفية على غرارا نتاج نظام الطائف بعد الحرب الأهلية الأخيرة .

في الحرب الأهلية الأولى التي أعقبها سلام طويل امتد حتى الحرب العالمية الأولى والانتداب الفرنسي، وهو سلام يشبه سلام الطائف، بفعل التسوية الدستورية المفروضة بالتدخل الدولي، بدا ذاك السلام وكآنه فاصل بين حربين.

وفي الحالتين كانت هناك شبهة بأن فرنسا كانت في البدء طرفًا في الحرب، عندما عملت منفردة، قبل أن تدخلت في التسوية التي هي عمل دولي جماعي.

وربما كان ذلك لسببين: الأول يعود الى المراحل التي كانت لفرنسا فيها طموحات إمبراطورية للهيمنة في أوروبا، في العهد النابليوني الاول، وكذلك في العهد النابليوني الثاني (نابليون الثالث)، لتعود بعدهما الى النادي الاوروبي والعمل المشترك، بفعل هزيمتها المدوية في العهدين المذكورين، الأولى على يد الانكليز، والثانية على يد الألمان.

أما السبب الثاني، وهو لبناني، فيتعلق بتعاطي السياسيين اللبنانيين مع أزمات بلادهم، من حيث استدراج التدخل الخارجي.

فقد كتب القنصل الفرنسي العام الذي خدم في بيروت أثناء الأزمة السياسية في عام ١٩١٣ يقول: "إنَّ الشعور بالتفاني من أجل الوطن الصغير لبنان غير موجود بين المسؤولين اللبنانيين. فكل واحد منهم مستعد دائماً، كما في القول الدارج، أن يحرق البلد من أجل أن يشعل سيجارته". (من كتاب جون سبانيولو "فرنسا ولبنان العثماني 1861 - 1914"، ايثاكا، اوكسفورد ١٩٩٢).

لكن الفرنسيين في الحالة النابليونية، الأولى والثانية، كانوا يشعرون بالمسؤولية التاريخية تجاه المؤسسات الدينية الكاثوليكية في لبنان، خصوصًا في المرحلة الثانية. أما في المرحلة الأولى فقد وقف حاكم جبل لبنان الامير بشير الشهابي ضد حملة نابليون بونابرت في حصاره لمدينة عكا بسبب تحالفه آنذاك مع واليها احمد باشا الجزار.

وقد أبلغني الصديق الراحل الأب أديب بدوي، الذي كان رئيساً للرهبانية الكاثوليكية المخلصية في وقت من الأوقات، أن الكنيسة الكاثوليكية أوفدت الى مصر، اثناء وجود نابليون بونابرت فيها، راهباً اسمه رافاييل راهبة، كان ضليعًا باللغات ليكون مترجمًا لقادة الحملة الفرنسية، وان ذلك الراهب عمل مع العالم الفرنسي شامبليون في فك طلاسم الكتابة الهيروغليفية الفرعونية، وهو الإنجاز الذي أدى الى كتابة التاريخ الحقيقي لمصر الفرعونية وحضارتها.

وقال لي الأب بدوي أيضًا ان ذلك الراهب وضع قاموسًا فرنسيًا عربيًا مع قاموس لاتيني عربي.

وعن المرحلة النابليونية الثانية، التي فيها جرى التدخل المنفرد في الحرب الأهلية الأولى في جبل لبنان، قال لي الأب بدوي إن دير المخلص في تلك الحرب تعرَّضَ للنهب والتدمير، وبعد وقف تلك الحرب أوفدت ادارة الدير بعض الكهنة الى الخارج لجمع التبرعات من أجل إعادة بناء الدير، ومن بين هؤلاء كاهن كان شجي الصوت يجيد الترتيل بصوت عال يمكن سماعه الى مسافة كيلومتر، تم إيفاده الى فرنسا لتلك الغاية.

وأول ما قصد في باريس القصر الامبراطوري طالبًا مقابلة الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث التي عرفت بأعمالها الخيرية. لكن الحراس منعوه من الدخول لأنه ليس لديه موعد رسمي، فخرج الى الشارع ووقف على الرصيف وراح ينشد ويرتل بأعلى صوته، فسمعت الإمبراطورة أوجيني تلك الألحان البديعة فسألت عن مصدرها، فقيل لها إنه كاهن كاثوليكي من لبنان طلب مقابلة جلالتك فمنعه الحراس من الدخول، فبعثت موظفًا في القصر ليأتي بذلك الكاهن اليها، فحكى لها عن مآسي الحرب والدمار الذي لحق بدير المخلص، فتبرعت بعشرين ألف ليرة ذهبية لإعادة إعمار دير المخلص.

ففي ذلك الوقت، وبعد سقوط الدولة النابليونية الأولى، نشأت في أوروبا فكرة المؤتمرات الكبرى للدول الأساسية أشهرها ثلاثة:

مؤتمر فيينا (1814 - 815)، مؤتمر باريس (1856)، ومؤتمر برلين (1878). ونشأت منها مؤتمرات دولية صغرى هي التي تعاطت بشأن المسألة اللبنانية.

(“في الجزء التالي، "المسألة اللبنانية في المنظار التركي)

 

عن التدويل اللبناني (5)

18 / 12/ 2022

تجري مشاورات، يبدو أنها بدفع من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من أجل عقد قمة رباعية، روسية - ايرانية - تركية - سورية، لبحث التعاون المشترك، وتطبيع العلاقات التركية - السورية. وقد أعلن روبرت بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية أمس أن الولايات المتحدة الأميركية قلقة من التعاون الروسي – الإيراني.

في قمة من هذا النوع، حتى لو بقيت حاليًا في طور المشاورات، لن يكون الوضع اللبناني المتأزم بعيدًا عنها. وهذا من شأنه أن يثير حفيظة أميركا وحلفائها الأوروبيين، وخصوصاً فرنسا.

والملاحظ في السنوات العشر الماضية أن تركيا الأردوغانية تبدي اهتمامًا ملفتًا بلبنان، خصوصًا بالأقضية الأربعة ذات الكثافة السنية التي كانت تحت الإدارة العثمانية قبل إنشاء دولة لبنان الكبير. فقد زار أردوغان لبنان قبل سنوات، فقصد بعض المناطق منها عكار ليفتتح مدرسة في قرية نائية سكانها من أصول تركمانية، كما تبرع بإنشاء مستشفى عصري في صيدا (اكتمل بناؤه وتجهيزه منذ أكثر من خمس سنوات، لكنه لم يفتتح بعد لأسباب غامضة)، ولوحظ أيضًا ان الأتراك ينشطون بشكل خاص في مدينة طرابلس، وأخيرًا في البقاع الغربي.

إن بعض اللبنانيين أطلق على هذا النشاط التركي المتمدد في لبنان (وفي سوريا أيضًا) صفة "العثمانية الجديدة". ويتذكر اللبنانيون أنه فور وقوع انفجار أو تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، وصل الى القصر الجمهوري في بعبدا وفد تركي رفيع المستوى ضم نائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وآخرين عارضًا على لبنان استعداد تركيا لإعادة بناء المرفأ وتجهيزه.

لكن التدخل التركي المستجد في لبنان يثير تحفظات من بعض الفئات اللبنانية التي ما زالت تشعر بالمرارة من الحكم العثماني، وسوف يثير تحفظات بعض الدول الغربية. كما أن هناك إشكالية أخرى لا تقل أهمية وهي أن تركيا ما زالت عضوًا في حلف شمال الأطلسي وتقيم علاقات مع إسرائيل منذ عقود.

وبعض الكتاب الأتراك المعاصرين، يُلمِّحون إلى أن اللبنانيين مدينون لتركيا العثمانية، وخصوصًا المسيحيين منهم، لاعتبارين: أولهما ان التنظيمات الأخيرة للدولة العثمانية حققت المساواة بين جميع مواطنيها، ورفعت عنهم التمييز السابق ضدهم، فسمحت لهم بشراء الأراضي والبيوت، وأعطتهم حرية العمل والتجارة فازدهرت أحوالهم الاقتصادية، وعينت وزيرًا للزراعة والإصلاح الزراعي، لوضع قوانين عصرية في هذا المجال، مفكرًا مارونيًا مرموقًا هو المعلم سليمان البستاني، الذي ترك بصمات جليلة في تحديث القوانين الزراعية.

وثانيهما، أنها سمحت باستقلال ذاتي للبنان بعد الحرب الأهلية في ستينات القرن التاسع عشر، وان مجازر جبل لبنان في تلك الحرب ما كانت لتحدث لولا تدخلات الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا وبريطانيا.

ففي عام ١٩٧٥ أصدر الكاتب التركي انتجن اكرلي كتابًا بعنوان: "السلام الطويل: لبنان العثماني 1861 - 1920" (هو أطروحته للدكتوراه)، حاجج فيه بأن لبنان شهد مرحلة سلام طويلة بعد الحرب الأهلية امتدت حتى الانتداب الفرنسي. واستنادًا الى وثائق ومعلومات استقاها من الأرشيف العثماني، أقام الحجة بأن التجربة اللبنانية في الحكم الذاتي، وفي الموالفة بين الجماعات الدينية المختلفة، أرست أساس الديموقراطية العلمانية، لكن تدخلات الدول الأوروبية في السياسة اللبنانية عرقلت الجهود الرامية الى تطوير مفهوم علماني للوطنية اللبنانية.

والكاتب أكرلي يجيد اللغة العربية التي اعتمد عليها في أطروحته لفهم وجهة النظر العربية، لكنه انتقد اعتماد اللبنانيين والعرب على مصادر غربية في المسألة العثمانية دون اي اعتبار لوثائق الأرشيف العثماني، ومنها أشياء لم يطرق بابها أي باحث لبناني غير منحاز، أو يحمل أفكارًا مسبقة من مصادر أجنبية.

وقد أشادت به "الصحيفة الدولية لدراسات الشرق الأوسط" لدقة بحوثه، وغنى محتواه واستشرافيته، واعتبرته اضافة قيمة الى المكتبة التاريخية حول لبنان (كتاب أكرلي صادر بالإنكليزية عن مطبعة جامعة كاليفورنيا).

(“في الجزء التالي: "المسيحيون لدفع القروش، والدروز لحمل السيوف)

 

عن التدويل اللبناني (6)

19 / 12 / 2022

بين حين وآخر، تُفتح في لبنان سيرةُ دفع الضرائبِ للدولة وجبايتها. وفي كل مرًّة يُقال إن فئةً من اللبنانيين تدفعُ أكثرَ من غيرها. أو فلنقل إن المجتمع المسيحي يدفع من الضرائب للدولة أكثر من بقية الفئات الأخرى، والجباية فيه أسهل. وهذا سياقٌّ تاريخي من أيام الدولة العثمانية، وقد انفجر الوضع في عام 1821 عندما طلبَ عبد الله باشا والي عكا من الأمير بشير الشهابي زيادة الضرائب على سكَّان جبل لبنان، فتردد الأمير بشير لأنه كان يعرف مدى كراهية الناس لإرهاقهم بالضرائب، لكنه في النتيجة استسهل الجباية من المسيحيين الذين انتفضوا وتمردوا وشكلوا ما سمي "عامية أنطلياس" وقد استمرت حتى حملة إبراهيم باشا المصري التي أطاحت والي عكا. وكانت تلك فكرةً رائدةً قلّدها الفرنسيون في "كوميونة باريس" خلال ثورة عام 1848.

ويقال اليوم إن هناك مناطق في لبنان لا يدخلها جباة الضرائب لئلا يقوم الناس الفقراء بإهانتهم وتعزيرهم، أو هم يحتجون بذلك لتبرير عدم الجباية، ناهيك بعمليات التلاعب بالدفاتر، خصوصاً في مجال الأرباح التجارية وضريبة القيمة المضافة. أمَّا في الزمن العثماني فإن فرض الضرائب لم يقتصر على عامة الناس، بل شمل أيضاً الأديرة المسيحية التي كان الرهبان فيها يقومون بأعمال منتجة. ولذلك سرى بين الناس في جبل لبنان مثل يقول: "المسيحيون فقط لدفع القروش، والدروز لحمل السيوف" (من رسالة إغناطيوس سركيس "أوراق لبنانية")!

ففي الحربين الأهليتين الكبيرتين، الحرب الأهلية في لبنان الصغير عام 1860، وفي لبنان الكبير عام 1975، يتشابه الموقف الجنبلاطي بين سعيد جنبلاط وبين وليد جنبلاط لجهة حمل السيوف وإعمالها في رقاب المسيحيين خلال الحرب الأهلية، بغية تهجيرهم. وكلاهما اعتمد على قوة خارجية: سعيد جنبلاط اعتمد على الصدر الأعظم العثماني خورشيد باشا، الذي أوصى الزعيم الجنبلاطي "إبادة المسيحيين إبادة كاملة في جبل لبنان والبقاع". وهذه التوصية، حسب التقارير الديبلوماسية في حينه، أدت الى مجازر عديدة شملت دير القمر، وجزين، وحاصبيا، وراشيا، وزحلة، وقرى أخرى. وقد جاء في كتاب القنصل الروسي في بيروت قسطنطين فاسيلي "سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني" عن الهجوم على زحلة بقيادة شبلي آغا العريان: "لو لم يدافع الأمير خنجر بن ملحم الحرفوشي (من زعماء شيعة بعلبك) عن شعاب زحلة ومداخلها، لاجتاح الدروز كل لبنان". وكان القنصل فاسيلي يهتم بدراسة موضوع الأقليات مركِّزاً بشكل خاص على الدروز في سوريا ولبنان.

أما وليد جنبلاط في الحرب الأهلية الطويلة خلال فترة حرجة بين انسحاب القوات الإسرائيلية من الجبل ودخول القوات السورية، فقد اعتمد حسب قوله على "جيش حكمت الشهابي". وإذا كان معروفاً من هي الجهة الخارجية التي أوصت سعيد جنبلاط بإبادة المسيحيين، فإنه من غير المعلوم على وجه اليقين من هي الجهة التي أوصت وليد جنبلاط بتهجيرهم. وفي الخلوة التي عقدها وليد جنبلاط مع كبار شيوخ الطائفة، وهي الخلوة التي وصف فيها الموارنة بأنهم "جنس عاطل"، وذلك بعد أحداث السابع من أيار عام 2008 في بيروت، قال له أحدهم عن المعارك مع مقاتلي حزب الله: "لقد أدمينا أنوفهم"، فأجابه جنبلاط: "وماذا عن غدٍ وبعد غد “.

والمعروف أن جنبلاط حينذاك عندما شعر بالهزيمة أوكل أمره الى خصمه ومنافسه طلال أرسلان الذي تربطه علاقة حسنة مع السوريين ومع حزب الله، في نوع من توزيع الأدوار، حيث ظهر الأمر بشكل "ثنائي درزي" يحاكي الثنائي الشيعي. والقصة ما زالت متوالية الفصول منها ما هو مليء بالتناقضات، ومنها ما هو مليء بالخداع، ومنها ما هو مليء بالأحقاد الدفينة أو بالمجاملات التمويهية ... وهكذا دواليك.

(“في الجزء التالي: "الدخول الأميركي الى المسرح اللبناني )

 

عن التدويل اللبناني (7)

20 / 12 / 2022

من يشاهد نشاط السفيرة الأميركية في بيروت، وخصوصاً اهتمامها بالجيش اللبناني، يخطر له أن التدخل الأميركي في لبنان بدأ بها. وهذا التدخل الراهن ملحوظٌ لأنه مكشوف، لكنه في الحقيقة قديم، وعلى موجة مختلفة من التدخل الأوروبي. فقد اتخذ في البداية شكل التبشير البروتستانتي المقرون بخدمات طبيَّة وتعليمية. وفي الأصل كانت غاية التبشير الأنكلو- ساكسوني في لبنان (الأميركي والبريطاني) من ثلاثينات القرن التاسع عشر، تحويل الدروز الى المذهب البروتستانتي (مما يُفسِّر الدعم البريطاني لهم في تلك الحقبة، وليس فقط لمواجهة التدخل الفرنسي كما هو شائع). فقد بدأ فتح مدارس الإرساليات البروتستانتية أول ما بدأ في المناطق الدرزية من جبل لبنان، حيث قام المبشران الأميركيان الدكتور وليام طومسون والمستشرق كرنيليوس فان دايك، بتأسيس مدرسة وعيادة طبيَّة في بلدة عبيه، وكذلك فعل البريطانيون بتأسيسهم مدرسة سوق الغرب، كما تم تأسيس مدرسة الأمريكان في صيدا.

ولما فشلت الإرساليات الأنكلو – سكسونية في تحويل الدروز الى مذهبها اتجهت الى استمالة أبناء الطوائف المسيحية الأخرى بنجاح ملحوظ. وعندما وصل الدكتور طومسون الى بيروت في أوئل عام 1833 كان هناك ثمانية مبشرين، توفي منهم اثنان، ورجع اثنان الى أميركا، فلما حدث هذا التغيير في الاتجاه، اقترح طومسون إنشاء مدرسة إنجيلية في بيروت برئاسة دانيال بليس (هي المدرسة التي أصبحت تالياً الجامعة الأميركية التي تأسست عام 1866 وأقيمت على أرض اشتراها المرسلون الأميركيون من الدروز).

وقد ترك الدكتور طومسون أثراً مهماً عن عمله في لبنان وتجواله في سوريا وفلسطين من مطلع أربعينات القرن التاسع عشر، هو كتاب يحمل انطباعاته وأوصافه لأحوال وعادات ومجتمعات السكان فيها بعنوان: "الأرض والكتاب". وسوف أكتفي الآن بمقطع من كتابه هذا حول لبنان للتأكيد بأنه لم يتغير شيء في هذا البلد منذ ذلك الحين، فقال:

"يبلغ عدد سكان لبنان (الجبل) نحو 400 ألف نسمة يعيشون في قرابة 600 بلدة وقرية ودسكرة. هناك عدة ديانات ومذاهب تعيش مع بعضها، وتمارس خرافاتها الدينية المتضاربة عن قرب، لكن الناس لا يَأتلفون في مجتمع متجانس، ولا يُكنُّون لبعضهم البعض مشاعر أخوية، فالسنَّة يقاطعون الشيعة، وكلاهما يكره الدروز، وأهل المذاهب الثلاثة يمقتون النصيرية (العلويين). أما الموارنة فلا يكنُّون محبة لأحد، وهم بدورهم مكروهون من الجميع. والروم الأرثوذكس لا يطيقون الروم الكاثوليك، وكلهم يبغضون اليهود. وهذا ينطبق أيضاً على الطوائف الصغرى في تلك البلاد. وليس بين كل هؤلاء رابطٌ مشتركٌ من الوحدة، كما أنه ليس للمجتمع طبقات متواصلة تجمعه يمكن أن تُفتح للعمل من أجل المنفعة العامة للجميع، بل هناك عدد لا حصر له من النتف المتفرقة، والصدوع، والفواصل، يجري عبرها تطويع الجمهور في حالة من الفوضى الميؤوسة، وهي تكمن في كل زاوية من الزوايا الكثيرة للعداء المتبادل بينها جميعاً. إن روحاً خارقة مهيمنة على الفوضى البدائية يمكن وحدها أن تقيم الانتظام في مثل هذه الحالة الفوضوية، وتجعلُ تلك العناصرَ المتنازعةَ قابلةً للسلام والوئام. ولست أظن أن أي بلد آخر في العالم يَضُمُّ مثل هذا التعدد من الفئات المتنازعة، وهنا تكمن العقبة الكبرى أمام أي تهذيب او تحسين عمومي ودائم لهذا النوع من الحالات، ومن طبيعة الأخلاق، والتصورات. إنهم لن يستطيعوا أبداً تشكيلَ شعبٍ موحَّد، ولن يأتلفوا من أجل أي هدف ديني أو سياسي مهِم. ولذلك سوف يبقون ضعفاء، وغير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، ومعرضين دائماً لغزوات ومظالم أجنبيَّة. هكذا كان الأمر، وهكذا هو الآن، وهكذا سيبقى الى أمد طويل طالما بقي الشعب منقسماً ومهمَّشاً ومداساً “.

ولمس الدكتور طومسون أن الناس في هذه البقعة من العالم يحبون الفلوس الى درجة العبادة، وأنهم أينما ذهبت تجدهم يطلبون المال، وقال إنهم ما كانوا ليرموا علينا السلام لو لم نكن نقدم لهم ولأولادهم خدمات تعليمية وطبيَّة. وقال أيضاً إن عشقهم للمال جعله على يقين لماذا وُجِدَ السيد المسيح في هذه المنطقة دون غيرها من مناطق العالم!  

 (“في الجزء التالي بعد عطلة الأعياد وبداية العام الجديد، أعاده الله عليكم وعلى لبنان بخير وسلام، "التدخل الأميركي السياسي في لبنان في مرحلة ما بين الحربين العالميتين )

 

عن التدويل اللبناني (8)

2 / 1 / 2023

الى الآن لا يقدِّر كثيرون من اللبنانيين والعرب محركات التدخل الأميركي الخارجي، في البلاد العربية

وفي غيرها، تقديراً دقيقاً ووافياً. وهكذا كان الأمرُ خلال القرنين الماضيين. فالاحتكاكُ الأول للبنانيين مع

الأميركيين كان من خلال الإرساليات التعليمية والطبية منذ الثلث الأول للقرن التاسع عشر. وخلافاً لحركة الاستشراق الأوروبية، لم يكن يظهر على نشاط الإرساليات الأميركية الأولى أيَّ مظهرٍ سياسيٍ، أو أيَّ مبادراتٍ تُخفي أهدافاً سياسيةً خفيَّةً أو غيرَ معلنة.

لكن الاهتمام التجاري والاقتصادي في الشرق (العثماني)، في أواخر القرن التاسع عشر، حمل معه اهتمامات سياسية بدأت تظهر مفاعيلُها في مطالعِ القرنِ العشرين، وذلك من خلال المعرض التجاري الكولومبي الدولي الذي أقيم في مدينة شيكاغو عام 1893 بمناسبة مرور 400 سنة على اكتشاف البحَّار الإيطالي (المموَّل من إسبانيا) كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية. في ذلك المعرض الكبير كان للوجود العثماني واللبناني والمصري والمغربي تأثيرٌ فنِّيٌ وثقافيٌّ ملحوظٌ في الأوساط الأميركية آنذاك، والى جانب ذلك برزت أصواتٌ لبنانيةٌ وعربيةٌ تطرحُ مسألة تقرير المصير والاستقلال عن السلطنة العثمانية. ومع أنَّ السلطات الأميركية أوفدت الى إسطنبول وفداً رفيع المستوى لدعوة السلطان عبد الحميد الثاني للمشاركة في افتتاح المعرض، فقد اكتفى السلطان بفتح جناح في المعرض للشركة "الحميدية" التي حملت اسمه، كما أصدر الأديب اللبناني المعروف المعلِّم سليمان أفندي البستاني، بصفته من التابعية العثمانية آنذاك، صحيفة شهرية باللغة التركية ظلت تصدر طوال سنوات المعرض أُطلق عليها اسم "سروتي فنون"، أو "ثروة الفنون"، وتُرجم الاسمُ الى الإنكليزية بمعنى "ثروة المعرفة". فقد اهتمَّ السلطان عبد الحميد بمعرض شيكاغو لأنه وجد فيه مناسبة لنسج علاقات مع الولايات المتحدة يوازن بها التدخلات الأوروبية في شؤون السلطنة.

لكن لا السلطان عبد الحميد، ولا معظم اللبنانيين، والعرب الآخرين، قدَّروا تقديراً صحيحاً ما هو حاصل من تحوُّلات داخل أميركا، وهي تحوُّلات وصفها بعض الكُتَّاب البريطانيين في ذلك الوقت بأنها "عبرنة أميركا"، بالنظر الى التغلغل الكثيف للتأثير الصهيوني في المجالات السياسية، والثقافية، والإعلامية، والمالية، في المراكز والمناطق الحسَّاسة من الولايات المتحدة، وهو تأثير أخذت ملامحه

تظهر في أعقاب الحرب العالمية الأولى من خلال نشاط الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في مؤتمر فرساي للسلام في فرنسا عام 1919، والمبادئ الأربعة عشر التي أطلقها هناك. فلا أحد في الشرق العربي أو العثماني تابع باهتمام حملة ويلسون الانتخابية الأولى عام 1912 التي اعترف فيها بالهوية اليهودية المتميزة عن الهوية الوطنية ليهود أميركا، وهو ما رفضه نابليون بونابرت قبل مئة سنة من خطاب ويلسون عندما وضع القانون المدني الفرنسي الذي حصر ولاء الفرنسيين، أياً كانت مذاهبهم الدينية، بالولاء الوطني لفرنسا فقط. ثم استدعى نابليون أعيان اليهود في فرنسا وجعلهم يتعهَّدون برفض ازدواجية الولاء، ثم طلب منهم عقد اجتماع لمجلس الحاخامين (السندرين الذي ضمَّ 70 حاخاماً) وجعل الحاخامين يوقعون أيضاً على التعهد بعدم ازدواجية الولاء. والتنازل الوحيد الذي أعطاه للحاخامين هو السماح بمراسم الزواج الدينية حسب طقوسهم، لكن بعد عقد الزواج المدني حسب القانون الفرنسي، وأي زواج آخر يُعدُّ باطلاً وغير معترف به.

أما الرئيس ويلسون فقد أعلن في خطاب انتخابي عام 1912 قائلاً: "أنا لست هنا لأعبِّر عن تعاطفي مع إخواننا المواطنين اليهود، بل لتأكيد إحساسنا معهم بهويتهم. هذه ليست قضيَّتهم وحدهم، إنها قضيَّة أميركا". لقد اعترف ويلسون ليهود بلاده بهويَّة أخرى، وبالتالي بولاء آخر، وذلك قبل أربع سنوات من وعد بلفور.

فقد غفل كثيرون من أهل الرأي في لبنان وسوريا خصوصاً، وفي الشرق العربي عموماً، عن معنى وجود الرئيس ويلسون في مؤتمر فرساي للصلح عام 1919، بل كان معظمهم مفتوناً به وبمبادئه التي أطلقها، فلم يقدِّروا تقديراً صحيحاً ما كان يرمي اليه في نهاية المطاف. وقد بدت تلك السذاجة في فهم وجهاء لبنان وسوريا للموضوع من خلال مطالبتهم بانتداب أميركي إذا كان لا بدَّ من الانتداب، كما أنهم استخفُّوا، ربما، بتأثير قيام دولة يهودية في فلسطين على لبنان، وعلى العرب، وعلى بقية العالم.

(“في الجزء التالي "وصفة لحرب كونيَّة مستدامة)

 

عن التدويل اللبناني (9)

3 / 1 / 2023

دخل الرئيس الأميركي وودرو ويلسون الى المسرح السوري – اللبناني في أعقاب الحرب العالمية الأولى من الباب العريض، دخله من خلال مؤتمر فرساي للسلام، تحت عنوان حق تقرير المصير للشعوب غير التركية في الإمبراطورية العثمانية. وقد أوفد الى سوريا بعثة للوقوف على ميول الأهالي حول مستقبل بلادهم خارج تلك الإمبراطورية، واختيار الدول المنتدبة عليهم من قبل عصبة الأمم، هي البعثة المعروفة باسم بعثة "كينغ – كراين" (باسم الموفدين هنري تشرشل كينغ وتشارلز كراين).

لكن هذا المسعى الأميركي تمَّ إحباطه من قبل الإنكليز والفرنسيين المنتصرين في الحرب، بعقد معاهدة سرِّية بينهما لاقتسام المنطقة السورية وفرض انتدابهما عليها، لبنان وسوريا للفرنسيين، والعراق وفلسطين للإنكليز، هي "معاهدة سايكس – بيكو". (كانت روسيا القيصرية طرفاً ثالثاً في تلك المعاهدة لكن قيام الثورة البلشفية أسقط دورها، وكان قائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين اطلع عليها من الأرشيف القيصري وكان أول من كشف مضمونها الى العلن). ومما أسعف الإنكليز والفرنسيين في إحباط المسعى الأميركي وجود قوات عسكرية لهما على الأرض ففرضا أمراً واقعاً حتى على عصبة الأمم لعلمهما ربما بأن البلدان السورية كانت ستختار الانتداب الأميركي كما تبيَّن من الاستقصاءات الأولى لبعثة "كينغ – كراين".

شملت خطة الاستقصاء الأميركية، إضافة الى المنطقة المشرقية الحالية، اعتبار منطقة كيليكيا التركية جزءاً من سوريا، لكن ضغوطاً دولية شديدة مورست في السر والعلن لإسقاط كيليكيا من مهمة البعثة الأميركية فتوقف الاستقصاء فيها. وكان ذلك أول تعثر في طريق تلك البعثة. لكن أهم ما أنجزته تلك البعثة هو تقريرها الموجه الى الرئيس ويلسون شخصياً، ثم الى الشعب الأميركي، حول فلسطين وخطورة إقامة دولة يهودية هناك على الولايات المتحدة وعلى بقية العالم. وهذا يدلُّ على أن هناك شعوراً أو علماً لدى البعثة بأن الرئيس ويلسون شخصيَّاً يسعى الى إقامة دولة يهودية في فلسطين.

وقد أحيل تقرير البعثة الى الكونغرس، الذي تعامل معه على طريقة الرئيس نبيه بري في لبنان، فأودعه الأدراج حيث نام فيها الى ما بعد صدور وعد بلفور في لندن (أي بعد خمس سنوات) فأقره سريعاً من غير مناقشة فلم يأخذ ما يستحقه من درس وتمحيص. وأهم ما ورد في ذلك التقرير، وينمُّ عن بُعد نظرٍ ملفت، قوله: " إن الدولة اليهودية في فلسطين لا تقومُ ولا تدومُ إلاَّ بالقوَّة العسكرية". واستقراء الملاحظة المذكورة، بالتحليل المدعوم بالتجارب والأحداث التي تلت ذلك، يبيِّن أنَّ بعثة "كينغ – كراين" الى سوريا كانت تبغي تنبيه الرئيس ويلسون الى أن عبء إقامة وإدامة الدولة اليهودية في فلسطين بالقوة العسكرية سوف يقع على الولايات المتحدة، ما يعني في النتيجة أن ذلك هو وصفة لحرب كونية مستدامة، وهو ما وصفته بعض المصادر الغربية في تحليلها للتقرير بأنه "إمساك العالم بالقوة وتنصيب أمراء حرب عليه".

وتكفي نظرة واحدة شاملة على مجريات العالم منذ ذلك الوقت لإدراك معنى الحرب الكونية المستدامة المترتبة على وجود دولة يهودية في فلسطين لا تقوم ولا تدوم إلاَّ بالقوة العسكرية، وبالقوة العسكرية الأميركية تحديداً، من الانهيار الاقتصادي العالمي عام 1929، الى الحرب العالمية الثانية، وصولاً الى الحروب المتواصلة في منطقة الشرق الأوسط منذ أواسط القرن الماضي حتى اليوم. وكل تلك الحروب السابقة واللاحقة تمحورت حول القوة العسكرية الأميركية كما توقعت بعثة "كينغ – كراين" قبل أكثر من مئة سنة.

وكما أن العرب لم يلحظوا مضمون تقرير "كينغ – كراين"، ولا حتى أعاروه أي أهمية، كذلك لم يلحظوا عملية الافتراق التي أحدثها انتخاب ويلسون عن البنية الفكرية الأساسية التي أقامها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة في المؤتمر الدستوري القارِّي العام في سنة 1787، حيث حذَّر بنجامين فرانكلين في خطاب له أمام زملائه المؤسسين من مغبَّة السماح بهجرة يهود أوروبا الى الولايات المتحدة، محدداً تلك المحاذير بالنقاط التالية:

إذا سُمح لليهود بالمجيء الى أميركا فإنهم سوف يتجمعون بأعداد كبيرة ويغيِّرون الحكومة.

إنهم سوف يُجيِّرون تعبَ الشعب الأميركي وجهوده المضنية لصالحهم.

إنهم لن يندمجوا في المجتمع الأميركي الأوسع.

إنهم يَسخرون من الديانة المسيحية وسوف يعملون على تقويضها.

إنهم يتوقون توقاً شديداً للعودة الى فلسطين، لكن يهود أميركا لن يعودوا الى هناك إذا أُتيح لهم ذلك.

هذه المحاولة الأميركية القوية في انطلاقتها الابتدائية نحو الديار السورية بعد حرب عالمية طاحنة تفككت بفعلها امبراطوريتان كبيرتان هما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية، وانهارت أيضاً الإمبراطورية القيصرية الروسية على يد الثورة البلشفية، لم يُكتب لها النجاح، لكن تقرير بعثتها ومسعاها الأولي أكَّدا نقطتين مهمتين: النقطة الأولى التأكيد على أن كيليكيا هي منطقة سورية وليست تركية، والنقطة الثانية استشراف المخاطر المترتبة على قيام دولة يهودية في فلسطين ليس على العرب فحسب، بل على الولايات المتحدة وعلى بقية العالم، باعتبارها "وصفة لحرب كونية مستدامة" .

. (“في الجزء التالي: "العودة الأميركية الثانية: مبدأ أيزنهاور والأحلاف العسكرية)

 

عن التدويل اللبناني (10)

4 / 1 / 2023

حدث تدويل آخر للبنان بعد تراجع المشروع الأميركي الذي حمله الرئيس ويلسون في مؤتمر فرساي، هو مشروع الانتداب الأنكلو – فرنسي، الذي حظي، كما يبدو بموافقة الشخصيات اللبنانية والعربية المتواجدة يومئذٍ على تماسٍ وتواصلٍ مع الوفود الدولية المعنيَّة بالمؤتمر، وأبرز تلك الوجوه الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي، والبطريرك الماروني اللبناني الساعي الى تكبير الكيان اللبناني في جبل لبنان بضم الأقضية الأربعة اليه. وهكذا قامت الكيانات العربية في ظل عملية تدويل واسعة النطاق أدت الى حكم أجنبي مباشر تحت اسم "الانتداب" استبعدت منه الولايات المتحدة بعدما كانت المحرك الأول لدينامية التدويل من خلال بعثة "كينغ – كراين" المُجْهَضَة، كما أُشير اليها في الجزء السابق من هذا العرض حول التدويل اللبناني.

بعد إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، أي بعد عام من انتهاء مهمة البعثة الأميركية بالشكل الذي انتهت اليه، لم تُقم الولايات المتحدة أي تمثيل ديبلوماسي لها في لبنان إلاَّ بعد 22 عاماً، وعلى مستوى منخفض. ففي عام 1942، وكان الانتداب الفرنسي ما زال قائماً، عيَّنت وزارة الخارجية الأميركية الديبلوماسي جورج وادسورث مفوضاً لها في بيروت، لكنها في عام 1943 لم تعترف باستقلال لبنان، بل اشترطت لاعترافها به أن تقدم الحكومة اللبنانية، التي قامت بعد إعلان الاستقلال، الى الحكومة الأميركية تعهُّداً يعترف اعترافاً كاملاً بحقوق ومصالح الولايات المتحدة وحماية رعاياها. واستمرت المفاوضات حول الموضوع مدَّة سنة تقريباً الى أن أصدرت وزارة الخارجية اللبنانية التعهُّد المطلوب من واشنطن (كان وزير الخارجية في الحكومة الاستقلالية الأولى برئاسة رياض الصلح آنذاك الأستاذ سليم تقلا). وفي أواخر 1944 اعترفت الولايات المتحدة باستقلال لبنان ورفعت درجة تمثيلها في بيروت الى مفوضية فوق العادة وعينت ممثلها السابق في بيروت جورج وادسورث نفسه في 16 تشرين الثاني 1944 وزيراً مفوضاً فوق العادة، فبقي في هذا المنصب حتى شباط 1947، ليخلفه لويل بنكرتون حتى ربيع 1951. وبعده بقي المنصب شاغراً حتى 3 تشرين الأول من عام 1952، حيث رفعت واشنطن تمثيلها في لبنان لأول مرة الى درجة سفارة، وعينت هارولد ماينور أول سفير لها في بيروت.

لكن تمثيل الولايات المتحدة على مستوى السفراء بقي مضطرباً منذ البداية. فالسفير الأول لم تدم خدمته في بيروت سوى تسعة أشهر، والسفير الثاني الذي خلفه، رايموند هير، أحدث أزمة ديبلوماسية مدوِّية عندما احتج لدى الرئيس كميل شمعون على قيام وزير الداخلية آنذاك جورج هراوي بزيارة الى عاصمة هنغاريا الشيوعية، بما فُهم منه المطالبة بإقالة الوزير. عندئذٍ التأم مجلس النواب، المؤلف يومها من 44 نائباً فقط، وأصدر توصية تطالب بطرد السفير من البلاد، فقامت الحكومة الأميركية بسحبه بعد سنة فقط من تعيينه في لبنان. والقصة أن الوزير هراوي كان في روما لحضور اجتماع لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو)، وهو من مؤسسيها، وبعد الاجتماع قرر أن يذهب الى بودابست لحضور مباراة في كرة القدم يلعب فيها البطل المجري المشهور في تلك الأيام فيرينتس بوشكاش، لأنه كان مولعاً بلعبة كرة القدم ومعجباً بأداء بوشكاش في الملعب، ولم يكن في زيارة رسمية الى هنغاريا.

والحقيقة أن العلاقات الأميركية مع لبنان ظلَّت متعثرة حتى نهاية الحرب الأهلية واتفاق الطائف. فقد قام مسلحون في بيروت الغربية باغتيال السفير الأميركي فرانسيس ميلوي (مع مستشاره الاقتصادي وسائقه)، كما جرى تفجير مقر قوات المارينز الأميركية المشاركة في القوات المتعددة الجنسيات (وكذلك مقر القوات الفرنسية)، في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من بيروت عام 1983، مما أدَّى الى سقوط مئات من القتلى والجرحى في صفوف تلك القوات، وبالتالي الى انسحابها من لبنان. وتلا ذلك تفجيرٌ كبيرٌ في السفارة الأميركية، على الكورنيش البحري في عين المريسة، تَهدَّم فيه مبنى السفارة على من فيه.

إن التحوُّل الأهم الذي حدث في منتصف خمسينات القرن الماضي هو حلولُ الولايات المتحدة محلَّ بريطانيا وفرنسا بعد حرب السويس في عام 1956، فانتقلت عملية التدويل المستمرة الى الراعي الأميركي. وقد سبق هذا الانتقال تمهيدٌ إيديولوجي وعسكري تمثَّل بمبدأ أيزنهاور (في إطار مكافحة الشيوعية)، وفي الأحلاف العسكرية (في إطار الدفاع المشترك)، ومن هذا المنطلق تمَّ توسيع الحلف الإيراني – الباكستاني، فأقيم حلف أوسع انضم اليه العراق، وسمي "حلف بغداد" الذي أراده نوري السعيد رئيس الحكومة العراقية آنذاك أداة للوقوف في وجه المد الناصري الذي تعاظم بعد تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، وبعد إفشال العدوان الثلاثي على مصر (التواطؤ الأنكلو – فرنسي مع إسرائيل).

وهذا كلُّه انعكس على الوضع اللبناني حيث زعم البعض أن الرئيس كميل شمعون ينوي الدخول في حلف بغداد، وهو زعمٌ غير صحيح، وإن كان الرئيس شمعون أكثر ميلاً الى العراق، لأنه استشعر خطراً وجودياً على لبنان من جراء تعاظم المد الناصري، بالنظر الى وجود فريق لبناني كبير في ذلك الوقت أكثر ولاءً لعبد الناصر منه الى لبنان، خصوصاً بعد قيام دولة الوحدة بين سوريا ومصر (الجمهورية العربية المتحدة). وازداد الوضع اللبناني تفاقماً بعد ثورة 14 تموز في العراق، حيث أطاح الجيش العراقي بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم النظام الملكي الهاشمي وحكم نوري السعيد وأعلن العراق نظاماً جمهورياً.

ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة من التوتر والاضطراب أن تسري مزاعم وتبريرات ليس لها أساس في الواقع، كالزعم بأن الرئيس شمعون كان ينوي تجديد ولايته كمبرر لمعارضيه الموالين في غالبيتهم الى عبد الناصر للانتفاض المسلَّح ضدَّه لحمله على الاستقالة، ثم قيل إن القوات العراقية التي قامت بالثورة على النظام الملكي فعلت ذلك لأنها أُمرت بأن تتحرك الى لبنان لنصرة شمعون، فقامت بالانقلاب على آمريها. وبعد إنزال قوات المارينز الأميركية على شاطئ الأوزاعي بأمر من الرئيس أيزنهاور، قيل إن الرئيس شمعون هو الذي استدعى القوات الأميركية، والحقيقة إن الأميركيين هم الذين أعلنوا ذلك كغطاء قانوني لتبرير إنزالهم لتلك القوات في بحر ضاحية بيروت الجنوبية.

وهنا بدأ فصل جديد من تدويل الأزمة قاده الأميركيون بنجاح هذه المرة، ففاز مبدأ أيزنهاور في أواخر الخمسينات من القرن العشرين حيث أخفقت مبادرة ويلسون وبعثته في مطلع العشرينات منه.

(“في الجزء التالي: "الأميركيون يفعلون فعلتهم ويُزعلون زبائنهم)

 

عن التدويل اللبناني (11)

5 / 1 / 2023

في عام 1959، وكنت ما زلت طالباً في الجامعة الأميركية، وكانت التسوية الدولية (أميركية بموافقة جمال عبد الناصر) التي أتت بقائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، الموضوع الأول في السياسة اللبنانية الداخلية، اتفقنا مجموعة من الطلَّاب أن نشكِّل وفداً للقيام بزيارة الى الصرح البطريركي الماروني في بكركي لمقابلة البطريرك الراحل مار بولس بطرس المعوشي الذي لعب دوراً مهماً في تلك المرحلة عاكس فيه مواقف زعماء طائفته. وقد انتدبني الزملاء الطلَّاب أن أرتب موعد الزيارة وأن أكون المتحدث باسمهم. (تفاصيل تلك الزيارة في كتاب سيرتي الذاتية "علامات الدرب")

عندما وصلنا الى قاعة الاستقبال التي يجلس فيها البطريرك وجدناه مرحاً بشوشاً فاستقبلنا بالترحاب والنكات خصوصاً تلك التي تتعلق بالمواقف السلبية من أبناء طائفته ضده، وروى لنا ممازحاً ما كانوا يقولون عنه خلال اضطرابات السنة السابقة (ثورة 1958)، وقال ضاحكاً: "لم أجد معزِّياً لي خلال تلك الفترة سوى إخواننا الأرثوذكس في عكَّار". وكان ما قاله عن السباب والشتائم التي صدرت بحقه من أبناء طائفته وهو يرويه على سبيل الفكاهة، يُعبِّر عن المزاج العام في تلك المرحلة من الاستقطاب الحاَّد والمسلَّح أيضاً.

حتَّى أنَّ بعضهم أطلق عليه لقب "محمد المعوشي"، وبأنه "مستزلم" لجمال عبد الناصر، وهي أشياء صبيانية، وتعامل معها البطريرك، كما قال لنا، على أنها كذلك. لم يسترسل كثيراً في هذا الموضوع، لكنه قال إنه التقى أنور السادات الذي لم تكن له في ذلك الوقت صفة رسمية في الدولة، بل كان رئيساَ للمؤتمر الإسلامي. وربما قال ذلك لينفي ما قيل عنه إن له علاقة مع عبد الناصر.

وقال لنا أيضاً إنه عاش في الولايات المتحدة الأميركية أربعة عشر عاماً، وبالتالي هو يفهم تماماً العقلية الأميركية في السياسة كما في البيزنس، أي على قاعدة "فيفتي - فيفتي" على حد قوله. ومن هذا المدخل تناول في حديثه لقاءه مع المبعوث الأميركي روبرت مورفي، الممثل الشخصي للرئيس أيزنهاور الى لبنان خلال أزمة عام 1958، أو بكلام آخر راعي التدويل للأزمة اللبنانية، وما يتعلَّق بالصفقة التي عقدها مع عبد الناصر لتسوية الأزمة اللبنانية في ذلك الوقت.

كنت في ذلك الوقت ما زلت طَرِيَّ العود في التحليل السياسي، لكن ما سمعته من البطريرك المعوشي في ذلك الوقت المبكر، والتسوية الدولية ما زالت طازجة، أعطاني انطباعاً بعكس ما هو شائع. سمعت منه وأنا جالس الى جانبه، ولم أسمعه من أي مصدر آخر، حيث أبلغنا أنه قال للمبعوث الأميركي: "أنتم الأميركيون تفعلون فعلتكم، لكنكم تُزعلون زبائنكم". ثم نطق تلك العبارة باللغة الإنكليزية كما

قالها للسيد مورفي:

“You, the Americans do your job, but you displease your clients”.

 فهمتُ من هذه العبارة أن البطريرك الماروني ليس راضياً تماماً عن تلك التسوية التي تمت بين واشنطن والرئيس جمال عبد الناصر، فكأنها تسوية على حساب اللبنانيين في غياب اللبنانيين. وهي في الواقع كذلك شأن جميع التسويات الدولية التي تمت خلال القرن السابق (القرن التاسع عشر). وهذا ما دفعني فوراً إلى التسجيل في درس عن تاريخ لبنان في حقبة التقاطع بين المرحلة الصليبية، والمرحلة المملوكية، والمرحلة المغولية، في القرن الثالث عشر، لدى الدكتور كمال الصليبي، وهي مرحلة في غاية التعقيد، وتحتضن السياق التاريخي لتعامل اللبنانيين مع القوى الخارجية بالتعاون معها ثم الانقلاب عليها بسد الثغور أو بفتحها. وهي المرحلة التي ذهب ضحيتها مئات من موارنة الشمال وأُحرقت ديارهم على أيدي المماليك بعد انتصارهم على المغول بقيادة السلطان قطز (في معركة عين جالوت) ومن بعده السلطان بيبرس البندقداري.

ومما أكد فهمي عبارة البطريرك المعوشي على هذا النحو، ما سمعته تالياً عن برود أو انقطاع في العلاقة بين البطريرك ورئيس التسوية فؤاد شهاب، حيث تردَّد عن البطريرك المعوشي قوله: "أنا الثابت وهو العابر ... قُلْ للذي تحت (أي في صربا) إنَّ لا شيء يدوم"، والله أعلم.

وربما كان البطريرك المعوشي في تحفظه على تسوية 1958 التي عقدها الأميركيون مع عبد الناصر، أنَّ كلَّ التسويات اللاحقة، قياساً على ذلك، ستتمُّ على حساب الدور المسيحي. وهذا يُفسِّر وضعية "الزبون الزعلان من راعيه" كما عبَّر عنها البطريرك المعوشي، العارف بالعقلية الأميركية كما قال لنا. فالتعاطي الأميركي في الشؤون الخارجية هو تاريخ طويل من التقلُّب بين مساندة حلفائهم ثم الانقلاب عليهم حسب مقتضى الحال. فهم الذين مكَّنوا الشهابية، وساندوا خصومها في الوقت ذاته حتى جرى الانقلاب عليها. وكذلك فعلوا مع الوجود السوري في لبنان.

ومن عجب أن يستاء حرَّاس الثغور، الذين أتقنوا فنَّ فتح الثغور وغلقها، من ممارسة دول أخرى مثل هذه اللعبة عليهم. فالتعويل على التدويل سيفٌ ذو حدَّين. أو على قول المتنبي:

"ومن جعلَ الضرغامَ للصيدِ بازَه      /   تصيَّده الضرغامُ في ما تصيَّدا

(“في الجزء التالي: " التدويل بالوكالة)

 

عن التدويل اللبناني (12)

6 / 1 / 2023

عندما لا تتعاطى الولايات المتحدة بالشأن اللبناني مباشرةً، فهذا لا يعني أنها لا تتعاطى أو لا يهمُّها الأمر، لا سيما أن ما يشهده اللبنانيون اليوم، هو في جانب منه بموافقتها أو من صنعها. فقد تعاطت في السنوات الأخيرة تعاطياً سلبياً مع لبنان لأسباب معروفة، وحذا حذوها بقية حلفائها من عرب وغير عرب. لكن ما تريده أميركا من لبنان لا يستطيع اللبنانيون تحقيقه، ولا يرغبون في ذلك، لأنه مدخلٌ الى تحويل الحرب الأهلية الباردة الى حرب أهلية ساخنة.

ومن السذاجة القول إن الأميركيين لا يعرفون مَنْ فجَّر مرفأ بيروت، خصوصاً أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب صرح علناً بعد الانفجار أن الجنرالات في البنتاغون أبلغوه بأن بيروت تعرَّضت لهجوم. وهناك عسكريون أميركيون متقاعدون ألمحوا الى أن السلاح الذي دمَّر المرفأ والواجهة البحرية المقابلة له، هو صاروخ يحمل رأساً من اليورانيوم المُنَضَّب، أي أنه سلاح نووي تكتيكي. ولهذا يمكن القول إن ما هو واقع فيه لبنان اليوم من انهيارات على جميع المستويات تتحمل الولايات المتحدة جانباً من المسؤولية عنه، إن لم يكن الجانب الأكبر، بصرف النظر عن الأسباب الداخلية اللبنانية التي أملت وتُملي هذه المواقف السلبية. فالتعاطي الأميركي غير المباشر في الأزمة اللبنانية، هو نوع من التدويل السلبي، أي استخدام الأزمة الخانقة للشعب اللبناني كسلاح تكتيكي غايته معروفة لكن مداه ما زال مجهولاً. وهذا النوع من التعاطي يشبه النكد السياسي على المسرح اللبناني، أي إنه معالجة لداء اللبنانيين بدوائهم المر، لا يقتلهم (حتى الآن) لكنه يُدخلهم في حالة غيبوبة (كوما).

أما على المسرح السياسي العلني، فإنهم يستخدمون دولاً حليفة لهم للظهور بمظهر الاهتمام، أي "التدويل بالوكالة". وهي في هذه الحالة، أي الحالة اللبنانية، تكلِّف فرنسا بهذه المهمة لكونها مقبولة من معظم اللبنانيين لأسباب عاطفية وثقافية وتاريخية. فالتدويل بالوكالة هو في جوهره نوعٌ من المماطلة وكسب الوقت، لأنَّ التدويل الجدِّي لا يتم إلَّا بوجود الأصيل. وعندما يظهر الأصيل تحصل نتائج سريعة كما شاهد اللبنانيون، بالصوت والصورة، في عملية التفاوض برعاية أميركية حول اتفاق رسم الحدود البحرية مع إسرائيل، وعلى الرغم من وجود حزب الله في الصورة الخلفية، وهو الذي تتذرَّع به واشنطن لتضييق الخناق على اللبنانيين.

لكن اعتماد الوكيل الفرنسي ليس مقنعاً حتى لواشنطن نفسها. ففي زيارة لي أواخر شهر كانون الأول من عام 1992 الى وزير الخارجية السوري وقتئذٍ، الأستاذ فاروق الشرع، في مكتبه بوزارة الخارجية بدمشق، سألته عن التعاطي السوري مع القوى الدولية وأيها أسهل مراساً فأجاب من غير تردد :

"الأميركيون... لأنهم يقولون لك مباشرةً ماذا يريدون منك ويسألونك بصراحة عمَّا تريده مقابل ذلك".

وسألته: "وماذا عن الفرنسيين؟"، فأجاب: "يُشبعونك كلاماً جميلاً وواعداً وعند الجدِّ لا تَجِدْ لهم أثراً. لا يستطيعون تلبية ما هو مطلوب".

وقد لمس اللبنانيون في السنوات القليلة الماضية لمس اليد حالة من هذا النوع عندما صعد الرئيس ميشال عون الى حفَّارة النفط في بحر البترون، التابعة لشركة "توتال" الفرنسية، لافتتاح أعمال التنقيب، ثم انكفأت الشركة الفرنسية وأوقفت العمليات، من غير أي سبب مقنع سوى تلقيها إشارة أميركية بالانسحاب. وحتى عندما زار الرئيس الفرنسي ماكرون بيروت أكثر من مرَّة بعد تفجير مرفأ بيروت مباشرةً، والتقى القوى السياسية اللبنانية كلِّها، بمن فيها حزب الله، وتفقُّده للأضرار الناجمة من الانفجار، لم يتحقق على يده أي تقدم في الوضع اللبناني المتهاوي، بل ازداد تدهوراً على الرغم من الترحيب الاستثنائي به رسميَّاً وشعبيَّاً الى درجة أن بعض اللبنانيين المرحبين به طالبوه بعودة الانتداب الفرنسي لحكم لبنان. كلُّ ما بقي من تلك "الهمروجة" وسامٌ على صدر فيروز!

وهناك من يظن في فرنسا أن ماكرون افتتح حملته الانتخابية لولاية رئاسية ثانية في ذلك المهرجان اللبناني. وبعضهم يعتقد بأن حملته الانتخابية تلك في المهرجان اللبناني كانت من الأسباب الوجيهة لفوزه بولاية ثانية.

على أن السياق التاريخي للعلاقات بين باريس وواشنطن يُحِدُّ من فاعلية الدور الفرنسي في السياسة الخارجية. ومن أبرز تلك التقلبات المبكرة التحدي الذي رفعَ لواءَه الجنرال شارل ديغول في ستينات القرن الماضي ضدَّ الهيمنة الأميركية، فانسحب من حلف شمال الأطلسي، وزار روسيا السوفياتية معتبراً، بزيارته الى مدينة "نوفوسيبيريسك"، أن الحدود الشرقية لأوروبا تبدأ من جبال الأورال (ملمحاً بذلك الى إدخال روسيا في الأسرة الأوروبية، في الوقت الذي وضع الفيتو على إدخال بريطانيا فيها). ورفع ديغول سقف التحدي عندما زار مقاطعة كوبيك في كندا حيث هتف بحياة "كوبيك الحرة"، وكأنه توخَّى من ذلك فك التحالف بين كندا والولايات المتحدة.

أما في الشرق الأوسط فقد لعب ديغول أوراقاً استراتيجية خطيرة في وجه أميركا. فقد أقام علاقات متينة مع مصر الناصرية، ووجَّه دعوة رسميَّة الى المشير عبد الحكيم عامر قائد القوات المصرية المسلَّحة لزيارة باريس حيث فتح له قاعة المرايا في قصر فرساي للعشاء التكريمي له (هو أول عشاء رسمي من نوعه منذ مغادرة الملك لويس السادس عشر لقصر فرساي في الثورة الفرنسية عام 1789). والأهم من ذلك كله، أن الجنرال ديغول قطع توريد السلاح الفرنسي الى إسرائيل، وكان السلاح الإسرائيلي حتى ذلك الوقت يأتي كلُّه من فرنسا، مما أحرج الرئيس جون كنيدي بسبب الضغوط التي تعرَّض لها من أجل السماح بتوريد السلاح الأميركي الى إسرائيل تعويضاً عن السلاح الفرنسي.

وكان ذلك تحوُّلاً هائلاً في الوضع الدولي والإقليمي، فبعث كنيدي برسالة سرِّيَّة الى الرئيس جمال عبد الناصر يعرض عليه وساطته لحل سلمي مع إسرائيل لأنه يتعرض لضغوط شديدة من أجل تسليح إسرائيل بأسلحة أميركية، وهي ضغوط قال إنه لن يستطيع تجاهلها طويلاً، مما يستدعي القيام بمساع سلمية برعاية أميركية، وعلى وجه السرعة.

وكان ما كان...

.(“في الجزء التالي: "الطبعة العربية من التدويل بالوكالة)

 

عن التدويل اللبناني (13)

7 / 1 / 2023

بدأ التدويلُ اللبناني بطبعته العربية بعد الإنزال الأميركي لقوات المارينز على الشاطئ جنوب بيروت في صيف 1985. وقد قطع هذا الإنزال مساعي نوري السعيد، قبيل الثورة العراقية، مع المبعوث الأميركي الخاص الى الشرق الأوسط السفير جايمس ريتشارد، لحمل الأميركيين على منع سقوط الرئيس كميل شمعون والدفاع عن استقلال لبنان، كما أكد ذلك كتاب السفير الأميركي في بغداد والد مارغلمن بعنوان "عراق نوري السعيد: انطباعاتي عن نوري السعيد بين 1954 و1958". وهذا ما جاء في الكتاب المذكور حول لبنان:

"لم يبرز لبنان في أحاديثي مع نوري السعيد كبروز الموضوع السوري. لكن من بداية ربيع 1958 صار يتطرق لموضوع لبنان أكثر فأكثر. فعند تشكيل الجمهورية العربية المتحدة في مطلع 1958، تزايدت نسبة الضغط اليساري على لبنان، بل وحتى التسلل السوري الى الأراضي اللبنانية، وتتالى الضغط حتى منتصف الصيف، ولم يعد ضغطاً مقتصراً على الحكومة اللبنانية، بل بدا أن استقلال لبنان نفسه بات مهدداً، وكان نوري السعيد يراقب الأحداث اللبنانية بقلق، فوقوع الفوضى في لبنان سيُحدث انعكاسات لا في العراق فحسب، بل في الأردن أيضاً، شريك العراق في ’ الاتحاد العربي’ (الهاشمي)”.

وقال السفير الأميركي في بغداد خلال تلك الفترة: "في 21 أيار (1958) طلب نوري السعيد أنْ يراني على الفور، فقال إن استمرار الاضطرابات في لبنان يزعجه كثيراً، ويبدو له أن هذا النهج سيكون مقدمة لتدخل عسكري. وكان يبدو لنوري السعيد وكأن شمعون سيخسر ليخلفه اللواء فؤاد شهاب، وهو (أي نوري السعيد) يعرفُ شمعون جيداً ويثقُ به، وكان يخشى من وقوع لبنان في أحضان عبد الناصر إذا لم يصمد شمعون. وقال إذا استنجد شمعون بمجلس الأمن فإن ’ الاتحاد العربي’ سوف يؤيده، وإذا تطلَّبَ الأمرُ تدخُّل الولايات المتحدة وبريطانيا عسكرياً فإن ’ الاتحاد العربي’ سوف يؤيد ذلك أيضاً، شرط عدم إشراك فرنسا".

 كان التدويل الأول في لبنان هو الاستقلال اللبناني الذي تم على يد بريطانيا ممثلة بالجنرال سبيرز الذي قام بتركيب التشكيلة الاستقلالية الأولى. ومع أنَّ هذه التركيبة اهتزَّت باستقالة الرئيس بشارة الخوري في منتصف ولايته الثانية تحت الضغط الشعبي، فإنها لم تغبْ عن الصورة تماماً في اضطرابات 1958، التي أدت الى التدويل الثاني على يد الولايات المتحدة بالشراكة مع طرف عربي هو ’ الجمهورية العربية المتحدة’ بقيادة جمال عبد الناصر. ذلك أن البطريرك الماروني آنذاك مار بولس بطرس المعوشي طرح على المبعوث الأميركي روبرت مورفي إعادة الشيخ بشارة الخوري الى رئاسة الجمهورية، مما يفسر عتبه اللاحق على الأميركيين، وانقطاع علاقته مع الرئيس فؤاد شهاب تالياً (راجع الجزء السابق من هذا الموضوع).

ولم يكن غائباً عن ذهن نوري السعودي ضرورة وجود شريك عربي في عملية التدويل اللبناني (غير احتمال لجوء الرئيس اللبناني كميل شمعون الى مجلس الأمن)، عندما اقترح على السفير الأميركي في بغداد (قبل أسابيع قليلة من الثورة العراقية التي أطاحته ولقي حتفه فيها على يد الجماهير الغاضبة، فمات شرَّ ميتة)، بأن يجري التدويل اللبناني على يد أميركا وبريطانيا مع ’ الاتحاد الهاشمي’ كشريك عربي، واستبعاد فرنسا من المعادلة جملةً وتفصيلاً.

طبعاً، استبعاد فرنسا ليس مشكلة بالنسبة الى الأميركيين، لكنه يزعج فئة واسعة من اللبنانيين تطبعت طويلاً على الثقافة والعادات الفرنسية. لكن السفير الأميركي في بغداد ربما انزعج من اقتراح نوري السعيد إشراك بريطانيا في العملية، باعتبار ذلك مؤشراً على عدم الثقة بالولايات المتحدة. ولم يعش نوري السعيد ليرى مفاعيل تقرير السفير الأميركي لدى صانعي القرار في واشنطن، لأن تلك المفاعيل سبقته.

لكن الولايات المتحدة عادت الى مشاركة فرنسا في التفاهم الذي جرى بين الرئيسين جورج بوش الإبن وجاك شيراك في نورماندي على هامش الاحتفالات بالنصر في الحرب العالمية الثانية. وهذه المشاركة الأميركية – الفرنسية التي كان مبررها المعلن توحيد الموقف من الاحتلال الأميركي للعراق، نتجت عنها مفاعيل خطيرة في لبنان ما زالت تجرجر ذيولها حتى الآن، بالنظر الى العلاقة الوثيقة التي كانت قائمة بين الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك ورئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري الذي استقال وتخلَّى عن رئاسة الحكومة لخشيته من تأثير تفاهم نورماندي على لبنان، فأراد أن يحيِّدَ نفسه ولبنان في تلك المرحلة. لكن الحريري، مثل نوري السعيد، لم يعش ليرى مفاعيل ذلك التفاهم.

ومنذ ذلك الوقت ظلَّت الولايات المتحدة تعتمدُ فرنسا شريكاً ثانياً لها في لبنان (أو ربما، على الأرجح، شريكاً ثانوياً)، وذلك بعكس ما أوصى به نوري السعيد السفير الأميركي في بغداد بضرورة استبعاد فرنسا من المعادلة. فعندما جرى احتجاز رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري قبل خمس سنوات في المملكة السعودية، وأُجبر على تقديم استقالته على الهواء مباشرةً من الرياض، اتخذ رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون موقفاً لا هوادة فيه برفضه تلك الاستقالة من بلد غير بلده وخلافاً للأعراف القانونية اللبنانية، باعتبار أن ذلك يمسُّ بالسيادة اللبنانية، فظهر على مسرح تلك القضية فجأة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وذهب الى الرياض من أجل إطلاق سراح الحريري تحت ذريعة دعوته الى الغداء مع عائلته في قصر الأليزيه، فتوجه الرئيس الطليق الى باريس قبل العودة الى بلاده. وهكذا حُرِمَ رئيس الجمهورية اللبنانية المعنيُّ الأول بالأمر من أي فضلٍ له في إطلاق رئيس حكومته المحتجز في بلد آخر وتجييره الى رئيس دولة أجنبية لمجرد أنه شريك ثانوي في التدويل اللبناني يفعل مشيئة الولايات المتحدة.

وكان التدويل اللبناني قبل ذلك اتخذ شكل التفويض الكامل للمملكة العربية السعودية لجمع السياسيين اللبنانيين في الطائف (بموافقة سوريا) لتوضيب تفاهمٍ ما بينهم من أجل وضع نهاية للحرب الأهلية بوجهها العسكري.

(“في الجزء التالي: "اتفاق الطائف: غالبٌ ومغلوبٌ)

 

عن التدويل اللبناني (14)

8 / 1 / 2023

يَحتَمِلُ ما درجَ اللبنانيون على تسميته "اتفاق الطائف" تفكيكَ ظروفه ونتائجه لأنه من البداية أُحيط بغموضٍ متعمَّد، وهو غموضٌ مقصود لسببين أساسيين، في تقديري، أولهما إخفاء غايته الحقيقية، وثانيهما تأهيله للتلاعب به وعدم تطبيقه كما كان يجب بغية طمس المعالم بين نصِّه وروحِه.

صحيحٌ أنَّ الذين اجتمعوا في الطائف كانوا لبنانيين، لكن مَنْ هم وراء المؤتمر ورعاته ليسوا لبنانيين. إنه صيغة للتدويل بالوكالة، وكان من الطبيعي أنْ يكونَ الوكيلُ عربياً ومليئاً. وهناك أكثر من حجَّةٍ تجعلُ اتفاق الطائف باطلاً من الأساس، أولاً لأن المجتمعين لا يمسكون الأرض في لبنان، وبالتالي فإنه ليست لديهم القدرة على تنفيذه. وثانياً لأن المجتمعين في الطائف ليست لهم شرعية لأنهم نوَّاب سابقون مدَّدوا لأنفسهم عشرين عاماً، وهي فترة طويلة قضى فيها عددٌ غير قليل من المسنين بينهم. وثالثاً عندما وصل الاتفاق الى بيروت جرى تزويره من البداية بتعيين نواب في المقاعد الشاغرة من قبل الحكومة، وهو أمر غير قانوني لأن النائب لكي يحمل هذه الصفة في كل دساتير العالم يجب أن يكون منتخباً من الشعب في دائرته، ثم جرى تزويره في قانون الانتخاب تمهيداً لانتخابات عام 1992 (التي قاطعتها غالبية المسيحيين) بأن رُفع عدد النواب للمجلس الجديد الى 128 نائباً، بينما نصَّ اتفاق الطائف على أن يكون العدد 108 نواب فقط!

النقطة التي بدت إيجابية في مؤتمر الطائف هي استبعاد أمراء الحرب وقادة الميلشيات الطائفية منه، وهي نقطة قد تكون سهَّلت إقرار الاتفاق، لكنها في الوقت ذاته أفسدت تطبيقه على أرض الواقع الذي يسيطر عليه أمراء الحرب تحت نظر السوريين الممسكين بالسلطة الفعلية بتفويض دولي وعربي. ولذلك فإن ما سُمِّيَ " ميثاق الوفاق الوطني" المنبثق من مؤتمر الطائف، الذي يسمِّيه بعض اللبنانيين خطأً "دستور الطائف"، يشوبه عيبٌ مبدئيٌّ لكونه تمَّ في عقد برلماني غير شرعي ليس فقط لأن المجتمعين ممدِّدُون لأنفسهم، كما سلف القول، بل لأنه لا يجوز لنواب الأمة (ولو كانوا منتحلي الصفة) أن يعقدوا جلسات ذات صفة وطنية خارج الوطن. وفوق ذلك، أظهر اتفاق الطائف بما انتهى اليه لناحية تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية أن في البلد الذي اسمه لبنان، والمفترض أنه قائم على الشراكة الوطنية فريقٌ غالبٌ وفريقٌ مغلوب. وهذا المنطق رفضه المسلمون أنفسهم في ثورة 1958 عندما طرح الرئيس صائب سلام شعار "لبنان واحد لا لبنانان" وكذلك شعار "لا غالب ولا مغلوب".

فلنأخذ مثالاً من الحرب الأهلية الأميركية (1861 – 1865) التي تزامنت مع الحرب الأهلية اللبنانية الأولى (1860 – 1864). فقد قال عميد المؤرخين الأميركيين في ثلاثينات القرن العشرين تشارلز دين (لقب "عميد المؤرخين" أطلقه عليه زميله ومعاصره المؤرخ كومر فان وودورد): "إن الإيديولوجية السياسية هي مجرَّد قناع للمصلحة الاقتصادية الذاتية. فالحرب الأهلية لم تكن صراعاً حول العبيد والعبودية كما هو شائع، بل ثورة أميركية ثانية غايتها نقل السلطة من أيدي كبار المزارعين في الجنوب الى أيدي الصناعيين في الشمال".

فإذا أسقطنا هذا الكلام على الحرب الأهلية اللبنانية التي انتهت باتفاق الطائف، بعد 15 سنة من القتل والتهجير والمجازر والدمار والخطف، وتذكَّرنا شعارات الحركة الوطنية التي أطلقها كمال جنبلاط، باسم الإصلاح والعدالة الاجتماعية، وشعارات المنظمات الفلسطينية المتحالفة معها مثل "تحرير فلسطين من النهر الى البحر"، و "الدولة الديموقراطية التي تتسع للمسلمين واليهود والمسيحيين على كامل التراب الفلسطيني" كشعارات إيديولوجية، حسب توصيف عميد المؤرخين الأميركيين تشارلز دين، يتبيَّن أن أقربها الى الحقيقة في ذلك الوقت هو الشعار الذي أطلقه القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) والقائل: " طريق فلسطين تمرُّ في جونية"، وهو شعار يبرِّرُ قول القائلين بأن المقاومةَ الفلسطينيةَ هي جيشُ المسلمين (أو كما يقولون اليوم بأن المقاومة الإسلامية هي جيش الشيعة) .

وهذا يُفسِّرُ قول تشارلز دين بأن الشعارات الإيديولوجية ما هي إلَّا قناع يخفي عملية انتقال السلطة من يدٍ الى يد. وفي الحالة اللبنانية نقل السلطة من يد المسيحيين الى يد المسلمين. وهذا ما تمَّ فعلياً في اتفاق الطائف الذي وافقت عليه جهات مسيحية مرموقة كإعلان عن قبول هزيمتها في الحرب الأهلية. كما ظهرت هيمنة رفيق الحريري بصفته "عرَّاب الطائف" على المشهد السياسي والاقتصادي في لبنان على أنها نتيجة حتمية مُسْتَحَقَّة للفريقِ الغالب.

كذلك فإن الدول الراعية لهذا التحوُّل، أو جعلته حقيقةً واقعةً كي تتصرف على أساسه، الأصيلِ منها أو الوكيل، سيَّان عندها من هي الجهة التي تُمسكُ بمفاصل السلطة طالما هي قابلة للمساومة مقابل ذلك. وهذا لا يقتصر على السلطة السياسية، بل الأهم من ذلك أنه يتعداها الى السلطة المالية والمصرفية والاقتصادية، وأوضح مثال على هذا الانتقال في لبنان إصرار رئيس مجلس النواب نبيه بري، بصفته ممثلاً للشيعة، على احتكار وزارة المالية باسم "التوقيع الثالث"، أي توقيع جهة شيعية على القرارات الى جانب توقيع رئيس الحكومة السني ورئيس الجمهورية الماروني، وبالتالي يستطيع وزير المالية التحكم بجميع الوزارات الأخرى من حيث الموافقة على صرف الاعتمادات لتلك الوزارات أو حجبها عنها. وبذلك يكون وزير المالية أقوى من رئيس الحكومة ومن رئيس الجمهورية.

مثل هذه الأشياء السلطوية الهدف لا تتحقق كما يشتهي أصحابها إلاَّ بالتخفي وراء أقنعة إيديولوجية للتخفيف من وطأة هذا الانتقال على المغلوبين، حسب توصيف عميد المؤرخين الأميركيين تشارلز دين. في الطائف انتقلت السلطة الفعلية من يد الى يد، وفي الأزمة الراهنة مخاض آخر لانتقال جديد في السلطة السياسية والاقتصادية كنتيجة حتمية لملاحق الحرب الأهلية المتمادية.

. (“في الجزء التالي: "تأثير الشراكة السعودية – السورية وانفكاكها على الأوضاع اللبنانية)

 

عن التدويل اللبناني (15)

10 / 1 / 2023

كان الدخول العسكري السوري الى لبنان عام 1976، كما هو معروف، بموافقة أميركية (وكان الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت متحفظاً على ذلك وغير راضٍ عنه)، وبمباركة سعودية أيضاً. فهذا النوع من التدويل لا يرغب الأميركيون عادة إظهاره بأن أحادي الجانب من طرفهم فقط (مع أنه في الواقع كذلك)، فيشركون معهم أطرافاً أخرى عربية وأحياناً غير عربية (كما فعلوا في العراق مثلاً). وجاء التدخل السوري وقتها في لحظة حرجة لأن تحالف المنظمات الفلسطينية مع الحركة الوطنية اللبنانية كاد يقلب الموازين الداخلية في لبنان، مما شكَّلَ، أو كاد يشكِّل، خاصرة رخوة لسوريا. وليس سرَّاً أن النظام السوري لم يكن يرتاح لا الى قائد الحركة الوطنية كمال جنبلاط، ولا الى قائد منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.

لكن الشيء الذي قلب المعادلة وغيَّر حسابات وتحالفات الأطراف المشتبكة في لبنان، وجاء مفاجئاً وعلى حين غرَّة، هو زيارة الرئيس المصري أنور السادات الى إسرائيل في عام 1977 فأربك ذلك جميع الأطراف المعنية بالشأن اللبناني بمن فيهم الولايات المتحدة ذاتها. فخروج مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي ليس بالشيء القليل أو العابر، بل هو تغييرٌ جذريٌّ في السياسات العالمية كلِّها. وكان أمراً حتمياً على النظام السوري المُحرَج من تلك الخطوة الساداتية، بعدما خاض المصريون والسوريون حرب أكتوبر ضد إسرائيل معاً. وكان من الطبيعي أن يغيِّر الرئيس السوري مسار سياسته الإقليمية واللبنانية أيضاً، وهو تغييرٌ دفاعيٌّ أخذ شكلاً هجومياً، سواء بتصالحه مع العراق (في عهد الرئيس أحمد حسن البكر)، ووضع "ميثاق العمل القومي" معه، أو في قطع العلاقات مع مصر وتشكيل ما سُمِّيَ في ذلك الوقت "جبهة الرفض".

وعلى هذا المفصل جرى تغييرٌ للأولويات لدى أطراف عديدة، وبدفعٍ من الولايات المتحدة، بغية فتح جبهات استقطاب بعيداً عن الصراع العربي – الإسرائيلي، بمعنى صرف الأنظار عن هذا الصراع وتوجيهها نحو صراعات أخرى. ومن هذا القبيل كان انقلاب صدام حسين في بغداد على الرئيس البكر، وهو في حقيقته انقلاب على التفاهم العراقي – السوري، تلاهُ شنُّ حربٍ كبرى ضد إيران بدعمٍ من واشنطن وتمويلٍ خليجي. عند ذلك المفصل وتحوُّلاته لم يُدرك كثيرون من اللبنانيين ظروف السلوك المتصلِّب للسوريين في لبنان فقام بعضهم بخطوات خارج السياق أدت الى نوع آخر من التدويل لم يُكتب له النجاح.

أُعطي تدويل الأزمة اللبنانية في ذلك الوقت وجهاً عربياً من خلال قمة عربية محدودة انعقدت في الرياض بدعوة من الجامعة العربية، حيث تقرَّر تشكيل قوة ردع عربية لحفظ الأمن في لبنان، ضمَّت في البداية قوَّاتٍ من ستِّ دول عربية هي: سوريا، لبنان، المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، واليمن. لكن القوَّة الأكبر كانت سوريَّة بما لا يقاس (25 ألف جندي سوري وخمسة آلاف فقط من بقية الدول العربية). ويُقال إن السفير السعودي في بيروت اللواء علي الشاعر همس في أذن ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، الحاكم الفعلي في السعودية وقتها قبل أن يُصبح ملكاً بعدة سنوات، قائلاً له: "هبَّت علينا ريحٌ فدفعت بنا الى المسرح، فإما أن نُجيد الدور أو أن نسدلَ الستار"، فأجابه فهد: "بل نجيد الدور". لكن سرعان ما انسحبت القوات العربية بما فيها القوات السعودية لتنفرد سوريا بالمسرح اللبناني.

لكن على المسرح السياسي بقيت الشراكة السورية – السعودية قائمة وفاعلة (يُسمِّيها اللبنانيون س. س). وهذه الشراكة تحت مظلة الراعي الأميركي استمرَّت ردحاً طويلاً من الزمن حتى توقفت الحرب على يدها في "اتفاق الطائف"، ونشوء المرحلة الحريرية كتتويج لها، وهي مرحلة متَّصِلة مباشرة بأعلى سلطة في المملكة السعودية في حينه ممثلة بالملك فهد شخصياً. وربما كان هذا الوضع تفسيراً لقول الملك فهد لسفيره في بيروت: "بل نجيد الدور". صحيحٌ أن رفيق الحريري، بعد اتفاق الطائف، حكمَ في لبنان بالنفوذ السعودي، لكنه ما كان ليستطيع أن يحكمَ خارج إطار القوَّة السورية الحاكمة فوق الحاكمين. وهذا ما أتاحَ له شقَّ وإضعاف معظم القوى السياسية اللبنانية (باستثناء حزب الله وحركة أمل)، لأن إضعاف القوى السياسية اللبنانية (خصوصاً المسيحية منها) كان يناسب السوريين في ذلك الوقت لأن الجسم السياسي المسيحي كان يُشكِّل عصبَ المعارضة للوجود السوري في لبنان.

كانت سوريا في لبنان بالنسبة الى الحريري "عدوٌّ ما من صداقته بدُّ". لكنه لم يكشف عن ضيقه بالسوريين إلاَّ بعد رئاسة إميل لحود وتسريح أركان حاملي الملف اللبناني في دمشق وأبرزهم حكمت الشهابي وعبد الحليم خدَّام (في أواخر حياة الرئيس حافظ الأسد ثم في بداية عهد خليفته الرئيس بشَّار الأسد). والملفت أن افتراق الحريري عن السوريين بدأ قبل الافتراق السوري – السعودي بسنوات عديدة. فالشراكة السعودية – السورية ظلت قائمة في عهد الملك عبد الله، بل إن الملك عبد الله حمل سعد الحريري على الذهاب الى دمشق لمصالحة الرئيس بشَّار الأسد (وإشهار تبرئة سورية من اغتيال والده) تسهيلاً لوصول الحريري الإبن الى رئاسة الحكومة.

فالشراكة السعودية – السورية في لبنان انفكت عراها عندما نفخت أميركا بريح الربيع العربي باتجاه سوريا، فأشعلت فيها حرباً أهلية وإرهابية ومتعددة الجنسيات، انخرط فيها فريق من اللبنانيين بفتح الثغور على مداها، ومن تلك الثغور دخل مقاتلون وإرهابيون، ودخلت حمولات بواخر من السلاح الخفيف والثقيل، ودخلت أموالٌ (سعودية وخليجية) بالمليارات. والسبب الآخر لانفكاك تلك الشراكة هو تعاظم قوة حزب الله اللبناني ومشاركته في الحرب السورية الى جانب الجيش السوري، واتساع دائرة نشاط الحزب على المسرح الإقليمي ليشمل العراق واليمن، وهو ما يفسِّرُ انزعاج السعوديين من لبنان في السنوات الأخيرة.

لكن عودة الحياة الى النشاط السعودي في لبنان، من خلال التحرك الملحوظ الذي يقوم به السفير السعودي في بيروت (بعد فرض الاعتزال السياسي على سعد الحريري وتياره) ينبىء بمرحلة جديدة في الإقليم ربما تجدَّدَت فيها الشراكة السعودية – السورية على أسسٍ جديدة إذا استطاع السوريون تخفيف مكامن الإزعاج للسعوديين في لبنان.

(“في الجزء التالي: "التدويل القضائي: المحكمة الدولية وتوابعها)

 

عن التدويل اللبناني (16)

11 / 1 / 2023

تتزامنُ في هذه الأيام مساعي التدويل السياسي للأزمة اللبنانية مع مساعي التدويل القضائي للتحقيق في مداخل ومخارج الأزمة المالية وتهريب الأموال عبر المصارف اللبنانية الى الخارج. على الصعيد السياسي نقلَ البطريرك الماروني بشارة الراعي دعوته الى مؤتمر دولي من أجل إيجاد مخرج لأزمة النظام اللبناني في السنوات الأخيرة (بل هي نشأت منذ المؤتمر الدولي المعرَّب في الطائف قبل أكثر من ثلاثة عقود) من مقرِّه في لبنان الى مسامع مسؤولين دوليين، بدءاً من الفاتيكان، ثم زيارته الرسمية والرعوية الى لندن بحماسٍ ظاهرٍ من قبل السفير البريطاني في بيروت. أما على الصعيد القضائي، فيستعد المسرح القضائي اللبناني الغائب عن الوعي طوال الأزمة الأخيرة التي كانت المصارفُ محورَها، وعلى رأسها البنك المركزي (مصرف لبنان)، استقبال وفد قضائي أوروبي للاستماع الى إفادات مصرفيين ومسؤولين حول مخالفات لم يُكشف عنها بالتفصيل.

وقد قال بعض اللبنانيين إن مساعي التدويل هذه، سواء كانت سياسية أو مالية، تشكِّل انتقاصاً من السيادة اللبنانية، وهو قولٌ ما زال منخفض النبرة لأن هناك ما يدحضه بحجج واقعية وقانونية، تختلف عما كانت عليه السجالات التي سبقت تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في منتصف شهر شباط من عام 2005.

فالمعترضون بحجة خرق السيادة الوطنية لا يستطيعون أن يأخذوا هذه الحجة الى مداها الأقصى لأنهم وافقوا على اتفاق لرسم الحدود البحرية مع كيان العدو الإسرائيلي برعاية راعي التدويل الأول وراعي العدو الأول أيضاً. بل هناك دولٌ كثيرة وكبيرة في عالم اليوم منقوصة السيادة تحت رعاية راعي الرعاة، الذي يرعى الأعداء والأصدقاء معاً. يُضاف الى أن التدويل اللبناني حالة مزمنة، بل هي سياق تاريخي من الأزل الى الأبد، بما في ذلك الاستقلال وميثاقه الوطني، ومؤتمر الطائف ووثيقة الوفاق الوطني الصادرة عنه، والتي أنتجت التركيبة الميليشياوية المافيوزية الراهنة التي نهبت الدولة والشعب الى آخر ليرة في حساباتهم المصرفية.

لكن الوفد القضائي الأوروبي لا تعنيه اعتبارات السيادة الوطنية لأنه جاء بموجب معاهدة مع الدولة اللبنانية ويعمل في إطارها. فلا غبار عليه من هذه الناحية. لكن هناك أسئلة وعلامات استفهام حول ما إذا كان قد قام بواجبه التدقيقي في البلدان الأوروبية التي استقبلت مصارفها الأموال المهرَّبة من لبنان، وهل لديه ما يُثبتُ أنَّ أصلَ تلك الأموال شرعيٌّ أو غير شرعي، منهوبٌ أو غير منهوب، مبيَّضٌ أو ملوَّثٌ، مع العلم أنَّ مصارف كبرى في العالم تتعاطى تبييض الأموال على أعلى المستويات وبرعاية أجهزة رسميَّة بعضها يتعاطى تسهيل تجارة المخدرات التي يُعتبر "الكبتاغون" اللبناني أهونَها شرَّاً. فالسعوديون الذين يُدرجون هذه المسألة في رأس تحفظاتهم على لبنان، بحجة تصدير هذه الممنوعات الى بلدهم، لم يَسمعْ أحدٌ أنهم تحفظوا على المتلقي السعودي المحلي لتلك الممنوعات، وما إذا كانت له حمايةٌ من أجهزةٍ رسميةٍ كما هو الحال في بعض الدول الكبرى.

فالتدويل القضائي لا يختلف بشيء عن التدويل السياسي، وبهذا المعنى فهو قضاءٌ مسيَّسٌ بدرجة من الدرجات، وبالتالي فهو قضاء انتقائي، كالمحكمة الدولية التي سمحت لنفسها، وسمحت لها الجهات التي تقف وراءَها، وسمحت لها الدولة اللبنانية، أن تضعَ يدها على معلومات تتعلق بجميع اللبنانيين من دون استثناء، فضلاً عن أنها أُقِرَّت من الجانب اللبناني، ولاعتبارات سياسية لبنانية داخلية، خلافاً للأصول الدستورية التي تقضي بأن يكون رئيس الجمهورية هو الجهة الوحيدة التي يحق لها التفاوض بشأن المعاهدات الدولية. حكومة فؤاد السنيورة في ذلك الوقت خرقت الأصول الدستورية، بحماية وتشجيع ودعم جهات عربية ودولية لها غاية في توجيه عمل تلك المحكمة في اتجاه يخدمُ مصالحها. فضلاً عن أن رئيس الحكومة استطاع أنْ يستميلَ وزير العدل الى جانبه في هذه المخالفة، مع أن الوزير المذكور تعيَّن في منصبه من قبل رئيس الجمهورية الذي نفضَ عنه الغبار وأعادَ تأهيلَهُ بعدما طواه النسيان لعقود من الزمن.

في مسألة رسم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني، لم يقع المكوِّن الشيعي في هذا المطب الدستوري. فقد ظل رئيس مجلس النواب نبيه بري يفاوض الأميركيين سرَّاً طيلة عشر سنوات، وهذه أيضاً مخالفة دستورية تَمَّت تغطيتها عندما استوت طبختها بتسليم ملف التفاوض العلني الى رئيس الجمهورية، فكانت تلك خطوة دستورية سليمة، حتى ولو كانت في الشكل، على افتراض أن المفاوضات الفعليَّة تمَّت في السر بمعزلٍ عن رئاسة الجمهورية. ويبدو أن المكوِّن السنِّي، مُمَثَّلاً في زمانه بفؤاد السنيورة، لم يُعِر انتباهاً للقاعدة الشرعية القائلة: "إذا بُليتم بالمعاصي فاستتروا".

ومن عجبٍ أن أحداً في لبنان لم يطالب بقضاء دولي للنظر في جريمة تفجير مرفأ بيروت، مع أنها ترقى الى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إزاء الحماس الهستيري والتزوير المتمادي لتشكيل محكمة دولية خاصة من قبل مجلس الأمن كلَّفت الشعب اللبناني مجتمعاً ما لا يقل عن 500 مليون يورو طيلة عشر سنوات، لتقول للبنانيين إن المسؤول عن اغتيال رفيق الحريري هو شخص يُدعى سليم عياش مجهول الإقامة وربما مجهول الهوية، وليس معروفاً ما إذا كان شخصاً حقيقياً أو اسماً مستعاراً. وقد تخلَّلَ أعمالها، وخصوصاً في مرحلة التحقيق الدولي كمٌّ هائلٌ من التزوير، وادعت المحكمة المذكورة، عندما ووجهت بهذه القضية، أنها ليست لها صلاحية ملاحقة شهود الزور!

وفي آخر زيارة لي الى بيروت عام 2018 التقيت ديبلوماسياً ألمانياً متقاعداً خدم لفترة في العاصمة اللبنانية فقلت له: "اشتهرت الديبلوماسية الألمانية العلنية والسرِّية بكفاءتها العالية، خصوصاً لجهة التفاوض من أجل تبادل الأسرى والمعتقلين بين لبنان وإسرائيل، فكيف شذَّ المحقق الدولي ديتليف ميليس عن هذه القاعدة، وتصرَّف، وكذلك بعض مساعديه، على النحو الذي شاهدناه؟"، فأجابني: "لم يكن ميليس في مهمته تلك في لبنان يمثل الدولة الألمانية ولا القضاء الألماني، ولم تكن الجهة التي رشحته ألمانية". والله أعلم

(“في الجزء التالي: "إسرائيل والتدويل)

 

(17) عن التدويل اللبناني

12 / 1 / 2023

عندما تُذكَر مشاريعُ التدويل في المنطقة العربية، يبرزُ اسم دولة إسرائيل في رأس اللائحة. لكن المنزلة المميَّزة التي تحتلها إسرائيل في دول الغرب، وفي بعض دول الشرق، وأخيراً في بعض الدول العربية، تجعلها في وضع خاص لكونها وليدة التدويل من جهة، وشريكة فيه من جهة ثانية. ومنذ أن كان المشروع الصهيوني مجرَّد مشروع على طاولة الدول الكبرى في أواسط القرن التاسع عشر، نشأت فكرته بفعل نهضة مصر وجيشها القوي على يد حاكمها محمد علي باشا (بعد فشل الحملة الفرنسية بقيادة الضابط الصاعد نابليون بونابارت وبعد تعثُّر الثورة في فرنسا ووقوعها تحت حكم الإرهاب)، وهي نهضة شاملة وعارمة بحيث تمكن الجيش المصري من السيطرة على الجزيرة العربية والقضاء على الحركة الوهابية والدولة السعودية المتبنِّية لها. ثم استطاع جيش محمد علي في مصر أن يُنجدَ الدولة العثمانية في "عصيان يوناني"، أو حركة التمرد اليونانية المدعومة من الدول الأوروبية، بأن بعث بأسطوله البحري بقيادة ابنه إبراهيم باشا الذي احتل المرافئ اليونانية كلها، فاجتمعت ضده الدول الأوروبية الثلاث الكبرى في ذلك الوقت، بريطانيا وفرنسا وروسيا، وحطَّموا أسطوله في معركة نافارينو، تماماً كما فعلوا مع عبد الناصر في أواسط القرن العشرين (ليس فقط لأنه أمَّم قناة السويس، بل أيضاً بسبب دعمه الفعَّال للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي). وفي التسوية التي جرت بعد ذلك أبقوا لمصر جزيرة كريت اليونانية.

لكن السبب الموجب الذي حمل الدول الأوروبية الكبرى على تبني الحلم الصهيوني بإقامة دولة يهودية هو الحملة الناجحة التي قام بها إبراهيم باشا في سوريا وغيَّرت التركيب الاجتماعي للمنطقة المشرقية (سوريا، لبنان، فلسطين). فقد أصاب الذعر العثمانيين والأوروبيين على السواء عندما حقق جيش إبراهيم باشا نصراً حاسماً في "معركة نصيبين" فانفتح الطريق أمامه الى إسطنبول، مما حمل السلطان محمود الثاني على عقد معاهدة سريعة مع روسيا تَعهَّد الروس بموجبها بالدفاع عن إسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية. وكان الجيش العثماني في تلك المعركة بقيادة اثنين من كبار ماريشالات بروسيا الألمانية ومعهما فرقة ألمانية من ألف جندي وضابط، هما المارشال فون مولتكي والمارشال فون مولباخ اللذان أقاما تحصينات ظنَّا منهما أنها غير قابلة للاختراق فاخترقها إبراهيم باشا من أول محاولة (بعد هذه المعركة بشهر واحد توفي السلطان محمود بعدما كان قد أنجز القضاء على فرقة الإنكشارية التي كانت متحكمة بالسلطة العثمانية).

بعد ذلك الإنجاز العسكري الكبير الذي حقَّقه الجيش المصري في بلاد الشام، اجتمعت ضدَّه كالعادة الدول الأوروبية، فأرسلوا أساطيلهم الى السواحل اللبنانية وقصفوا الجيش المصري وأجبروه على الانسحاب من بلاد الشام لقاء الاعتراف الدولي بحكم محمد علي وسلالته في مصر. وعند هذا المفصل نشأ في تفكير الدول الكبرى مشروعان خطيران للتدويل هما: التفكير البريطاني بدق إسفين في المشرق بين مصر وسوريا حتى لا تتكرر تجربة محمد علي في بلاد الشام، وهذا الإسفين هو إقامة دولة يهودية في فلسطين تفصل بين مصر وبلاد الشام، والمشروع الثاني في المغرب، وقد تم بالتزامن مع حملة إبراهيم باشا في سوريا، هو احتلال فرنسا للجزائر عام 1830.

لكن التدويل الفعلي لتحقيق هدف دقِّ الإسفين في فلسطين بدأ بعد الحرب العالمية الأولى في مؤتمر الصلح في فرساي بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس عام 1919، وذلك بعد فشل الحركة الصهيونية في حمل السلطان عبد الحميد الثاني على بيع جزء من فلسطين لليهود مقابل تعويم مالي للسلطنة ودعمها في وجه الدول الأوروبية. لكن السلطان عبد الحميد أبلغ ثيودور هرتزل، رئيس المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية عام 1897 الذي قدم له العرض بنفسه: "هذه الأرض (فلسطين) ليست ملكي لأبيعها. إنها ملك لأهلها الفلسطينيين، وأنا مؤتمن عليها، وما دامت في عهدتي فهي ليست للبيع والشراء. على كل حال، وفروا فلوسكم لأنكم سوف تأخذونها بالمجَّان عندما تقوم الدول الأوروبية بتفكيك الإمبراطورية العثمانية، لكن أنا لا أستطيع أن أسجل على نفسي في سجلات التاريخ أنني أعطيتكم شيئاً غالياً علينا وعلى أهلها أصحاب الأرض لقاء مبلغ من المال".

اتخذ السلطان عبد الحميد هذا الموقف التاريخي المشهود في الوقت الذي كانت فيه جهات عربية انخرطت في الثورة ضد تركيا العثمانية بالتواطؤ مع بريطانيا على علم (وربما بموافقة ضمنية) بالمشروع الدولي لإقامة دولة يهودية في فلسطين. والذين منهم حضروا مداولات مؤتمر فرساي (وأبرزهم الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي، والبطريرك الماروني الياس الحويك المطالب وقتها بدولة لبنان الكبير بضم الأقضية الأربعة التابعة للحكم العثماني في إسطنبول الى لبنان الصغير)، كانوا على علم بما يُحاك في ردهات المؤتمر، أو على الأقل كانوا على علم ببعثة "كينغ – كراين" الأميركية الى سوريا، وفي أجندتها تقصي مسألة إقامة دولة يهودية في فلسطين، إن لم يكونوا على بيِّنةٍ من تقريرها الذي وُضع على الرف لعدة سنوات.

وعندما احتلَّ الإسرائيليون أكثر من نصف لبنان بما فيه العاصمة بيروت عام 1982، كان ذلك يحظى بموافقة دولية، حيث أريد للجانب الإسرائيلي أن يلعب الدور الذي لعبه الجانب العربي كوكيل، في نهاية الحرب الأهلية. ففي المفاوضات الإسرائيلية – اللبنانية التي أفضت الى اتفاقية 17 أيار التي أقرَّها المجلس النيابي اللبناني (ولم يوقعها رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل تحت وطأة ضغوط داخلية وعربية)، وهي مفاوضاتٌ جرت تحت إشراف الوسيط الأميركي موريس درايبر، ذُهل الوسيط الأميركي من استعجال الطرف اللبناني في التوصل الى تفاهم. وقد أبلغني أحد الزملاء في بيروت خلال تلك المفاوضات التي ترأسها عن الجانب اللبناني السفير أنطوان فتَّال، أنَّ الوسيط الأميركي اضطر في مرحلة من المراحل الى الطلب من الجانب اللبناني التشدد قليلاً في المفاوضات لكي يكون للولايات المتحدة دورٌ في التقريب بين مطالب الفريقين. وقد لاحظ درايبر أن التفاوض من الجانب اللبناني هو التسليم المبكر بمطالب الفريق الآخر الى درجة الاستغناء عن خدمات الوسيط. وربما كان من حسن الحظ أن ذلك لم يحدث مع الوسيط الأميركي هوكشتاين في المفاوضات الأخيرة (غير المباشرة) بشأن رسم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.

أو على الأقل فإن الوسيط هوكشتاين لم يشكُ مما شكا منه الوسيط درايبر من قبله.

(“في الجزء التالي "تدويل العالم العربي) 

عن التدويل اللبناني 18 (الجزء الأخير)

16 / 1/ 2023

يختلف التدويل في المنطقة العربية الآن عما كان عليه حتى الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918). قبل ذلك كان التعاطي الدولي، سلباً وإيجاباً، مع الدولة العثمانية بصفتها حاضنة للعرب أيضاً من حيث كونها دولة الخلافة الإسلامية. لكن تعاطي الدول الكبرى بعكس ذلك بدأ من لبنان في أواسط القرن التاسع عشر، من خلال بريطانيا وفرنسا، لفرض واقع جديد سمح للقوى الأوروبية بالتدخل في شؤون السلطنة العثمانية. لبنان كان المختبر الثاني بعد الثورة اليونانية من حيث محاولة تفكيك السلطنة العثمانية من الداخل.

ومن المفارقات الغريبة بالمقارنة بين الاختبارين أنهما كلاهما جاء بفعل تدخُّل الدولة المصرية بقيادة محمد علي وابنه القائد إبراهيم باشا في المسرحين المذكورين، المسرح اليوناني والمسرح اللبناني، ولو بتوجهين مختلفين. ففي العصيان اليوناني كانت الدولة المصرية الى جانب السلطنة العثمانية ضد التدخل الأوروبي لفك اليونان عن السلطنة. وقد نجح الأسطول البحري بقيادة إبراهيم باشا في السيطرة على جميع المرافئ اليونانية مما حمل الدول الأوروبية الكبرى على التحالف ضده وتحطيم أسطوله في معركة نافارينو .

أما على المسرح السوري، ومنه بوجه خاص المسرح اللبناني حيث توجد قابلية عالية للتدخل الأجنبي، فقد كانت حملة إبراهيم باشا موجهة ضد السلطنة العثمانية بعكس الحالة اليونانية، لكن النجاح الباهر الذي لقيه إبراهيم باشا في حملته السورية ضد القوات العثمانية المدعومة بقوات ألمانية بقيادة الماريشالين الكبيرين فون مولتكي وفون مولباخ، أثار مخاوف الدول الأوروبية لأنَّ معركة "نصيبين" التي حقَّقَ فيها الجيش المصري نصراً باهراً فتح الطريق أمامه الى إسطنبول بوابة أوروبا من الشرق، كما أوصلته حرب اليونان الى بوابة أوروبا من الغرب، فحرك البريطانيون والفرنسيون ضده اضطرابات أهلية (خصوصاً في لبنان من خلال إذكاء الحرب الأهلية بين الموارنة والدروز) وأجبروه على الانسحاب من سوريا والعودة بجيشه الى مصر. وهكذا تم تدويل مصر ولبنان في وقت واحد.

والحقيقة أنَّ محاولة التدويل الأولى في مصر ولبنان جرت عندما قامت قوات فرنسية بقيادة الضابط نابليون بونابرت باحتلال مصر المملوكية، والتوجه بجيشه بعد ذلك نحو سوريا حيث اصطدم بمقاومة عنيدة من قبل حاكم عكا العثماني أحمد باشا الجزار مدعوماً من البحر بسفن حربية بريطانية، ومن البر بإمدادات من حاكم جبل لبنان آنذاك الأمير بشير الشهابي الثاني لكونه متحالفاً مع والي عكا في ذلك الوقت.

 فلماذا نجح إبراهيم باشا حيث أخفق نابليون بونابرت؟

توفي أحمد باشا الجزار في عام 1804، وحلَّ محلَّه عبد الله باشا في حاكمية عكا. وبهذا التحوُّل تغيَّرت التحالفات حين التقت مصالح حاكم جبل لبنان مع مصالح محمد علي باشا حاكم مصر، فتحالفا ضد والي عكا الجديد الذي منع وصول الأخشاب من جبل لبنان لبناء الأسطول البحري المصري. وبذلك استطاع جيش إبراهيم باشا هزيمة عبد الله باشا فانفتح أمامه باب لبنان للسيطرة على سوريا العثمانية.

لكن التدويل في بقية العالم العربي لم يأخذ مداه المنظور إلاَّ في النصف الثاني من القرن العشرين، لأن معظم الدول العربية الراهنة كان تحت الاحتلال الأجنبي مباشرة. فعند تأسيس جامعة الدول العربية في عام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان عدد الدول العربية المستقلَّة شكلياً سبع دول فقط هي الدول المؤسسة للجامعة: سوريا، لبنان، مصر، العراق، المملكة العربية السعودية، المملكة المتوكلية اليمنية، المملكة الأردنية الهاشمية. وحتى هذه الدول المستقلة شكلياً كانت واقعة تحت نفوذ وتأثير دول أجنبية أبرزها بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. لكن منذ قيام دولة إسرائيل في عام 1948 بعد ثلاث سنوات من إنشاء جامعة الدول العربية، بدأت عمليات التدويل في العالم العربي تأخذ منحى عدائياً سافراً للطموحات العربية، بعدما اتخذت في أعقاب الحرب العالمية الأولى منحى تآمرياً مستتراً.

قبيل بداية الحرب الأولى أُعطي شريف مكة (الشريف حسين الهاشمي) وعوداً كاذبة من بريطانيا باستقلال العرب في دولة موحدة إذا هم ثاروا ضد السلطنة العثمانية وانفصلوا عنها، ثم تواطأوا سرَّاً مع الفرنسيين على تقسيم المشرق العربي بينهما. وفور انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة عندما تظاهر الجزائريون في أنحاء بلادهم احتفالاً بنصر الحلفاء مطالبين بالاستقلال، صبت عليهم فرنسا جام غضبها حيث ارتكبت مجازر 8 مايو 1945 التي ذهب ضحيتها عشرات الألوف من أفراد الشعب الجزائري، مما أشعل نار الحرب الفرنسية – الجزائرية التي غيَّرت وجه العالم العربي وانتهت باستقلال الجزائر وتغيير وجه فرنسا أيضاً.

ففي هذا الموضوع تبرز مفارقات ملفتة منها أن حاكم مصر في القرن التاسع عشر محمد علي باشا اعتذر عن مساندة الداي حسين الحاكم العثماني في الجزائر عندما علم بالاستعدادات الفرنسية لاحتلال الجزائر في عام 1830، بينما أقدم حاكم مصر في خمسينات القرن العشرين جمال عبد الناصر بدعم ثورة الجزائر بالمال والسلاح، والأهم من ذلك بتثوير العالم العربي سياسياً وإعلامياً ضد الاحتلال الفرنسي، وهذا من الأسباب الأساسية التي جعلت حكومة غي موليه في فرنسا تتواطأ مع إسرائيل وبريطانيا لشن الحرب ضد مصر الناصرية في عام 1956.

والمفارقة الأخرى هي التحوُّل الفرنسي في عهد الجنرال ديغول الذي اعترف بأن الجزائر للجزائريين مواجهاً بذلك تياراً داخلياً قوياً ينادي بأن الجزائر فرنسية، وأعلن تمرداً عسكرياً ضد حكومة باريس. وفي الوقت ذاته تحالف ديغول مع عبد الناصر وقطع تزويد إسرائيل السلاح الفرنسي، فتغيَّرت بذلك معادلات دولية عديدة، أدت تاليا الى سقوط ديغول ثم عبد الناصر، وأدَّت أيضاً الى توسُّع الاحتلال الإسرائيلي في كل الاتجاهات

 

عن الحرب الأهليَّة ( 1 )

24 / 11 / 2022

قديمًا وحديثًا وقعت في انحاء عديدة من العالم مئات من الحروب الأهلية الطاحنة والمدمرة لأسباب عديدة ومختلفة، لكن معظمها لم يطل كثيرًا. ويمكن القول ان الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 - 1990) هي من أطولها زمنيًا إن لم تكن أطولها على الإطلاق (وما زالت مستمرة بطرق أخرى).

والملاحظ في جميع الحروب الأهلية القديمة والحديثة ان كلَّ حربٍ منها تُختم على زغل بتسويات ملفقة، من غير مصارحة بأدق التفاصيل، تشكل اعترافًا بالمسؤولية، لا تؤدي الى مصالحة حقيقية مانعة لعودة الحرب أو لاستمرارها بطرق أخرى مانعة لإرساء تسوية ثابتة ونهائية غير قابلة للجدل والطعن.

ومن بين الحروب الأهلية الحديثة اخترت الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939) للمقارنة بالحرب اللبنانية مع أنها أقصر منها زمنيًا بكثير، إن لجهة الفظاعات الهمجية التي ارتكبت فيها، أو لجهة حجم التدخلات الخارجية في مجرياتها الميدانية، وذلك من خلال ما ورد عنها في كتاب "التاريخ في مقتطفات" الصادر في لندن عن دار "كاسل" للنشر عام 2004، الذي يُدَوِّن خمسة آلاف سنة من التاريخ العالمي:

(1) القطبان الرئيسيان في الحربين الإسبانية واللبنانية اسمهما "حزب الكتائب" (الفالانج). والقول الشائع في لبنان ان الشيخ بيار الجميل الجد عندما أسس "حزب الكتائب اللبنانية" استلهم في ذلك تجربة حزب "الفالانج" الاسباني، مما عزز الزعم، المغرض ربما، ان "الفالانج اللبناني" تأسس على فرضية حتمية الحرب الأهلية.

(2) استحضار التحريض الديني لإعطاء مبرر وجودي للحرب، كما ورد على لسان مطران برشلونة أثناء التصويت في انتخابات شباط / فبراير 1936 التي ألهبت الحرب الأهلية بفوز احزاب الجبهة الشعبية اليسارية التي استصدرت تشريعات جذرية أهمها الإصلاح الزراعي الذي استفز كبار مالكي الأراضي والكنيسة الكاثوليكية. (هنا أيضًا تصح المشابهة بين برنامج "الجبهة الشعبية الاسبانية" التي ضمت كل أحزاب اليسار، وبين برنامج "الحركة الوطنية اللبنانية" بقيادة كمال جنبلاط، والتي ضمت أيضاً جميع أحزاب اليسار).

فقد قال مطران برشلونة في موعظته قبيل الانتخابات: "ان كل صوت للمرشح المحافظ هو صوت للمسيح “.

(3) استحضار المسألة الديموقراطية. في المجلس النيابي السابق، في شهر حزيران من عام 1936، وقف خوسيه ماريا جيل روبلز زعيم التحالف الكاثوليكي لأحزاب يمين الوسط ليعلن: "إن اسبانيا في فوضى وتخبُّط، ونحن اليوم نحضر جنازة الديموقراطية". (من كتاب رونالد فرايزر "دم اسبانيا: تجربة الحرب الأهلية 1936 - 1939" الصادر عام 1979).

(4) الإشارة أو الشرارة. يتفق اللبنانيون على ان أول إشارة أو شرارة للحرب الاهلية هي الهجوم الكتائبي المسلح على بوسطة عين الرمانة في يوم 13 نيسان من عام 1975 وقتل ركابها من الفلسطينيين. اما في اسبانيا فقد كانت الإشارة رسالة إذاعية مشفرة بثها الجنرال إميليو مولا تقول: "في جميع أنحاء اسبانيا الجو خال من الغيوم"، مطلقًا بذلك بداية الانتفاضة الوطنية التي بها بدأت الحرب الأهلية في 18 تموز من عام 1936. (من كتاب ايفان مايسكي بعنوان "ملاحظات اسبانية" الصادر عام 1966. والكاتب كان سفيراً للاتحاد السوفياتي في لندن في وقت اندلاع الانتفاضة العسكرية في المناطق الاسبانية من المغرب العربي وامتدادها تاليًا الى البر الاسباني).

.(“في الجزء التالي "ضرورة نشر جو من الإرهاب )

 

 

عن الحرب الأهلية ( 2 )

25 / 11 / 2022

في الحروب الاهلية عموماً، يشكل الارهاب عنصرًا أساسيًا من عناصر الصراع بين المتقاتلين. والغاية من الأعمال الارهابية ليست عسكرية او ميدانية، بل هي نفسيَّة لترويع الخصم وإحباطه وشل ارادته. ولذلك تكون هذه الأعمال وحشية وهمجية ومروعة بغير اي وازع إنساني أو أخلاقي أو ديني.

ويتذكر اللبنانيون جيدًا ذلك اليوم الذي جرت فيه أعمال قتل جماعية في بداية الحرب أواخر عام 1975، والمعروف بيوم "السبت الأسود"، عندما قامت جماعات مسلحة بعمليات قتل عشوائية في منطقة مرفأ بيروت وحواليها ضد أناس فقراء أو عمال وموظفين لا علاقة لهم بالسياسة، أو بالقوى المتصارعة، بل لمجرد أنهم يحملون هوية طائفية مختلفة، وذلك لترويع عموم أهالي تلك المناطق أو تهجيرهم. كذلك فعل الفريق الاخر عندما هاجمت فرق مسلحة مدينة الدامور الساحلية واستباحتها ونهبتها وقتلت وهجَّرت أهاليها قاطبة.

وقد حدث مثل ذلك وأفظع منه في الحرب الأهلية الإسبانية ومن بدايتها ايضا، كما يستدل من الوقائع التالية:

(1) في صيف عام 1936 أعلن الجنرال إميليو مولا القاعدة الارهابية للحرب بقوله: "إنه من الضروري إشاعة جو من الارهاب. علينا ان نخلق انطباعًا بأننا سادة الساحة". (من كتاب انطوني بيفور بعنوان "الحرب الأهلية الاسبانية" الصادر عام 1982). وقد شكل الفريق الوطني (الفالانج) فرق إعدام ميدانية للفتك بأعضاء الفريق الجمهوري المعادي من بداية الحرب، وكذلك فعل الفريق الجمهوري.

وتجدر الملاحظة هنا ان مثل هذه التكتيكات طورتها في السنوات الأخيرة القوات الانتحارية الإسلامية المتطرفة في العراق وسوريا لزيادة حجم ودوي العمليات الارهابية عن طريق السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة، وغايتها قتل وتشويه أكبر عدد من الناس الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالصراع الدائر أو محركيه الظاهرين والمستترين.

(2) من الامثلة التي احدثت صدى عالميًا مدويًا حادثة إعدام الشاعر والمسرحي الإسباني الكبير فيديريكو غارسيا لوركا صاحب المسرحية الشعرية الخالدة "عرس الدم"، ومن غير اي محاكمة، في مدينة غرناطة. بل إن قاتله الفالانجي أعلن انه بعد إعدامه أطلق عليه رصاصتين في مؤخرته لزعمه بأنه كان من المثليين.

(3) راندولف تشرشل، نجل الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، عبَّر عن النظرة البريطانية إلى الحرب الأهلية الإسبانية بقوله: "كثيرون من الداغوس يقتلون بعضهم البعض". وكلمة "داغوس" هي تعبير عامي (شبه عنصري) للدلالة على شعوب جنوب أوروبا المتوسطية مثل الإسبان والبرتغاليين والطليان، باعتبارهم في مرتبة أدنى من شعوب أوروبا الشمالية. وربما قصد انهم شعوب همجية تفتك ببعضها البعض.

(4) تمجيد الموت. مع ان المتطوعين في الفرقة الأجنبية المقاتلة في صفوف الوطنيين كان من بينهم بعض المثقفين، فإنهم اختاروا لقواتهم شعار "يعيش الموت" الذي ابتدعه مؤسس تلك الفرقة الجنرال ميلان استراي (من كتاب بول برستون بعنوان "الرفاق! صور من الحرب الأهلية الإسبانية").

وعلى بشاعة هذا الشعار فقد أثار اشمئزاز فريق من الكتاب والفنانين الذين انخرطوا في الحرب الى جانب الجمهوريين، متطوعين من كل انحاء العالم، كما اثار إعجاب بعضهم الآخر.

.(“في الجزء التالي " عقائدية الحرب )

 

عن الحرب الأهلية ( 3 )

26 / 11 / 2022

لا يمكن لأي حرب أهلية ان تستعر من غير تعبئة عقائدية غايتها حشد الناس في مزاج القتال حتى الموت ضد الفريق الآخر المنازع له على رقعة أرض واحدة. فالعقائدية هنا ليس بالضرورة ان تكون عن قناعة، لكنها أداة من أدوات الحرب كالمال والسلاح.

لكن أنجع العقائد للحشد في الحروب الأهلية هي العقائد الدينية، أو الطائفية، لأنها تلغي إمكانية التفكير العقلاني المطفىء لنار التطرف. وقد شهد المسرح الأوروبي في الحروب الأهلية الدينية المعروفة باسم "حرب الثلاثين سنة" في القرن السادس عشر نماذج عديدة من هذا التطرف العقائدي المغذي للحروب الأهلية.

ففي تلك الفترة من القرن السادس عشر كان القَسَم الرسمي عند تتويج الملك الفرنسي ينص على ما يلي: " اقسم بان أحافظ على الديانة الكاثوليكية واستبعاد أي ديانة اخرى". بل ان الملك الفرنسي هنري الثاني قال اثناء توقيع معاهدة "كاتو – كامبريسيس " في شهر نيسان / أبريل من عام 1559: "أقسم لو أنني أستطيع إنهاء نزاعاتي الخارجية، لجعلت الشوارع تسيل فيها دماء ورؤوس الكلاب اللوثريين الأشرار".

طبعًا، الحروب الاهلية لها أسباب أخرى غير المسائل الدينية، لكن الدين يجري استخدامه كسلاح في الحرب، أو كأداة للحشد والتحريض، من أجل تضليل البسطاء والمغفلين والسذَّج من الناس لتسهيل جعلهم وقودًا لحرب لا علاقة لهم بها، وليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، فيدفعون الثمن راضين قانعين لتحقيق مصالح قادتهم.

ولذلك فإن عقائدية الحرب الأهلية هي في معظم الحالات مجرد أداة للتضليل والتحريض، وليس لها علاقة حقيقية أو جدية بجوهر الصراع او أسبابه الفعلية.

وكذلك الأمر بالنسبة الى المسائل العقائدية الدينية في الحروب الإسلامية المعاصرة من الحركة الوهابية في الجزيرة العربية، الى الحركة المهدية في السودان في القرن التاسع عشر، ومن حركة "الإخوان المسلمين" في القرن العشرين الى حركات العنف التي ظهرت في مطالع القرن الواحد والعشرين.

وهذه سمةٌ واضحةٌ في الحالة الطائفية المستحكمة في لبنان، حيث أبناء الطوائف هم مجرد أدوات لمصالح لا علاقة لهم بها، ويشكلون وقود الحرب الأهلية إذا اقتضى الأمر، سواء كانت تلك الحرب ساخنة كما في الحرب التي امتدت من 1975 إلى 1990، أو باردة كما هي في الوقت الحاضر، وأدت الى سرقة أموال وودائع جميع اللبنانيين السذج والبسطاء والمغفَّلين.

(“في الجزء التالي "المهزلة البرلمانية في إطار الحرب الأهلية المستدامة)

 

 

عن الحرب الأهليَّة ( 4 )

27 / 11 / 2022

إذا ألقينا نظرة عابرة على الحروب الأهلية الكبرى عبر التاريخ، نجد ان الحرب اللبنانية كانت من أطولها وأعقدها. فلنأخذ على سبيل "حرب البيلوبينيز" الاغريقية بين أعظم حالة ديموقراطية في العالم القديم، (431 ق. م - 404 ق. م)، وهي أثينا، وبين سبارتا ذات الحكم الاوليغارشي المستبد، حيث كانت الغلبة في البداية لأثينا الديموقراطية لولا التدخل الفارسي من الخارج الذي رجح كفة سبارتا واطاح الديموقراطية الأثينية، وفرض على أثينا حكمًا اوليغارشياً من ثلاثين رجلًا (بما يشبه الحالة اللبنانية الراهنة بعد الطائف) سميَّ "حكم الثلاثين طاغية " !

وقد كتب تفاصيل هذه الحرب، في أول كتاب تاريخ علمي مفصَّل وموثَّق، المؤرخ الإغريقي الكبير ثوكيديدس الذي قال في مقدمته: "إنني أكتب هذا الكتاب لجميع الأزمنة"... وهو كذلك.

بعد هذا التحوُّل ضرب الفقر والمجاعة والانحلال بلاد الإغريق كلها، وآلت الأمور الى السفلة والأوغاد.

فعندما يجري تطويع الحالة الديموقراطية البرلمانية على هذا النحو، كما حدث في مؤتمر الطائف بشأن الحرب اللبنانية، فإن مآل الأمور بعد ذلك يصبح معروفًا إلا للذين ينظرون ولا يبصرون، ويسمعون ولا يفقهون.

لقد سقت هذا المثال لأن الحرب اللبنانية الحديثة والحرب الإغريقية القديمة متشابهتان في إطالة أمد الحرب، وفي التدخل الخارجي، وفي المناخ السياسي.

لكن المهزلة البرلمانية التي أوصلت لبنان الى "اتفاق الطائف"، ومن ثم إلى الوضع الراهن، هي الجديرة بالبحث، لتأكيد عدم شرعية الوضع القائم الذي يشبه "حكم الثلاثين طاغية" في أثينا بعد التدخل الفارسي في الحرب الإغريقية.

أولًا، ما كان يجوز لمجلس تشريعي وطني ان يجتمع في خارج بلاده لتقرير أمر داخلي.

ثانيًا، ذاك المجلس نفسه كان فاقدًا للشرعية لأنه غير منتخب، وقد مدَّد لنفسه نحو عشرين سنة، اي أكثر من أربع دورات انتخابية. فكل ما صدر عن ذلك البرلمان الذي انتهت مدته الدستورية عام 1976، هو غير قانوني وغير شرعي بعد انتهاء ولايته الدستورية في ذلك التاريخ.

فكل تشريع صدر عن برلمان بعد انتهاء ولايته الدستورية الطبيعية، بما في ذلك انتخاب الرؤساء، والقوانين، واتفاق الطائف نفسه، هو تشريع باطل ولو تم التوافق عليه بين جميع أمم الأرض. هذا ليس تشريعًا او انتخاباً، بل هو فرض بالقوة القاهرة التي لا تقيم وزنًا للإرادة الوطنية. ولذلك بقيت هذه المهزلة البرلمانية سارية الى اليوم، من التمديد للمجلس النيابي نفسه، الى التمديد لرؤساء الجمهورية، بما في ذلك انتخاب بعضهم خلافًا للدستور (كما في حالة الرئيس ميشال سليمان)..

ولذلك لا يجوز القول بان النظام القائم في لبنان هو نظام برلماني حقيقي. وقد نشأ مثل هذا الجدل بعد الانتخابات الإسبانية التي أدت الى الحرب الأهلية عام 1936، حيث كتبت جريدة "تايمز" البريطانية تقول (بتاريخ 10 آب 1936): "قد يكون أن نظام الحكم البرلماني الذي يناسب بريطانيا العظمى، لا يناسب دولًا كثيرة غيرها. فالحكومة الإسبانية الأخيرة حاولت الالتزام بنوع برلماني من الحكم الديموقراطي، من غير اي نجاح يذكر".

وها هو العالم كله يشاهد على الشاشات المهزلة البرلمانية اللبنانية كل أسبوع في محاولة لانتخاب رئيس للجمهورية من غير جدوى، لأن ما بني على باطل فهو باطل.

 .(“في الجزء التالي "سقوط القناع في عملية الإقناع )

 

 

عن الحرب الأهليَّة ( 5 )

28 / 11 / 2022

المجلس النيابي المنعقد خارج بلاده، وبغير صفة دستورية، لأنه ممدد لنفسه لعشرين سنة متواصلة، لا يستطيع ان يقنع أحدًا، بأن ما فعله في مدينة الطائف السعودية يمثل إرادة الشعب اللبناني، طالما ان ذلك المجلس لم تكن له صفة تمثيلية.

ولذلك جرى، وما زال يجري حتى الآن، التكتم حول حقيقة ذلك الاتفاق، وحقيقة مضمونه. وهذا التكتم بحد ذاته يلغي أي وسيلة إقناعية بدستوريته، أو فلنقل بمناعته أمام الطعن الجدي. وهذا ما جعل "الطائفيين"، عن طريق الترهيب والترغيب والإعلام، يضفون عليه هالة وهمية من الكمال المانع حتى لمناقشته مناقشة اقناعية حرة.

لكن البحر، كما يقول الصيادون، دائمًا يُكذِّب الغطَّاس. فلننظر في بعض المسائل البسيطة، من الزاوية الاقناعية:

(1) أعلن في اتفاق الطائف أن عدد أعضاء مجلس النواب الجديد الذي سيجري انتخابه، ليحل محل المجلس الممدد لنفسه عشرين سنة، سيكون 108 نواب، بدلًا من 99 نائبًا حسب قانون ما قبل الحرب. ولكن عندما وضع المجلس اياه قانون الانتخاب الجديد في بيروت، ضرب عرض الحائط بما اتفقوا هم عليه في الطائف، ورفعوا العدد من 108 الى 128، ولم يظهر في البلاد أي اهتمام بالأمر او اعتراض عليه.

(2) قررت الحكومة اللبنانية القائمة على ثقة برلمان ناقص العدد وناقص الشرعية، بتعيين نواب في المقاعد النيابية الشاغرة بفعل وفاة عدد كبير من قدامى النواب الممددين لأنفسهم. فكيف يكون شرعيًا مجلس ممدد لنفسه عشرين سنة، وعدد لا يستهان به من اعضائه باتوا معينين بمراسيم حكومية، في مخالفة صريحة لأبسط القواعد البرلمانية، وهي ان النائب يجب ان يكون منتخبًا من الشعب في دائرته بأغلبية واضحة غير قابلة للطعن.

(3) إذا كانت حجة، أو على الأصح ذريعة تمديد مجلس النواب لنفسه، أن الحرب الأهلية حالت دون إجراء انتخابات عامة، فأي ذريعة هي آلتي أملت على المجلس المنتخب عام 2009، والبلد في حالة من السلام التام في ظل اتفاق الطائف، ان يمدد لنفسه ثلاث مرات حتى عام 2018، وكأن شيئًا لم يكن. وهذا في المنطق وقياسًا على ذرائع التمديد في خلال الحرب، يعني ان الحرب الأهلية في لبنان ما زالت مستعرة تحت الرماد ولو كان ظاهرها السلام. وكل الذين قبلوا أو سمحوا بتلك التمديدات المستخفة بعقول الناس، يجب ان تجري مساءلتهم في يوم من الأيام، إن لم يكن من المواطنين، ففي كتب التاريخ على الأقل.

(4) كانت الذرائع السابقة تلقي بكامل المسؤولية على "الوصاية السورية" لعجز الطبقة السياسية عن الإقناع، لكنها في الوقت ذاته أظهرت مدى تبعيتها لتلك الوصاية (أو لغيرها) متى أتت.

(5) ان المقاطعة المسيحية لأول انتخابات بعد اتفاق الطائف والتي جرت في عام 1992، بقيادة البطريركية المارونية، كانت مقاطعة شكلية سرعان ما تم التراجع عنها تاليًا، لأنَّ البطريركية المارونية كانت من أهل الطائف وما زالت.

فلننظر الآن في مسألة القناعة والإقناع من منظار الحرب الأهلية الإسبانية:

بتاريخ 12 تشرين الأول / أكتوبر من عام 1936 أقيم احتفال في جامعة سالامانكا بمناسبة ذكرى اكتشاف البحَّار كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية، بحضور زوجة الجنرال فرانكو قائد القوات الفالانجية اليمينية، وبحضور الجنرال السابق ذكره ميلان استراي قائد الفرقة الأجنبية المقاتلة ضد الجمهوريين. وفي ذلك الاحتفال ألقى عميد الجامعة، وهو استاذ في الفلسفة من منطقة الباسك، اسمه البروفسور ميغيل دو اونامونو، كلمة حول القناعة والإقناع أدهشت كثيرين وفاجأت آخرين. فقد قال في تلك الكلمة:

"هنا هيكل العقل والفكر وأنا كاهنه الأعلى، لكن أنتم هم الذين يدنسون حرمه المقدَّس. سوف تربحون لكنكم لن تكونوا مقنعين. سوف تربحون لأنكم تملكون أكثر مما يكفي من القوة الغاشمة، لكنكم لن تكونوا مقنعين، لأن الإقناع يقتضي امتلاك الحجة الدامغة. ولكي تمتلكوا حجة الإقناع يلزمكم شيء تفتقرون اليه ألا وهو العقل والمنطق والحق في الصراع".

.(“في الجزء التالي "التدخل الخارجي والقابلية الداخلية له)

 

 

عن الحرب الأهلية ( 6 )

29 / 11 / 2022

في جميع الحروب الأهلية، ومن أقدم الأزمنة، تحدث تدخلات خارجية بين المتقاتلين من الدول الإقليمية المجاورة عادةً، كما رأينا في التدخل الفارسي الى جانب سبارتا ضد أثينا في "حرب البيلوبينيز" في القرن الخامس قبل الميلاد. وهذا أمر طبيعي لأن مثل هذه الحروب يمكن ان تمتد الى دول الجوار فتزعزع أمنها، فضلًا عن تدخل المهربين وتجار السلاح.

لكن الحروب الأهلية الحديثة تختلف من حيث كونها تستدرج تدخلات عالمية النطاق، ومن حيث أنَّ نشوبها قد لا يكون في أيدي القوى المحلية، بل يمكن أن يكون مفتعلًا من قبل قوى خارجية كما شاهدنا في السنوات الأخيرة في بعض الدول العربية.

هذا النوع من التدخل الخارجي، وأبرزه "التدخل الوقائي"، و "التدخل المفتعل" يختلف عن التدخلات التي حدثت في حالات أخرى كالحالة اللبنانية، أو الحالة الإسبانية حيث القوى الداخلية المتصارعة هي التي استدرجت التدخل الخارجي وسعت اليه لأسباب مختلفة أهمها اثنان: الأول الحاجة الى تمويل الحرب، والثاني هو الحاجة الى الاستقواء بقوة خارجية لدحر خصم داخلي.

ففي الحرب الأهلية الإسبانية عندما أعلن الجنرال فرانكو إنه سوف يدمر مدينة مدريد العاصمة، ولن يتركها في أيدي الماركسيين، مستعينًا بطائرات حربية من المانيا الهتلرية ومن ايطاليا الفاشية، أعلن راديو الجمهوريين صرخة استنجاد ساذجة بالغرب، جاء فيها: "إن الجيوش الزاحفة اليوم على مدريد وبرشلونة وفالنسيا، سوف تزحف غدًا على لندن وباريس وواشنطن (من دراسة روبرت كولودني بعنوان "الصراع على مدريد" الصادرة في كتاب عام 1985).

كذلك بث الجمهوريون اذاعات تعبر عن فلسفتهم للحرب الأهلية بأنها "الحدود الكونية التي تفصل الحرية عن العبودية" (من كتاب هيو توماس بعنوان "الحرب الأهلية الإسبانية" الصادر عام 1990)

أما فلسفة الجنرال فرانكو، فإنها تفضل الحرب الأهلية الشاملة على الحرب العسكرية النظامية الحاسمة. فعندما أخفق الجيش الايطالي الفاشي في اقتحام المعقل الجمهوري في غوادالاجارا، قال الجنرال فرانكو لرئيس أركان الجيش الايطالي: "في الحرب الأهلية، يجري احتلال ممنهج للأرض يرافقه التطهير اللازم، وهذا أفضل من هزيمة عسكرية لجيوش العدو تترك البلاد في النهاية موبوءة بالأعداء" (من "صحيفة التاريخ المعاصر"، المجلد التاسع، 1974)

اما الحرب اللبنانية فإنها من البداية أخذت شكل الحرب الاهلية التطهيرية، كما عبر عنها الجنرال فرانكو، لأنه لم تكن في البداية جيوش نظامية. فالجيش اللبناني تم تحييده عن الصراع خشية انقسامه وتشرذمه. لكن جيوشًا نظامية اخرى دخلت او استدرجت الى ساحة الصراع من غير نتائج حاسمة، منها جيش التحرير الفلسطيني، والجيش السوري، ثم الجيش الاسرائيلي، ثم القوات المتعددة الجنسيات التي تضمنت فصائل من الجيش الأميركي (المارينز)، والجيش الفرنسي، والجيش البريطاني، والجيش الايطالي، وغيرها.

ففي الحربين الاهليتين الاهم في القرن العشرين، وهما الحرب الإسبانية والحرب اللبنانية، تحول البلدان الى ساحة لصراع عالمي مفتوح. وقد ساهمت قوى اسبانية وقوى لبنانية في استدراج هذا النوع من التدخل الخارجي للاستقواء به على خصومها في الداخل.

وفي الحالتين دخلت الى الساحة قوات من المتطوعين غير النظاميين، تمثلت في الحالة الاسبانية بالألوية الدولية التي ضمت متطوعين من جميع انحاء العالم اغلبهم من المثقفين والفنانين للقتال الى جانب الجمهوريين اليساريين. وكذلك الأمر بالنسبة الى الحرب اللبنانية حيث دخل الى الساحة متطوعون من عرب وغير عرب الى جانب الثورة الفلسطينية التي كانت من محركات الصراع الأهلي اللبناني منذ البداية.

.(“في الجزء التالي: "تخابث دول الغرب في الحربين الأسبانية واللبنانية )

 

  

 عن الحرب الأهليَّة ( 7 )

30 / 11 / 2022

من الملفت أن مواقف الدول المصنفة ديموقراطية في الغرب، وأهمها الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وفرنسا، كانت ملتبسة في الحرب الأسبانية، وكذلك في الحرب اللبنانية. وإذا سُمع لها صوتٌ، فقد كان صوتًا خافتًا، وفي بعض الأحيان صوتًا شامتًا متهكماً، كما رأينا في تعليق البريطاني راندولف تشرشل على الحرب الأسبانية بوصفه التحقيري للمتقاتلين بأنهم "داغوس" يفتكون ببعضهم البعض. أو كما نُسب إلى المبعوث الأميركي الى بيروت خلال الحرب اللبنانية، دين براون، قوله لأقطاب "الجبهة اللبنانية": "ها هي سفن اسطولنا في البحر جاهزة فارحلوا ".

وقد كان من السذاجة أن تعول القوى الجمهورية الأسبانية على دول الغرب لمجرد اعتبارها دولًا ديموقراطية، فالمسألة الديموقراطية هي آخر همها. ذلك أن العواصم الغربية، واشنطن ولندن وباريس، كانت تنظر الى الجمهوريين الاسبان على انهم "شيوعيون ماركسيون موالون للاتحاد السوفياتي"، لأنهم كانوا يتلقون مساعدات علنية من حكومة ستالين في موسكو، ومن الأحزاب الشيوعية الأوروبية، وأقواها في ذلك الوقت الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإيطالي.

أما في لبنان، فان الأجندة الغربية، وخصوصًا الأميركية، كانت، وما زالت، توطين اللاجئين الفلسطينيين، كما هي اليوم توطين النازحين السوريين. وهذا من الأدلة القوية على أن الحرب الأهلية اللبنانية ما زالت قائمة بطرق أخرى، كما نشاهد على المسرح السياسي، والاقتصادي، والمالي، والنقدي، حيث يجري إفقار الشعب اللبناني بصورة ممنهجة.

وقد جاء في تقرير لوكالة الاستخبارات الأميركية حول معدلات الإنجاب والوفيات، وحركة الهجرة في العالم، ان معدل الإنجاب السوري هو الأعلى في العالم وقدره 4.4 في المئة، بينما يتناقص الشعب اللبناني بسبب الهجرة وارتفاع معدل الوفيات بسبب تضاؤل الخدمات الصحية بنسبة 8.6 في المئة، وهي أعلى نسبة في العالم. فالمعدل السوري هو الأعلى من فوق، والمعدل اللبناني هو الأعلى من تحت.

ولذلك فان إبقاء الحرب الأهلية اللبنانية مستعرة بطرق أخرى، كما هو حاصل الآن، هو الأمر الأخطر على الوجود اللبناني.

كانت دول الغرب تعرف أن هتلر في ألمانيا، وموسوليني في ايطاليا، يتدخلان بصورة مباشرة بقوات جوية وبرية الى جانب الجنرال فرانكو في اسبانيا، وتصرفوا وكأن ذلك يناسبهم أو لا يعنيهم، كما ثبت فيما بعد عندما استتب الأمر لصالح فرانكو الذي أمر بتصفيات جماعية للجمهوريين بعد الحرب، فاقت في عدد ضحاياها ما سقط في الحرب ذاتها، من غير أي كلمة احتجاج من أحد.

إن المشكلة الراهنة في لبنان، بفعل الحرب الأهلية المستمرة عن عمد، وبموافقة دولية كما يبدو من مسألة النازحين واللاجئين، باتت أخطر وأصعب من ان تعالج من خلال الوضع الراهن ورجالاته.

ولهذا فإن تجدد الحرب الساخنة في لبنان، بأطراف وأهداف مختلفة، تزداد مناخات حدوثه، لعدم وجود رغبة غربية في وقف التغيير الديموغرافي الحاصل.

.(“في الجزء التالي: " المباشر وغير المباشر في استمرار الحرب)

 

 

عن الحرب الأهليَّة ( 8 )

1 / 12 / 2022

لكل حركة في العالم اسبابها، وللحروب أيضًا أسبابها. وفي كثير من الأحيان تكون تلك الأسباب مفتعلة. وافتعال الأسباب كذريعة للفعل او للحرب، لا يعني عدم وجود أسباب جوهرية تبررها، أو تطلق ديناميتها.

الأسباب المباشرة هي هذه: في الحرب الأسبانية، مثلًا، لم يكن فوز الجمهوريين الشيوعيين والاشتراكيين في انتخابات 1936 هو سبب الحرب الفعلي، بل هو السبب المباشر. فالأسباب الفعلية هي وجود القوى اليسارية ذاتها، فانطلقت معها عجلة الصراع الطبقي، مع الإقطاع الزراعي، ومع الكنيسة الكاثوليكية الداعمة للطبقات العليا والمدعومة منها. ومن أسبابها الحقيقية أيضًا، التحولات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، الناشئة في الإقليم المجاور لإسبانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، مثل الفاشية الايطالية بقيادة موسوليني، والنازية الهتلرية في ألمانيا، وصراعهما مع الشيوعية الستالينية ومع القوى الانكلوسكسونية التي كانت تهيمن على العالم بقيادة بريطانيا ثم الولايات المتحدة.

وكذلك الأمر بالنسبة الى الحرب الأهلية اللبنانية. فالهجوم الكتائبي على بوسطة عين الرمانة ليس هو السبب الفعلي للحرب، لكنه السبب المباشر أو الفتيل الذي أطلق الحرب من عقالها. أما الأسباب الفعلية وغير المباشرة لاندلاع الحرب فهي عديدة ومتشعبة، لكن أبرزها بالنسبة الى شريحة تأسيسية واسعة من اللبنانيين التهديد الوجودي للبنان الذي شكله الوجود الفلسطيني المسلَّح، وانتشاره على كامل الأراضي اللبنانية، خلافًا حتى للاتفاقية المعقودة مع الدولة اللبنانية، والمعروفة باسم "اتفاقية القاهرة" التي سمحت بوجود السلاح الفلسطيني في مناطق جنوبية محددة ومحادة لفلسطين المحتلة (والتي سميَّت مجازاً " فتح لاند ").

لكن الأمر لم يقتصر على هذا التجاوز الخطير، بل تعداه الى أمرين كل واحد منهما يؤدي الى الصراع الأهلي. الأول هو امتداد انتشار السلاح الفلسطيني إلى أيدي جماعات لبنانية في مختلف المحافظات، والى أيدي جماعات وافدة الى لبنان من الخارج بحجة دعم الثورة الفلسطينية، والثاني هو استقواء تجمعات لبنانية بالثورة الفلسطينية لقلب الموازين الداخلية التاريخية، وأبرزها "الحركة الوطنية" بقيادة الزعيم الدرزي الاشتراكي كمال جنبلاط.

والجدير بالذكر هنا، على سبيل المقارنة، أن "الحركة الوطنية اللبنانية" كانت قد أطلقت برنامجًا إصلاحيًا لتغيير الأوضاع القائمة في لبنان آنذاك، يشبه برنامج القوى الجمهورية الاشتراكية في اسبانيا واستنادها على دعم الأحزاب الشيوعية في الدول المجاورة، ودعم الاتحاد السوفياتي نفسه بصورة علنية. وهناك ما يدل أيضًا على دعم الاتحاد السوفياتي للحركة الوطنية اللبنانية وقائدها كمال جنبلاط الذي كان يحمل أرفع وسام سوفياتي في ذلك الوقت وهو "وسام لينين".

وكنت ذكرت في كتاب سيرتي الذاتية "علامات الدرب"، الصادر مطلع عام 2013، ان صديقاً للرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس أبلغني أن المسلحين الفلسطينيين في الجنوب اللبناني كانوا يطلقون الصواريخ باتجاه فلسطين المحتلة من جوار المدن والقرى الآهلة ظنًا منهم أن ذلك يردع إسرائيل عن ضرب تلك البلدات خشية ردود الفعل الإعلامية حول العالم. لكن ذلك لم يردع إسرائيل عن توجيه ضربة قاسية الى مدينة النبطية وجوارها، فقام الرئيس الياس سركيس باستدعاء ياسر عرفات قائد الثورة الفلسطينية طالبًا منه ان يوقف مثل هذه التكتيكات، لا سيما ان في الجنوب مناطق جبلية واودية كثيرة غير آهلة يمكنه التحرك فيها بحرية، فأجابه عرفات، حسب الرواية، "النبطية ليست أحسن من حيفا". فرد عليه الرئيس سركيس بقوله له: "يعني إذا راحت حيفا، فهل من الضروري ان تروح النبطية. نعم، انا بصفتي رئيسًا للبنان مؤتمنًا على وحدة أراضيه أقول لك ان النبطية عندي أغلى من حيفا".

المشكلة هنا ان الثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات استهترت بحقوق وأنظمة الدول المحيطة بفلسطين المحتلة، لا سيما منها لبنان الذي كان الوحيد الذي قدم لها قواعد ثابتة على الأرض.

وربما كان سبب ذلك الاستهتار المدمر حالة نفسية وصفها الشاعر الاردني مصطفى وهبه التل (المعروف بلقبه "عرار"، وهو والد رئيس الحكومة الأردنية المغدور وصفي التل) بقوله:

"ان الذي تُسبى مواطنه

تحل له السبية".

اي ان الذي يفقد وطنه لا يبالي بفقدان الآخرين لأوطانهم.

.(“في الجزء التالي "التدخل الخارجي غير النظامي في الحرب الأهلية )

 

عن الحرب الأهليَّة ( 9 )

2 / 12 / 2022

في الحروب التي يعتبرها كبار المثقفين، والفنانين، والكتَّاب، والمفكرين "قضايا عادلة"، تتشكل من خلال أفكارهم حالة رومانسية واسعة قادرة على الاستقطاب.

فالمثقفون ومعظم الكتاب في الغرب استفزتهم مواقف حكوماتهم الداعية الى الحياد في الحرب الأهلية الاسبانية، مع ان استقصاءً للرأي العام في الولايات المتحدة أظهر ان 87 في المئة من الأميركيين يؤيدون الجمهوريين. لكن الرئيس الأميركي روزفلت، الذي كان يصغي لتوجهات الرأي العام، فشل في إقناع الكونغرس بتأييد الجمهوريين في الحرب الاسبانية.

أما حكومة ليون بلوم الاشتراكية في فرنسا فقد كانت في طليعة الداعين الى الحياد، وكان بلوم نفسه موضع سخرية في الجمعيَّة الوطنيَّة (مجلس النواب) عندما برر موقفه بالقول: "إن الحياد يمنع الحرب".

ولذلك تشكلت في 52 دولة في العالم، من بينها فرنسا وبريطانيا واميركا، ما سمي "السرايا الدولية لنصرة الجمهورية الأسبانية" بلغ عديدها 36 الفاً من المتطوعين للقتال الى جانب الجمهوريين في اسبانيا، بينهم أسماء كبيرة من الكتاب والفنانين، امثال جورج اورويل البريطاني، وأرنست همنغواي الأميركي، واندريه ما لرو الفرنسي (كما انتجت هوليوود عدة أفلام خالدة حول الموضوع. كذلك كان بين المتطوعين نحو سبعة آلاف من المثقفين اليهود الهاربين من المانيا النازية).

ويذكر اللبنانيون، عشية حرب فلسطين، في أربعينات القرن العشرين، كيف تشكل "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي، وضم متطوعين من لبنان وسوريا وبعض الدول العربية الأخرى للقتال ضد العصابات الإرهابيَّة الصهيونية في فلسطين، خارج إطار الجيوش العربية النظامية المشاركة في حرب فلسطين.

فالقضايا العادلة، وان كانت خاسرة في كثير من الأحيان، جاذبة بطبيعتها لأهل الفكر والإنصاف الى درجة تحملهم على التطوع للقتال في سبيلها. وقد فعلت القضية الفلسطينية مثل هذا الفعل في بداية الحرب الصهيونية لاغتصاب فلسطين، خصوصًا في العالمين العربي والإسلامي، وفي بعض الأوساط الأوروبية.

هذا الإرث من النصرة الواسعة للقضية الفلسطينية انسحب أيضًا على الوجود الفلسطيني في لبنان، حتى بعد انقلاب أجندة الثورة الفلسطينية من "أجندة تحريرية لكامل التراب الفلسطيني" الى "أجندة تسووية " تقبل بأي أرض من فلسطين تتخلى عنها إسرائيل في المفاوضات.

ولذلك لم ينظر العالم الخارجي الى القضية اللبنانية في المقابل على انها قضية عادلة، بل جرى تظهيرها على انها "حالة عدوانية ضد الفلسطينيين وقضيتهم"، على الرغم من جميع التضحيات التي قدمها اللبنانيون في سبيل القضية الفلسطينية من ايام نجيب نصار في مطلع القرن العشرين الى ايام فوزي القاوقجي في منتصفه، ثم في أيام ياسر عرفات أيضًا.

وكثيرون في الخارج، وفي لبنان أيضًا، لم يلحظوا تحول الثورة الفلسطينية من التحرير الى التسوية، وبالتالي فاتهم ان الحالة التسووية في ظل هيمنة السلاح الفلسطيني، هي قطعًا ستكون على حساب لبنان، او ربما على حساب غيره أيضًا.

فالمعادلة التسووية تضم خمسة شعوب وأربعة اقطار (لبنان، سوريا، الاردن، فلسطين)، وشعوب هذه الاقطار يضاف اليها الشعب اليهودي في فلسطين المحتلة.

فإذا كانت التسوية المنشودة من الثورة الفلسطينية، لن تكون كلها او معظمها على حساب الفريق الاسرائيلي المعتدي أو المحتل، فإنها بالضرورة سوف تكون على حساب الدول العربية المحيطة بفلسطين، والتي تضم أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين المطلوب توطينهم حيث هم.

فالذين هرعوا من الخارج للقتال الى جانب الثورة الفلسطينية في لبنان، وغالبيتهم ليست من المثقفين، كما في الحالة الأسبانية، كانوا غافلين بالفعل عن التوجه التسووي الذي كانوا يقاتلون من أجله وهم يعتقدون أنهم يحاربون من أجل تحرير فلسطين. ولذلك لم تجد القضية اللبنانية آذانًا صاغية لا في العالم العربي ولا في بقية العالم.

ويجب أن يقال أيضًا أن اللبنانيين الذين تصدوا للوجود الفلسطيني المسلح المتحالف مع قوى لبنانية وازنة لها أجندتها الخاصة التي لا علاقة لها بفلسطين والقضية الفلسطينية، غلبت عليهم النزعة الفاشية الدموية، فكان ذلك مانعًا أمام إقناع العالم الخارجي بمنطقهم ومنطلقاتهم إن لم يكن بعدالة قضيتهم، فظهروا امام العالم وكأنهم ينكرون عدالة القضية الفلسطينية التي نكرها التسوويون الفلسطينيون حتى في عز الحرب اللبنانية.

كم من الالتباسات والغشاوات تراكمت في أذهان اللبنانيين، وما زالت تتراكم، الى درجة ان إسرائيل استخدمتهم للوصول الى تسوية مع الفلسطينيين، ومن يدري ربما تنجح مرة ثانية في استخدامهم للوصول الى تسويات مماثلة مع غير الفلسطينيين!

. (“في الجزء التالي "غورنيكا والدامور)

 

عن الحرب الأهليَّة (10)

3 / 12 / 2022

لا تنتهي المقارنات، والمفارقات أيضًا، بين الحرب الأهلية الأسبانية والحرب الأهلية اللبنانية. ولنأخذ بالمقارنة قصة تدمير بلدة غورنيكا في إقليم الباسك الإسباني، وقصة تدمير بلدة الدامور اللبنانية، والبلدتان متساويتان تقريبًا في الحجم والمكانة الإستراتيجية.

في ليلة ٢٦ نيسان من عام 1937 قامت أسراب من سلاح الجو الألماني النازي، مع مشاركة من سلاح الجو الايطالي الفاشي، بغارات متواصلة على بلدة غورنيكا الأسبانية فدمرتها تدميرًا كاملًا وقتلت أكثر من ألف من سكانها، وتركتها قاعًا صفصفًا. ذلك ان غورنيكا كانت معقلًا جمهوريًا تتحكم بالاتصالات والمواصلات اللازمة للجمهوريين مع الخارج. وإزالة تلك البلدة من الوجود مكنت قوات الجنرال فرانكو الفالانجية من السيطرة على مدينة بيلباو القريبة، وتاليًا على شمال اسبانيا بكامله. وقد أنكر فرانكو قيام الطيران الألماني النازي والايطالي الفاشي بتدمير البلدة ونسب ذلك الى القوات الجمهورية التي زعم أنها دمرتها وهي تنسحب منها. وبقيت هذه القصة مكتومة وملتبسة على الصعيد الرسمي، الى أن اعترفت بذلك الحكومة الأسبانية في عام 1999، أي بعد مضي 62 سنة على تلك الواقعة.

اما بلدة الدامور اللبنانية الساحلية في الشوف الادنى، وسكانها جميعًا من المسيحيين، فهي أيضًا في موقع استراتيجي يتحكم بالمواصلات بين بيروت والجنوب، وبين الساحل والجبل، وتقع في منطقة نفوذ الزعيم الدرزي كمال جنبلاط قائد الحركة الوطنية المتحالفة مع قوى الثورة الفلسطينية. وفي شهر كانون الثاني من عام 1976 قامت قوات من الحركة الوطنية والقوات الفلسطينية بمهاجمة الدامور وتدميرها وقتل عدد غير معروف من سكانها، واضطرار الناجين من الأهالي الهروب بحرًا بملابسهم فقط الى أماكن آمنة، لان المواصلات البرية كانت مقطوعة.

كنت وقتها ما زلت في لبنان ومررت بالدامور المدمَّرة ثلاث مرات وانا في طريقي من والى البقاع عبر الطريق الجبلي بين صيدا وجزين. وقد رأيت بعيني حجم الدمار الشامل الذي حل بها، حيث لم يترك المهاجمون شيئًا لم ينهبوه حتى بلاط وقرميد المنازل، والإطارات الخشبية للأبواب والمراحيض، والمقتنيات التي لم يحمل منها اصحابها شيئًا أثناء فرارهم بأرواحهم..

وقفت أتأمل ذلك المشهد السوريالي الذي يفوق الوصف، وخطر لي ان اعصاراً أو زلزالًا قد ضرب المدينة، او انها تعرضت لغارات جوية مدمرة كتلك التي تعرضت لها بلدة غورنيكا الأسبانية قبل أقل من أربعة عقود.

وكما في تدمير غورنيكا الأسبانية، كذلك في تدمير الدامور اللبنانية، أُبقي الأمر ملتبسًا من حيث تجهيل الفاعل. فقد قيل ان القوات الجنبلاطية المدعومة بقوات فلسطينية هي التي فعلت ذلك، ثم قيل ان الفاعل هو قوات منظمة "الصاعقة" الفلسطينية الموالية للنظام السوري، الذي كان حينها على خلاف مع الجنبلاطيين.

في اسبانيا على الأقل كشفت الحكومة الأسبانية رسميًا بعد ستين سنة عن الفاعل الحقيقي، لكن في لبنان لم تكشف أي جهة رسمية أو دولية عن هوية الفاعل، فبقي معروفًا ومجهولًا في الوقت ذاته كما كان في اسبانيا حتى نهاية القرن العشرين.

غورنيكا الاسبانية تخلدت، بينما الدامور اللبنانية طُمست. غورنيكا خلدها الرسام المشهور بابلو بيكاسو بلوحة خالدة تحمل اسم البلدة المنكوبة، هي الآن في مدريد موطنها الاصلي. والرسام بيكاسو كان أول من اتهم الألمان النازيين بتلك الفعلة الشنيعة وجهًا لوجه بعد الاحتلال الألماني لفرنسا عام 1939، عندما زاره في مشغله في باريس ضابط كبير في "الغيستابو" النازي قاصدًا الحصول على لوحة منه، فشاهد الضابط الألماني لوحة "غورنيكا" في ركن من المشغل، فراح يتأملها، لكنه لم يطلبها، فقال له بيكاسو: "أنتم فعلتموها.. أليس كذلك؟". تبسم ضابط الغيستابو الألماني بسمة تدل على الموافقة.

وشعر بيكاسو ان لوحته العظيمة تلك لن تكون آمنة في اسبانيا بعد انتصار فرانكو في الحرب الاهلية، ولن تكون آمنة في أوروبا بعد الاحتلال النازي، فأرسلها الى الولايات المتحدة حيث عرضت لأول مرة في نيويورك.

والى جانب لوحة بيكاسو خلدها الرسام الفرنسي رينيه ماغريت بلوحة سماها "العلم الأسود". وخلدها أيضًا في حفرية على الخشب النحات الألماني هاينز كيفيتز المتطوع في السرايا الدولية المناصرة للجمهوريين، وقد استشهد في المعارك هناك. ونحاتون آخرون صنعوا لها التماثيل التذكارية، وشعراء نظموا فيها القصائد، وأشهرها قصيدة بول ايلوار بعنوان "انتصار غورنيكا"، وخلدها موسيقيون امثال باتريك اسيون واوكتافيو فاسكيس. وكذلك فعل سينمائيون أمثال الان رازنيه في فيلم قصير أنتجه عام 1950 بعنوان "غورنيكا" أيضًا.

لكن أيًا من ذلك لم يحدث بالنسبة الى الدامور اللبنانية، لا شاعر لبناني أو غير لبناني نظم فيها قصيدة، ولا نحَّات نحت لها تمثالًا على حجر او خشب، ولا رسام رسم لها لوحة على ورق او قماش، ولا موسيقي ألف لها مقطوعة ولو للذكرى، ولا سينمائي فكر في إخراج فيلم رمزي أو وثائقي كمجرد سجل تاريخي يمكن الرجوع اليه.

مرَّ تدمير الدامور في لبنان مرَّاً عابرًا بدون اي تذكار وكأنه حادث سير، أو عاصفة من البحر.

ولذلك فإن الحرب الأهلية الأسبانية ذهبت الى غير رجعة، وبقيت الحرب الأهلية اللبنانية مستعرة ومتجددة بطرق مختلفة، لأنها تقوم على قاعدة من النفاق والتكاذب بين المتحاربين، لا مساحة فيها للحقيقة أو للمصارحة، أو للاعتراف.

.(“في الجزء التالي: "نظرية قتل رجل واحد)

 

عن الحرب الأهليَّة ( 11 )

4 / 12 / 2022

منذ أقدم الأزمنة كان من أسباب الحروب الأهلية، النزعات التسلطية الديكتاتورية لبعض الزعماء والحكام.

وقد برز ذلك بشكل واضح في الجمهورية الرومانية خلال القرن الأول قبل الميلاد، بسبب الحروب التوسعية في الخارج وبروز النزعة السلطوية لدى القادة العسكريين المنتصرين في تلك الحروب.

أول هذه الظواهر تمثلت في شخص الديكتاتور سولا، الذي انتخب قنصلًا مرتين، ثم عين من مجلس الشيوخ ديكتاتوراً مطلق الصلاحية (82 - 80 قبل الميلاد) ليحسم عسكريًا أول حرب اهلية رومانية قامت لأسباب اجتماعية، ضد أصحاب الأملاك الزراعية الواسعة، فحسم تلك الحرب عن طريق الجيش الذي كان محرماً عليه دخول مدينة روما. لكن سولا خرق هذه القاعدة التاريخية ودخل بعسكره الى المدينة لأول مرة وقام بتصفية جسدية لزعماء الطبقة السياسية الحاكمة. فكان كل صباح يعلق لائحة بأسماء السياسيين المطلوبين للمساءلة ويقوم بإعدامهم. فكان أهالي المدينة يهرعون في الصباح الى ساحة الكابيتول حيث مجلس الشيوخ بدافع الفضول ليعرفوا أسماء المطلوبين في كل يوم. وقد شملت تلك التصفيات أكثر من 600 شخص من السياسيين والنافذين (كان يوليوس قيصر وقت تلك التصفيات في العشرينات من عمره وما زال مبتدأً في العمل السياسي، فحيَّد نفسه وغادر روما الى بيت جدته في الأرياف بعيدًا عن الأنظار).

ومن غرائب الأمور ان سولا هو القنصل السابق الوحيد في تلك الحقبة الذي مات موتًا طبيعيًا في فراشه.

حُسمت تلك الحرب الأهلية بالقوة، لكنها لم تحسم دور القوة في تأجيج الحرب، ولا حسمت الأسباب الحقيقية لتجددها، فبقيت نارها تحت الرماد..

وعندما جاء يوليوس قيصر الى الحكم، وظهرت عليه علائم الرغبة في التسلط، فخشي بعض كبار أعضاء مجلس الشيوخ، أمثال بروتوس وكاسيوس، أن تتكرر تجربة سولا فتآمروا لقتله داخل المجلس على قاعدة "إن قتل رجل واحد يمنع قتل البلاد كلها". لكن قتل هذا الرجل الواحد، كما حدث تاليًا، أثار حربين اهليتين متتاليتين، فوق الحرب الاهلية السابقة بين يوليوس قيصر وصهره السابق الجنرال بومبيوس الكبير، وحسمها يوليوس قيصر لصالحه في معركة "فرزاليا" المشهورة، وهي التي أدت الى محاولة تفرده بالسلطة.

نظرية حل المشكلة بقتل رجل واحد أعطت مفعولًا عكسيًا مضاعفًا. أدت الى حربين اهليتين لا الى حرب واحدة، وأدت أيضًا الى سقوط الجمهورية وقيام نظام امبراطوري ديكتاتوري دام مئات السنين، من حكم أغسطس قيصر قبيل ميلاد المسيح بسنوات قليلة، الى سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي.

ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف الجدل حول "نظرية قتل الرجل الواحد كوسيلة لمنع قتل البلاد كلها".

وهذا الجدل زادت حدته تاليًا في أوروبا منذ قيام الأنظمة الملكية بالحق الإلهي. فلننظر الى ما قاله ملك بريطانيا جايمس الأول أمام البرلمان يوم 21 آذار من عام 1610:

"إن الملوك يدعون آلهة بحق، لأنهم يمارسون ما يشبه السلطة المقدسة على الأرض. فإذا نظرتم في خصائل الله، سوف ترون أنها تتوافق مع مزايا شخص الملك. فالله له القدرة على الخلق وعلى التدمير، وله ان يقيم وان يزيل كما يشاء، ان يهب الحياة أو أن يسلط الموت، يدين الجميع ولا يخضع لدينونة من أحد، يعلي من يشاء ويخفض من يشاء بغير حساب وعلى هواه. وهذه أيضًا هي سلطة الملوك".

ولهذا تكرر الجدل حول "نظرية قتل الرجل الواحد" في الحرب الاهلية الإنكليزية بعد إعدام الملك تشارلز الأول، بل فلنقل الحروب الأهلية الإنكليزية التي امتدت قرابة ربع قرن (1625 - 1649).

ففي عام 1628 قام ضابط في جيش دوق باكنغهام الأول (جورج فيليير) بقتل سيده الدوق بطعنه أمام الملأ مبررًا جريمته بالقول: "ظننت انه من الأفضل ان يموت رجل واحد، من ان تذهب إنكلترا كلها الى الخراب". وقد جاء في المراجع البريطانية لتلك الحقبة، انه من اسباب ذلك انتشار افكار مؤداها أن النبلاء يمارسون سلطة مفرطة، ويسيئون استخدام تلك السلطة، وهذا هو السبب الرئيسي للشرور والأخطار التي تحيق بالملك وبالمملكة.

ولذلك فإن الحروب الأهلية ليست حالة بسيطة تعالج بالتسويات المرقَّعة القائمة على مصالح المتحاربين دونما اعتبار لمصالح الشعب والأمة. فالحرب الأهلية اللبنانية ليست فريدة من نوعها الا من حيث كونها حرباً مستدامة، وبالتالي من حيث كون دوامها مرتبطاً بالتسويات المتعمد فيها الإبقاء على جذور الحرب حية، تأسيسًا لحرب جديدة متى حان وقتها.

.(“في الجزء التالي "اغتيال رفيق الحريري في إطار الحرب الاهلية المستدامة)

 

عن الحرب الأهليَّة  ( 12 )

5 / 12 / 2022

كان اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية لمرحلة ما بعد مؤتمر الطائف، رفيق الحريري، ملتبسًا على اللبنانيين، وعلى المحللين. فقد كان وقت اغتياله (14 شباط 2005) خارج الحكومة ولا صفة رسمية له، وبالتالي، فإن العملية لا تدخل بسهولة ضمن نظرية "قتل الرجل الواحد لإنقاذ البلاد"، بل ضمن مخطط لزعزعة أمن البلاد، وبالتالي ضمن إطار "النفخ في نار الحرب الاهلية".

ولذلك فان احتمال ان تكون جهة خارجية ضالعة في الحادث ما كان يجب إسقاطه من الحساب. لكن الالتباسات السياسية والانقسامات الداخلية في ذلك الوقت لم تترك مجالًا للتفكير في الأمر من زاوية الحرب الاهلية، قبل الطائف، بل حُصر في إطار "السلم الأهلي" بعد الطائف.

ذلك ان دور رفيق الحريري في المسألة اللبنانية لم يبدأ في مؤتمر الطائف، وان كان قد بدا كذلك لكثيرين من اللبنانيين. وهذه نقطة خلافية مهمة، تُظهر فجوة كبيرة من الالتباس، بين ان يكون حضوره في السياسة، من خارج الطبقة السياسية اللبنانية التقليدية، محمولًا على موجة "السلم الأهلي"، أو على موجة الحرب الأهلية".".

في أواسط تسعينات القرن الماضي، وكنت أصدر جريدة "الميزان" من لندن، كتبت مقالًا في تلك الجريدة في محاولة لتوضيح هذا الالتباس، عنوانه: "لم يفهم اللبنانيون دور الحريري في الحرب فأساؤا فهمه في السلم". ومن غير المستبعد ان يكون ذلك الالتباس مقصودًا لإن وضع الحريري، في حياته السياسية بعد الطائف، وفي إزالته من الوجود، ضمن إطار الحرب الاهلية، من شأنه ان يضعف دوره في السلم الأهلي، وهالته الوافدة معه على وقع الطائف كرجل سلام وإنماء وإعمار.

كنت في بيروت خلال النصف الأول من عام 1983 (بين اغتيال بشير الجميل وتفجير السفارة الاميركية في عين المريسة)، وشاهدت جرافات وشاحنات كبيرة تقوم بعملية تنظيف الركام من وسط بيروت، رفعت عليها صور العاهل السعودي آنذاك الملك فهد بن عبد العزيز، وقيل إن رفيق الحريري هو متعهد ذلك المشروع، بصفته من المقربين الى الملك فهد ومحل ثقته. وقد عجبت لعملية التنظيف تلك لمخلفات دمار الحرب، قبل انتهاء الحرب، واندلاع مرحلة جديدة وخطيرة منها في الجبل فور الانسحاب الاسرائيلي من بيروت ومناطق لبنانية اخرى الى الشريط الحدودي في الجنوب. فاتصلت بالصديق الراحل محمد عطالله، رئيس مجلس الإنماء والإعمار في ذلك الوقت، مستوضحاً الأمر فلمست انه متضايق من الضجة الدعائية لعمليات التنظيف، للعاهل السعودي ولوكيله في لبنان رفيق الحريري، وقال لي بالحرف: “ما بدها هلقد، هذه شغلة البلدية".

أليس ملفتًا تنظيف ركام الحرب من بيروت، قبل سبع سنوات من مؤتمر الطائف وانتهاء العمليات الحربية؟

قد يكون ذلك من قبيل التغطية على دور آخر خفي في الحرب، بتنظيف مخلفات الحرب والتمهيد لدور أكبر في إنهاء الحرب، يُراد منها طمس شيء ما وكتابة تاريخ جديد على صفحة بيضاء.

معظم الذين كتبوا عن الحرب الأهلية اللبنانية، من لبنانيين وأجانب، ان لم يكن كلهم، لم يتطرقوا الى مسألة تمويل أمراء الحرب وتموينهم. وجميع مؤرخي الحروب الأهلية يعرفون ان المال هو العصب الأشد في الحرب، ويفوق السلاح في أهميته. فالسلاح لا يمكن ان يفعل فعله من غير رفده بالمال. فقد عرف أحد الزملاء الثورة الفلسطينية اثناء وجود ياسر عرفات في لبنان وانخراطه في الحرب الأهلية اللبنانية بأنها "مال وسلاح".

وفي صيف 1983، مرَّ بنا الى مكاتب مجلة "الحوادث" في لندن الصحافي الأميركي المعروف جوناثان راندال، بعد صدور كتابه عن الحرب اللبنانية بعنوان "مأساة لبنان"، وقال لنا إنه عمل قصارى جهده ليفهم الحالة اللبنانية، لكنه مع ذلك يشعر بانه ما زال مقصرًا عن فهمها، وأنه مهما حاول المهتمون الأجانب الوصول الى كنهها، فإن ذلك لا يحل محل قيام كتاب لبنانيين بكتابة حقيقة قضية بلادهم وشعبهم. وقد تناقشنا معه في الموضوع أكثر من ساعتين، وهو يصر على ان فهم الموضوع اللبناني ما زال ناقصًا (أظن أنه وقتئذ كان يعمل في جريدة "واشنطن بوست").

واليوم نُدرك أن الفهم العالمي والعربي، وحتى اللبناني، للمسألة اللبنانية، في إطار "الحرب الأهلية المستدامة" ما زال ناقصًا. ويكفي إلقاء نظرة على كيفية تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري، والكلفة الباهظة التي تكبدها الشعب اللبناني، لقاء تلك المسرحية الفاشلة، لمعرفة المقصود بالنقص في فهم المسألة اللبنانية. وقد فاقم ذلك النقص تغاضي المسؤولين اللبنانيين عن المخالفات القانونية والدستورية في تمرير مشروع المحكمة الدولية وتكاليفها الباهظة، من شارل رزق وفؤاد السنيورة الى المطالبين بتشكيل المحكمة تحت البند السابع الذي يسمح بالتدخل العسكري الدولي..

لا أحد أراد ان ينظر الى رفيق الحريري على انه ضحية من ضحايا الحرب الاهلية، لأنه كان مشاركاً فيها من وراء الستار بتمويل أمراء الحرب نيابة عن جهات خارجية، وليس من ماله الخاص. أرادوا فقط إظهاره بمظهر "بطل السلم الأهلي، وعراب مؤتمر الطائف"، وهي عملية ترجمتها الحقيقية نقل السلطة في لبنان من أيدي طبقة سياسية انتهت صلاحيتها، الى المليشيات وأمراء الحرب، مكافأة لهم على قيامهم بالمهام المناطة بهم، على قاعدة "من صَنَعَ الحرب هو الذي يصنع السلم".

وعملية التمويل تلك كانت أوسع نطاقًا مما يظن معظم اللبنانيين، فهي لم تقتصر على جهة محدَّدة، بل شملت جميع الميليشيات المتقاتلة، يمينًا ويسارًا، وشملت جهات سورية متعاطية في الشأن اللبناني، والقوى المسلحة الفلسطينية، ومسؤولين وموظفين في الدولة، وشملت وسائل اعلام وإعلاميين، وصولاً الى تمويل دراسة الطلاب في الخارج.

ولذلك لا توجد أي دراسة جدية عن كيفية ومصادر تمويل الحرب الأهلية في لبنان، كما هو الحال بالنسبة الى الحرب الأهلية الأسبانية مثلًا، حيث يستطيع الدارسون ان يعرفوا بالضبط ماذا قدم ستالين للجمهوريين اليساريين، وماذا قدم هتلر وموسوليني لقوات فرانكو .اليمينية

 .(“في الجزء التالي: "من يعرف لماذا يقاتل؟)

 

عن الحرب الأهليَّة ( 13 )

6 / 12 / 2022

ليس كل المقاتلين، بل أغلبهم، يعرفون لماذا يقاتلون. ولا أحد منهم يعرف انه يقاتل في حرب لا يعرف عنها الكثير، ولا سيما أنه يقاتل في حرب غيره، وانه مجرد وقود لتلك الحرب.

الكنيسة الكاثوليكية في اسبانيا اوهمت أتباعها بأنهم يحاربون من أجل المسيح. وجميع قادة الحروب الاهلية، قديمًا وحديثًا، يعبئون المقاتلين بدعاوى أو عقائد، أو قضايا وهمية يزعمون أنها عادلة وستكون لمصلحة المقاتلين إذا استبسلوا في القتال. لكن المقاتلين أنفسهم لا يعرفون لماذا يقاتلون أبناء بلدهم، ولماذا يستنجد قادتهم بقوى خارجية.

والبابا بيوس الثاني عشر في رسالته الى الجنرال فرانكو المنتصر في الحرب الاهلية، عام 1939، قال له فيها: "إن هذا الانتصار هو الانتصار الكاثوليكي الذي ترغبه إسبانيا".

فالتعبئة الدينية هي أسهل وافعل انواع الحشد والتحريض للمقاتلين البسطاء الذين يؤمنون بجد بما يقال لهم من قادتهم الميدانيين، او قادة أديانهم وطوائفهم..

ولذلك أخذت الحرب الأهلية اللبنانية منحى طائفيًا، بفعل التعبئة والحشد وليس بفعل جوهر الموضوع. وكذلك الأمر، وعلى نطاق أوسع وأشد عنفًا في بعض البلدان العربية، مغربًا ومشرقًا، عندما انتشرت الحركات الإسلامية التكفيرية المتطرفة، وراحت تقتل وتفجر في كل مكان، ظنًا منهم أنهم يقاتلون من اجل دينهم وهم يقاتلون لخدمة أعدائهم.

لكن كثيرين من المضلَّلين، كما في الحرب اللبنانية، انخرطوا في القتال من أجل السرقة والنهب، وأحيانًا بمعرفة القيادات وتشجيعها لإغراء المقاتلين بالبقاء في ساحة القتال. وهذا يحدث في جميع الحروب، أهلية ونظامية، لكن عمليات السلب والنهب في لبنان انطلقت من البداية، من معركة مرفأ بيروت، الى حرب الفنادق، واحتلال وتدمير بلدة الدامور، كما ورد سابقًا. وعمليات النهب هذه منها ما هو منظم بإشراف قادة الميليشيات، ومنها ما هو عشوائي يقوم به أفراد من المقاتلين على سبيل الانتفاع من الفوضى.

ولا يظننَّ أحد ان عمليات نهب ودائع اللبنانيين في المصارف، ومن خلال التلاعب بأسعار صرف العملة، تختلف في جوهرها عن عمليات النهب التي جرت خلال الحرب. فالممارسات الميليشياوية هي ذاتها، لأن الحرب الأهلية ما زالت مستمرة بطرق أخرى.

إن الفئة الوحيدة التي كانت تعرف لماذا جاءت تقاتل في الحرب الأسبانية، والوحيدة في تاريخ العالم، هي "السرايا الدولية للدفاع عن الجمهورية"، التي ضمت في غالبيتها المثقفين، والفنانين، والمستنيرين من جميع أنحاء العالم. جاءوا من فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والنمسا، وبولندا، واكرانيا، وايطاليا، وأميركا (الشمالية والجنوبية)، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، والمجر، وروسيا، والبلدان الإسكندنافية. وقد قال المتطوع الأميركي الفا بيسي لزملائه في "السرايا الدولية": "أنتم أول جنود في تاريخ العالم تعرفون لماذا تقاتلون". (من كتاب فينسنت بروم بعنوان "السرايا الدولية" الصادر عام 1965)

وعندما اقترح رئيس الوزراء الجمهوري، خوان نغرين، انسحاب "السرايا الدولية" على أمل ان ذلك يمكن ان يعجل في التدخل الرسمي من قبل بريطانيا وفرنسا، فخاب ظنه، وقفت السيدة د ولوريس ايباروري (الشيوعية المعروفة باسمها الحركي "لا باسيوناريا" وصاحبة الشعار الأشهر في معركة مدريد "لن يمروا")، تخطب في السرايا الدولية المنسحبة من برشلونة في 29 تشرين الأول / أكتوبر من عام 1938، قائلة: "اذهبوا بفخر. أنتم التاريخ. أنتم الأسطورة. أنتم المثال البطولي للتضامن، ولعالمية الديموقراطية. إننا لن ننساكم، وعندما تورق اغصان شجرة زيتون السلام جنبًا الى جنب مع أكاليل غار نصر الجمهورية الأسبانية… عودوا إلينا".

.(“في الجزء التالي: "دولة تحارب شعبها)

 

عن الحرب الأهليَّة ( 14 )

7 / 12 / 2022

يظن كثيرون، تحت وابل من الدعاية والإعلام التضليلي، ان الأنظمة التي يسمونها "ديكتاتورية" أو "توتاليتارية"، تحارب شعوبها، وهذا كلام غير دقيق. نعم هي تقمع خصومها، وتقيد بعض الحريات، كإجراء وقائي، لكن معظمها قدم خدمات جليلة لعموم شعبه. الأنظمة الميليشياوية المولودة في رحم الحرب الأهلية، هي التي تحارب شعوبها أثناء جولات القتال، وتنهبها خلال ما تسميه "السلم الأهلي"، وهي "حرب أهلية مقنَّعة"، كما شاهدنا ونشاهد في لبنان.

فلننظر في ثلاثة امثلة تاريخية حسب تسلسلها التاريخي:

(1) حكم نابليون بونابرت في فرنسا كنظام ديكتاتوري قام على أنقاض ميليشيات الثورة الفرنسية، التي سماها المرجع الأكبر في أوروبا حول الثورة الفرنسية، البريطاني ريتشارد كوب، "جيوش الشعب". (منحه الرئيس فرانسوا ميتران وسام جوقة الشرف لدرسه الثورة الفرنسية بالعمق. وكان ذلك وقد أصيب كوب بعجز الشيخوخة، وعندما سأله أحد الصحافيين ماذا ستفعل بهذا الوسام، أجابه ممازحاً: "سوف أعلقه على صدر ببجامتي"!

كان حكم نابليون حكمًا عسكريًا فرديًا أرهق الشعب الفرنسي بالحروب المتتالية، وأزهق فيها أرواح ما لا يقل عن مليون جندي. كان يحارب بالشعب الفرنسي، ولا يحارب الشعب الفرنسي. واليوم نسي الفرنسيون والعالم حروب نابليون، ويتذكرون بفخر "القانون المدني العصري" الذي وضعه لعموم الشعب الفرنسي وما زال ساري المفعول الى اليوم.. وسيبقى.

(2) الحالة الستالينية في روسيا والاتحاد السوفياتي، من أواخر القرن العشرين الى منتصف خمسيناته، كانت وما زالت في الإعلام التضليلي، أعلى مراحل الحكم الديكتاتوري الذي حارب وقتل شعبه. حتمًا لم يمارس ستالين سياسة الشدة، حبًا بالقتل من أجل القتل، بل من أجل تقدم جميع الشعب.

إن روسيا كما خلقتها الطبيعة هي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، تساوي مجموع مساحة الولايات المتحدة، وكندا، والصين، وفيها ستة عشر نطاقًا زمنيا لان معظم خطوط الطول والعرض للكرة الارضية تمر فيها، وهي تمتد من البحر الأسود الى المحيط الباسيفيكي، ومن جورجيا جنوبًا الى المحيط المتجمد الشمالي. هذه المساحة العظمى من الأرض زرعها ستالين من أقصاها الى أقصاها بشبكات الكهرباء من أجل تقدم الشعب الروسي، لا من أجل محاربته، وحول روسيا من دولة إقطاعية تملكها عائلات أرستقراطية قليلة الى دولة صناعية متقدمة، بل جعلها دولة عظمى مهابة في العالم. ولست أظن أن أحدًا يمكن أن ينسى أن روسيا هي أول دولة في العالم أطلقت قمرًا اصطناعيًا الى الفضاء (سبوتنيك) في أواسط خمسينات القرن العشرين، وأول قمر حمل حيوانًا الى الفضاء (الكلبة لايكا)، وأول إنسان أيضا (يوري غاغارين). والى اليوم تخرج كليات العلوم والرياضيات الروسية، أكبر عدد من الطلاب في هذه المجالات في العالم بالنسبة الى عدد السكان، ولا تستورد العلماء من الخارج (بالمقابل نحو نصف عدد العلماء والباحثين في الولايات المتحدة الأميركية ليسوا من الأميركيين).

(3) نظام فرانكو العسكري الميليشياوي الذي قام بعد الحرب الأهلية، كحالة ميليشياوية في الحرب وفي السلم (كما في لبنان)، قتل من الشعب الإسباني بعد حلول السلام أكثر مما سقط في الحرب الأهلية.

فقد أعلن فرانكو فور انتصاره قائلًا: "صحيح أن الحرب انتهت، لكن العدو ما زال على قيد الحياة". وفي السنوات الأربع التي تلت نهاية الحرب (939 - 1943)، قام نظام فرانكو بعمليات إعدام واغتيالات منظمة ذهب ضحيتها نحو ربع مليون شخص من خصومه السابقين.

فقد قال الديبلوماسي والكاتب والمؤرخ الإسباني المعروف، سلفادور دي مادارياغا (رشح لجائزة نوبل للأدب وجائزة نوبل للسلام):

"دولة عسكرية في حرب مع شعبها، ليس كلامًا مجازيًا. إنه تعريف فاضح للأساس القانوني لدولة إسبانيا الراهنة" (من كتاب أنطوني بيفور "الحرب الأهلية الأسبانية"، 1982)

نعم، هناك أنظمة تحارب شعوبها، وهي الأنظمة الميليشياوية الأصل والجذور، تقتله وتنهبه في الحرب، وتصادر معاشه وجنى عمره في السلم، كالمنشار يأكل ذهابًا وإياباً.

.(“في الجزء التالي: " واليها وقاضيها) 

 

عن الحرب الأهليَّة ( 15 )

8 / 12 / 2022

من يشاهد ما يجري على المسرح السياسي اللبناني في هذه الأيام يخال ان الحرب الاهلية بنسختها الساخنة عائدة لا محالة لانسداد المخارج الكفيلة بمعالجة كتلة الأزمات المتشابكة والمزمنة في كل القضايا وعلى جميع المستويات.

والحقيقة الصارخة أن الوضع الراهن لا يمكن ان يستمر، وان ولاة الأمر الحاكمين من مخلفات الميليشيات السابقة، غير قادرين، وغير مؤهلين، لمعالجة الأزمة لأنهم هم الذين تسببوا بها.

انهم أشبه بالحكاية التي كانت تروى عن أحد الولاة العثمانيين الذي أراد ان يعين في قصر الولاية ياوراً له لا يكون من أبناء العائلات الغنية لئلا يسيء استخدام منصبه، فقرر ان يعينه من أبناء العامة. فنزل الوالي الى السوق ليبحث عن رجل بشوش، صبوح الوجه، ذرب اللسان، بين العامة فوجد ضالته في حمَّال (عتَّال) ظريف محبوب من جميع أهل السوق فاستدعاه وأرسله الى حمام البخار لتطهيره من أوساخ العتالة، واشترى له ملابس جديدة قشيبة، فأصبح رجلًا آخر، وسلمه منصبه الجديد، بعدما دربه على مهامه الجديدة، فبرع في وظيفته بحيث أن الوالي عندما نُقل من منصبه اوصى بتعيين ياوره والياً مكانه.

وعندما صدر فرمان تعيينه والياً انتقل الى القصر، حيث الخدم والحشم، وانهالت عليه الهدايا والأموال، وحامت حوله السماسرة، واللصوص، والمنافقون، يحاولون تدريبه على النهب والنهش.

وذات يوم جاءه قاضي القضاة زائرًا ليطلع على أحواله، فوجده جالسًا في زاوية من قاعة الاستقبال يجهش في البكاء، فقال له مستغربًا: "لماذا تبكي؟ ألا ترى العزَّ الذي أنت فيه؟ سلطة، وأموال، وقصور، وخدم، فماذا تريد أكثر من ذلك؟

مسح الرجل دموعه ونظر الى القاضي المطبوع على الفساد، كما تطبع هو، وقال له: "لست أبكي لا عليَّ ولا عليك. إنني أبكي على هذا الشعب المغفل الذي أنا واليه وأنت قاضيه".

وهكذا أولياء الأمر في لبنان اليوم، يذرفون دموع التماسيح على أحوال الشعب المتدهورة، وهم الذين تسببوا بها، لكنهم لا يعترفون بمسؤوليتهم وعدم أهليتهم، وليس في نيتهم معالجة أي أمر، بل هم عاجزون وقاصرون عن ذلك.

شعاراتهم المزعومة، لم يعد لها معنى لكثرة ما لاكتها الألسن، وأصبحت ببغائية فاقدة المعنى والصلاحية.

كل يوم ينادون بالتوافق كذبًا ونفاقًا، وبالوحدة الوطنية الوهمية، وبالميثاق الوطني المهلهل لكثرة الخروقات، وبالعيش المشترك الذي يسير في اتجاه التباعد، وبالشراكة الوطنية التي يفهمونها على انها محاصصة واقتسام للمغانم، وكذلك الأمر في كل المجالات الاخرى، من الدستور والقوانين الهما يونية البعيدة عن المفاهيم العصرية للتقدم، الى أبسط المهام الإدارية.

ان التركيب الراهن للبنان، والتركيبة المستحكمة فيه، لا يجوز أن يبقيا على ما هما عليه، ومن المستحيل إصلاحهما، أو حتى ترقيعهما.

لبنان القائم الآن هو فضيحة عالمية، لا بد من سقوطه. إنه لا يستطيع أن يستمر على هذا النحو، مغارة للصوص، وساحة مفتوحة للغرباء والمهربين والجواسيس والمخربين الذي جعلوا أجمل الجبال مقالع وكسَّارات، وأحلى الأنهار العذبة المياه سواقي للمجارير والصرف الصحي، والشوارع النظيفة أيام بلدية بيروت الممتازة قبلهم أصبحت مكبات للزبالة. بل إن كل البنى التحتية التي هي من البديهيات في بلدان العالم المعاصر، باتت معطلة أو مفقودة، من الكهرباء الى المياه النظيفة، ومن الطرقات والمجاري الى شواطئ البحر.

لبنان الذي كان مضرب المثل في الحداثة والإبداع والإشعاع قبل خمسين سنة، اطفئت شعلته، وأذل شعبه، وهو اليوم البلد الوحيد في العالم الذي عادت لتفرخ فيه الأمراض السارية المنقرضة، كالسل والكوليرا وغيرها.

هذا ليس لبنان. ولن يكون إذا استمر على هذا النحو. انهم يقودونه في طريق الزوال، بينما المطلوب زوال الآفات الفاتكة فيه، وأولها الصيغة الكاذبة التي تحكمه وتتحكم به.

.(“في الجزء التالي: "لا للتسوية نعم للحل النهائي)

 

عن الحرب الأهليَّة ( 16 )

9 / 12 / 2022

منذ الحرب الأهلية الأولى في جبل لبنان في منتصف القرن التاسع عشر، بعد قيام الدول الكبرى في ذلك الوقت بإجبار القوات المصرية بقياد ابراهيم باشا ابن محمد علي الكبير على الانسحاب من سوريا، بات إشعال الحروب الأهلية، في الجوار السوري، والتسويات التالية لها، بيد القوى الخارجية، ومنها على وجه الخصوص بريطانيا وفرنسا.

وكان ذلك بسبب قرار اتخذته الحكومة البريطانية بإنشاء دولة يهودية في فلسطين تكون بمثابة إسفين فاصل بين مصر وسوريا حتى لا تتكرر تجربة محمد علي، فيتزعزع الوضع الإقليمي كما حدث عندما وصلت الجيوش المصرية عبر سوريا الى الأناضول، وذلك قبل سبعين سنة من وعد بلفور.

ومن البديهي، عندما تكون مفاتيح الحرب والسلم بأيدي أجنبية، ان تحمل التسويات في اعقاب كل حرب أهلية لتلك الغاية في طياتها بذور حرب جديدة عند اللزوم. لكن كثيرين من شعوب المنطقة، خصوصًا في المنطقة المحيطة بفلسطين، الى اليوم لا يصدقون بأن حروبهم الاهلية والتسويات الخارجية لوقفها، لها ارتباط مباشر بالمشروع الصهيوني من قبل قيام دولة إسرائيل بعشرات السنين.

إن "نظام القائمقاميتين" في جبل لبنان كان له طابع تقسيمي، أو فلنقل "كونفدرالي" (كثيرون حتى اليوم يخلطون بين الكونفدرالية كنظام تقسيمي، وبين الفدرالية التي هي أرفع النظم التوحيدية). وبالتالي حمل في طياته بذور حرب أهلية جديدة، اقتضت تسوية خارجية جديدة، فكان نظام المتصرفية الذي دام حتى الحرب العالمية الأولى وتفكيك الإمبراطورية العثمانية، ثم الاحتلال الانكلو - فرنسي للمشرق العربي وتقسيمه الى دوله القائمة حالياً، بما فيها الكيان الاسرائيلي بعد حين (بعد الحرب العالمية الثانية خلال سنوات قليلة)، فاكتمل مشروع "دق الإسفين بين مصر وسوريا"، المخطط له منذ حملة ابراهيم باشا في سوريا.

وهكذا بقيت جذوة الحروب الآهلية في هذه المنطقة التي قسمها الاستعمار الغربي الى دول مستقلة عن بعضها البعض، لكنها غير مستقلة عن الدول الكبرى، صاحبة قرار الحرب والسلم..

وقرار الحرب والسلم في يد الدول الكبرى، يعني جعل الحروب الأهلية مستدامة بطرق مختلفة حسب الظروف، كما يعني اعتماد تسويات ترقيعية هي بطبيعتها تأسيسية لحروب أهلية جديدة.

وإذا أخذنا الحالة اللبنانية التي نحن بصددها، لكونها متجددة بصورة سريعة، نجد ان الاضطراب الأهلي اللبناني المتكرر مرده الى التسويات الترقيعية المتعاقبة من "الميثاق الوطني" بعد الاستقلال، وقد خرق من أول الطريق، الى التسوية التي اعقبت ما اطلقوا عليه اسم "الثورة" ضد عهد الرئيس الثاني بعد الاستقلال، كميل شمعون، تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب"، ثم بعد تفاقم الوجود الفلسطيني في عموم لبنان، والتسوية التي اعقبته بعقد "اتفاق القاهرة" الذي أضفى الشرعية على السلاح الفلسطيني، مما أدى تاليًا آلى أطول الحروب الأهلية في تاريخ لبنان الحديث، والتي أعقبتها التسوية السارية الى اليوم والمعروفة باسم "اتفاق الطائف"، وهو كغيره من التسويات السابقة، حرب أهلية مقنَّعة، بدليل التخبط المستمر في جو من الأزمات المتفاقمة التي بدأت تأخذ طابعًا وجوديًا يتعلق بمصير لبنان والشعب اللبناني، بفعل الانهيارات السياسية والاقتصادية والمالية والمصرفية والاجتماعية.

فالتسوية، أي تسوية مثل "الميني تسوية" التي جرت في العاصمة القطرية الدوحة عام 2008، بعد "ميني حرب أهلية" ملفقة (حوادث 7 أيار / مايو من تلك السنة في بيروت)، وقياسًا على السوابق التاريخية المشار اليها، من غير الممكن أن تتم الا من خلال قوى خارجية. وهذا ليس بحاجة الى أي برهان، بل يكفي متابعة المهزلة الانتخابية في المجلس النيابي للتيقن من استحالة التوافق الداخلي بين اللبنانيين، لأن القوى السياسية اللبنانية القائمة مرتبطة بجهات وأجندات خارجية، لكن تلك المسرحية الهزلية مستمرة لتضليل الشعب اللبناني وترقيده بتجريعه وهم الاستقلالية.

فالشعب اللبناني، إذا صح التعبير، وإذا أراد الخلاص فعلًا من دوامة الحرب الأهلية وما يليها من تسويات ملفقة ومؤسسة لحروب مقبلة، يتوجب عليه آن يرفض ويقاوم التسويات الترقيعية، ليس فقط الوافدة من الخارج، بل أيضًا التلفيقات الداخلية القائمة على الكذب والنفاق بشعارات تضليلية مثل "التسامح"، و "الوحدة الوطنية"، و "التوافق" (أي التوافق بين مسببي المشكلة)، وما الى ذلك من تلفيقات.

لكي يعيش اللبنانيون بسلام دائم، يجب ان يرفضوا التسويات الظرفية، وان يطالبوا مطالبة جدية ومستمرة بحل نهائي دائم لا يهتز ولا يتعثر، يحاكي في استقراره تجارب عظيمة في أماكن أخرى متقدمة من العالم.

وليعلموا أن اللامركزية الإدارية مهما كانت موسعة في ظل النظام السياسي الراهن (نظام الطائف) ليست حلًا، هي أيضًا من قبيل الترقيع.

.(“في الجزء التالي والأخير: "الفدرالية اعلى مراحل الاتحاد الوطني )

 

عن الحرب الأهليَّة ( 17 )

10 /12/2022

لست أدري لماذا كلمة "فدرالية" تستفز بعض اللبنانيين ويرادفونها فورًا بكلمة "تقسيم"، من غير تدقيق أو مناقشة، مع ان الثابت تاريخيًا هو أن الدول الفدرالية في العالم هي أقواها اتحادًا وأكثرها تقدمًا.

في مطلع ستينات القرن التاسع عشر، تزامنت الحرب الأهلية الأولى في جبل لبنان (1860 - 1864)، مع الحرب الأهلية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية (1861 - 1865)، لأن الولايات الجنوبية أرادت الانفصال عن الاتحاد تحت شعار الكونفدرالية. لكن النصر في تلك الحرب المدمرة حالف الدولة الفدرالية، فبقيت الولايات المتحدة دولة اتحادية متماسكة ومتقدمة الى يومنا هذا، بل أصبحت الدولة الأولى والأقوى في العالم.

في الوقت ذاته أدت الحرب الأهلية في جبل لبنان الى تقسيم الجبل من خلال تسوية برعاية دولية أطلقوا عليها اسم "القائمقاميتين". أي ان لبنان الصغير آنذاك صار لبنانين أصغرين، وبقي منقسمًا على ذاته بعد تكبيره، بحيث أطلق الرئيس صائب سلام، بعد "ثورة 1958"، شعار "لبنان واحد لا لبنانان"، لشعوره بأن تلك الثورة، او الحرب الأهلية المصغرة، تحمل بذوراً تقسيمية كما قبل مئة سنة في لبنان الصغير.

لكن لبنان الواحد، حسب شعار صائب سلام، بقي لبنانين الى ان انفجر بعد سنوات في حرب أهلية مدمرة دامت خمسة عشر عامًا.

وبنظرة سريعة الى الدول الفدرالية في العالم، كبيرها وصغيرها، خصوصًا تلك التي شهدت حروبًا مدمرة، أهلية ساعية الى التقسيم، أو عالمية ساعية الى الهيمنة وكان التقسيم من نتائجها، كما في الحالة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، يتبين ان النظام الفدرالي كان غلاباً، لأنه أكثر النظم اتحادية، وأكثرها قابلية للتقدم.

ففي نتيجة الحرب العالمية الثانية، جرى تقسيم ألمانيًا الى دولتين متخاصمتين، بنظامين سياسيين مختلفين ومتنافسين، لكن بعد أكثر من خمسين سنة، عادتا فالتحمتا في دولة فدرالية واحدة متماسكة ولها مكانة مرموقة في الاتحاد الأوروبي وفي ألعالم الأكبر.

لكن سبب العداء اللبناني المتأصل للفكرة الفدرالية، لا يعود الى عطل في تلك الفكرة الراقية والمجرَّبة، بل الى عطل في العقل الإقطاعي، الطائفي، الميليشياوي، المافيوي، المتحكم بالشعب اللبناني والممسك بخناقه، وهو عقل يعتاش ويرتزق تاريخياً من توليد الأزمات واستدراج دول خارجية للتدخل فيها لمنافع ذاتية لا علاقة لها بمصير الشعب، ولا تقيم له وزنًا، بل تستخدمه كمجرد وسيلة، أو كوقود في الحروب المتجددة، أو كبقرة حلوب تنهب جناه إذا جفت مصادر ارتزاقها الخارجية.

إن الأزمة الكبرى الراهنة التي تضرب الشعب اللبناني في عمق وجوده ومصالحه ومستقبله، قد تكون فرصة لتغيير جذري في تركيبة النظام، وفي التخلص من الرواسب المقيتة التي جعلت القتلة، والنصابين، والمشعوذين، أوصياء عليه، ومستغلين له.

فالشعب الذي لا يستطيع ان يحول الأزمات الخانقة الى فرص منعشة، لن يكون له مستقبل إلا في ماضيه.

والذي يرتضي ان يعيش في وضعٍ مزرٍ كالوضع السائد في السنوات الأخيرة والمستمر الى أمد بعيد، لا يلوم إلا نفسه

 

ضجة في بروكسل

13 / 12 / 2022

تقوم في الإتحاد الأوروبي هذه الأيام ضجة عارمة حول قضية فساد بطلتها دولة قطر التي كان الأوروبيون قبل سنوات أهدوها الدورة الحالية التي ما زالت جارية في الدوحة الآن لبطولة العالم في كرة القدم.

فقد أجرت الشرطة البلجيكية مداهمات واسعة لنواب في البرلمان الأوروبي، وسياسيين آخرين، وصادر خلال تلك المداهمات أموالًا نقدية طائلة بمئات الآلاف من العملة الأوروبية، قيل إن دولة قطر وزعتها رشاوي على نواب وسياسيين أوروبيين من بينهم نائبة رئيس البرلمان الأوروبي اليونانية إيفا كايلي.

وتعليقًا على ذلك أعلنت روبيرتا متسولا رئيسة البرلمان الأوروبي: "ان الديموقراطية الأوروبية تتعرض لهجوم من الخارج، يطال المجتمعات الديموقراطية الحرة والمنفتحة".

وهذه القضية تطرح أسئلة جدية بالعمق، تهم كل دول العالم، حول موضوع "الفساد والإفساد"، أولها، لماذا تريد دولة مثل دولة قطر شراء النفوذ بالرشوة المالية المباشرة في دول لديها تقاليد قديمة من التدقيق والمساءلة؟

وثانيها، كيف يلام الراشي ولا يلام المرتشي، فهذه القضايا سكة على خطين. فقد كان الأجدر بالسياسيين الأوروبيين الذين تلقوا الرشاوي القطرية، أن يرفضوها ويفضحوها علنًا، حفاظًا على سمعتهم وسمعة بلدانهم، وكدرس توبيخي لكل من تسول له نفسه سلوك طرق الفساد والإفساد. لكن ذلك لم يحدث، حتى انفجر بشكل فضيحة مدوية.

إن هذه الفضيحة المتعلقة بدولة قطر ليست الأولى من نوعها. فقد اتهمت منذ عدة سنوات عندما قررت "هيئة كرة القدم العالمية" (فيفا) إجراء مباريات مونديال كرة القدم في قطر لعام 2022، بأنها "اشترت" هذه الدورة بتوزيع رشاوي مالية على أصحاب القرار بلغت عدة ملايين (في عهد الأمير السابق حمد بن خليفة).

كل العالم يعرف ان لدى دولة قطر فائضاً ماليًا كبيرًا لكونها تملك مخزونًا هائلًا من الغاز الطبيعي، قد يكون الأكبر في العالم حالياً، لكن هذا لا يبرر شراء النفوذ بطرق غير مشروعة، خصوصًا في بلدان معرضة فيها للفضيحة، بينما هناك دول عربية شقيقة، وربما معظم الدول العربية، تعاني من أزمات اقتصادية خانقة لا تجد من يعينها.

وهناك من يقول إن بعض المال القطري الذي ينفق في البلدان العربية، هو الآخر ينفق لشراء النفوذ لدى المسؤولين في تلك البلدان، ولا يصل منه الى الناس المحتاجين سوى النذر اليسير.

ومما يثير الغضب ان بعض الأوروبيين، مثل الرئيس السويسري السابق لهيئة "فيفا" (الرئيس الثامن للهيئة)، سيب بلاتر، تناولوا موضوع المونديال القطري تناولًا عنصريًا عندما أكد جازمًا ان كأس العالم لن يكون عربيًا والمباراة النهائية لم تبدأ بعد. كيف عرف بلاتر مسبقًا أن الكأس لن يكون عربيًا، لولا وجود عمليات فساد وتطبيقات بالرشوة لتحقيق مثل هذه النتيجة مسبقًا.

فكأنه يقول: " يكفي أننا سمحنا (او على الأصح بعنا) إقامة المونديال الحالي الى دولة عربية، وهذا كثير عليهم، ولن نسمح لهم بكأس العالم، حتى ولو ان الفريق المغربي يستحقه.

هم مستاؤون من الجمهور المغربي الذي هتف لفريق بلاده هتافاً عالياً لفلسطين والقضية الفلسطينية، منددًا بإسرائيل وبالذين جابوا إسرائيل.

هذا الإعلان الوقح والمسبق بالنية المبيَّتة لمنع كأس العالم عن فريق عربي، يقع بعض اللوم فيه على قطر، الدولة المضيفة، لأنها تلهث وراء شراء النفوذ في أوساط عنصرية. 

 

جلد الدب

23 / 11 / 2022

تتنافس القوى السياسية اللبنانية في هذه الايام على وضع مشاريع قوانين تتعلق بإنشاء "صندوق سيادي" يُفترض أن تودع وتستثمر فيه عائدات الثروة البحرية من نفط وغاز لفائدة الأجيال المقبلة كما يزعمون.

وها هم كعادتهم يسلخون جلد الدب قبل اصطياده كما يقول المثل الشعبي. لكن هذا الحماس للصندوق السيادي لا ينبىء بأن المقصود منه "مصلحة الأجيال المقبلة". فالذين دمروا مصالح الأجيال الراهنة، وطيروا مدخراتهم، وهربوا الأموال الى الخارج في "صناديق شخصية" لمصلحة أجيالهم هم، لا يُنتظر منهم ان يكونوا حريصين على أجيال بقية اللبنانيين.

وقد شاهد اللبنانيون بعد التسوية التي أنهت الحرب الأهلية، كيف انشئت الصناديق لمكافأة امراء الحرب الحاكمين حتى اليوم. ما زالوا يتذكرون " صندوق الجنوب" و " صندوق المهجرين"، و "صندوق هيئة الإغاثة"، ولمصلحة من كانت تعمل تلك الصناديق، وكيف كانت تُملأ كلما فرغت.

ولذلك فإن شهوة أمراء الحرب الحاكمين حتى اليوم الى الصناديق تصل الى حد الشبق، وهي ما زالت شهوة مفتوحة لا تحدُّها حدود.

وقد يكون من الأجدى والأنظف للأجيال اللبنانية الجديدة أن تناضل من أجل إبقاء الثروة البحرية المفترض أن تكون عائداتها لهم محفوظة تحت الماء الى ان يقضي الله امراً كان مفعولًا. وهم بذلك يقدمون خدمة جليلة للبيئة البحرية والطبيعية التي ستتلوث تلوثًا خطيرًا بفعل عمليات التنقيب والإنتاج والنقل للمواد المستخرجة من الأعماق.

فاللبنانيون ليسوا بحاجة أن يكونوا دولة نفطية. فقد عاشوا في بحبوحة نفطية عندما كانوا "دولة نفطية بدون نفط"، وهم قادرون اليوم على تدبر أمورهم بمعزل عن مصالح حكامهم، المرتبطة بمصالح شركات ودول أجنبية.

والأجيال اللبنانية الجديدة يجب ان تخاف وترتعد كلما احتدم نقاش أمراء الحرب الحاكمين حول حرصهم على "الصندوق السيادي".

فالذين لم يحرصوا قيد أنملة على ودائع اللبنانيين ومدخراتهم المتبخرة في المصارف، ولم يقروا أي قانون يحفظ شيئًا من تلك الودائع والمدَّخرات، وخصوصًا قانون ضبط التحويلات المالية الى الخارج (قانون الكابيتال كونترول) المفترض اصداره قبل أكثر من ثلاث سنوات، لا يُنتظر منهم أن يكونوا حريصين على أموال الأجيال الجديدة.

لذلك فإنه ليس من مصلحة الأجيال اللبنانية الجديدة، هذا إذا بقيت في لبنان، استخراج اي نفط أو غاز في الظروف الراهنة.

استخرجوه تخسروه، وأبقوه دفينًا تكسبوه.

 

الاستقلال اليتيم

22 / 11 / 2022

لا يستطيع اللبنانيون بعد اليوم الادعاء بأنهم دولة مستقلة، لأن لبنان لم يكن يومًا دولة مستقلة.

كل مفصل فيه يتحرك بإرادة خارجية، وهذا يجعله على الدوام ساحة صراع للإرادات الخارجية.

حتى عندما حصل مشايخ جبل لبنان على صك بالاستقلال الذاتي من الحاكم المغولي في الشام كتبوغه منتاش، قائد جيش هولاكو خان في سوريا، أواسط القرن الثالث عشر، بعد إطاحة الدولة الايوبية، وهروب الناصر يوسف الأيوبي حاكم سوريا السابق الذي كان مشايخ جبل لبنان تحت إمرته، كان ذلك مشروطًا بحراسة الثغور البحرية.

لا شيء بالمجان. إذا أردت ان تأخذ شيئًا فيجب عليك أن تعطي مقابله.

والملفت أن حكام جبل لبنان كانوا دائمًا يعطون للدول الخارجية من استقلالهم لقاء الدعم العسكري أو المالي.

فقد كانت الدول المتعاقبة في الداخل السوري تريد من اللبنانيين شيئًا واحدًا هو ما كانوا يسمونه "حراسة الثغور". وكان الاسم الرسمي لزعماء لبنان "حرَّاس الثغور".

لكنهم في كثير من الأحيان كانوا يفتحون الثغور لقاء دعم من الخارج، كما شاهدنا في الحرب السورية الأخيرة عندما بدأت البواخر المحملة بالسلاح تفرغ حمولاتها في الموانئ اللبنانية لتهريبها عبر الثغور الى الداخل السوري لقاء أموال طائلة.

ولذلك عندما حانت ولادة استقلال لبنان الأخير إبان الحرب العالمية الثانية على يد الإنكليز في الدرجة الأولى، اضطر الزعماء الاستقلاليون الموالون لبريطانيا ان يقبلوا شرط حماية الثغور، كما في قديم الأزمنة، بأن ضمنوا وثيقة الاستقلال الوطني نصًا واضحًا بهذا المعنى، من حيث الالتزام بان لا يكون لبنان ممرًا أو مقرًا للتآمر على سوريا، وهو شرطٌ خُرق من بداية الطريق،

ولذلك كان الاستقلال اللبناني فكرة يتيمة، وسوف يبقى كذلك قياسًا على السوابق التاريخية، وعلى الممارسات اليومية حيث سفراء وقناصل الدول الأجنبية يتحركون على الرقعة اللبنانية وكأنهم هم أهل البيت. ومنهم من يقيم إقامة دائمة أو شبه دائمة في بعض الوزارات والدوائر الحساسة في الدولة. وهذا على قلب بعض اللبنانيين مثل السكر، وليس مخالفة وقحة للأصول والأعراف الديبلوماسية.

وكل استقلال وأنتم بخير!

 

الرئاسة العسيرة

21 / 11 / 2022

تتزايد صعوبة انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان استحقاقًا بعد استحقاق، مما يعطي حكم الوصاية السابق ميزة مضاعفة، لأنه كان يتمم هذا الاستحقاق، ويمدد للرؤساء المنتخبين ضمن المهل الدستورية دون اي تأخير، وعن طريق الطبقة السياسية ذاتها التي تقف في حالة عجز متفاقم دورة بعد دورة في غياب الوصاية الخارجية.

حتى ليمكن القول بأن الطبقة السياسية ذاتها مصابة بالعقم والشلل ولا تستطيع ان تفعل من ذاتها شيئًا. لا في الاستحقاقات الدستورية ولا في التشريعات الجدية المطلوبة.

ولذلك فإنه من العبث انتظار اي نتيجة ايجابية سريعة من جسم سياسي مدمن على الإذعان لأوامر خارجية، متى تم توافق الدول المعنيَّة عليها.

ومن الطبيعي، في هذه الحالة، ان يكون التوافق الخارجي بين الوصايات المتنافسة أسهل من توافق القوى الداخلية التابعة.

فالدعوة الى التوافق الداخلي كوسيلة لتسريع اي استحقاق دستوري، هي في هذا الإطار دعوة عبثية، او مجرد تقطيع للوقت.

وهذه الدعوة الى التوافق الداخلي تصدر عادة عن غلاة العاملين على تعطيل أدوات التوافق وتسميم مناخاتها.

فإذا نظرنا مثلًا الى الاحتفال بمرور ثلث قرن على اتفاق الطائف برعاية السفير السعودي على عتبة الاستحقاق الرئاسي الذي يمثل اتفاق الطائف أبرز تعقيداته، من حيث انتزاعه للصلاحيات الدستورية التاريخية لرئيس الجمهورية اللبنانية، نرى كيفية تشويه الصورة الأصلية للأمور الأساسية. فمن يأخذ على محمل الجد احتفالاً باتفاق الطائف استبعد منه آل الحريري جملة وتفصيلًا بعدما ارتبط الطائف باسمهم لعقود. والأغرب من ذلك قبول الجسم السياسي اللبناني بمثل هذه العقوبة ضد طرف قائد منه لسنوات، وكان كلُّ فريق من الآخرين يطلب ودَّه وقربه ووصاله!

بلد العجائب والغرائب الذي لا يهدأ جسمه السياسي في البحث عن وصاية محل وصاية، وتبعية محل تبعية.

هكذا كان وهكذا سيبقى!

 

رستم باشا

18 / 11 / 2022

تكثر في هذه الأيام الدعوات الى عقد مؤتمر دولي بشأن لبنان، بعد الفشل الذريع للسياسيين اللبنانيين في انتخاب رئيس مستقل للجمهورية. وهذا يعني، بأي كلام صيغ، البحث عن وصاية خارجية تحكم لبنان تحت إشراف دولي.

على أن هذه الحالة اللبنانية ليست جديدة، لا في التاريخ القديم من ايام الحكم المصري الفرعوني، الى الحكم الآشوري، فالبابلي، فالفارسي، فاليوناني، فالروماني، ثم البيزنطي وبعده العربي، ثم التركي، ولا في التاريخ الحديث منذ حكم المتصرفية في أعقاب الحرب الأهلية الكبرى بين الدروز والموارنة في جبل لبنان (1860 - 1864 ).

على ان حكم المتصرفية الذي استمر حتى الحرب العالمية الأولى عام 1914، هو الأكثر التصاقًا بفكرة المؤتمر الدولي المقترحة الآن، لأن السلطان عبد المجيد الأول في حينه قبل بتسمية واحد من رعاياه العثمانيين غير اللبنانيين متصرفًا مستقلًا على جبل لبنان بموافقة الدول الكبرى الست في وقتها (بريطانيا، فرنسا، روسيا، بروسيا، النمسا، ايطاليا).

وكان منصب متصرف جبل لبنان منصبًا مهمًا للغاية بسبب استقلاليته النسبية عن السلطنة العثمانية. ومن أبرز المؤشرات التي تذكر حول هذا الموضوع أنه عندما تم تعيين رستم باشا، وهو ديبلوماسي كاثوليكي من كرواتيا، متصرفا على جبل لبنان يوم كان سفيرًا للسلطنة العثمانية لدى البلاط القيصري الروسي، امتعض رستم باشا من هذا التعيين واعتبره خفضًا لمقامه. لكن صديقه في ذلك الوقت السياسي والديبلوماسي الروسي الرفيع والمفكر الحر الأمير غورتشاكوف، وزير الخارجية ورئيس الحكومة الروسية في حينه، كان مدركًا لأهمية لبنان في السياسة الدولية، فأقنع صديقه رستم باشا بان هذا التعيين هو ترقية الى منزلة رفيعة، لأنه بذلك سيكون الرجل الثالث في السلطنة بعد السلطان، وخديوي مصر، مستقل القرار بدعم من الدول الكبرى.

وقد دامت ولاية رستم باشا في متصرفية جبل لبنان عشر سنوات (1873 - 1883)، عاد بعدها الى السلك الديبلوماسي سفيرًا للسلطنة في لندن حيث فارق الحياة، ورثاه رئيس الحكومة البريطانية المحافظ اللورد سالزبوري بقوله: "بموت رستم باشا ماتت الديبلوماسية العثمانية"، وهو تصريح كاد يحدث ازمة ديبلوماسية مع السلطنة العثمانية.

وقد اشتهر رستم باشا بعدله ونزاهته، وهذا قاده الى التصادم مع رجال الاكليروس الماروني في جبل لبنان حيث أمر بنفي المطران بطرس البستاني الى القدس بموافقة القنصل الفرنسي.

اما خليفته في متصرفية جبل لبنان الكاثوليكي الألباني واصه باشا، فقد كان على النقيض منه، حيث اشتهر بفساده وحبه لكسب المال بطرق غير مشروعة. وكانت لواصه باشا زمرة لابتزاز الأموال من التجار وأصحاب المعاملات تدعى "زمرة كوبليان"، فقام الشاعر تامر الملاط الموظف في المتصرفية بتسريب أخبار هذه الزمرة التابعة للمتصرف الى الصحافة المحلية في بيروت، وهي خارج سلطة متصرفية جبل لبنان، فعزله واصه باشا من وظيفته.

ولما توفي واصه باشا يوم 29 حزيران من عام 1892، أقيم له ضريح رخامي مهيب في ضاحية الحازمية (تحت "دار الصياد" القديمة)، وقد رثاه الشاعر تامر الملاط بقوله:

قالوا قضى واصه وواروه الثرى

فأجبتهم وأنا الخبير بذاته

رنوا الفلوس على بلاط ضريحه

وأنا الكفيل لكم برد حياته

فهل يأتينا المؤتمر الدولي المطلوب بمتصرف مثل رستم باشا، ام بواحد مثل خليفته واصه المقيم إقامة دهرية في الحازمية؟

إنها حكاية ابريق الزيت، ومختصرها "رنوا الفلوس"، او "وزعوا الشنط" بلغة هذه الأيام!

 

اليوم الأخير

30 / 10 / 2022

من حسن حظ الرئيس ميشال عون ان يومه الأخير في قصر بعبدا كان أفضل وأريح من يومه الأول. صحيح أن التسويات مع المنظومة الحاكمة انتقصت من صورته المطبوعة تاريخيًا في أذهان الناس، كما انتقصت منها أحداث مُزلزلة تهدُّ الجبال، كما يقال في الدارج، ليس أقلها تفجير مرفأ بيروت، لكن ميشال عون مع ذلك حافظ على توازنه، وأكمل عهده الى نهاية لا بأس بها، من غير حاجة الى الهتاف بحياة دولة أجنبية.

فالموقف الذي اتخذه من اعتقال رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في المملكة السعودية، أكسب لبنان احترامًا عالميًا ولو أنه أضر بالمصالح اللبنانية المباشرة.

هذا الموقف الشجاع في قضية اعتقال سعد الحريري في المملكة السعودية، لا يستطيع ان يتخذه رئيس يهتف بحياة المملكة صبح مساء، وان كان الحريري، وما زال، أقرب الى الرئيس الهتَّاف منه الى الرئيس الهداف، بمعنى التوزين السياسي.

ومع الأسف ان سعد الحريري لم يتعامل تعاملًا لائقًا مع ميشال عون، الذي وضعه في مرتبة رياض الصلح عندما دعاه الى تجديد الصيغة الاستقلالية التي رست على الثنائي بشارة الخوري ورياض الصلح في بداية الاستقلال قبل نحو ثمانية عقود.

لكن ما العمل والحياة السياسية اللبنانية في جانب كبير منها قائمة على النكد والنكايات، بحيث يمكن لأي خصم أن يضر بنفسه إذا كان ذلك ينزل الضرر بخصمه. والأمثلة كثيرة على المسرح السياسي، والمسرح الاقتصادي والتجاري، وعلى المسرح الشعبي أيضًا.

ولذلك فإن اي تقويم لعهد ميشال عون في البيئة السياسية الراهنة، المشحونة بالأحقاد والضغائن، والمترافقة مع انحلال عام في البلاد على جميع المستويات، لن يكون تقويمًا سليمًا او منصفًا. ذلك ان عدد المتضررين خلال عهده، وإن كانوا غير متضررين منه، كبير الى درجة أن فرحة اليوم الاخير الحامل للبشرى النفطية المقرونة، ربما، مع سلام مكفول، لم تستطع ان تُبهج اللبنانيين الملوَّعين بالوعود الكاذبة، وبالصناديق الفارغة، من صندوق الجنوب، الى صندوق المهجرين، وانتهاءً بصندوق هيئة الإغاثة.

ومن سوء حظ الرئيس ميشال عون أن عهده حلت فيه على لبنان كوارث كبرى، منها ما هو مفتعل ومقصود، مثل تفجير مرفأ بيروت، ومنها ما هو تراكمي بفعل سياسات اقتصادية ومالية عشوائية، مثل انهيار العملة الوطنية والقطاع المصرفي، ومنها ما هو سياسي وموجه من الخارج مثل "ثورة" 17 تشرين الأول عام 2019، التي قصمت ظهر البعير، كما يقال.

ولذلك سوف يبقى عهد ميشال عون مدار جدل تقويمي الى زمن طويل، بين ناظر اليه من إنجاز اليوم الأخير رجوعًا الى يومه الأول، وبين عداد الكوارث المتتالية التي بدأت من اليوم الأول، وليس بالضرورة أن يكون مسؤولًا عنها، لأن كثيرين من خصومه ألبسوه إياها لخدمة أغراضهم وإشباع شهوات النكد والانتقام.

على انه من حسن حظه ان نهاية عهده كانت نهاية سعيدة، لأنها انتزعت من فم كارثة كانت منتظرة!

 

الثنائي الشيعي

28 / 10 / 2022

في حديثه الأخير قبل مغادرته قصر بعبدا، وصف الرئيس ميشال عون الثنائي الشيعي (منظمة أمل وحزب الله) بأنهما "توأمان سياميان"، أي أنهما غير قابلين للانفصال إلا بعملية جراحية. والمقصود بذلك سفك الدماء، وهو ما لن يحدث، ولا أحد يراهن عليه أصلًا.

لكن مما لا شك فيه أن المستفيد الأكبر من هذه الحالة هو الرئيس نبيه بري وحركته الميليشياوية الأصل. فهو في وضع التوأمة غير القابلة للانفصال هذه، ينطبق عليه القول: "عرف الحبيب مكانه فتدللا". نبيه بري لقاء هذه التوأمة أكل وما زال يأكل من رصيد حزب الله على المستوى اللبناني. وكان من الممكن ان يأكل كامل هذا الرصيد لولا الحصانة المعنوية العالية لقيادة حزب الله لدى معظم اللبنانيين، شيعة وغير شيعة. ولذلك كان من الصعب ان يؤكل حزب الله، كما أكل الفساد الثورة الفلسطينية بكاملها قيادات وتنظيمات.

ذلك ان حركة أمل، بعد تغييب الامام موسى الصدر صيف عام 1978، تحولت في الساحة اللبنانية الى واحدة من الميليشيات المتصارعة في لبنان، الى جانب الميليشيا الجنبلاطية، والميليشيا القواتية، وأخيراً الى الميليشيا المالية الحريرية التي كانت أم كل تلك الميليشيات ومرضعتها بأموال سعودية لا تأكلها النيران.

ومن الواضح أنه بعد تغييب الإمام الصدر، لم تعد حركة أمل هي ذاتها من الناحية الفكرية والأيديولوجية ذات المنابت الدينية. ويمكن القول إن هذا الشغور الفكري في حركة أمل في الغياب القسري للقائد المؤسس، كان لا بد ان تملأه حركة جديدة ذات مؤهلات فكرية وعقائدية فقدتها حركة أمل بفقد مؤسسها. صحيح أن حزب الله كان حركة جديدة بمنطلقات فكرية صلبة، لكنه في الوقت ذاته سد جانبًا من الفراغ الذي تركه غياب الإمام الصدر.

وعلى الرغم من التأكيدات بأن الثنائية الشيعية الراهنة غير قابلة للانفصال (الا بعملية جراحية غير مرغوبة)، إلا أنها في الوقت ذاته تشكل عبئاً ثقيلًا على حزب الله، سواء في البيئة الشيعية، أو في الحياة السياسية اللبنانية.

وربما كان اتفاق رسم الحدود البحرية الجنوبية عبر الأميركيين، فسحة لازمة لحزب الله، من حيث أزال الاتفاق الضغوط الملحة لمواجهة خيارات صعبة من الأفضل ان تغيب عن الصورة، ما يفسح في المجال لمعالجة الأزمات الداخلية بدم بارد وأعصاب هادئة.

يستطيع الثنائي الشيعي، والحالة هذه، أن يتحكم بالوضع الداخلي اللبناني الى حد كبير، لكن على حساب القوة المعنوية للمقاومة لدى بقية اللبنانيين.

فماذا ينفع حزب الله ان يربح الشراكة الميليشياوية في التحكم بلبنان، ويخسر الروح الثورية للمقاومة؟

 

بين بيروت ودمشق

27 / 10 / 2022

من مطلع الستينات الى منتصف السبعينات، وهي الفترة التي مارستُ فيها العمل الصحافي داخل لبنان، سواء في صحف خاصة تجارية مثل "دار الصياد"، او جرائد حزبية مثل "الاحرار"، وجريدة "بيروت"، وآخرها جريدة "الكفاح" لصاحبها آنذاك نقيب الصحافة الراحل رياض طه، والموالية في حينه لنظام البعث العراقي، كنت دائما اتجنب الكتابة في موضوع العلاقات السورية - اللبنانية لمعرفتي بحساسيته في البلدين كليهما.

وفي ذلك الوقت كنت على زمالة وثيقة مع النائب الراحل جان عبيد الذي كان من عادته أنه يوسع أي هامش يعطى له، لأنه كانت له أهداف سياسية كنت أنا أتجنبها، وأحياناً أتحفظ عليها، وأحاول أحيانًا حمل جان عبيد على التخفيف من انغماسه فيها.

لكن مرة، وكنت رئيسًا لتحرير جريدة "بيروت" الموالية للعراق آنذاك، (لا أذكر التاريخ بالضبط، وهو على الأرجح بين 1974 و1975)، وكان أقطاب "الجبهة اللبنانية" في ذلك الوقت على أتم الوفاق مع نظام حافظ الأسد، كتبت مقالًا افتتاحيًا لجريدة "بيروت" عنوانه "كتائب سوريا". وفي اليوم التالي اتصل بي هاتفيًا على الجريدة الضابط السوري البعثي اللاجئ في الخارج وقتها، العقيد أحمد رستم، ظنًا منه ان ذلك المقال هو فاتحة توجه جديد ضد نظام الأسد، وقال لي: "هذا هو الكلام الذي كنا ننتظر ان نسمعه من زمان". (لجأ أحمد رستم تاليًا الى بغداد، لكنه لم يطق حياة اللجوء ففضل أن يعود الى دمشق سجينًا على البقاء في بغداد طليقًا).

وبعد ذلك المقال لم أكتب أي كلمة عن سوريا من بيروت. ثمَّ بعد فترة قصيرة تقدمت باستقالة صامتة من جريدة "بيروت" لم يعلم بها كثيرون، وبعد استقالتي بأيام جرى هجوم سوري مسلح على جريدتي "بيروت" و "المحرر" المتجاورتين في منطقة "الشياح"، والمواليتين لبغداد، ذهب ضحيتهما الزميلان المصري إبراهيم عامر الذي التحق بجريدة "بيروت" فور خروجي منها، أي قبل أيام معدودة فقط من مغادرتي لها، والفلسطيني نايف شبلاق من أركان جريدة "المحرر"، فقضيا احتراقًا واختناقًا.

وفي اليوم التالي للهجوم وانتشار الخبر في الصحف، فوجئت باتصال هاتفي بمنزلي من اللواء سامي الخطيب يهنئني فيه على السلامة ظنًا منه أنني ما زلت أعمل في جريدة "بيروت".

وعندما انتقلت إلى لندن في منتصف السبعينات، حافظت على النهج ذاته. ففي مجلة "الدستور" التي كتبت فيها لسنتين فقط، لم أتطرق الى الموضوع السوري إلا في مقال عن زحلة وزعامة جوزيف سكاف عليها وكيف استطاع سكاف من خلال علاقته مع وزير الدفاع السعودي آنذاك الأمير سلطان بن عبد العزيز من إيصال المملكة السعودية الى الحدود الغربية لسوريا.

وكذلك الأمر عندما انتقلت الى مجلة "الحوادث" في صيف 1979 للعمل مع صاحبها آنذاك المرحوم سليم اللوزي الذي كان يشن حملات صحافية قاسية ضد النظام السوري. فالمقال الوحيد الذي كتبته عن سوريا خلال تلك الفترة هو في رثاء سلطان باشا الأطرش بعنوان "شيخ الجبلين" لا بغية إثارة موضوع سياسي حساس، بل مجاملة لنجله منصور الأطرش الذي كنت على علاقة صداقة وود معه ومع آل شويري أهل زوجته.

وعندما عدت الى بيروت في خريف عام 1982 رئيسًا لتحرير مجلة "الصياد"، بعد أقل من شهر على مقتل الشيخ بشير الجميل، مرَّ بي في دار الصياد زائرًا الزميل الراحل فريد الخطيب، وكانت القوات الاسرائيلية ما زالت منتشرة في أنحاء من بيروت وجبل لبنان، وأبلغني انه ذاهب الى دمشق ليقابل وزير الإعلام السوري يومها المرحوم الأستاذ أحمد اسكندر. فسألته ما إذا كان يستطيع أن يفتح معه موضوع مقتل سليم اللوزي، فقال إنه لا يستطيع ذلك. فقلت له أن ينقل ذلك إليه نيابة عني، فقال إنه سوف يحاول.

وعندما عاد الزميل الخطيب من دمشق عرَّج عليَّ في دار الصياد، وقال لي إن الوزير أحمد اسكندر يسلم عليك ويقول لك إن أبواب دمشق مفتوحة في أي وقت تشاء، وأما بخصوص سؤالي عن مقتل اللوزي، فقال له أن يبلغني "ان سليم اللوزي ذهب ضحية الصراع بين مهدي التاجر وكمال أدهم". أوصاه أن يبلغني ذلك وقال له: هو يفهم ما أقصد.

وعندما استقلت من مجلة "الصياد في لندن أواخر الثمانينات، بعد فترة وجيزة من استقالة رئيس تحريرها الاستاذ سمير عطا الله، انقطعت عن الكتابة لبضع سنوات متابعًا بعض الأعمال الخاصة. لكن في أواخر عام 1992 طلب مني الزميل الراحل غسان زكريا أن أكتب لمجلته "سوراقيا" موضوع غلاف عن سوريا أراد به ان نزور دمشق معًا للقيام بجولة واسعة على المسؤولين السوريين قبيل أعياد آخر السنة، فكتبت موضوعًا بعنوان "المرجع والمرجعية"، أشير إليه يوم صدوره في نشرات الأخبار التلفزيونية السورية.

وبعد أيام توجهنا معًا إلى دمشق ضيفين على وزارة الإعلام، حيث عقدنا جلسات وأحاديث طويلة مع كبار المسؤولين شملت وزير الإعلام الأستاذ محمد سلمان، ووزير الاقتصاد الأستاذ محمد العمادي، ووزير الخارجية فاروق الشرع، ومن هناك انتقلنا الى بيروت. لكن اثناء وجودي في فندق "شيراتون" دمشق التقيت بمحض الصدفة السيدة الراحلة ملك البيطار أرملة رئيس الحكومة السورية الأسبق الأستاذ صلاح الدين البيطار برفقة شقيقها وعائلته وأبلغتني أن الحكومة السورية أعادت اليها ما كان مصادراً من أملاك ومرتبات زوجها، وأنها سعيدة برؤية دمشق والدمشقيين في بلدهم. كان ذلك اللقاء مع السيدة ملك عابرًا وبالصدفة، لكن عندما عدت الى لندن، قمت مع زوجتي برحلة الى باريس حيث توجَّهنا برفقة الصديق التونسي الراحل محمد الشابي الى منزل السيدة ملك في العاصمة الفرنسية في زيارة مطوَّلة.

وفي دمشق أيضًا قصدت منزل الصديق توفيق جدعان لتعزية السيدة أم جهاد بوفاة نجلها الأكبر جهاد عشية رأس السنة قبل سنة تقريبًا وقضيت وقتًا عندهم. وكان ابو جهاد محكومًا بالإعدام في سوريا لكونه قائد الشرطة العسكرية في عهد الانفصال، لكن الرئيس حافظ الأسد حفظ الحكم المذكور ليسمح له بالعودة الى سوريا وحضور جنازة ابنه. والسيد توفيق جدعان في الاصل على ما أظن كان ضابطًا مظليًا، وهو والد السيدة منال زوجة العقيد ماهر الأسد. وعندما تحدثت معه هاتفيًا من لندن الى دمشق لتعزيته أبلغني انه لن يبقى في سوريا، ثم عاد الى قبرص حيث مرض وفارق الحياة بعد فترة.

لكن إقبالي على الكتابة الجدية عن سوريا والعلاقات السورية - اللبنانية، اخذ منحاه المتواصل عندما اصدرت مطبوعتي الخاصة في لندن، جريدة "الميزان" بعد سنة تقريبًا من زيارتي الأولى لدمشق منذ ثلاثين عامًا. فمنذ العدد الأول في شهر تشرين الأول من عام 1993، طرحنا موضوع "المشرقية الاقتصادية" وإرساء العلاقات السورية - اللبنانية على أسس جديدة، متكافئة ومتوازنة لأن البلدين كليهما لن تستقيم الامور فيهما من غير تفاهم استراتيجي بعيد الأمد. وفي أكثر من مناسبة قدمنا أفكارًا نقدية حول التعاطي السوري في لبنان، منها مقال بعنوان "كيف هزم السوريون أنفسهم في لبنان"، وتوخينا من ذلك تخطي الروحية السلبية في الفريقين، خصوصًا في الفريق اللبناني الذي ينظر الى السوريين نظرة دونية، وهو ما شكا لي منه وزير الإعلام السوري محمد سلمان في اللقاء الأول الذي جرى في مكتبه. وقد قلت له في حينه ان بعض اللبنانيين ينظر الى سوريا على أنها دولة متخلفة، ولا يهضمون كيف صار لها أن تحكمهم وهم يعتبرون أنفسهم أرقى منها وأكثر تقدمًا. فقال: هذا ما قصدته بالضبط.

ولهذا فإن الموضوع السوري - اللبناني ليس موضوعًا سهلًا او خفيفًا يعالج بالنكايات والمواقف المسبقة.

وهو موضوع قديم عالجه الاستقلاليون اللبنانيون الاوائل بقبول شرط على الدولة اللبنانية المستقلة بآن لا يكون لبنان مقراً او ممرًا لزعزعة الأمن السوري. وقد طرح على مسمعي من الفريقين خلال العقود الأربعة الأخيرة من زوايا متباينة. ففي ثمانينات القرن الماضي أوفدت القوات اللبنانية المهندس ريشار جريصاتي إلى لندن في مهمة لا أعرف غايتها، لكن أحد أصدقائي دعاني إلى لقاء غير ذي صفة مع جريصاتي وآخرين. ولم يكن هناك موضوع محدد للقاء، بل أحاديث عادية حول الوضع اللبناني. ورأيت أن أطرح على الضيف سؤالًا حول سوريا قائلًا: "لماذا تعادون سوريا وهي يمكن أن تكون أقرب حليف لكم؟". فرد قائلًا: "هذا الكلام يصح، ونصبح أقرب الحلفاء، إذا تقسمت سوريا وقامت فيها دولة علوية واضحة المعالم".

وبعد أكثر من عشر سنوات على هذا الحديث قادتني الظروف عام 1996، برفقة ابن العم ايلي فرزلي الى عنجر حيث التقينا العقيد السوري عدنان بلول، نائب غازي كنعان في ذلك الوقت، فطرح عليَّ سؤالًا محددًا هو: "ما العمل لكي نكسب المسيحيين الى صفنا؟". فأجبته على الفور:" إنكم لن تستطيعوا مهما فعلتم".

فقال: " وكيف ذلك"؟

فسقت له موقف القوات اللبنانية من الموضوع، كما ورد أعلاه وعبر عنه ريشار جريصاتي، وسأل عن تعليل ذلك، فقلت له كما سمعت من مندوبهم الى لندن: "هم يقولون إنكم تملكون خطوط دفاع لا يملكونها، أنتم تستطيعون إذا حُشرتم أن ترفعوا شعارات إسلامية وهم لا يستطيعون. أنتم تستطيعون رفع شعارات اشتراكية وهم لا يستطيعون. أنتم لكم جيران يشكلون امتداداً لكم في الداخل وهم ليس لهم في حشرتهم كما حدث بالفعل' غير إسرائيل."

فقال العقيد بلول جوابًا عن ذلك: "أما خطر لهم أننا نستطيع استخدام تلك الخطوط للدفاع عنهم. ثم اي منطق هو هذا الذي يقول بأن تتخلى عن الكل إلى الجزء لكي تستقيم الأمور. هذا ليس كلام أناس أصحاء.

ثم شاءت المصادفات أن يُطرح الموضوع للنقاش مع المحامي الراحل جورج جبر الذي كان موقفه أكثر عقلانية من بعض الفئات المسيحية الأخرى (أقرب الى موقف الجنرال ميشال عون منه إلى القوات اللبنانية)، وكان شرطه الوحيد التعامل الندي بين البلدين على جميع المستويات.

إن الموضوع السوري - اللبناني ما زال ملحًا، لأن الوضع اللبناني لن يستقيم ويترسخ، ما لم تستقم وتترسخ علاقته مع سوريا، وخير البر عاجله.

 

الحزام والطريق

25 / 10 / 2022

لست أظن، حسب ظاهر الأمر، ان كثيرين من اللبنانيين والعرب اهتموا اهتمامًا جديًا بمجريات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني في الأسبوع الماضي.  ذلك ان نتائج ذلك المؤتمر سوف تكون نقطة تحوُّل في العالم اجمع، كما كان المؤتمر الأول بزعامة ماو تسي تونغ في مثل هذا الوقت من عام 1921. المؤتمر الأول قبل مئة عام تماما اقتصر على 16 مندوبًا بينهم ماو، بينما المؤتمر العشرون أخيرًا حضره أكثر من ٢٦٠٠ مندوب بقيادة الرئيس الحالي تشي جين بينغ.

المؤتمر الأول خلق الصين من جديد بعدما كانت ماخوراً ومحششة للقوى الاستعمارية الغربية (وكان للطبيب اللبناني الدكتور جورج حاتم من حمانا دور كبير الى جانب ماو تسي تونغ في انتشال الصين من تلك البؤرة القاتلة). اما المؤتمر العشرون فإنه سوف يغير العالم.

في أواسط ستينات القرن العشرين كان هناك اهتمام كبير في لبنان والعالم العربي والعالم أجمع بمجريات الأمور في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في موسكو، حيث شن الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف هجوما كاسحًا ضد جوزيف ستالين والستالينية، وأمر بنقل رفاته من جانب جثمان لينين المسجى في مزار خاص في الساحة الحمراء الى قبر عادي في أطراف الكرملين (في الجولة التي قمت بها في الاتحاد السوفياتي عام 1971، قمت بزيارة الى قبر ستالين المتواضع وفوقه تمثال نصفي صغير له، وفوجئت حقاً عندما شاهدت على قبره باقات جديدة من الورد تدل على ان له منزلة عزيزة عند مواطنين يزورونه باستمرار). ذلك الاهتمام العربي والعالمي بالمؤتمر العشرين السوفياتي مرده الى آلة الإعلام الأميركية والأوروبية التي تسلط الضوء وتضرب على الطبل المدوي الصوت بما يناسب الهيمنة الغربية على العالم. وكذلك التعتيم على المؤتمر العشرين الصيني، وطمسه، وتجاهل مناقشاته وقراراته، دلالة على الغيظ من تحول الصين الى قوة أولى في العالم نظيفة من الأدران الاستعمارية، بل هي اكتوت بها لقرون، بحيث اصبحت حقل دلالة على حقارة الاستعمار القديم حول العالم.

ومن المصادفات المهنية أنني تعاطيت مع الصينيين من بداية ستينات القرن الماضي عندما كان مندوبهم الإعلامي (المستر شو يومئذ) يأتي من سفارة بلاده في دمشق الى بيروت للقاء بعض الصحافيين اللبنانيين وتبادل الآراء معهم، لأن لبنان حتى ذلك الوقت كان ممنوعًا عليه من الأميركيين أن يعترف بالصين الشعبية، حيث كان الأميركيون يصرون على أن جزيرة تايوان (كانت تدعى "فرموزا" في ذلك الوقت) هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الصيني!

حتى الدكتور جورج حاتم عندما أراد ان يتواصل مع أقاربه في حمانا جاء الى سفارة الصين الشعبية في دمشق حيث التقى أقاربه فيها. وكنت في أحاديثي مع المستر شو ألفت انتباهه الى تجنب الهجوم ضد الاتحاد السوفياتي في العالم العربي بسبب تعقيدات الصراع مع إسرائيل، لان الصين الشعبية في ذلك الوقت كانت على خلاف وتنافس مع موسكو، وكاد الأمر يتطور الى اشتباك عسكري. وعندما غاب المستر شو عدة أشهر في الصين لإعادة التأهيل خلال الثورة الثقافية التي قادها ماو تسي تونغ لنفض الترهل وتجديد خلايا الحزب والأمة، عاد الى عمله السابق لكن في مكتب تمثيلي في بيروت هذه المرة قبل افتتاح سفارة رسمية لدولة الصين الشعبية في العاصمة اللبنانية، وزارني كالعادة فسألته عن أحوال الصين خلال الثورة الثقافية، وما اذا كان سيحدث صدام مسلح بين الصين والاتحاد السوفياتي، فأجابني جوابًا ملفتًا ومفاجئا في الوقت ذاته مؤداه ان القيادة الصينية تعتقد بأن مركز الصراع العالمي ما زال في أوروبا، ولذلك ليس هنآك أي خطر من نشوب حرب صينية – سوفياتية.

وفي عام 2006 قمت بزيارة واسعة الى الصين، تشبه في مداها زيارتي السابقة من بيروت الى الاتحاد السوفياتي عام 1971، من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب ومن الشرق الى الغرب الأوسط حيث مدينة "زيان" التي كانت أول منطلق وأول محطة تجارية على طريق الحرير القديم في القرون الوسطى، والتي سيكون لها شأن في خطة "الحزام والطريق" التي ستعيد ربط الصين تجاريًا واقتصاديًا بالعالم القديم من أقاصي آسيا الى اقاصي أوروبا ببنى تحتية لم يشهد العالم لها مثيلًا من قبل.

وحتى انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني في الأيام الأخيرة، كان قد تم تسجيل 150 دولة في العالم للانخراط في مشروع "مبادرة الحزام والطريق" الصينية للتجارة والتنمية التي أطلقها الرئيس الصيني، وجرى وضع اللمسات التنفيذية النهائية عليها خلال المؤتمر، ومن شأنها ان تنقل العالم كله الى مدار جديد أرفع وأرقى.

 

الأهلية للحوار

24 / 10 / 2022

تنطلق في لبنان بين حين وآخر دعوة الى الحوار لحل عقد وازمات طارئة، او لتقطيع مرحلة غامضة ضبابية الرؤية. طبعًا، حوارٌ من هذا النوع ليس جديًا ولا يوصل إلى أي نتيجة، على الأقل لأن المتحاورين لا يملكون القرار، وليس بيدهم مفتاح الحل والربط.

ذلك ان حوار القوى السياسية الفاعلة معرقل مسبقًا بعقدتين: الأولى ان كل فريق يحاول أن يأخذ بالحوار ما لم يستطع ان يأخذه بوسائل اخرى، والثانية ان كل فريق له مرجعية خارجية لا يستطيع ان يتجاوز حدود مصالحها وتقاطعاتها مع مصالح قوى خارجية اخرى سلبًا او إيجابًا.

صيغة لبنان التي أطيحت خلال العقود الخمسة الماضية، كانت هي الصيغة الأبعد نظرًا لأنها أعطت الأرجحية السياسية المسيحية وقتها مسؤولية توحيدية، بينما غياب هذه الأرجحية اليوم يجعل اي مسؤولية من اي نوع حالة خلافيَّة.

وكان افتراضاً سليماً ان ينصب على رأس الدولة شخصية مسيحية نزيهة تحكم بالعدل بين اللبنانيين، وتضع لبنان على مسافة واحدة مع كل المحاور الإقليمية والدولية. وكان افتراضاً سليماً أيضًا ان تكون ولاية الرئيس لفترة محددة غير قابلة للتمديد أو للتجديد تحت أي ظرف من الظروف..

فإذا جئت اليوم تبحث عن المنطق خلف الوضع الاستثنائي الراهن لجهة كونه من قبيل "الإضرار الذاتي"، حيث كل واحد يقدم مصلحته الآنية على مصلحة غيره، ناهيك بمصلحة البلاد مجتمعة، فإنك ستجد نفسك أمام محاولة عقيمة وغير مجدية بأي طلاء طليتها.

فقد رُميت الأرجحية المسيحية في حينه ومنذ البداية بأنها مستمدة من "الهيمنة الثقافية"، وهذا الموضوع فيه بحر واسع للنقاش حول هذا المصطلح ومقوماته، مما سمح لبعضهم أن يضعها في إطار "العنصرية"، ولبعض آخر في إطار "الطبقية".

موضوع "الهيمنة الثقافية" طرحه على الصعيد الفكري العالمي لأول مرة بعد الحرب العالمية الأولى المفكر الايطالي الماركسي أنطونيو غرامشي، عندما نجح دعاة الحرب في الترويج لحجج وأفكار طمست قضية الصراع الطبقي وحرفتها الى صراع بديل، فأدخلت الطبقة العاملة في صراع مختلف في هويته، ومخالف لمصالحها. فعندما قال عبارته الخالدة: العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يمر بمخاض عسير ليولد… الآن وقت الوحوش الكاسرة"، كان يرى ويقدر أن مرحلة الوحوش الكاسرة، التي ستفرزها الحرب بين عالمين، عرضية وانتقالية وعابرة.

اما في لبنان فإن مرحلة الوحوش الكاسرة أصبحت هي العالم الجديد المنتظر، فنهشت كل شيء ولم تُبقِ شيئاً، وما زالت ترى نفسها مؤهلة للحوار الوطني وخلق عالم جديد.

أبدلوا الأرجحية المسيحية المرفوضة بتوازن معطل، تجوز تسميته بلغة غرامشي "توازن الوحوش"، القائم على اقتسام الفرائس.

وقد عالج غرامشي في الواقع هذا النوع من التوازن الذي وصفه بأنه "توازن كارثي". وقد ثبت في لبنان انه كارثي بالفعل.

فأي حوار يدعو إليه هؤلاء، وهل لديهم الأهلية الجدية للحوار؟

سيكتشف اللبنانيون، إذا بقي لبنان، انه لا حل حقيقيًا مجديًا وناجعاً سوى العودة الى وحدة القرار برئيس كامل الصلاحيات تفرزه الأرجحية المسيحية العاقلة لمصلحة كامل الشعب اللبناني، والوجود اللبناني، والكيان اللبناني، والحريات اللبنانية، بقوانين عصرية تقدمية تحفظ حقوق جميع اللبنانيين بالتساوي المطلق غير الخاضع لأي استثناء.

والا فإن التوازن المعطل سيبقى ملعبًا للوحوش الكاسرة على قول المفكر الايطالي أنطونيو غرامشي.

 

التحنيط الدستوري

18 / 10 / 2022

لا ترى في العالم كله جسمًا سياسيًا كالجسم السياسي اللبناني ينادي بقدسية الدستور، ويحرم المس به، أو مراجعته، أو تعديله، ناهيك بتغييره مع الوقت، وهو يخرقه من غير خجل عند كل عقدة او منعطف.

ان خرق اي دستور، او قانون، او عرف، في حقيقة الامر، هو أسوأ بكثير من تغييره او تعديله، خصوصًا إذا كان التعديل او التغيير يساعد على تسهيل حياة الناس وتيسير امورهم، ورفع مستوى الجسم السياسي، وتخفيف سرعة التدهور والانحطاط بفعل الغوغائية المتمادية الناشئة من تحنيط الأوضاع السياسية على النحو الجاري الآن في لبنان.

فالدساتير وجدت من أجل البشر، ولم توجد البشر من اجل الدساتير، على القاعدة التي قرع بها السيد المسيح غلاة اليهود بقوله: "السبت من اجل الانسان وليس الانسان من اجل السبت".

فكلما عطس أحدهم بكلمة حول الموضوع تهب جوقة التحنيط لتصرخ بصوت عال: "اوعا الطائف"، فكأنه قدس الأقداس، وقد خرقوه بلا حياء قبل ان يصل من الطائف الى بيروت.

وينطبق على هذا التحنيط الدستوري للحياة السياسية قول الشاعرة الأميركية راي ارمانتراوت في مقطوعة شعرية صغيرة نشرت أخيرًا بعنوان يعطي معنى "فهلويتنا" او "تشاطرنا":

إذًا مررت قرب الحقيقة

من غير أن تمسها

فأنت بارد كجثة هامدة

فالتصرفات الفهلوية التي يشاهدها اللبنانيون اليوم على المسرح النيابي في حقيقة الموجب الدستوري لانتخاب رئيس للجمهورية، هي عملية إمعان في التحنيط بعد إعلان الموت السياسي، أو إعلان الإفلاس السياسي بعد إفلاس البلد والمصارف، فأصبح الوضع باردًا كالجثة الهامدة، بانتظار ان تأتي قوة ما من الخارج لتتسلم الجثة.

وأسوأ من ذلك ادعاء البعض أنهم "من ابناء القيامة" من غير ان يشرحوا كيف سيقومون، سوى انتظار

المعجزة من الخارج، حسب التعبير اللاتيني عن هذه الحالة وهو  

، أو تشبيه آخرين له بطائر الفنيق الاسطوري الذي يقوم ويحلق (Deus ex machina)

بعد ان يحترق ويصبح رمادًا. وها هو منذ قرن ونصف قرن يحترق بالحروب الأهلية، الساخن منها والبارد، ولم ينهض، بل تحوَّل الى مرامل وكسارات ونفايات وحرائق في الغابات وكوليرا في المياه وغرقى في مياه البحار.

فكيف يكون نهوض مع تحنيط؟

ربما بمزيدٍ من الفهلوية!

 

الهوية الحائرة

17 / 10 / 2022

اللبنانيون والسوريون، في فترة ما بين الحربين العالميتين (1914 - 1939)، يعرفون من هي الكاتبة التركية المشهورة السيدة خالدة أديب وزوجها الأول عالم الرياضيات والفلك صالح زكي بيك الذي شغل منصب السكرتير الشخصي للسلطان عبد الحميد الثاني (طلقته في عام 1910 لتتزوج ثانية من الدكتور أديفار). وقد منحها السلطان عبد الحميد "وسام البر والاحسان" لجهودها ونشاطاتها النسائية والاجتماعية، ولأعمالها الأدبية ومنها ترجمة كتاب الكاتب الأميركي جاكوب أبوت.

وقد تعرف عليها اللبنانيون والسوريون خلال الحرب العالمية الأولى أثناء حكم جمال باشا في سوريا (وحكومة "تركيا الفتاة" في اسطنبول برئاسة طلعت باشا)، عندما اوفدتها الحكومة التركية عام 1916 مفتشة على المدارس التركية في دمشق وبيروت، وعلى مدرسة القديس يوسف الخيرية في عينطورة بجبل لبنان حيث تلطخت سمعتها بالمواقف الشوفينية العنصرية إزاء الأيتام الأرمن الذين احتضنتهم مدرسة عينطورة.

وعندما وصل مصطفى كمال (اتاتورك) الى السلطة وأعلن الجمهورية وأصبح أول رئيس لها، والته خالدة أديب وزوجها الثاني ونشأت بينهما صداقة عائلية ما لبثت أن تحولت الى عداء، بسبب معارضتها للخيار غير الإسلامي الذي انتهجه اتاتورك، واختياره النهج الأوروبي. فقد كان أتاتورك في نهجه الى يسار جماعة "الإتحاد والترقي" المولودة في رحم "تركيا الفتاة"، بينما اختارت خالدة أديب ان تكون الى أقصى اليمين من كل تلك الحركات ومن أتاتورك بعدها، فتبنَّت النزعة القومية المتطرفة المعروفة بالطورانية، بل كانت أقرب الى الطورانيين المتعصبين المعروفين باسم "الذئاب الغبر" لنزوعهم الى العنف. ولذلك تم الحكم عليها بالإعدام فهربت إلى فرنسا وعاشت في باريس ولندن، وجالت في أميركا لإلقاء المحاضرات، وكذلك جالت في الهند ووضعت كتابًا عنها. لكنها لم تعد إلى تركيا إلا بعد سنتين من وفاة صديقها السابق وعدوها اللاحق اتاتورك، بعدما حصلت على عفو خاص من خليفته في رئاسة الجمهورية عصمت اينونو.

:ذلك أن خالدة أديب أصابت أتاتورك في الصميم عندما وضعته في إطار "الهوية الحائرة" بقولها المشهور:

!"كانت تركيا أول دولة في الشرق فجعلها أتاتورك آخر دولة في الغرب"

ومع أن هذه الكلمة هزت اتاتورك من حيث تقديرها لعبثية توجهه نحو أوروبا واعتناق علمانيتها، فإنها لم تقل اي شرق قصدت، وكل العالم يعرف ان الشرق المقصود هو البلاد العربية. لكن مشكلة خالدة اديب في نقدها هذا لتوجه أتاتورك غربًا هي أنها مثله من حيث احتقارها للعرب والتعالي عليهم. بل هي اشد منه عنصرية لاحتقارها جميع الأقليات غير الإسلامية في تركيا، والتي تم استئصالها في تلك الفترة، وشملت الأرمن، واليونانيين، والسريان، واليهود.

وفي هذا يمكن القول إن خالدة أديب هي النقيض التام للكاتب التركي أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل الذي دعا السلطات التركية الى جرأة الاعتراف بارتكاب مجازر الابادة ضد الأرمن. بل هو قال في مقابلة له مع المؤرخ البريطاني سايمون شيما عن كتابه "ذاكرة اسطنبول": إن المدينة فقدت تعدديتها الضامنة للحرية بطردها المسيحيين اليونانيين والأرمن واليهود". فالهوية الحائرة، حسب باموك، أوقعت المجتمع التركي في حالة من السوداوية الجماعية المعبر عنها بالحزن الذي هو الآن "روح المجتمع التركي".

وعندما جاء رجب طيب أردوغان الى السلطة على رأس حركة اسلامية اراد ان يحدد هوية منظورة لتركيا تختلف عن الهوية العلمانية التي ورثها عن الكمالية، ليكتشف انه من الصعب ان يجعل من الإسلام هوية لاصقة بتركيا من دون العرب (او الشرق بلغة خالدة اديب).

ثم أيقن بطبيعة الحال انه من غير الممكن ان "يستعرب" من غير السيطرة على سوريا، فتورط في الحرب السورية من الباب الغلط الذي ما لبث ان انسد في وجهه وعاد منه خائب الهوية.

وفي الآونة الاخيرة فتح له الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باباً جديدًا تكتمل معه هوية تركيا التركمانية، بعدما انسد أمامه الباب الأوروبي والباب العربي، وهو باب آسيا الوسطى التي تضم شعوبًا من أصول تركمانية، وذلك بإقامة تجمع إقليمي مكتمل المواصفات ثقافيًا، واقتصاديًا، وجيوسياسياً، تتصدره تركيا، ويكون في الصف الروسي دوليًا بما يشبه علاقة الاتحاد الاوروبي بالولايات المتحدة.

إنه مدخل حقيقي، ومخرج مشرف من معضلة الهوية الحائرة. لكن كيف لهذا ان يصبح حقيقة واقعة وتركيا الأردوغانية ما زالت عضوًا في حلف شمال الأطلسي الذي يقاتل روسيا اليوم في أكرانيا، بل يقاتلها منذ تأسيسه؟

يعرف أردوغان أن اميركا لا ترتاح اليه، بل هي حاولت إطاحته قبل سنوات عن طريق الداعية الإسلامي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولين، وهي محاولة شارك فيها ضباط كبار من الجيش، عاملين ومتقاعدين، وقطاعات مختلفة في الدولة. لكن اردوغان استطاع إحباط 

تلك المحاولة، وقام بتصفيات واعتقالات واسعة تشبه "تنظيمات" السلطان عبد المجيد، والتنظيمات الجمهورية على يد مصطفى كمال بعد إسقاط السلطنة والغاء الخلافة الاسلامية. بهذا يدير اردوغان وجه الشرق الذي قصدته خالدة أديب من بلاد العرب الى بلاد التركمان ويبقى في الإطار الإسلامي، ويبقى في صحنه الصحيح.

فهل يستطيع أردوغان أن يغادر الحلف الأطلسي بسهولة؟

أو هل هو يريد ذلك أصلًا؟

 

اردوغان بين بوتين وباسيل

16 / 10 / 2022

عندما اندلع الصراع في سوريا ربيع عام 2011، قيل في بعض الكواليس النفطية ان السبب الخفي للحرب السورية هو رفض الرئيس بشار الأسد مشروعًا لنقل الغاز القطري في شبكة انابيب برية عبر سوريا الى تركيا وصولًا الى اوروبا الغربية، غايته الاستغناء الأوروبي عن التزود بالغاز الروسي في شبكة انابيب "نورد ستريم ١" البرية عبر أكرانيا، وخط "نورد ستريم ٢" البحري عبر البلطيق الى المانيا.

إذا صح ذلك، فإنه من غير المعقول أن تقبل سوريا بخطوة من هذا النوع تطعن فيها حليفها الروسي الثابت في دعمها منذ عقود، ولذلك شنت عليها حرب مدمرة من كل الجهات، فاستدعى الأمر التدخل العسكري الروسي المباشر لدحر ذلك المشروع الذي وقف خلفه حلف شمال الأطلسي.

وتطل اليوم مشاريع جديدة من هذا النوع لنقل الغاز المكتشف في جنوب وشرق البحر المتوسط الى اوروبا في شبكة بحرية الى اليونان كبديل افتراضي للغاز الروسي. وهذا يفترض ان انبوب الغاز عبر المتوسط سوف ينقل الغاز الاسرائيلي، مع الغاز المصري، مع الغاز اللبناني، ومع غاز غزة الفلسطيني وغاز قبرص. لكن هذا المشروع يبدو انه قد لا يبصر النور، وبوادر ذلك ظهرت في اليومين الماضيين من جهتين غير منتظرتين: الجهة الاولى هي لبنان، عندما اعلن وزير الطاقة اللبناني الأسبق جبران باسيل في خطابه امام حشد من حزبه في بيروت بمناسبة 13 تشرين الأول (يوم إسقاط حكومة الجنرال ميشال عون المؤقتة في بعبدا عام 1990 ونفيه مع أركانه الى فرنسا) إن لبنان سوف ينقل إنتاجه المحتمل من الغاز عن طريق البر عبر سوريا وتركيا الى أوروبا، والجهة الثانية هي روسيا التي فاجأ فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره التركي رجب طيب أردوغان أثناء لقائهما قبل أيام في قمة دول آسيا الوسطى التي كانت منضوية سابقًا في الاتحاد السوفياتي بإقامة مجمع في تركيا لنقل وتوزيع الغاز الروسي في اوروبا بديلًا عن الخطوط الشمالية المعطلة الآن بفعل الحرب الاكرانية.

طبعًا العرض الروسي على تركيا سوف يجعل نقل غاز شرق المتوسط من لبنان وسوريا عبر المحطة التركية أرخص كثيراً من نقله بأنبوب بحري من إسرائيل الى اليونان، لا سيما ان هناك أنبوبًا بحريًا ينقل الغاز الروسي الى تركيا منذ أكثر من خمس وعشرين سنة ويمتد مسافة 1213 كيلومترًا تحت مياه البحر الأسود، ويدعى "الخط الأزرق"، ولا يمر في أراضي أو مياه طرف ثالث.

هذان الطرحان الاستراتيجيان المفاجئان والمتزامنان من قبل بوتين وباسيل، سوف تكون لهما تداعيات وارتدادات في الدوائر النفطية العالمية، خصوصًا في الغرب، لكون تركيًا عضوًا في حلف شمال الأطلسي، ولكون الغاز اللبناني والغاز الاسرائيلي متجاورين ومتداخلين، والتفاهم الأخير بين لبنان وإسرائيل على رسم الحدود البحرية بينهما، لم يرشح عنه انه لحظ مسألة نقل الغاز المنتج الى الأسواق العالمية.

فإذا قبلت تركيا عرض بوتين الفوري، فإن ذلك مع طرح جبران باسيل في خطابه الاخير، يشكل معضلة لإسرائيل، لأن نقل غازها الى الأسواق يصبح غالي الكلفة، سواء تم تسييله على البر ونقله بحرًا بالسفن، أو بمد خط أنابيب بحري مواز ومنافس للخط التركي - السوري – اللبناني.

طغت مفاجأة بوتين لأردوغان في موضوع خط الغاز على غاية أردوغان من حضور قمة آستانة في كازاخستان، حيث أراد ان يجس نبض الرئيس الروسي حول فتح محادثات بشأن وقف الحرب في أكرانيا. ذلك ان الرئيس الروسي توقع مثل هذا التحرك، واعتبره تم بموافقة أميركية. وهذا تكليف منطقي من جانب الأميركيين لأن تركيا هي العضو الوحيد في حلف الأطلسي الذي يتمتع بعلاقة واسعة وراسخة مع روسيا.

وربما شعر أردوغان بنوع من الارتباك بعد سماعه عرض بوتين، لان وساطته في الحرب الاكرانية من شأنها ان تعيد تشغيل خطوط الغاز الشمالية بما يتعارض مع مصلحة تركيا الاقتصادية!

 

عقوبات وعواقب

15 / 10/ 2022

واشنطن لا تستطيع ان تفرض عقوبات على مسؤولين سعوديين، كما فعلت في أماكن أخرى منها لبنان. لكن الرئيس الأميركي وادارته مصرُّون على أن قبول المملكة بخفض إنتاج النفط في الظرف الراهن هو قرار سياسي. وهذا يعني في القاموس الأميركي ان قرار خفض الانتاج جاء لمصلحة روسيا، وأضر بمصالح اميركا.

ولذلك هدد الرئيس الأميركي المملكة السعودية، أو حذرها، بشيء غامض هو "العواقب" (الذي يحمل ضمنًا إمكانية فرض العقوبات بشكل أو آخر)، وذلك بقوله إن خفض الإنتاج النفطي السعودي ستكون له "عواقب".

والواقع أن إدارة بايدن الديموقراطية في أزمة الآن على أبواب الانتخابات التشريعية النصفية، وما يمكن ان تحمله بعد أيام معدودة من خسارة للأغلبية التشريعية في مجلسي الكونغرس كليهما، فتكون ولاية بايدن قد انتهت عملياً، او حسب القاموس الأميركي، يصبح الرئيس بايدن "بطة عرجاء". هذا إذا فقد رجلًا واحدة، اما إذا فقد الرجلين معًا فإنه يصبح "بطة كسيحة".

لكن الأميركيين ينسون أن حكومتهم هي التي أججت الأزمة العالمية الراهنة التي طفحت من أميركا الى بقية العالم، كما اشارت وزيرة مالية اندونيسيا في اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن أخيرًا.

أصرت الولايات المتحدة ان تصبح أكبر مصدر للنفط في العالم من خلال التوسع في إنتاج النفط الصخري، فصارت الآن تصدر التضخم المتزايد الى كل دول العالم. ولذلك حاولت لجم التضخم الداخلي برفع أسعار الفائدة، فارتفع سعر صرف الدولار على حساب العملات الأخرى، ومعه ارتفعت معدلات التضخم في كل أنحاء العالم.

فعندما قررت واشنطن ان تصبح المنتج الأول للنفط في العالم، مع العلم المسبق بأن ذلك مضر بالبيئة الأميركية ذاتها، وبالبيئة العالمية عمومًا، كان الهدف شبه المعلن من وراء ذلك تخفيف الاعتماد على النفط السعودي. وقد فهمه السعوديون على أنه كذلك ولم يحتجوا. لكن عندما اتخذ السعوديون قرار خفض الانتاج مع بقية دول "أوبيك" بالإضافة الى روسيا، قامت قيامة واشنطن، وكأن دول النفط الخليجية وغيرها ملزمة بتقديم مصلحة أميركا على مصالحها، بحجة أنها تقدم لتلك الدول ما هو أثمن من النفط، اي الحماية، وهي في غالبيتها حماية من أعداء وهميين.

لكن الأزمة العالمية التي انطلقت خلال الأشهر القليلة الماضية (حتى من قبل الحرب الاكرانية)، أصابت أول ما أصابت حلفاء أميركا المقربين في حلف شمال الأطلسي، خصوصًا بريطانيا بالدرجة الأولى، ثم فرنسا وألمانيا. فالتخبط البريطاني المتزايد الذي وقعت فيه رئيسة الحكومة الجديدة، باتخاذ قرارات مالية واقتصادية خضت البلاد والاسواق، ثم تراجعت عنها بسرعة البرق فأقالت وزير المالية، لكن القلق العام لم يتقلص، فصارت ليز تراس نفسها في مهب الريح، والضغوط السياسية لإقالتها أخذت تتزايد داخل حزبها، بحيث من المتوقع أن تذهب الى بيتها قبل نهاية السنة.

مما لا شك فيه ان قرار خفض الإنتاج السعودي كانت له "عواقب" سياسية حسب لغة بايدن، لكن الفعل السياسي للقرار المذكور لم يكن هو المقصود.

وعسى ان تنجلي قريبًا آفاق السياسة الأميركية القائمة على "العقوبات والعواقب"، بعد الانتخابات النصفية قريبًا.

 

حرب وصايات على حرب عصابات

14 / 10 / 2022

الفولكلور اللبناني على مسرح المجلس النيابي لمحاولة انتخاب رئيس جديد للجمهورية لم يكن له لزوم، وضرره أكبر من نفعه، والاداء فيه يدعو الى الرثاء والتثاؤب.

إن قدامى اللبنانيين يعرفون ان لبنان النابت من رحم الحروب الأهلية، المتواصلة بأشكال مختلفة منذ الحرب الأهلية الأولى بعد الفتنة الكبرى في جبل لبنان، قبل مئة عام تمامًا على إجهاض حملة ابراهيم باشا المصري في سوريا، تركبت صيغته على يد الدول الكبرى الأجنبية بشكل يبقي الحرب الأهلية مفتوحة لتبقى الوصاية الأجنبية مطلوبة.

بعد الحرب العالمية الأولى وتفكيك الامبراطورية العثمانية، تم إنشاء "لبنان الكبير" على يد الفرنسيين والإنكليز المنتصرين في تلك الحرب، واتفق على إناطة ادارته بفرنسا، فسميت الوصاية انتدابًا.

وفي خلال الحرب العالمية الثانية انتقلت الوصاية الدولية على لبنان الى الانكليز، وهو الانتقال الذي أدى الى ما سموه "استقلال لبنان"، والحرب العالمية كانت ما زالت على أشدها. فالاستقلال اللبناني، مثل لبنان الكبير، ولد في رحم الوصاية الأجنبية.

في اواسط خمسينات القرن العشرين، بعد نحو عشر سنوات فقط على الاستقلال اللبناني، حل الأميركيون محل الفرنسيين والانكليز على المسرح العالمي، من خلال "مبدأ أيزنهاور و"الأحلاف الدفاعية"، فحلَّت الوصاية الأميركية محل الوصايات السابقة. لكن هذا الانتقال لم يكن سلميًا، بسبب الارتدادات التي احدثتها الوحدة السورية - المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، بما يشبه الوضع الناجم من حملة ابراهيم باشا في القرن السابق، وفور الإجهاض الاميركي لحرب السويس ضد عبد الناصر في العدوان الثلاثي على مصر بتواطؤ بين بريطانيا وفرنسا واسرائيل، إثر إعلان الرئيس المصري تأميم الشركة الأنكلو - فرنسية لتشغيل قناة السويس. وهكذا اختلت الموازين الداخلية في لبنان، كما اختلت الموازين الإقليمية بفعل انقلاب الجيش العراقي على الحكم الملكي الهاشمي في بغداد وإعلان قيام الجمهورية العراقية مكانه.

لكن الحرب الأهلية اللبنانية التي نشبت بفعل تلك التطورات الانتقالية لم تدم طويلًا لأن الأميركيين تدخلوا لوقفها بالتعاون مع المصريين، فصار لبنان تحت الوصاية المصرية بإشراف أميركي. ويتذكر قدامى اللبنانيين كيف كان سفير مصر عبد الحميد غالب يحكم بأمره في بيروت خلال تلك المرحلة.

لكن هذه الوصاية لم تدم طويلًا بفعل الوجود الفلسطيني المسلح على الأراضي اللبنانية مما أشعل حرباً أهلية دامت خمس عشرة سنة، تخللتها وصايات متعددة، حتى يمكن القول بأنها "حرب وصايات على حرب عصابات". كانت تلك الوصايات المتحاربة على ارض لبنان مركبة ومتعددة الجنسيات الأجنبية والعربية. فالقوات المتعددة الجنسيات الأجنبية كانت اميركية - أوروبية - اسرائيلية، وعندما انسحبت أخلت مكانها الى إسرائيل باعتبارها ملاصقة للبنان، وكانت القوات العربية (واسمها الرسمي "قوات الردع العربية") سورية - سعودية - اماراتية، وبانسحابها أخلت مكانها للقوات السورية باعتبارها مجاورة.

وبإشراف أميركي- سعودي تم اتفاق الطائف لإنهاء الحرب، فسحب سلاح الميليشيات، لكنه أبقى فتيل الصراع، وما زالت تلك الحرب ممتدة بطرق أخرى، حيث الوصاية الأصلية بعد الطائف، أي الوصاية السعودية - السورية (ما اصطلحوا على تسميته س. س) اخلت مكانها لوصاية سورية خالصة، ثم الى نوع من الفراغ بعد الانسحاب السوري عقب اغتيال رفيق الحريري الذي كان من أبرز افرازات الطائف، إن لم يكن أبرزها، سدته موقتًا دولة قطر نيابة عن مشغليها، بنوع من ترقيع تسوية هشة التي انتهت صلاحيتها الآن.

المشكلة الراهنة أن اللبنانيين لن يستطيعوا لوحدهم فعل أي شيء، كما شاهد الجميع أخيرًا على خشبة المسرح النيابي الفولكلوري. وهذا يعني ان البحث ما زال جاريًا عن نوع من الوصاية الخارجية الجديدة. وفي أغلب الظن ان الوصاية المقبلة، كما ينبىء التفاهم على الحدود البحرية مع إسرائيل بوساطة أميركية، ستكون من النوع المركب أيضًا. اي أنها ستضم فريقين او ثلاثة افرقاء. ستكون في الإطار الأولي والاقرب اميركية - ايرانية، لكن ذلك مرهون بإتمام اتفاق نووي في محادثات فيينا. ثم قد تكون في مرحلة لاحقة أميركية (واسرائيلية في الظل) وروسية - ايرانية (سورية في الظل)، وهذا مرهون بانتهاء الحرب الاكرانية.

فربما، والحالة هذه، ستطول معاناة اللبنانيين الى ان "يطلع الحشيش"!

 

التنويع السعودي

13 / 10 / 2022

بدأت الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة مراجعة خياراتها تجاه علاقاتها القديمة مع المملكة السعودية، خصوصًا في المسألة النفطية. لكن هذه المراجعة من طرف واحد تبدو الآن وكأنها عاجزة عن تقديم أي بُعد إيجابي يذكر. فالولايات المتحدة في إطار العلاقات الأميركية- السعودية الراهنة تأخذ من السعودية أكثر مما تعطيها، وهذا المنحى السلبي يتحول تدريجيًا الى مسلك عالمي عصبي المزاج، ينبىء بأن الولايات المتحدة لم يعد في جعبتها سوى التهديد والوعيد والعقوبات على الدول، والمؤسسات، والأفراد حتى اولئك الذين لا شأن لهم يُذكر. وهذه السلبية الاميركية تشكل خطرًا على الولايات المتحدة ذاتها وعلى بقية العالم. لأنها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعد تتعامل مع أحد على أساس النديَّة. وهذا ما قصده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوله إن تفكيك الاتحاد كان أكبر نكسة استراتيجية أصابت العالم في ربع القرن الأخير.

فالمملكة السعودية، شعرت بهذه المسلكية السلبية لواشنطن في وقت مبكر من خلال الخيارات النفطية التي هي أساس العلاقات التاريخية بين الرياض وواشنطن، من خلال توجهين أميركيين متناقضين في مجال الطاقة، واحد ينقض الأخر. من جهة هي تدعو علنًا (وكلامياً) الى زيادة إنتاج الطاقة النظيفة وتخفيف الاعتماد على أنواع الوقود الاستخراجية الملوثة للبيئة الطبيعية، ومن جهة ثانية تقوم باستخراج كميات هائلة من النفط والغاز بعمليات التكسير الصخري الذي يلوث البيئة على نطاق أوسع من استخراج النفط بالحفر العميق برًا وبحرًا، مما جعل الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم. لكنها تشعر الآن بأن هذا التوجه قصير النظر وقصير الأمد، وتحظره دول كثيرة حليفة للولايات المتحدة لاعتبارات بيئية. ولذلك لم ينجح هوكشتاين، مستشار الرئيس بايدن لشؤون الطاقة، حتى في إقناع منتجي النفط الصخري في أميركا بزيادة الإنتاج للتعويض عن النقص الناتج عن تفاهم "اوبيك" مع روسيا أخيرًا، مما لم يترك خيارًا لواشنطن سوى استنزاف احتياطيها الاستراتيجي على المدى القصير، والتفاهم مع خصوم سابقين من الدول النفطية مثل إيران وفنزويلا على المدى المتوسط، والبحث عن مصادر جديدة لإنتاج النفط والغاز من أماكن أخرى مثل البحر المتوسط (لبنان، إسرائيل، قبرص، مصر، وربما تركيا واليونان).

هذا التوجه الأميركي المتوتر فهمته السعودية انه موجه ضدها، أو على الأقل ليس مؤاتياً لمصالحها، وراحت تتصرف على هذا الأساس. ولهذا راحت الدوائر السياسية في واشنطن تنظر الى ولي العهد السعودي على انه حليف مزعج، بعدما كانت تتعامل معه إدارة ترامب السابقة على انه حليف موثوق، الى درجة ان صحيفة "انترسبت" الإلكترونية الواسعة النفوذ والانتشار في اميركا أشارت الى أن الثقة المتبادلة التي كانت قائمة بين جاريد كوشنير، صهر ترامب، وبين ولي العهد السعودي، جعلتهما يبحثان أمورًا حساسة حتَّى داخل المملكة، مثل أسماء أمراء العائلة السعودية المعارضين وصول بن سلمان الى العرش. بل هي نقلت عن مقربين من ولي العهد السعودي انه اعتبر صهر ترامب "في جيبه"!

كذلك نقل عن دوغلاس لندن، الذي عمل ما يزيد على ثلاثين سنة في العمليات السرية لوكالة الاستخبارات المركزية، ويعمل حاليًا أستاذاً للدراسات الاستخبارية في جامعة "جورج تاون" في واشنطن، ان بن سلمان أغدق كثيرًا على بعض العاملين في الوكالة، فاغتنى عددٌ منهم، لإعجابه بمهاراتهم في العمليات السرية التي وصفها بأنها "لعبة العروش"!

هذا في البداية، أما اليوم فقد تغيَّرت الصورة الى درجة ملحوظة أبرزها التقارب السعودي مع روسيا والصين. ومن أبرز مزايا تعاطي بن سلمان مع الروس، انه يعتبر الرئيس بوتين خفيف الوطأة لأنه لا يقول له ماذا يجب ان يفعل، او لا يفعل، مثل الاميركيين، ولا يوجه أي نقد له في سياساته داخل المملكة. ولهذا وقَّع في السنة الماضية مع الروس اتفاقية عسكرية، ضمن برنامج بن سلمان الجديد بخفض الإنفاق العسكري من اجل تمويل البرامج الاقتصادية المستقبلية الطموحة التي يرعاها.

في المقابل فإن وليام بيرنز، المدير الحالي لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، عندما زار المملكة أخيرًا حاول ثني المملكة عن شراء صواريخ باليستية مصنعة بكاملها في الصين. وتقول مصادر أميركية أن بن سلمان سأل الصين عن إمكانية تصنيع تلك الصواريخ داخل المملكة، كما سأل الصينيين عن امكانية إقامة برنامج نووي للأغراض السلمية في السعودية.

على أن كل ذلك لا يعني ان ولي العهد السعودي يتوخى الانفكاك عن الولايات المتحدة، بل هو يحاول توسيع هامش استقلاليته عن السياسة الاميركية قبل اعتلائه العرش، وبما يتوافق مع مصالح بلاده. فالدول في النتيجة لها مصالح فوق الصداقات.

 

التعويض على هوكشتاين

/ 0 / 202212

قبل الهزة الإضافية التي شهدتها اسواق النفط العالمية بفعل قرار خفض الإنتاج من جانب "اوبيك" وروسيا، حاولت الولايات المتحدة جهدها لإقناع المملكة السعودية بعكس ذلك، أي برفع الإنتاج بغية خفض الأسعار لتخفيف التضخم المتفاقم في الدول الصناعية.

بدأت المحاولات الأميركية هذه، كالعادة، بالدبلوماسية السرية، فأوفدت مدير الاستخبارات المركزية وليام بيرنز، ثم اعتمدت الدبلوماسية المكوكية عن طريق عاموس هوكشتاين مستشار الرئيس جو بايدن لشؤون الطاقة العالمية، بالتوازي مع مساعيه بين لبنان واسرائيل. بل إن واشنطن بلعت كبرياءها عندما اضطر الرئيس الأميركي ان يأتي بنفسه الى المملكة السعودية لإقناع السعوديين بزيادة الإنتاج، فلم تكن زيارته موفقة أيضًا. لكن السعوديين، لم يردُّوا الرئيس الأميركي خائباً، فزادوا إنتاجهم بمقدار مائة ألف برميل في اليوم فقط، وهي كمية لا تقدم ولا تؤخر في الوضع الراهن.

وهنا يتبين لماذا نجحت دبلوماسية هوكشتاين المكوكية في لبنان ولم تنجح في السعودية. كان هوكشتاين مضطرًا لإنجاز الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي في هذا الوقت مهما كلف الأمر لحفظ ماء الوجه، ولتسريع البدائل المحتملة والأقرب منالاً. ذلك أن هوكشتاين بدأ يشعر بالإحباط من إمكانية توفير البدائل الأخرى، ومنها في الدرجة الأولى زيادة الإنتاج الأميركي من النفط والغاز الصخري. لكن هذه الإمكانية أيضًا تعثرت، إذ إن تحقيق ذلك يفرض على المنتجين المحليين ديونًا مصرفية ضخمة للاستثمار لهذه الغاية من الصعب سدادها في حال هبوط الأسعار.

ففي الأيام القليلة بين إقرار خفض الإنتاج من قبل "اوبيك" وروسيا، وبين إتمام الاتفاق على رسم الحدود البحرية على يده بين لبنان واسرائيل، ظهرت على وجه هوكشتاين علائم توتر عندما قال بعد شهور من المساعي الدبلوماسية الفاشلة مع السعودية: "سوف نحاول مع الشركات المنتجة في اميركا أن تزيد من إنتاجها، لكن علينا ان نتأكد من وجود القدرة اللازمة على تكرير الإنتاج الإضافي".

فها هو يضيف عائقًا جديدًا أمام هذا الاحتمال هو النقص في القدرة على التكرير، فوق تحفُّظ المنتجين على ضرورة الاستدانة من المصارف.

واعترف هوكشتاين بانه قضى شهورًا عدة يحادث شركات النفط الكبرى المنتجة في أميركا حول ما تحتاج اليه لتحفيز إنتاجها!

هذه الشهور العديدة التي قضاها هوكشتاين يحادث الشركات الأميركية دون جدوى، هي ذاتها الشهور العديدة التي قضاها يحادث لبنان واسرائيل، فكان لزامًا عليه أن يحدث خرقًا في مكان ما، فكان الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي عبره.

وهذا ينبىء بان إنتاج النفط والغاز من جنوب البحر المتوسط أسرع وأيسر من كل البدائل الأخرى بما في ذلك زيادة الإنتاج الأميركي الداخلي.

لكنه من المبكر الآن الركون الى القول المأثور "مصائب قوم عند قوم فوائد"!

فلا ينسى أحد أن روسيا بقواعدها البحرية والجوية مقيمة في جنوب شرق المتوسط.

 

بين الرياض وواشنطن

10 / 10 / 2022

ليست هي المرة الاولى التي تجري فيها مشادَّة بين المملكة السعودية والولايات المتحدة في إطار تحالفهما التاريخي منذ لقاء الملك عبد العزيز مع الرئيس الأميركي روزفلت قبل 75 سنة على متن البارجة الاميركية "كوينسي" في قناة السويس (14 شباط 1945).

لكن معظم تلك المشادَّات كانت تدور بصمت لتعود المياه الى مجاريها. فالعلاقات السعودية - الأميركية حتى الآن تلتوي لكنها لا تنكسر، مع أن هناك موجبات عديدة لانكسارها لأن اميركا الراهنة تختلف كثيرًا عن أميركا روزفلت.

فالعلاقة الأساسية قامت على معادلة بسيطة: السعودية تؤمن النفط حسب المصالح الأميركية، وأميركا تؤمن الحماية للسعودية من الأخطار الخارجية، ولا يتدخل أي منهما في الشؤون الداخلية للآخر.

لكن هذه المعادلة خرقتها واشنطن مرارًا بعد وفاة الملك عبد العزيز، ورفض خليفته الملك سعود عام 1957 تجديد اتفاقية قاعدة الظهران الجوية المعقودة بين البلدين، وهي قاعدة كان لديها قابليات نووية موجهة ضد الاتحاد السوفياتي بحجة حماية شركة الزيت العربية - الأميركية (ارامكو).

السعودية من جهتها التزمت بالمعادلة الأمنية الأصلية، لكن الولايات المتحدة دأبت منذ إلغاء اتفاقية قاعدة الظهران على التدخل في الشؤون الداخلية للملكة على نحو متزايد، بلغ في بعض الأحيان حد الإملاء القسري، بذرائع وحجج مختلفة أو حتى مفتعلة.

ففي الآونة الأخيرة مثلًا، عندما اتجهت المملكة نحو التفاهم مع روسيا على خفض الإنتاج النفطي، بدأت الماكينة السياسية والإعلامية في واشنطن بضخ حملة معادية للسعودية، منها مطالبة أعضاء في الكونغرس بمراجعة خيارات واشنطن تجاه السعودية، طارحين تساؤلات حول جدوى العلاقات الأمنية مع الرياض، وبعضهم طالب بإلغاء اتفاقيات تزويد المملكة بالأسلحة المتطورة، ومنهم من أعاد فتح ملف مقتل الصحافي جمال خاشقجي، وغير ذلك تحت باب تجاوزات تتعلق بحقوق الإنسان داخل المملكة، والتلميح بإثارة موضوع الضحايا المدنيين للقصف السعودي في اليمن. بل إن الغضبة الأميركية شملت منظمة "اوبيك" وروسيا أيضا، حيث طالب أعضاء في الكونغرس بإحياء قانون "نوبيك" (لا احتكارات لإنتاج النفط وتصديره)، مما يعني إعلان منظمة "أوبيك" مؤسَّسة احتكاريَّة يسري عليها القانون

 الأميركي المذكور المانع للاحتكارات النفطية. ومن جملة ما قام به الأميركيون في هذا الاتجاه فرض عقوبات على نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك الذي انتدبه الرئيس بوتين للتفاوض مع "أوبيك" بشأن خفض الإنتاج النفطي.

وقد فرض الأميركيون العقوبات على نوفاك قبيل توجهه الى فيينا لحضور اجتماع "أوبيك بلاس" لثني وزير النفط السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان (نجل الملك) عن اللقاء معه، بما يشبه فرض العقوبات الأميركية على وزير الطاقة اللبناني الأسبق جبران باسيل.

وسوف أعرض لاحقًا المحركات التي أدت الى هذا الاهتزاز النفطي، ومعه اهتزاز العلاقات السعودية- الأميركية، ودور عاموس هوكشتاين فيها، لأن هوكشتاين ليس مجرد "وسيط نزيه" بين لبنان وإسرائيل.

 

الملعب السعودي الجديد

8 / 10 / 2022

من الصعب القول بأن اتفاق المملكة السعودية مع روسيا على خفض انتاج النفط بمقدار مليوني برميل في اليوم، وسط أزمة طاقة عالمية، وخلافًا للرغبة الأميركية، يشكل انعطافاً حاسماً نحو وضع جيوسياسي جديد في المنطقة. ذلك ان المملكة السعودية لا تملك الآن من المقومات الاستراتيجية لتشكيل وضع جيوسياسي جديد سوى الورقة النفطية التي تكتسب الآن قيمة مضافة بفعل الحرب الاكرانية. لكن ما تبقى من الأوراق معدومة أو ضعيفة. ولذلك يحرص السعوديون على التأكيد بأن خفض إنتاج النفط في هذه المرحلة هو "مسألة تقنية"، وإن كانت له مفاعيل سياسية غير مباشرة.

بل يمكن القول بأن عناصر الضعف الاستراتيجي ما زالت أرجح من عناصر القوة النفطية في الميزان الجيوسياسي.

نقطة الضعف الأولى هي حرب اليمن، وهي ثغرة تستطيع الولايات المتحدة تحريكها إذا اضطرت، لغير صالح السعودية، في حال استعجلت اتفاقها مع إيران.

نقطة الضعف الثانية هرولة الدول الخليجية الأخرى الى التطبيع مع إسرائيل بتشجيع اميركي، على مدار من غير المحتمل دفع السعودية اليه بسهولة.

نقطة الضعف الثالثة هي تضعضع الوضع العربي العام، ومن أهم الأسباب الاستراتيجية لهذا التضعضع أن الأداة التاريخية للعمل العربي المشترك معطلة وغير قابلة للعمل، حتى بالحد الأدنى. وشأنها في ذلك شأن اللبنانيين الذين لا يعترفون بأن سوريا موجودة على حدودهم، ولا كأن روسيا على حدودهم البحرية الشمالية.

نقطة الضعف الرابعة، هي استمرار الخلاف مع إيران، خصوصًا أن الجمهورية الإسلامية لديها أذرع ضاربة في كل الجوار المحيط بالسعودية.

أما نقطة الضعف الأخيرة فهي الوضع الداخلي المتمثل بثنائية الحكم بين الملك الأب والملك الابن، وتهميش بقية العائلة السعودية، بالإضافة الى تهميش المؤسسة الدينية الوهابية.

هناك نقطة واحدة مطموسة تاريخيًا، وهي بداية ظهور المملكة على المسرح الدولي في عشرينات القرن العشرين يوم كان الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود ثاني رئيس دولة في العالم اعترف بالاتحاد السوفياتي بعد الإمام يحيى حميد الدين حاكم اليمن في ذلك الوقت. وقد أقام الملك عبد العزيز علاقات ديبلوماسية نشطة مع موسكو في بداية عهد ستالين، واوفد نجله الأمير فيصل (الملك الثالث)، سفيراً لدى الكرملين. بل إن الاتحاد السوفياتي في عام 1933 أقام أول شبكة هاتفية في المملكة ولو على نطاق محدود

عود على بدء، قد لا يكون ذلك ممكنًا في وقت قريب، لكنه ليس مستحيلًا!

 

حرب النفط

7 / 10 / 2022

أحدث قرار تجمع الدول المنتجة للنفط الذي يسمونه "أوبيك بلاس"، أي مجموعة "اوبيك" ومعها روسيا، خفض إنتاجها النفطي بمقدار مليوني برميل في اليوم اعتبارًا من شهر تشرين المقبل حالة من الهلع في الغرب على أبواب الشتاء، بالإضافة الى بعض المفاعيل السياسية المناسبة لروسيا في الحرب الأكرانية. ولم تستطع المساعي الحثيثة التي بذلتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية لدى المملكة السعودية ودول الخليج في اتخاذ قرار معاكس، أي زيادة الإنتاج لتخفيف وطأة التضخم المتزايد حول العالم بفعل ارتفاع أسعار الطاقة.

لم يكن قرار "أوبيك بلاس" بخفض الإنتاج أمس قرارًا سياسيًا، لكن مما لا شك فيه أنه ستكون له مفاعيل سياسية واقتصادية وبيئية أيضًا.

فمن الناحية السياسية ليس دقيقًا القول بإن السعودية انحازت الى الجانب الروسي، بل الأصح القول بأنها عملت مصلحتها هي هذه المرة التي صادف أنها غير مؤاتية للغرب. فالتاريخ النفطي يثبت أن السعودية استخدمت نفطها في مساندة الحروب الأميركية كلها من الحرب الكورية في مطلع خمسينات القرن الماضي الى حرب احتلال العراق، بل إن هناك حروبًا اميركية مولتها السعودية بكاملها مثل الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفياتي. ناهيك بتطويع إنتاجها النفطي، صعودًا ونزولًا، بما يتلاءم مع المصالح الأميركية والأوروبية. هذا بالإضافة الى صفقات الأسلحة التي لم تكن السعودية (ومعها بقية دول الخليج) بحاجة فعلية اليها.

فقد آن للمملكة السعودية ان توقف هذا النمط المكلف من التعامل مع الولايات المتحدة، خصوصًا بعد ورطتها في حرب اليمن المستمرة منذ سبع سنوات.

أما من الناحية الاقتصادية، فإن قرار خفض الانتاج يحملُ في طيَّاته، في الظروف الدولية الراهنة، منافع تعويضية لدول الخليج، حيث تستطيع الآن جني عائدات مالية أكبر بكميات نفطية أقل. وكذلك الأمر بالنسبة الى روسيا.

على ان التأثير السلبي الأكبر سوف يقع على أوروبا بأثقلَ منه على الولايات المتحدة، فقد دخلت أوروبا الآن في مأزق معقد حيث يمكن أن يخرج التضخم الراهن عن السيطرة ليدخل القارة العجوز في ركود اقتصادي طويل الأجل. أما الاستفادة الروسية فإنها مضاعفة في إطار الحرب الاقتصادية الغربية عليها، ليس فقط لأن الروس سوف يحصلون على أموال إضافية، بل لان الحصار الاقتصادي عليهم سوف تنكسر حلقاته لأن المنافذ الكبرى لتصدير النفط الروسي لم تغلق، خصوصًا الى الهند والصين.

ومما يجعل الأزمة الأوروبية مضاعفة، ان انقطاع الغاز الروسي عن اوروبا بسبب الحرب الاكرانية، خصوصًا بعد تفجير خط الغاز الثاني (نورد ستريم 2)، وهي عملية مفتعلة يقال ان الأجهزة الأميركية قامت بها بالتعاون مع أجهزة أوروبية، ازدادت بسببه كلفة الإنتاج الصناعي الأوروبي، وخصوصًا في ألمانيا، لأن تلك الصناعات بدأت منذ فترة تتحول من استخدام النفط الى استخدام الغاز الأنظف بيئيًا والأغلى ثمنًا.

والخيار الأرجح الآن للتخفيف من وطأة الأوضاع النفطية المستجدة، هو ان تستخدم الولايات المتحدة احتياطيها الاستراتيجي من النفط لموازنة خفض الانتاج من قبل تجمع الدول النفطية. وإنزال هذه الكميات الكبيرة من النفط الى الأسواق العالمية من مستودعات الاحتياطي الاستراتيجي الأميركي، هو قرار محسوب من حيث إمكانيَّة تعويضه في وقت قريب ومن دول الخليج تحديدا، باعتبار ان دول الخليج بخفضها الإنتاج حاليا تزيد من طاقتها الإنتاجية للمستقبل بما يكفي لإعادة ملء الخزانات الاستراتيجية الأميركية.

لكن المفاعيل البيئية للتطورات الراهنة في أسواق الطاقة كلها سيئة. فحتى قبل قرار خفض الإنتاج النفطي الأخير، تزايد اعتماد الناس في معظم دول العالم النامي على البدائل المضرَّة بالبيئة، خصوصا لجهة العودة الى الفحم الحجري، وقص الأشجار في الجبال والغابات من أجل الحصول على الحطب والفحم النباتي.

أما في بعض الدول الصناعية حيث توجد تقنيات لاستخراج الغاز والنفط من الصخور الجوفية، وهي عمليات تم حظرها في بعض الدول، بسبب تلويثها الواسع للبيئة، فقد عاد الحديث عن تفعيلها. ففي بريطانيا حيث هذه العمليات محظورة، تجدد الحديث عن اللجوء اليها لأن التقديرات الاقتصادية تشير الى إمكانية استخراج نصف احتياجات بريطانيا من النفط والغاز بواسطة هذه العمليات.

أضف الى كل ذلك النفاق الأميركي من حيث محاولة التفاهم تحت الطاولة مع دول نفطية تعتبرها اميركا معادية علنًا وتفرض عليها عقوبات اقتصادية صارمة، وأولها إيران وفنزويلا!

 

فذلكة نقدية

5 / 10 / 2022

في الوقت الذي ينحسر فيه استخدام الأموال النقدية في التعاملات التجارية الداخلية في معظم انحاء العالم، نجد ان الاقتصاد اللبناني بكامله يسير في الاتجاه المعاكس، فأصبح بالكامل اقتصادًا نقديًا بسبب انهيار النظام المصرفي والإفلاس المقنَّع للدولة اللبنانية.

فالتعامل النقدي الشامل في لبنان اليوم هو الوحيد من نوعه في العالم تقريباً. وهذا بطبيعة الحال يزيد من إفقار الشعب اللبناني، ويزيد من الفارق الطبقي بين الفقراء والأغنياء الى درجة تشكل في خطرًا على الاستقرار الاجتماعي.

ففي الحقبة الحريرية كان الاقتصاد اللبناني "مدولراً" مع عملتين يساوي بينهما استقرار مفتعل في سعر الصرف، هو من أبرز أسباب انهيار الوضع المالي والاقتصادي الراهن.

لكن المفارقة الآن بعد زوال عامل الاستقرار النقدي المتمثل بسعر ثابت للصرف بين العملتين المتداولتين، ان وظيفة المصارف قد انتهت عملياً، لان المودعين القدامى مقيدين بنوع من التقنين، ولا تستطيع المصارف في وضعها الراهن استقطاب مودعين جددًا بسبب انعدام الثقة.

ولهذا تغير نمط "الدولرة" من التعامل المباشر بالدولار في الأسواق المحلية، وكأنه عملة وطنية، الى التعامل غير المباشر به كعملة اجنبية عبر السوق السوداء، مما يزيد من انخفاض قيمة الليرة، فضلًا عن وجود اسعار صرف متعددة للمعاملات الرسمية.

ويمكن القول، نتيجة للواقع النقدي المستجد، ان الليرة باتت الآن عملة الفقراء من اللبنانيين، والدولار هو عملة الأغنياء. ومن الطبيعي في هذه الحالة ان يأكل دولار الأغنياء من ليرة الفقراء بفعل ازدياد التضخم دون أفق ملحوظ لوقف هذا التضخم.

لبنان اليوم، والى ان يخرج الغاز من البحر بعد عمر طويل، هو جمهورية فقراء يقودها أغنياء.

 

 

بحر وبر

4 / 10 / 2022

يقول المسيحيون في صلاتهم الى الله: "كما في السماء كذلك على الأرض". وبالأمس نطق وليد جنبلاط بصلاة جديدة موجهة الى حزب الله مفادها "كما في البحر كذلك في البر".

طالب جنبلاط حزب الله بان يساعد على رسم الحدود البرية مع سوريا كما ساعد على رسمها في البحر مع اسرائيل. بدأ بمزارع شبعا وتلال كفر شوبا، المسجلة تابعة لسوريا ومحتلة من إسرائيل. هذه عقدة طرحها مع هذه التعقيدات فيه قطبة مخفية بمغزل رفيع. وأضاف الى ذلك الحدود بين البلدين لجهة الهرمل، ثم ذكَّر اللبنانيين بأن هناك بحرًا بين لبنان وسوريا لم ترسم حدوده بعد!

اعتبر جنبلاط ان حزب الله ساعد بمسيراته الوصول الى التفاهم مع إسرائيل، وفي الوقت ذاته يريد نزع سلاح الحزب في إطار "استراتيجية دفاعية"، كما كاد يحدث أثناء عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، ملمحًا بذلك الى ان الرئيس المناسب للمرحلة المقبلة يجب ان يكون على صورة الرئيس الأسبق ومثاله!

قد يظن بعض الذين سمعوا جنبلاط ليلة أمس أنه مرتبك ومتناقض ويمشي بين النقاط، لكنه في الحقيقة كان يحكي في سياق واحد، أو يحيك بمغزل رفيع.

يُفهم منه ان الذي حقق رسم الحدود البحرية مع إسرائيل هو حاجة الغرب الى الغاز بسبب الحرب الاكرانية، وان حزب الله كان عنصرًا مساعدًا.

وفُهم منه أيضًا ان الوضع اللبناني مع سوريا مثله مع إسرائيل. وفي هذا نقض للمبدأ المتعارف عليه بأن التساوي بين إسرائيل وسوريا هو انحياز الى إسرائيل.

ثم طالب برئيس للجمهورية على شاكلة ميشال سليمان، وهو يعرف أن ذلك مرفوض من حزب الله. لكن بيت القصيد في حديثه هو الإشادة المبالغ فيها برئيس المجلس النيابي نبيه بري، مع ان بري ظل يفاوض عشر سنوات بشأن الحدود البحرية ولم يصل الى نتيجة. بل هو جعل من بري قائدًا قوميًا عربيًا مشددًا على "عروبته".

هذا يفهمه جيدًا الذين عايشوا مرحلة الوجود السوري في لبنان، حين استهدى "السياسيون السياديون" على أسلوب لسب سوريا من غير أن يؤخذ عليهم سبُّها. فإذا كنت لا تستطيع ان تسبَّ سوريا علنًا بحضورها، فامدح شريكها المضارب وهو المملكة السعودية في ذلك الوقت.

تسب خصمك وأنت تماشيه، وتربح من بيده "قانون الصندوق السيادي". هو يريد الصندوق السيادي من أجل الأجيال المقبلة، وطلب ان يستفيد اللبنانيون من تجربة الكويت والدول الخليجية باعتبار ان لبنان صار بلدًا نفطيًا!

 

ميزانية الإفلاس

27 / 9 / 2022

هناك أدلة كثيرة على إفلاس لبنان دولة وشعبًا ومؤسسات، وشطارة الحاكمين تتمثل في جعل هذا الإفلاس مضمرًا غير معلن.

آخر مظهر من هذه المظاهر اقرار ميزانية عاجزة وبائسة في نهاية السنة المالية لا في بدايتها. وهذه مخالفة دستورية تقع على عاتق المجلس النيابي، وتحديدًا على رئيسه المتشاطر دومًا. والمخالفة الدستورية الثانية هي إقرار ميزانية متأخرة من غير قطع حساب، ومن غير تحديد لسعر صرف موحد للعملة الوطنية التي، في الواقع الفعلي، لم تعد وطنية. ويحار اللبنانيون اليوم بين الأسعار المتعددة للصرف. فهناك "دولار طلابي"، و "دولار جمركي"، و "ودولار قضائي"، ودولار نفطي"، ودولار صحي"، ودولار ديبلوماسي"، وقس على ذلك.

غير أن المخالفات الدستورية، التي ارتكبتها المجالس النيابة المتعاقبة ورئيسها الدائم، كانت من قبل أفدح مما هي اليوم. فكيف سمح رئيس المجلس النيابي لحكومة فؤاد السنيورة بأن تحكم من دون ميزانية للدولة على الإطلاق سنوات وسنوات، ومن غير قطع حساب، وهي حالة مستمرة الى اليوم وربما الى الأبد.

حتى ان رئيس الجمهورية ميشال عون قبل سنوات من وصوله الى الرئاسة أصدر دراسة عن هذه المخالفات الدستورية بعنوان "الإبراء المستحيل"، وتقدم بها الى المراجع المختصة التي دفنتها في الأدراج، وهو نفسه أدار وجهه عنها عندما أصبح حافظًا للدستور تحت القسم، مكتفيًا بالمفاخرة بأنه أعاد الانتظام الى مالية الدولة بإصدار الميزانية بانتظام ولو متأخرة وشكليَّة.

لكن الإفلاس غير المعلن للدولة ومؤسساتها، وللمصارف، ولعموم الشعب، أعلنت عنه السلوكيات المضطربة بفعل محاولات اجتناب إشهار الإفلاس العلني.

فما قامت به حكومة حسان ذياب من تخلف عن دفع قسط من الدين العام المترتب على الدولة باليورو هو في حقيقته إشهار بإفلاس الدولة.

كذلك فإن امتناع المصارف عن دفع الودائع المالية لأصحابها، هو في الواقع إشهار إفلاس المصارف.

اما إشهار إفلاس الشعب فليس بحاجة إلى دليل. وآخر الأدلة عليه مأساة غرق الزوارق غير الشرعية وهي تحاول تهريب الناس اليائسين من العيش في وطنهم، ففضلوا أن يغامروا بحياتهم وحياة أولادهم على البقاء المرير في أرضهم. ناهيك بأحوال المتقاعدين من مدنيين وعسكريين، وباستغلال التجار والمحتكرين للمواطنين بغير حسيب أو رقيب.

أي ميزانية هي هذه لبلد مفلس ليس فيها اي مؤشر على مشاريع إنمائية يمكنها خلق فرص عمل ولو قليلة، بدلًا من التضخم التنفيعي في الإدارة العامة.

اي دولة، وأي نظام، وأي تشريع، وأي قضاء، وكلُّها ايضا من عناوين الإفلاس عندما يبقى الموقوفون لسنوات من غير محاكمة، ويوقف الأبرياء من غير مساءلة، ويُغض النظر عن النافذين من غير خفر

فإلى متى هذه المهزلة؟

 

  

الملك الإبن

24 / 9 / 2022

تحتفل المملكة العربية هذه الايام بعيدها الوطني وخزائنها مترعة بمئات المليارات من الدولارات، بفعل الاختلالات في اسواق الطاقة العالمية من جراء الحرب الأكرانية.

لكن كل هذه المليارات، إذا سلمت من الشفَّاطة الأميركية النهمة، لن تكون كافية لتحقيق أحلام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من خلال خطته الإعمارية وصولاً الى عام 2030، وإنجاز مشروع مدينة "نئوم" العالمية العصرية على البحر الأحمر.

ذلك ان "الملك الابن"، كما وصفته الباحثة السعودية مضاوي الرشيد المعروفة في الأوساط الأكاديمية البريطانية في كتابها الصادر مطلع السنة الماضية بعنوان "الملك الابن: الإصلاح والقمع في المملكة السعودية"، أصيب بنكسات تعثَّر بها في بداية طريقه الى العرش، سواء في تعامله القاسي مع بقية أمراء العائلة السعودية الذين أزاحهم عن المسرح السياسي والاقتصادي إزاحة قسرية، أو مع المعارضين للحكم السعودي في الداخل والخارج، خصوصًا في أوروبا وأميركا وكندا واستراليا، حيث اضطر بن سلمان الى تشكيل جيش من "الذباب الالكتروني" لمواجهتهم والتشويش عليهم.

وإضافة الى ذلك تلطخت سمعته على المسرح العالمي لقيامه بمغامرات خطيرة غير محسوبة النتائج أبرزها ثلاث: شن الحرب العسكرية الواسعة ضد اليمن التي ما زالت مستمرة إلى الآن وإن خف أوارها في الأشهر الأخيرة، وعملية قتل الصحافي السعودي المعروف جمال خاشقجي في داخل القنصلية السعودية في اسطنبول، مما خلق أزمة ديبلوماسية مع تركيا وموجة عارمة من الاحتجاجات الخارجية، وكذلك حادثة حجز رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري واجباره على إعلان استقالته من منصبه الرسمي عبر الإذاعة السعودية، مما نتج عنه ارتباكات  وتدخلات ديبلوماسية اضطرته الى الإفراج عنه كما هو معروف.

لكن مسألة قتل الصحافي خاشقجي في اسطنبول ما زالت مثيرة للجدل، لان الصحافي المذكور لم يكن معارضًا للحكم السعودي، بل عمل في خدمته سنوات طويلة. وتروي الباحثة مضاوي الرشيد انها حضرت بعض ندوات مناقشة للوضع السعودي الى جانب خاشقجي الذي كان فيها يدافع عن النظام السعودي، بل وجَّهَ اليها تهمة بأنها تسعى الى إعادة عائلتها (ال الرشيد) الى الحكم في الجزيرة العربية. والمعروف ان آل الرشيد كانوا يحكمون نجد من مقرهم في مدينة حائل قبل ان يخلعهم الملك عبد العزيز آل سعود بدعم من الإنكليز في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

على ان بن سلمان أقدم على بعض الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الجريئة وبخطى أسرع مما كان يتجرأ عليه الحكم السعودي سابقًا بمن فيه والده الملك الاب سلمان بن عبد العزيز.

وهذه كانت نقطة افتراق مع الصحافي خاشقجي الذي اعترض على طريقة الاصلاح. صحيح انه لم ينادِ بالديموقراطية، كما زعم بعض الإعلاميين، لكنه دعا الى اعتماد بعض المفاهيم ذات المسحة الديموقراطية، وفي الإدارة العامة وليس في النظام السياسي، مثل "الشفافية" و"المحاسبة" ومبدأ "الجدارة والكفاءة والإنتاجية".

لكن هذا النهج حمل معه أخطار عديدة محتملة. ومن ذلك مثلًا الشرخ الذي أحدثه مع بقية فروع العائلة السعودية المشاركة في الحكم سابقًا، وتقليص نفوذ المؤسسة الدينية الوهابية ليحل محلها، حسب كتاب مضاوي الرشيد، "نوع من الوطنية السعودية التي لا تسمح بأي نقد أو انشقاق"، وهي حالة أدت الى هجرة كثيفة للمثقفين الليبراليين في مجتمع ليس معتادًا على الهجرة. وهناك أيضًا تزايد عزلة الأقليات التي لا يتسع لها هذا النوع من "الوطنية الشوفينية".

وماذا عن حرب اليمن؟ يقول بعض قدامى السعوديين إن آخر وصية الى اولاده نطق بها الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود وهو على فراش الموت، "احذروا اليمن".

 

توقعات غير واقعية

22 / 9 / 2022

من أسباب الانهيار اللبناني الراهن ان اللبنانيين يتوقعون دائما توقعات غير واقعية. فقد كانوا منذ اربعينات القرن الماضي يتوهمون أنهم يعيشون في جنة وهم يعيشون فوق بركان لا تنفد حممه.

فمنذ قيام دولة اسرائيل الى جوار لبنان، بقي تعلُّق معظم اللبنانيين بالغرب حالة غير طبيعية، لأنهم توهموا ان بإمكانهم الاستمرار في "سياسة النعامة" وكأن شيئا لم يكن.

ولعل من أسباب فشل رئاسة ميشال عون، وهو الأوضح فكرًا بين الرؤساء السابقين، أن راديكاليته التي رفعته الى مستوى الزعامة الشعبية، لم تظهر في الواقع كما كان المتوقع، فحاسبوه عليها وقد خلعها عنه ليصل الى رئاسة الجمهورية بتسوية مع خصومه. فالتسوية مع الخصوم هي دائمًا لمصلحة الخصوم، لأنها تقوم في الأساس على التنازل عما يزعجهم.

ولا يظنَّننَّ أحدٌ أن ما حل بلبنان في عهد رئاسته هو مجرد صدفة أو تطور طبيعي، خصوصًا حادثة تفجير مرفأ بيروت وانهيار النظام المصرفي، بقدر ما هو "هندسة سياسية" مكملة للهندسيات المالية التي أجراها حاكم البنك المركزي قبيل الانهيار الكبير.

ومع ذلك، يمكن القول، في الظروف الدولية القاسية التي رافقته، ان ميشال عون قد حقق شيئًا يذكر وهو انه استطاع ان يكمل ولايته الى نهايتها ليعود الى قواعده بسلام.

وسوف يبقى السؤال عالقًا ما إذا كان الرئيس عون، براديكاليته السابقة، قد أوهم اللبنانيين بأنه قادر على تغيير واقعهم، ام أنهم هم مطبوعون على التعلق بحبال الهواء خلافًا للواقع، تمامًا كما انتظروا ان تأتيهم الأعجوبة مما اسموه "ثورة تشرين" الموجهة في الدرجة الأولى ضد رئاسة ميشال عون.

وفي المحصلة يمكن القول بأن ميشال عون نجح في الوصول الى الرئاسة لكنه لم ينجح في الرئاسة. وهذا لا يعني أن سابقيه في الرئاسة قد نجحوا.

وهذا درس في السياسة لكل قائد راديكالي يفكر بالوصول الى السلطة عن طريق التسوية مع الخصوم، لأنه يرسخ الوهم بأن التوقعات غير الواقعية يمكن ان تصبح واقعًا ملموسًا.

لكن ما العمل في لبنان حيث لا خصم يستطيع مهما فعل أن يدحر خصمه. فقد كتبت الطائفية على اللبنانيين ان يعتادوا على النوم مع العدو

إدارة التهميش

20 / 9 / 2022

على مشارف انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان، من الطبيعي أن يدور البحث في مواصفات الرئيس المنشود، بمعنى البحث عن شخص مناسب للمرحلة المقبلة.

لكن هذا الطرح يبقى طريح العبث من غير استشراف لماهية المرحلة المقبلة.

إن من المؤكد ان الرئيس الجديد، أيًا كانت مواصفاته لن يستطيع، وليس في يده، أن ينتشل لبنان من وضعه الراهن. فالأمر الآن، في مسيرة الانحدار الجارية، تجاوز إمكانية ما يسمونه "إدارة الأزمة". لبنان الآن في مرحلة التهميش داخليًا وإقليميًا ودوليًا، وبالتالي فإن الرئيس المطلوب هو الشخص القادر على إدارة التهميش. فالرئيس الهامشي لا يستطيع ان يُبحر في خضم التهميش. بل على العكس من ذلك تمامًا. وربما كانت القوى الخارجية التي تدفع بلبنان الى التهميش هي التي تدفع باتجاه انتخاب رئيس هامشي للمرحلة المقبلة.

فإذا كان المطلوب إخراج لبنان من حالة التهميش المؤدية الى التآكل الداخلي. فإن "الرئيس القوي" هو الآن أقدر على الإبحار عكس التيار، لأنه الأقدر على ترتيب أولويات الوضع الداخلي لتعزيز مكامن خرق جدار التهميش. ذلك ان المساعي الخارجية لتهميش لبنان في المرحلة المقبلة، تعمل قصارى جهدها منذ عقود، لإضعاف خوارق التهميش في لبنان وهي كثيرة.

والأسواء من ذلك، أن الرئيس الهامشي يمكن ان يؤدي الى مزيد من التوتر الداخلي لأنه لن يكون قادرًا على منع نشوء حالة من الاستقطاب الحاد بين مكامن الخوارق ومكامن المآزق، مما قد يؤدي إلى احتمالات أسوأ من التهميش الراهن.

ولا يخفى على العارفين ببواطن الأمور ان إدارة التهميش أصعب بكثير من إدارة الأزمة لأن احتمالات الحرب، الداخلية والخارجية، ترتفع على غيرها من الاحتمالات، بما في ذلك احتمال استمرار الوضع الراهن المؤدي الى تزايد التآكل من الداخل.

ذلك انه لم يعد ممكنًا أن ينشأ وضع، ولو منقح، على قاعدة أن قوة لبنان في ضعفه، وكانت من أسباب الحرب الأهلية الطويلة والمتمادية بطرق أخرى.

 

لبنان غير اللبناني

7 / 9 / 2022

عبثًا يحاول اللبنانيون أن يجدوا بأنفسهم صيغة إنقاذيه لبلدهم، ليس لأنهم لا يستطيعون، بل لأنهم لا يريدون. وهم لا يريدون لان دون ذلك مشقات وتضحيات جسام.

فقد تأسس لبنان الحديث ليكون لغير اللبنانيين، واللبنانيون فيه مجرد أدوات بالأجرة.

أريد للبنان أن يكون وظيفة لقوى من خارجه، فتحول اللبنانيون الى موظفين عند الغير. ولذلك لم يصبحوا شعبًا واحدًا ولن يصبحوا والحال هذا.

لبنان الكبير صنعه الفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولى، ولبنان "المستقل" صنعه الجنرال البريطاني السير ادوارد لويس سبيرز، ولبنان بعد الميني حرب أهلية صنعه التفاهم الأميركي - المصري، ولعب فيه السفير المصري عبد الحميد غالب دور المندوب السامي، أو دور الجنرال سبيرز سابقًا. ولبنان بعد الحرب الأهلية الكبرى صنع في المملكة العربية السعودية، أو بالأحرى صنعه الأميركيون بعقال سعودي - سوري. وبعد ربع قرن من الوصاية السورية الخالصة، تم ترقيعه في تفاهم غامض رعته دولة قطر نيابة عن رعاتها الأقربين والأبعدين.

هل يعتقد النواب الجدد الململمون من هنا وهناك أنهم قادرون على التأثير في انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟ هم مثل زملائهم الأقدمين الذين يحركهم نبيه بري بإشارة من الخارج متى حان وقتها.

معظم القوى السياسية اللبنانية الراهنة مرابطها ومعالفها في الخارج، ومن ليس مرتبطًا في الشكل فإنه متحالف مع قوى مرتبطة ولو أنه لا يأكل من معلفها.

انتظروا الإشارة من نبيه بري، ولو ان أنتيناته قد ضعفت في هذه الأيام لكثرة الاستعمال!

 

أوهام لبنانية

25 / 8 / 2022

يتوهم كثيرون من اللبنانيين أنهم يعيشون في ظل نظام الاقتصاد الحر، بل إن منهم من يضفي عليه مسحة عقائدية، أو إيديولوجية، حسب لغة أهل اليسار، وليس بالضرورة من الميسورين.

فكيف يصدق المدعون ذلك أنفسهم، أو يصدقهم الناس، وقد عاش البلد أكثر من عشر سنوات متواصلة من دون ميزانية عامة للدولة في انتهاك واضح وفاضح للنصوص الدستورية وفي ظل مجالس نيابية منتخبة ومكتملة الشرعية بموجب القوانين السارية على علَّاتها.

وربما كانت مسؤولية المجلس النيابي في هذه المخالفات، فوق مسؤولية الحكومات المرتكبة لها، لأنه لا يجوز له السماح لأي حكومة، وبخفة تنبئ باستخفاف مهين بالشعب، أو على الأقل بالناخبين، فضلًا عن الاستخفاف بعقول الذين ما زالت عندهم عقول من اللبنانيين.

إن هذا التقاعس التشريعي من قبل المجلس النيابي، وهو في ظل اتفاق الطائف مجلس واحد متواصل مدى الحياة، وهو الذي شرَّع الأبواب لكل انواع مسارب الهدر او مزاريبه. هذا ليس اقتصادًا حرًا. هو أي شيء غير ذلك.

فلو حدث مثل ذلك في أي دولة اقتصادها حر وتعمل بانتظام دستوري وقانوني، لسقطت الحكومة، وفتحت لجان التحقيق والتدقيق، وانطلقت مسارات إصلاحية فورية في طرق المحاسبة العامة، وفي أساليب الرقابة على الإنفاق العام.

أقل ما يقال في الوضع اللبناني منذ الطائف الى اليوم، إن إدارة الدولة للاقتصاد الوطني هي إدارة غير مسؤولة، مما يسمح بوصفها أنها مشبوهة وفاسدة، ويسمح بالقول ان النظام الاقتصادي القائم ليس نظامًا اقتصاديًا وطنيًا وليس اقتصادًا حرًا، على الاقل بالمعايير التي كان عليها في بداية المرحلة الاستقلالية.

في ذلك الوقت كانت هناك مجالس نيابية محترمة، وصحافة مستقلة، ورأي عام فاعل. فهل يعرف لبنانيو اليوم ان الرأي العام اللبناني في مطالع خمسينات القرن الماضي، مدعومًا بصحافة ذلك الوقت، أجبر الدولة والمجلس النيابي على منع السيارات العاملة بمادة المازوت لأنها تلوث البيئة، وتتسبب بانتشار الأمراض الصدرية المستعصية؟

هذا قبل ان يفكر أي بلدٍ آخر في العالم في الشأن البيئي.

فأين يومنا من أمسنا.

 

العبث الدستوري

24 / 8 / 2022

ابتلي لبنان منذ استقلاله بمرض استسهال العبث الدستوري بتعديل الدستور، لا لغايات تحسين الأوضاع العامة، أو تدعيم الحريات، أو تحسين الأحوال المدنية والمعيشية للشعب، إنما لأغراض سياسية حزبية او انتهازية.

ومع أن حالات التعديل المفتعل للدستور تمت من الناحية الشكلية حسب الأصول، لكنها جميعها كانت خارقة لروح الدستور وللمسلك الدستوري القويم.

بل إن هذا الغش الدستوري تفاقم الى حد مخالفة النص الدستوري علنًا وصراحة، بانتخاب قائد سابق للجيش رئيسًا للجمهورية وهو بعد في وظيفته، وعلى الرغم من مطالبة بعض النواب بتعديل شكلي للدستور في جلسة الانتخاب ذاتها من اجل ستر هذا العيب، فظهرت رئاسة مجلس النواب بتجاوزها حتى للمطلب الشكلي، وكأنها تعمَّدت مخالفة الدستور على عينك يا تاجر، كما يقال.

خطورة خرق الدستور بهذا الشكل الفظ والوقح أنها تُشجع جميع دوائر السلطة، من القضاء الى أصغر دائرة في الدولة، على خرق القوانين المفروض أن تكون مرعية كحالة طبيعية ومستدامة طالما بقيت للدستور حرمته وقدسيته.

حتى الشعب نفسه، والذي صدرت القوانين من اجله، ويصدر القضاة أحكامهم باسمه، انخرط في هذا الفساد الكبير، وبات يستسهل خرق القوانين، فبات القانون هو الاستثناء، والقاعدة هي العبث والتلاعب، من بائع الفجل الى تاجر الجملة، ومن الطبيب والمستشفى الى أصغر الصيادلة، وقس على ذلك.

وتسير الأمور الآن نحو مخالفة دستورية أفدح يرتكبها رئيس حكومة تصريف الأعمال بامتناعه عن تشكيل حكومة دستورية نظامية تتولى مهام رئاسة الجمهورية في حال حدوث فراغ رئاسي بانتهاء ولاية رئيس الجمهورية بعد شهرين.

وسوف يكون خرقًا فادحًا، ليس فقط للدستور، بل لكرامة اللبنانيين جميعًا، إذا ما تولت حكومة مستقيلة مسؤوليات رئيس الجمهورية ولو ليوم واحد.

غريب امر اللبنانيين الذين يعانون الأمرَّين في هذه الأيام ان يتصرفوا وكأنهم قاصرون غير بالغي الرشد.

فهل يريدون ان يباهوا الأمم أنهم قادرون على العيش بدون نظام، أو قانون، أو رئاسة، أو حكومة؟

فهل اللبنانيون اليوم غير اللبنانيين الذين هبوا لإسقاط الرئيس الاستقلالي الأول الذي افتتح مسيرة العبث بالدستور؟

فاذا كانوا قد تخلوا عن الحياة الدستورية الحقيقية وعن حكم القانون، فما لزوم أن تكون لهم دولة؟

 

رئاسة وجمهورية

19 / 8 / 2022

بات انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان معضلة صعبة، لأن الجمهورية ذاتها أصبحت مزعزعة مشلَّعة الأركان. والمعروف لدى اللبنانيين وغيرهم، أنه حتى عندما كانت أوضاع الجمهورية أكثر ثباتًا قبل الحرب الأهلية، فإن رئيسها كان يجري التفاهم عليه في الخارج بين قوى غير لبنانية.

فالفئات اللبنانية الناخبة في المجلس النيابي تتحرك دائمًا على هذا الإيقاع الخارجي. ومن الطبيعي أن يزداد الوضع تعقيدًا بعد الحرب الأهلية والتسوية الخارجية التي نتجت عنها، لأن الحرب الأهلية افرزت بؤرًا طائفية خبيثة أشبه بالأورام السرطانية التي لا شفاء منها.

ومشكلة رئاسة الجمهورية في لبنان كانت وما زالت مشكلة المسيحيين، والموارنة منهم تحديدًا، لان الرئاسة فيهم كما هو العرف.

في جمهورية ما قبل الحرب كان الأمر أيسر لأن لبنانية لبنان كانت أوضح وأرجح، ولأن اللبنانيين كانوا أكثر لبنانية.

فكيف يكون لبنان هذا لبنانيًا عندما يأتيه رؤساء يهتفون علنًا لدول أخرى لقاء أعطيات مالية؟ وكيف يكون لبنانيًا ولا أحد فيه يعرف أعداد الأغراب المعششة فيه؟

فلا الجمهورية اليوم ذات موضوع، ولا رئاسة الجمهورية ذات معنى. ولذلك فإن المراهنين على رئيس ينهض بلبنان من وهدته واهمون، لأنه لا نهوض حقيقيًا له وهو مفكك الأوصال مشتت الفكر مبعثر المقاصد. فلا نهوض له ان لم يكن قادرًا على النهوض من نفسه، ولكي يتم ذلك يجب ان يعود لبنان لبنانيًا وللبنانيين.

اي رئيس للبنان غير لبناني ولغير اللبنانيين!

 

التضخم المستدام

15 / 8 / 2022

روى المفكر الاقتصادي الأميركي الراحل ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد لعام ١٩٧٦، انه خلال الحرب الأهلية الأميركية (1861 - 1865)، ضاقت أحوال حكومة الجنوب الانفصالية بسبب الحرب والحصار الذي فرضته الحكومة الاتحادية في الشمال، فقررت ان تطلق العنان لمطبعة الدولارات من أجل تغطية نفقاتها الحربية، ولم يمض وقت طويل حتى راح التضخم يتصاعد بشكلٍ مخيف.

لكن بعد فترة هدأت موجة التضخم فجأة من غير سبب اقتصادي ظاهر. ثم تبين أن مطبعة الدولارات تعطلت، وهي من صنع اوروبي (ألماني على الارجح) فتوقف طبع الدولارات ريثما يأتي من الشركة الصانعة فريق من المهندسين لتصليحها وإعادة تشغيلها، وهذه في ذلك الوقت مهمة شاقة وتستغرق وقتًا طويلًا.

والعبرة من ذلك أن الحكومات هي التي تصنع التضخم لأهداف سياسية، خصوصًا حكومة الولايات المتحدة، سواء بالاقتراض عن طريق سندات الخزينة، أو العجز في الميزانية العامة للدولة، أو بالطبع الكثيف والمباشر للأوراق النقدية، أو بالتوسع الائتماني من غير كفالات موثوقة.

وفي العقود الإلكترونية الأخيرة بات كل مواطن حول العالم يحمل مطبعة للعملة في جيبه اسمها "البطاقة الائتمانية". فعندما تذهب الى السوق لتشتري أشياء لا تحمل أو تملك ثمنها، وتدفع ثمنها بالدين على بطاقتك، تكون في واقع الامر قد طبعت المبلغ، واضرب ذلك بمئات الملايين من حالات الإنفاق هذه يتبين لك حجم الكتلة النقدية غير المنظورة وغير المطبوعة خارج سلطة البنك المركزي الوافدة الى الأسواق كل يوم بغير انقطاع، فتعرف أن حالة التضخم باتت حالة عضوية في صلب النسيج الاقتصادي المعولم الآن.

وهذا الفعل التضخمي المقصود والمتعمد من قبل الحكومات، خصوصًا تلك المتحكمة بالأوضاع الاقتصادية العالمية، له مبرراته لديها، وأسهلها، على سبيل الإقناع، في وجه المطالبين بحل غير متيسر لمشكلة التضخم، أن قدراً من التضخم خير من الركود، إلا إذا تعطلت المطابع، حسب رواية فريدمان. وبناءً عليه فإنَّ التضخم هو الآن حالة دائمة ومستدامة وباق معنا كالفقراء في كل حين، لأنه أهون الشرور.

وهذه الشرور في عالم اليوم كلها كارثية. فالتضخم أهون من الانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأهون من الحروب الأهلية، وأهون من المجاعات الواسعة، وأهون من الاضطرار الى التحكم الديموغرافي بسكان المعمورة بصورة إجرامية تعسفية، وطبعًا أهون من حرب عالمية لا تبقي ولا تذر.

والمفارقة في الأمر ان موجات التضخم سببها الأساس هو الحروب والإنفاق العسكري، منذ أن راح الامبراطور الروماني دوميتيان، شقيق الامبراطور تيتوس، الذي هدم الهيكل على رؤوس اليهود في القرن الأول الميلادي، يخلط العملة الذهبية بالنحاس، فانخفضت قيمتها وتحولت من عملة نفيسة الى عملة خسيسة … أشبه بالعملة اللبنانية اليوم.

 

الدولار والبوار

11 / 8 / 2022

في عام 1950 القى الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري قصيدة رثاء في حفل تأبيني للزعيم الوطني اللبناني المرموق عبد الحميد كرامي انتشرت كالنار في الهشيم، قامت الحكومة اللبنانية بعدها بطرده من لبنان ومنعه من دخوله. وفي تلك القصيدة وصف الجواهري الدولار وكأنه يومها كان يحكم لبنان كما يحكمه اليوم. قال من جملة ما قال في تلك المرثية العظيمة:

تنهي وتأمر في البلاد عصابةٌ

ينهي ويأمر فوقها استعمارُ

خويت خزائنها وقد عصفت بها

الشهواتُ والأسباطُ والأصهارُ

واستنجدت، ودم الشعوب ضمانها

ورفاهها، فأمدَّها الدولارُ

يُلوى به عصب البلاد وتُشترى

ذممُ الرجالِ وتُحجبُ الأفكارُ

وصحافةٌ صفرُ الضميرِ كأنها

سلعٌ تُباعُ وتُشترى وتعارُ

خزائن خاوية شفطتها العصابات فاستنجدت بدولارات صندوق النقد الدولي التي لم يظهر لها اثر بعد.

لكن قصة الدولار في هذه الأيام تتعدى لبنان الى الاقتصاد العالمي برمته، لإن قيمته في هذه السنة ارتفعت بأكثر من عشرة في المئة، مع ان نسبة التضخم في الولايات المتحدة تجاوزت هذه النسبة، وتجاوزت نسب التضخم في بلدان عديدة حول العالم.

فالولايات المتحدة اليوم، تعيش على حساب بقية العالم، لأنها تملك العملة السحرية التي ترتفع قيمتها الشرائية مع انخفاض قيمة بقية العملات العالمية. والمفارقة في الأمر أن الولايات المتحدة تمر في داخلها هذه الأيام بأزمة تضخم خطيرة وجدية وموجعة.

والمفارقة الأخرى أن سبب ارتفاع قيمة الدولار يعود الى رفع سعر الفائدة من قبل البنك المركزي الاميركي، مما يحمل أصحاب الاموال في العالم على تحويل اموالهم الى الدولار للإفادة من الفائدة المرتفعة على الدولار، وهو ما ينبىء بمرحلة قادمة من الكساد والبوار على الصعيد الاقتصادي العالمي..

هذا مع العلم أن الشعب الأميركي بات يشعر بهبوط مستوياته المعيشية من خلال ارتفاع أسعار المواد في الداخل بنسبة اعلى من نسبة ارتفاع قيمة الدولار إزاء العملات الأخرى.

وهذا الوضع المعقد، الذي بدوره يعقد خيارات البنك المركزي، بدأ يبطئ بالفعل حركة النمو الاقتصادي داخل اميركا، لأن مسيرة الصعود في اسعار الفائدة أخذت تقلص حجم الاستثمارات، لإن الاقتراض من المصارف لغايات الاستثمار بات عالي الكلفة على المستثمرين.

وأن يطل البوار أو الكساد الاقتصادي برأسه مع ارتفاع الفائدة وارتفاع التضخم، سوف يدفع البنك المركزي الاميركي، وربما في وقت قريب الى مسلسل خفض الفائدة المصرفية، الأمر الذي سوف يفاقم مشكلة التضخم.

وهذا المأزق الأميركي هو في الواقع مشكلة عالمية، حتى بالنسبة الى البلدان التي لا تتعاطى بالدولار، بالنظر الى ان معظم اسعار المواد المتداولة في التجارة العالمية، وخصوصًا أسعار الطاقة، يجري تسعيرها بالدولار الأميركي.

وهكذا فإن اميركا في هذه الأيام، بل ربما في كل الأيام، تستورد من بقية العالم سلعًا رخيصة وتصدر اليه التضخم الذي له فعل الإفقار. حتى الشعب الاميركي نفسه بات يشعر بحالة الإفقار هذه في بلاده.

ليس لأميركا ما تصدره الى بقية العالم الآن سوى التضخم والمزيد من التضخم، بسبب عملة لا قيمة حقيقية لها سوى فعلها السياسي، كما وصفه الجواهري قبل نحو خمس وسبعين سنة.

 

عملة السياسة

9 / 8 / 2022

تضرب العالم كله اليوم موجة من التضخم وضيق العيش عزيت الى الحرب الاكرانية، فخفضت قيمة العملات، وخفضت معها مستويات المعيشة للطبقات الوسطى والفقيرة.

وكالعادة في مثل هذه الحالات تلجأ الحكومات الى توزيع مساعدات نقدية وعينية على الشرائح الشعبية الأفقر، وتلجأ البنوك المركزية الى رفع اسعار الفائدة لضبط التضخم بتهدئة الإنفاق.

ففي بريطانيا اليوم، على سبيل المثال، وزع وزير المالية المرشح لرئاسة الحكومة مبالغ نقدية على المتقاعدين وذوي الدخل المحدود، لمساعدتهم على مواجهة دفع فواتير الوقود والطعام التي تصاعدت الى مستويات غير مسبوقة، وقام البنك المركزي برفع اسعار الفائدة للحد من الاقتراض. لكن وزيرة الخارجية التي تنافسه على رئاسة الحكومة تعارض هذه السياسة (باعتبارها نوعًا من الرشوة) ودعت إلى خفض مستويات الضرائب بدلًا من ذلك.

هذه اجتهادات عاجلة تحت وطأة ظروف داهمة، خصوصًا انها تأتي بعد فترة طويلة جدا من استقرار أسعار السلع والمواد، بحيث ظن كثيرون ان هذه الحالة يمكن ان تستمر الى زمن طويل بعد الأزمة المصرفية العالمية الواسعة في عام 2008، فانخفضت معها اسعار الفائدة الى الصفر تقريبا في بعض الحالات (بعكس لبنان الذي بقيت فيه اسعار الفائدة المصرفية فلكية).

فلبنان من هذه الناحية حالة خاصة، والأزمة المالية والنقدية فيه سابقة للأزمة العالمية الراهنة، وإن كانت هذه قد فاقمت الأزمة اللبنانية. ولذلك فإن قواعد المعالجة العالمية لا تنطبق على الحالة في لبنان، لإن طبيعتها وقوانينها وتصرفاتها مختلفة، وعلاقة السياسة بالاقتصاد فيها مختلفة أيضًا، بحيث يمكن القول بإن النظام اللبناني ليس من هذا العالم!

لكن هناك وجه شبه من حيث أنَّ حاكم البنك المركزي اللبناني المتحكم بالكتلة النقدية تحكما عشوائيا، والبنوك الخاصة التي يشرف عليها، يعملون تحت غطاء دستوري ضبابي غامض، خارج صلاحية المؤسسات السياسية والقضائية. لكن البنوك المركزية في الغرب لها استقلالية واضحة من حيث تقدير الأوضاع والتصرف حسب المقتضيات النقدية، وهذه أيضا في إطار دستوري غير واضح أيضًا، منذ إقرار استقلالية البنوك المركزية عن التدخل السياسي، بينما بقي التدخل السياسي في لبنان قائمًا بصورة غير قانونية وغير معلنة وغير معترف بها، ويجري التستر عليها تحت مسميات مختلفة. فلم يسبق ان مثل حاكم مصرف لبنان امام لجنة تحقيق برلمانية للإجابة عن اسئلة محددة في قضايا نقدية مهمة مثل "البدعة" التي اسماها "الهندسات المالية" ولا أحد يعرف أسبابها الموجبة، وكيفية تطبيقها، ومصادر تمويلها.

على أن المناقشات المالية والنقدية الدائرة اليوم في العالم تنبئ بخلل عضوي في النظم الرأسمالية، مما دفع بتلك المناقشات للعودة الى الجذور الفكرية القديمة والحديثة للمسائل الاقتصادية والمالية.

وقد صدر أخيرًا عن جامعة برينستون الأميركية كتاب مهم للأستاذ في جامعة جورج تاون في العاصمة واشنطن ستيفان آيخ بعنوان: "عملة السياسة: النظرية السياسية للمال من أرسطو الى كينز". وقد أعادني هذا الكتاب اثنتين وستين سنة إلى الماضي عندما درست في الجامعة عام 1960 كتاب أرسطو "في السياسة" (في القرن الرابع قبل الميلاد) مع الدكتور ماجد فخري، وفي السنة الأكاديمية ذاتها درست الكتاب الكلاسيكي للمفكر الاقتصادي البريطاني المشهور جون مينارد كينز وعنوانه "النظرية العامة للعمالة والفائدة والمال" مع الدكتور ألبرت بدر.

ومع ان أرسطو كان اول من لمح المعالم المزدوجة للمال، النقدي منه على وجه الخصوص، فاعتبر النقود مرآة المجتمعات التي تتداولها، وهي بهذه الصفة أوهام عمومية، فإن كينز ما زال هو المهندس الأول للنظام العالمي المالي الراهن السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

كينز هو الذي اقترح في اتفاقيات "بريتون وودز" بعد الحرب العالمية الثانية انشاء "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي". وهو الذي بعد الحرب العالمية الأولى، وكان مستشارًا لرئيس الحكومة البريطانية لويد جورج، عارض بشدة فرض عقوبات مالية قاسية ضد المانيا في مؤتمر فرساي للسلام بالقرب من باريس، ولم يؤخذ برأيه، مع انه أوضح ان هذا التشدد ضد المانيا سوف يؤدي الى حرب عالمية جديدة.

صحيح ان العالم تغير، لكن القضايا الأساسية فيه ما زالت جارية وقيد البحث والمناقشة. أو كما يقول الفلاحون في بلادنا: "الدنيا دنيا والغراب أسود"!

 

تطويع لغة السياسة

8 / 8 / 2022

دائما كنت معجبًا ومتفكراً بقدرة اللغة على تطويع ذاتها للتعبير عن الأفكار والفروقات. وهذا التطويع شقت طريقه في العالم القديم لغة الإغريق لكونها رائدة في أنواع مختلفة من المعرفة، كالفلسفة، والعلوم، والتاريخ، والطب، والأدب، والمسرح، والسياسة، والخطابة، والبيان.

وعندما كتبت في تعليق سابق عن "حكم الحرامية" الذي عبرت عنه الكلمة اليونانية "كليبتوقراطية"، ربما كواحدٍ من افرازات الديموقراطية، وهي أيضًا تعبير يوناني فرض نفسه على لغات العالم قاطبة، ناقشني أحد الأصدقاء المراسلين بان عبارة "كليبتوقراطية" لا تعني فقط الذين في السلطة ويسرقون الدولة والناس، بل كل انواع السرقة المتفشية في المجتمعات، وخصوصًا في المجتمعات التي تكون فيها يد كل واحد في جيب الاخر، كما هو الحال في لبنان، بعدما اتت الطبقة الحاكمة على كل شيء كالجراد. وقال أيضًا انها تعبير عن حالة مرضية لدى بعض الأفراد الذين تجري السرقة في عروقهم ويستدل عليهم بعبارة "كليبتومانيا" اليونانية، أي "مرض السرقة" أو "الإدمان على السرقة."

ولفتني الى حالات من السرقة لا تسري عليها العبارة الإغريقية أبرزها اثنتان. حالة "اللص الظريف" الذي ليست غايته السرقة، بل إغاظة قوى الأمن المتقاعسة، على غرار الفرنسي أرسين لوبين، وحالة "اللص الشريف" الذي لا يسرق لنفسه، بل يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء، على غرار الانكليزي روبين هود، وكلاهما خلدهما التاريخ مثل أشرف القادة في العالم.

وفي سياق هذه المناقشة حول الاشتقاقات اللغوية وتطويعها في السياسة، أحالني على المفكر الفرنسي

جوزيف ماري، الكومت دو ميتر، Joseph Marie, Comte de Maistre  

الذي عاصر الثورة الفرنسية وكان معاديًا لها، باعتبار انها حملت الى السلطة مجموعات من القتلة

والحثالات البشريَّة الذي أطلق على هذا النوع من الحكم العبارة الفرنسية

Canaillocracie

التي قصد بها نظام الحكم المقيت الذي يقوده السفلة والأوغاد والقتلة … والحرامية أيضاً.

وفوق كل ذي علم عليم!

 

"الحقيقة اللبنانية"

4 / 8 / 2022

بفعل تناقضات المصالح المحلية والخارجية الفاعلة في لبنان، طغت "الحقيقة اللبنانية" على "الفكرة اللبنانية" حتى في بيئتها الأم.

ومن اوائل الذين لمحوا ذلك في ثلاثينات القرن العشرين الأستاذ البيروتي الكبير عمر فاخوري في كتابه المطموس "الحقيقة اللبنانية" حيث شخَّص الطبيعة المركنتيلية لتركيبة الشعب اللبناني بقوله:

"أهل هذه البلاد أشتات، روحًا ومقاصد، لا تسمو نفوسهم ولا تطمح هممهم ولا يضحون في سبيل المصلحة الوطنية قلامة ظفر. هم تجَّار، بعضهم يتاجر بالوطنية، ومن لا يتاجر بها فلأنه يتاجر بغيرها، أو لأنه عاجزٌ، او لأن الماء جارٍ تحت قدميه ولا يدري".

وخلال الحرب الأهلية المقيتة، لمح هذه الظاهرة، متأخرًا مع الأسف، الزعيم الكتائبي الشيخ بشير الجميل المنتخب رئيسا للجمهورية صيف 1982، عندما صدمته النزعة المركنتيلية من حوله، فما كان له سوى ان يدينها بكلمات خافتة غير مسموعة قبيل تصفيته قبل ان يصل الى كرسي الرئاسة.

وأخيرًا شرح الخبير النفطي العالمي الأستاذ نقولا سركيس كيف جرى تزوير قانون النفط اللبناني الصادر قبل سنوات، في مراسيمه التطبيقية الصادرة تاليًا، بغية استيلاء الحرامية على الثروة النفطية والغازية الكامنة في قعر البحر، وحرمان الدولة والشعب اللبناني، المالكين الفعليين لهذه الثروة، من منافعها عن طريق شركات وهمية في الخارج، او صورية في الداخل.

وحتى بالعودة الى بعض اوائل القائلين بالفكرة اللبنانية، وأبرزهم ميشال شيحا، يمكن رؤية ملامح إلباس الفكرة اللبنانية لباسًا وظيفيًا في خدمة المركنتيلية برسم صورة للبنان على انه " مصرف ومرفأ "، لكن بطريقة أرقى من الصورة التي ظهرت هذا الصيف، تحت وطأة الضنك والحاجة، وكأن لبنان مجرد فندق او مطعم.

فإذا كانت صورة " المصرف والمرفأ " هي الصورة الاصلية، فإن انهيار المصرف وتدمير المرفأ ينبئان بأن لبنان لم يعد مرغوبًا فيه حتى بالوجه الوظيفي من مبرر وجوده.

رحم الله عمر فاخوري، وميشال شيحا، وبشير الجميل، واطال عمر الاستاذ نقولا سركيس.

 

الكيان والتكوين

2 / 8 / 2022

وسط الاضطراب السياسي والفكري الواسع في لبنان والعالم العربي، بفعل انعدام امكانية الاتحاد على اساس التنوع، وبفعل وجود جسم غريب في وسطه شلَّ جسده وعطل تفكيره، لا بد من العودة الى الفكرة اللبنانية الأصلية التي هي نقطة الارتكاز في لبنان والعالم العربي (على الأقل قبل إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلَّة)

ذلك ان كثيرين من اللبنانيين والعرب وقعوا في خطأ جسيم عندما وضعوا الفكرة اللبنانية في وجه "العروبة". ومن العوامل المتسببة بهذا الاختلال الفكري في الدرجة الأولى، الخلط بين لبنان الحالي، بنظامه ومؤسساته ودستوره، وبين الفكرة اللبنانية.

فالذين، من اللبنانيين والعرب، يسألون اليوم:

 "الى أين نحن ذاهبون من هنا بعد هذا الانهيار اللبناني والانحراف العربي؟"،

يجب ان يتذكروا أن هناك نقطة استرشاد موثوقة وسط هذا الضباب الفكري الكثيف، هي الفكرة اللبناني.

العنوان العريض لهذه الفكرة هو أن الاتحاد مع التنوع يشكل الأساس الصلب للسلام الدائم، إذا كان السلام الدائم هو المطلوب، لأن هذا المطلب غير مؤكد حتى الآن.

ومن المفترض تحت هذا العنوان، وهو افتراض من النسيج التفصيلي للفكرة اللبنانية، أن السلام اللبناني من شأنه ان يوقف الحرب الدائمة في العالم العربي. لكن المفارقة الكبرى الآن هي تحوُّل لبنان الى مكان للحرب الدائمة وسط عالم عربي مهرول الى "السلام" الاسرائيلي القائم أصلًا على الغزو والحرب الدائمة، وهذا التحول العجيب يتحمل اللبنانيون مسؤولية كبيرة عنه لعدم فهمهم او لتجاهلهم فحوى الفكرة اللبنانية. ذلك أن لبنان بمفرده، وبحالته المزرية والمتدهورة في الوقت الحاضر، لا يستطيع أن يتحمَّل بمفرده عبء ومسؤوليَّة قضية بحجم العالم كله كالقضية الفلسطينية!

فالنظام اللبناني هذا، او على الأصح "اللانظام"، أصبح مقيمًا إقامة دائمة في دائرة الحرب، وبذلك حوَّل جميع اللبنانيين الى معتقلين في كياناتهم الطائفية.

ان الفكرة اللبنانية الأصلية هي روح حي، فلا هي حكومة، ولا هي نظام، ولا هي دستور، ولا هي مؤسسات. والروح الحي لا يموت بموت الحكومات، أو سقوط المؤسسات، لإنه النفحة الوجودية الكفيلة بإعادة التأسيس في اي وقت وتحت أي ظرف، شرط أن يكون أهل هذه الفكرة أهلاً لها ليستأهلوها.

هو "الخميرة" في عجين الشرق لجعله خبزًا محيياً. فالذي فعله اتفاق الطائف وأهل الطائف، أنهم قلبوا الادوار، فألقوا الخميرة الحيَّة في سلة المهملات، وأبدلوها بخميرة فاسدة أدت إلى مجاعة مقيتة. وهكذا تحول لبنان، بفعل خنق روحه الحي، الى مخلوق مسخ لا رجاء له إلا بعودة الروح المتجسد بالفكرة الأصليَّة التي برَّرت وجوده كياناً وتكويناً.

وقبل أي جواب عن السؤال الى أين من هنا، لا بد من فرز ثلاثة التباسات أساسية هي:

أولًا، الفكرة اللبنانية الأصلية، أو السبب الموجب الفعلي لقيام لبنان المتنوع في شرق أحادي.

ثانيًا، النظام اللبناني الذي قام بعد الاستقلال على فكرة سليمة وممارسة ملتوية.

ثالثًا، النظام اللبناني غير اللبناني، خصوصًا نظام ما بعد الطائف، الذي قام على فكرة فاسدة وممارسة أفسد، فصار الفساد هو القاعدة والنزاهة هي الاستثناء، خصوصًا النزاهة الفكرية.

وقد يقول قائل: لماذا كل هذا التركيز على الفكرة اللبنانية؟

الجواب بسيط:

ان الأفكار، سواء نجحت في إقامة مؤسسات مجسدة لها، أو قامت المؤسسات بخنقها، كما هو حاصل في هذه الأيام، لها خاصية الديمومة بينما النظم والمؤسسات زائلة. ولذلك، فإن لبنان باق ما بقيت الفكرة اللبنانية حيَّة، أيًا كانت التطورات، وأيًا كان مصير المؤسسات.

 

اتحاد لا وحدة

31 / 7 / 2022

جميع شعوب العالم قاطبة تتمنى شيئاً واحداً مشتركاً وهو ان تعيش بسلام دائم. وهي الأمنية الوحيدة التي لم تتحقق منذ بدء الخليقة، بل صارت الحرب هي الشيء الدائم!

حتى الأديان السماوية التي كانت دعوة السلام مبررها الأول، وجدت بين صفوفها من يفتي للحرب ويبررها، مرة باسم "الحرب العادلة"، كما أفتى القديس اوغوسطين في القرن الخامس، بعدما كانت المسيحية الأولى ترفض فكرة الحرب بالمطلق، ومرة باسم "الجهاد في سبيل الله"، ومرة باسم "الحق" وما الى ذلك.

وبعض المفكرين الذين تبحَّروا في مسألة الحرب والسلم، أعطوا للحرب هدفًا إنسانيًا عظيمًا هو السلام، أي مكافحة الحرب بالحرب، تحت مسمى "الحرب الدائمة من اجل سلام دائم".

ففي التاريخ المدوَّن بشكل واسع وموثوق، أي من بداية الحروب الفارسية- الإغريقية، ثم الفارسية - الرومانية، في الفترة الممتدة من القرن السادس قبل الميلاد الى "معاهدة السلام الابدي" في القرن السادس بعد الميلاد، بقيت أوروبا هي مصدر الحروب ومحركها ومسرحها حتى منتصف القرن العشرين، حين بدأت تتبلور فكرة "الاتحاد الاوروبي" على أسس تقدم بها مفكرون سياسيون واقتصاديون فرنسيون امثال جان- باتيست روبير شومان، وجان مونيه، وروبير مار جولان، وغيرهم.

والفكرة أساسها بسيط: بدل الحرب الدائمة سلام دائم، وبدل التباعد والصراع تضامن، وبدل الاستكبار مساواة بين الكبير والصغير.

هذه هي الفكرة الاتحادية التي ارست سلامًا ناجحا سواء في صيغتها المصغرة مثل سويسرا، او صيغتها الكبرى مثل الإتحاد الأوروبي.

فالدول الاتحادية او الفدرالية أثبتت انها أرقى وأنجح من الدول الوحدانية. اميركا دولة اتحادية، وكذلك روسيا، وكذلك البرازيل، وكذلك بريطانيا، فهي تجمع بين التضامن والمساواة، كأساس للسلام الداخلي الدائم.

وليس مفهومًا لماذا ينفر اللبنانيون من الفكرة الاتحادية أو الفدرالية القائمة على المساواة والتضامن، ويتمسكون بفكرة "الوحدة الوطنية" القائمة على التكاذب والتنافر. فالاتحاد يخفف او ينفي حتى، نزعات الهيمنة والاستئثار، بينما تظل هذه النزعات في الصيغ الوحدوية حية، مما يبقي على بذرة الحروب الاهلية كامنة.

نعم للاتحاد الفدرالي الصادق، ولا للوحدة الوطنية الكاذبة.

 

قابلية...

30 / 7 / 2022

من المشكلات الصعبة في الوضع الداخلي اللبناني وجود نزعة أو قابلية لدى غالبية القوى السياسية للتعاطي المباشر في شأنهم الداخلي مع جهات خارجية. بل إن بعض تلك القوى لا يتورع عن استدراج جهات خارجية للاستقواء بها ضد خصومه في الداخل، والعكس صحيح أيضًا من حيث إن ذلك يدفع الفريق الآخر الى البحث عن جهة خارجية تناصره أو تدعمه.

هذه الحالة في لبنان مزمنة وتاريخية، وبالتالي فانه من المتعذر ان يكون، أو يصبح، وطنًا حرًا مستقلًا كما يزعم من يقولون عن أنفسهم انهم "سياديون"، وهم كغيرهم واقعون في أحضان جهة خارجية لا يرون غضاضة في إقحامها او استدراجها الى التدخل لمجرد أنهم ينسجمون معها في طريقة حياتهم، أو في نسيجهم الثقافي.

ان هذه القابلية التاريخية لدى اللبنانيين مانعة لقيام لبنان كوطن مستقل، بل هو محكومٌ بأن يبقى "ساحة صراع" بين القوى الخارجية المتضاربة المصالح والتوجهات بأدوات محلية لديها قابلية أو حتى شغف بذلك، لإنه يبقي باب ارتزاقها مفتوحًا.

فلبنان هذا، كساحة مفتوحة لكل من يأتي إليها بالمال، حتى للتبييض، هو في حالته الراهنة "باب ارتزاق" تقوده جماعات من المرتزقة.

فالارتزاق من السياسة، أو من الحرب في هذه الحالة، هو نوع من الإدمان، مثل إدمان المصارف على تبييض الأموال كما وصفت الصحافة الأميركية مصارف بلادها قبل ربع قرن عندما أثيرت قضية "سيتي بانك" في مسألة تبييض أموال مكسيكية متأتية من تجارة المخدرات.

فكيف لا تكون المصارف مدمنة إذا كان السياسيون مدمنين؟!

 

..."تحقيب"

29 / 7 / 2022

بصرف النظر عن السرية المصرفية، والتدقيق الجنائي، وتحديد المسؤوليات، وتقاذف الاتهامات، صار لبنان الى وضع ليس فيه سلطة مسؤولة، وليس فيه مؤسسات عاملة، فتعطلت الدولة والبلاد بكل مرافقها العامة.

فمنذ عام 1960، وعلى يد الرئيس فؤاد شهاب، وبعد "ميني حرب أهلية" عمت الكهرباء جميع مدن وقرى ودساكر لبنان من اقصاه الى اقصاه، وقامت بتركيب هذه الشبكة شركة بلغارية تحت الحكم الشيوعي.

في العقود الستة السابقة لأحداث 1985، كان في بيروت شبكة ترامواي وهي أرقى وأنظف وسيلة للنقل العام في العالم، عملت بانتظام وبأرخص الأثمان من أواخر الحكم العثماني، مرورًا بالانتداب الفرنسي حتى إلغائها خلال أحداث 1985، اي بعد 15 سنة فقط من الاستقلال.

وكذلك الامر بالنسبة الى سكة الحديد التي كانت تربط لبنان بالداخل السوري وما وراءه.

والشيء ذاته يقال عن بلدية بيروت "الممتازة"، كما كان لقبها الرسمي، وعن كافة المرافق العامة من القضاء والمحاكم، الى المدارس ودور التعليم الحكومية، الى المطار والمرفأ. ومن الطابو والدوائر العقارية الى دائرة الميكانيك وغيرها.

هي إذن مسيرة تقهقر الى الوراء وليست، كما زعم الزاعمون، بأنها مسيرة تقدم وإعمار وازدهار..

فليقم أحد من الدارسين، أو المعنيين، أو الجمعيات الخيرية، أو الجمعيات غير الحكومية، ليقول للبنانيين، على سبيل العلم فقط، كيف انهار كل ذلك وصار التخريب هو النهج العام تحت شعار زائف هو "الإعمار وإعادة الإعمار"!

فقط للعلم، لا للمحاسبة، ولا للمساءلة، ولا للتشفي، ولا للاقتصاص. فقط ليعرف الناس البائسون الذين يسمون أنفسهم لبنانيين، كيف ضربتهم هذه العاصفة المدمرة، ومن أين هبت عليهم، وما مسؤوليتهم هم، كي يتلمسوا الى اين هم وبلادهم ذاهبون من هنا، وماذا سيكون مصيرهم ومصير دولتهم، أو كيف سيقررون مصيرهم بعد هذا الحطام والركام.

طبعًا، لن يكون في مقدور أي جهة تتولى هذه العملية الاستكشافية أن تصل الى نتيجة مفهومة وواضحة ومقنعة، ما لم تتبين بجلاء نقطة البداية.

وهذه مهمة ليست سهلة، لأنها تقتضي الغوص الى جذور التناوب التاريخي بين الحرب الاهلية المستدامة، وبين التسويات السلمية الهشة والمؤقتة. ذلك أن عملية التناوب هذه في لبنان لم تكن يومًا انعكاسًا لموازين القوى الداخلية. والدليل على ذلك، من أجل تبسيط البحث، انه لم تتم حتى الآن أي تسوية من تلك التسويات المرقعة الا على أيدي قوى خارجية، مما يجعلها انعكاسًا لموازين القوى الخارجية..

وحتى في هذه الأيام تعلو اصوات نافذة، أعلاها صوت البطريرك الماروني، تطالب بعقد مؤتمر دولي لتقرير مصير لبنان!

وقد يكون من المفيد "تحقيب" مسلسل الحروب والأزمات التي مرت بلبنان منذ القرون الوسطى الى اليوم، وما تلاها من تفاهمات وتسويات. والتحقيب هنا بمعنى تقسيم العملية الى حقبات تسهيلًا لدرسها ومقارنتها، طالما ان مصير لبنان النهائي لم يتقرر بعد.

فلتكن البداية من الحقبة الصليبية، ثم الحقبة الصليبية- المغولية، الى الحقبة المملوكية، فالحقبة العثمانية، وهي الأهم لأنها فاتحة التدويل والتدخل الخارجي، أو ما يسمونه في الغرب "المسألة الشرقية"، ثم حقبة الحرب العالمية الأولى، وصولًا الى الحرب العالمية الثانية التي افرزت الحقبة الصهيونية الراهنة.

بالمقارنة مع تحقيب الحروب الأهلية الأوروبية من حرب المئة سنة، الى حرب الثلاثين سنة، الى حرب السبع سنوات، وانتهاءً بالحربين العالميتين وما بينهما (1914 - 1945)، تبرز ملاحظتان:

الاولى، بعكس الحروب اللبنانية، بدأت طويلة وانتهت قصيرة. في أوروبا ابتدأت بمئة سنة وانتهت بأربع سنوات، وفي لبنان ابتدأت بأربع سنوات وانتهت بخمس عشرة سنة وما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات.

والثانية، أنها انتهت بالاتحاد فيما الحروب اللبنانية تنتهي دائما بمزيد من الانقسام.

 

رئيس بأنياب

26 / 7 / 2022

كان الدستور اللبناني السابق (دستور 1926) من أرقي الدساتير في العالم، قبل العبث به في العهد الاستقلالي الأول بالتجديد للرئيس بشارة الخوري، وبعد ذلك صار الدستور الراقي ممسحة بالية.

بعد الحرب الأهلية والدستور الهجين الذي تولد عنها في الطائف، وانقضاض الحرامية الفجعانين عليه برعاية دول طامعة، منها الشقيق ومنها الغريب، خرق هذا الدستور من اول يوم. اتفقوا ان يكون مجلس النواب 108 نواب، فوصلوا الى بيروت 128 نائبا!

ويسألون كيف تحوَّل لبنان من جنة وارفة الى مزبلة قذرة، وتحول شعبه من شعب انوف شبعان الى شعب جائع مفلس في دولة مفلسة يستعطي المساعدات من هنا وهناك، حتى لجيشه وقوى أمنه!

في الدستور الأصلي كانت هناك دولة وكان على رأسها حاكم منتخب. كان لرئيس الجمهورية هيبة لإنه كان في يده أن يحل مجلس النواب إذا اشتط وأخلَّ بالموازين، وهو الذي كان له ان يعين الوزراء ويختار من بينهم رئيساً للحكومة.

أمًا في الدستور المسخ الذي تحوَّلت البلاد تحته الى بؤرة للفساد والتعطيل المستدام للقانون، فقد أصبح تشكيل الحكومات معضلة، واصبح مجلس النواب اقطاعا برئيس واحد مدى الحياة، والتشريع فيه مسخرة المساخر، بل صارت دعوة مجلس النواب الى الانعقاد من النوادر!

وها هي الجمهورية التونسية بعد عشر سنوات من الفوضى والتخبط والانهيار، تعود الى دستور اشبه بالدستور اللبناني السابق، وإلا ستذهب الى انهيار ليس له قرار.

فهل يعقل ان يمضي رئيس مثل الرئيس ميشال عون، الذي نظر اليه معظم اللبنانيين على آنه "البطل المنقذ" يقضي نصف ولايته عاجزًا حتى عن تشكيل حكومة؟

وكيف لرؤساء مكلفين، وهم ما هم كما يعرفهم الناس على حقيقتهم، أن يضعوا التكليف الرئاسي في جيوبهم ويركبون طائراتهم الخاصة ويخوتهم ويسافرون لأشهر وأسابيع خارج البلاد؟

أي شرع هو هذا؟ اي دستور؟ أي مسخرة؟

نعم لرئيس جديد؟ لا لرئيس مجرد صورة على الحائط!

 

قيامة البطريرك صفير

25 / 7 / 2022

كائنا من كان الذي خطط لتوقيف المطران موسى الحاج القادم بسيارته من فلسطين المحتلة محملًا بالأمانات والمساعدات المالية والأدوية الطبية، وقد يكون في الأصل تخطيطًا غير لبناني وإن تم بأيدي لبنانية، فإنه حقَّق درجة عالية من اهدافه، لكنه لم يحقق النجاح الباهر الذي توخاه.

تلك الحادثة تشبه إلى حد بعيد حادثة توقيف المطران الكاثوليكي الراحل ايلاريون كبوجي منذ عقود، لكن في الاتجاه المعاكس.

الأول ضبط الاسرائيليون سيارته محملة بالأسلحة والذخائر الى المقاومة الفلسطينية في داخل فلسطين المحتلة، والثاني ضبطت الأجهزة الأمنية سيارته على الحدود محملة، كما قيل، بالأمانات والأدوية من رعاياه المقيمين في فلسطين المحتلة الى ذويهم في لبنان، وربما لغايات أخرى.

وكان من الممكن أن تعالج هذه المسألة بصمت كما عولجت قضية المطران كبوجي سابقًا من قبل الفاتيكان.

لكن يبدو ان المخططين لتوقيف المطران الحاج توخوا إحداث ضجة صاخبة تتولد منها مشكلة داخلية معقدة ومربكة تحرف الأنظار عن الواقع الأليم المستعصي على الحل، وفي الوقت ذاته تشد العصبية المسيحية وتؤججها في مفصل حساس سياسيًا وديبلوماسيا، لغاية توجيه انفجار الغضب المسيحي، على الأرجح، باتجاه محاولة لقلب الموازين السياسية الداخلية، لعل ذلك يسهل انتخاب رئيس جديد للجمهورية من لون آخر، يكون أقرب الى المحور الأميركي - الخليجي (وضمنًا الإسرائيلي)

لكن استيلاء "القوات اللبنانية" بشعاراتها الاستفزازية على الحشد الماروني في الديمان أمس، ربما أحدث على الأرجح فعلًا عكسيًا. وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك خلال الآونة الأخيرة.

هذه المرة حدث على قراءة من نبوءة اشعيا تليت في قداس الديمان بالأمس، وفي المرة السابقة حدث خلال احتفال بكركي قبل أشهر قليلة بمئوية العلاقة بين البطريركية المارونية والمملكة العربية السعودية على قراءة من "صحيح البخاري".

ففي كلمته من شرفة مقره في الديمان، وسط صخب هتافات "القوات اللبنانية"، أعلن البطريرك الراعي أن روح سلفه الراحل البطريرك صفير قد حلت فيه لتمسح الإهانة التي قال إنها وجهت الى البطريركية المارونية واليه شخصيًا من خلال توقيف المطران الحاج على معبر الناقورة.

فإذا كان ذلك هو المرتجى، فإن السؤال الذي يتبادر الى الذهن هو: لماذا إذن أنزل البطريرك صفير عن كرسيه، "وأُطفأت فتيلته"، حسب التعبير الوارد في نبوءة أشعيا التي تليت على السامعين في قداس الديمان، وهو بكامل قواه العقلية والجسدية؟

كل اللبنانيين يعرفون انه ما كان للبطريرك الراعي أن يحل عليه الروح القدس، ليجلس على كرسي البطريرك صفير الذي حل روحه فيه الآن، لولا اطفاء فتيلته قبل الأوان.

وفوق ذلك، فإن حلول روح البطريرك صفير تعني العودة الى الوراء لا التقدم الى أمام، وهي رجعية منافية للتقدمية الفكرية والثقافية التاريخية للجسم النخبوي والطليعي بين الموارنة. وفي الوقت ذاته ينبئ بأن "إطفاء فتيلة" البطريرك الراعي قد يكون ماثلًا في أفق غير بعيد.

فكيف تحل روح البطريرك صفير ولا تحل معه "قرنة شهوان" مثلًا؟

أو بيانه الشهير عشية انتخابات عام 2009؟

او مرونته في تعاطي السياسة متأنيًا في اتخاذ المواقف الصلبة؟

أهي زلة لسان من قبل البطريرك الراعي، أم هو شعور بالضعف يستدرج الاستقواء بالحشد والتأليب وشد العصب؟ أم ماذا؟

عندما عاد ميشال عون من المنفى في السابع من أيار 2005، أعلن البطريرك صفير بالفم الملآن قائلًا: "ها قد أصبح للمسيحيين الآن زعيم"، وكأنه أراد أن يشيل الحمل عن ظهره. 

أمًا الآن وقد شارفت فتيلة عون على الانطفاء، فإن ما شاهده اللبنانيون في الديمان بدا وكأنه إعلان من البطريرك عن زعامته السياسية فوق السياسيين.

لعل الدولة في لبنان تتحول من دولة طائفية الى دولة دينية تكتمل ركائزها بانتقال رجال الدين من الصدارة المعنوية الى الزعامة السياسية!

فليجرب اللبنانيون، فماذا يخسرون؟

 

أغنياء وفقراء

23 / 7 / 2022

كل الدراسات الدولية، والتعليقات الصحافية، وأحاديث اللبنانيين بين بعضهم البعض، تشير بوضوح الى ان الذين ما زالوا مقيمين في لبنان باتوا في غالبيتهم العظمى (بين 70 و80 في المئة) تحت خط الفقر بدرجات متفاوتة تحت هذا الخط.

وهذا الوضع إذا استمر طويلًا من شأنه أن يجعل الأزمة اللبنانية ازمة وجودية ذات مضمون طبقي.

وفي حالة من هذا النوع تفقد المؤسسات الحاكمة في الدولة شرعيتها ولو كانت منتخبة قانونيًا.

وفي غياب هذه الشرعية عادة، واجتنابا لحرب أهلية غير مرغوبة، لا من المواطنين في الداخل ولا من الدول في الخارج، يقوم الناس بتدبير امور حياتهم ووجودهم بشكل جماعات، كانت تسمى في الماضي "عاميات" أو "كوميو نات"، تقوم مقام الدولة الفاشلة.

ومثل هذه التحولات في التاريخ، قبل بروز الفكر الاشتراكي في منتصف القرن التاسع عشر، او حتى قبل المسيح الذي كان اول من رسم بوضوح الخط الفاصل بين الاغنياء والفقراء، تكون باتجاه فقراء الناس ولو لم يكن قادتها من الفقراء.

وقد نشأ مثل هذا الجدل في بداية عهد الجمهورية الاميركية التي تكونت بعد حرب استقلال وطني عن التاج البريطاني قبيل الثورة الفرنسية التي اكتسبت من بدايتها صفة الصراع الطبقي.

فالآباء المؤسسون للولايات المتحدة كانوا في غالبيتهم من ملاك الارض والعبيد، ولذلك مالت توجهات السلطة الجمهورية الجديدة باتجاه اصحاب الأملاك ورجال المصارف والتجار، فانزرعت فيها من البداية بذور الحرب الاهلية.

لكن الرئيس الثالث للولايات المتحدة، توماس جيفرسون، عايش الثورة الفرنسية من بداياتها، يوم كان سفيرا لبلاده لدى البلاط الفرنسي، ولذلك التقط النفس الطبقي الغائب كليًا في الثورة الاميركية. فكان الرئيس جيفرسون أكثر المؤسسين انحيازا الى الفقراء، وهو القائل ان الله يحب الفقراء. ولما سؤل كيف عرف ذلك اجاب: "لإنه خلق منهم كثيرين"!

اما في الجمهورية الرومانية في القرن الثاني قبل الميلاد، فقد برزت المسألة عندما أقدم رئيس السلطة التنفيذية في عام 133 قبل الميلاد، تيبيريوس غايوس، على تنفيذ برنامج للإصلاح الزراعي قضى بتوزيع اراضي كبار الملاك على فقراء المدن، والفلاحين العاملين بالأجرة أو بالسخرة، وعلى قدامى المحاربين ومتقاعدي الجيش.

(كان منصب رئيس السلطة التنفيذيَّة آنذاك، بما في ذلك قيادة الجيش، يُسمَّى باللاتينية "تريبيون"، وكانت تسميه عرب ذلك الزمان "أطربون". وقد قال شاعر عربي قديم:

"وإن يكُ أطربون الروم قطَّعها

فإن لها بحمد لله منتفعا").

ولذلك تآمر عليه كبار الملاك الأغنياء (الذين يطلق عليهم باللاتينية اسم "أوبتيماتيس"، أي الطبقة العليا آو المميَّزة، ودبَّروا اغتياله. وهو ابن قنصل معروف في الجمهورية ذلك الوقت (177 ق. م) واسمه ايضا تيبيريوس غرا كوس.

وبعد عشر سنوات من تلك المحاولة وصل شقيقه الأصغر غايوس غرا كوس الى السلطة التنفيذية واعاد إحياء برنامج شقيقه قبل عشر سنوات، وقد جرى اغتياله أيضًا.

وفي هذا السياق فإن الجمهورية اللبنانية المتهاوية والمتهالكة تستوجب اعادة تأسيس من تحت الى فوق، على طريقة الأخوين غرا كوس، لمصلحة فقراء المدن، والفلاحين العاملين بالأجرة، وقدامى المحاربين ومتقاعدي الجيش والقوى الأمنية.

 

فلك نوح

22 / 7 / 2022

في القرن الماضي قسَّم الاقتصاديون الناس الى فريقين: الذين يملكون والذين لا يملكون. قلة من الاغنياء تملك كل شيء وتتزايد ثرواتها، وكثرة من الفقراء لا تملك شيئا ويزيد فقرها.

اما في القرن الحاضر فقد أصبح مالكو الملايين في عداد الفقراء بعد نشوء طبقة واسعة من اصحاب المليارات العائمين في مختلف أنواع اليخوت الماخرة بين الجزر في اعالي البحار، وذلك بفضل العولمة التي يقودها الحرامية من دول وسياسيين ومغامرين.

أصبحت تلك اليخوت التي لا وطن لها سوى البحر، اشبه بفلك نوح فيها من كل جنس اثنان: ازواج من الملاحين، والبحارة، والطباخين، والغسالين، والخدامين، والحراس، والرقاصين، والمغنين، والندامى، والمهرجين، والشعراء والصحافيين الطفيليين المتهافتين على موائد النصَّابين!

وبعد زوال الشيوعية والمنظومة الاشتراكية، اتسعت الهوة لا بين الاغنياء والفقراء فقط، بل بين الذين يملكون العالم أنفسهم. فصارت هناك فئة الذين يملكون، وفئة "الذين يملكون اليخوت" بفضل مالكي الذين يملكون، ومنهم رئيس حكومة لبنان محمد نجيب ميقاتي.

واخيراً صار اصحاب اليخوت، وكذلك يخوتهم، طبقات: طبقة صغار المليونارية ويخوتهم المتواضعة، وكبار المليونارية ويخوتهم الفارهة المزينة بلوحات فنية نادرة، وصغار الملياردارية (امثال ميقاتي) الذين تكون يخوتهم اشبه بجزر عائمة مثل جزر الكاريبي التي تحولت الى ملاذات آمنة لتبييض الاموال والتهرب من الضرائب، واخيرا طبقة كبار الملياردارية الذين تكون يخوتهم اشبه بثكنات عسكرية محصنة، فيها مهابط لطائرات الهليكوبتر، ومنصات لإطلاق الصواريخ، ورادارات، وأجهزة إنذار، وربما اجهزة دفاع جوي، ومسيرات استطلاع الكترونية وما الى ذلك. وتتزايد تلك الأنظمة الدفاعية حسب حجم الجرائم القابعة وراء تلك المليارات.

فعندما يذوب الجليد وتغرق جميع الحيوانات او تحترق، لن يبقى هناك سوى تلك المنظومة الاوليغارشية من ابناء نوح تحكم البحار حيث الماء كثير بقدر كثرة أموالهم، لكن لا نقطة منها للشرب، على قول الشاعر الانكليزي الكبير صامويل تايلور كوليريدج في قصيدته المشهورة "الملاح العتيق في جليد ضباب اليم"، حيث يقول: "ماء ... ماء في كل مكان ولا نقطة للشرب". فلا يأملنَّ أحد أن يشرب نقطة ماء من هؤلاء التائهين في البحار.

 

رقصة العميان

20 / 7 / 2022

السياسة في لبنان هذه الأيام مثل رقصة العميان. كل شيءٍ يجري فيه، وليس حصرًا على المسرح السياسي، هو "خبط عشواء."

وهذا بالمعنى الذي قصده الشاعر احمد الصافي النجفي في القصيدة التي ألقاها في دمشق عام 1936 في المهرجان الشعري بمناسبة ألفية ابي العلاء المعري، حيث قال:

طاف المعري في عكازه سحرًا

يدعو أيا خالقي هب قوميَ البصرا

إني وقومي كلانا خابطان دجى

لكنني بالعمى وسط الظلام أرى

عكازتي هي أهدى من عيونِهِمُ

كأنَّ في طرفيها الشمس والقمرا

في مهرجانك درسٌ ناصحٌ لهمُ

أن يفقأوا أعيناً لم تعطهم بصرا

وصفة النجفي الى بني قومه في ختام قصيدته هي "أن يفقأوا أعينًا لم تعطهم بصرا". ففي حكم أمراء الحرب لا فرق في البصر بين الحاكم والمحكوم. فإذا كان "القائد" أعمى فالاتباع كلهم عميان!

ومن طبيعة أمراء الحرب في لبنان، وغير لبنان، حيث تكون الحرب الاهلية حالة عضوية في صميم نسيج تكوين الشعب، أن واحدهم إذا شعر انه قد يخسر شيئا من نفوذه، او بالأحرى من سطوته، فإنه يلجأ الى تغيير قواعد، أو نوطة، رقصة العميان (على سبيل المثال لا الحصر، كما فعل وليد جنبلاط في كمين قبرشمون، أو كما فعل نبيه بري بإقفال مجلس النواب لسنوات، أو كما فعل حزب الله في السابع من ايار 2008، او كما فعل سعد الحريري سابقًا، وكما يفعل نجيب ميقاتي حاليا، بالامتناع عن تشكيل الحكومة، أو كما فعل سمير جعجع أخيرا في عين الرمانة).

لكن ذلك، أي أن يصطدم العميان بعضهم ببعض، أو أن يدوسوا على أقدام بعضهم البعض،

قد يصبح حتميًا في سياق الحرب الاهلية المستمرة بأشكال مختلفة، لأن الكثرة من "العميان" التابعين لأمراء الحرب عالقون في بؤرة لا مخرج لها، وبالتالي لا خروج منها، بل يتزايد فيها تزاحم الأقدام بتزايد الوافدين من العميان الجدد، وجلهم من الفقراء والمحرومين والسائرين على غير هدى!

أمًا أهل الحكم والسطوة، فقد زادت فيهم درجات العمى بفعل أكداس الثروات التي سطوا عليها، او هبطت عليهم من دول قريبة وبعيدة، ليفعلوا ما فعلوا، فرأوا في منام غرورهم ان جميع الناس عائمون في بحر بحبوحتهم. وهذه مدرسة في الاقتصاد السياسي تقوم على مقولة إنَّ تجمُّع الثروة في أيدي قلَّة من الأغنياء

يجعل البلد غنيًا (لكن هذه المدرسة لم تحسب ان أغنياء لبنان هرَّبوا ثرواتهم الى الخارج).

لكن قبل الحرب الاهلية لم يكن يخطر ببال أحد ان يهرب بأمواله الى الخارج، وكانت تلك المدرسة في الاقتصاد السياسي قائمة ومزدهرة، وفيها عبَّر كبير أساتذتها في ذلك الوقت، الشيخ بيار الجميل (الجد)، مؤسس حزب "الكتائب اللبنانية"، بكلمات قليلة عن فحوى القصة بقوله يومًا: "إذا الأغنياء لا ينفقون المال فكيف يعيش الفقراء"!"

أمَّا اليوم فيقولون: "إنَّ الفقراء لهم الله"!

وقد عبَّر عن هذه الحقيقة أحد قدامى الزجَّالين اللبنانيين في ستينات القرن الماضي عندما شاهد أصحاب المباني الحديثة يحفر على مدخل بنايته عبارة "الملك لله"، فأنشد يقول: "الملك لله والمصاري لجيبتو"!

 

افتراق...

17 / 7 / 2022

زاد رياض سلامة حاكم مصرف لبنان إلى مشكلة القضاء اللبناني، والى القطاع العام عموما، مشكلة جديدة بأن ميَّزه وخصَّه بزيادة من خلال سعر صرف الدولار اعتبرت من قبيل الرشوة، فأضاف إلى سلة العملات اللبنانية عملة جديدة اسمها "الدولار القضائي"."

يعرف اللبنانيون ان سلكهم القضائي ليس بخير، فهو جسمٌ معتلٌ، كما البلادُ كلُها، لكن المرض القضائي اذا استفحل يصبح عضالًا، لأنه من المفترض ان يكون زينة البلاد وتاج رأسها.

وان يسقط القضاءُ في مستنقع الحثالات، ينبئُ بأن الأمل مقطوعُ من تجفيف ذلك المستنقع قبل إعادة البناء عليه.

فالمهزلة القضائية التي رافقت، وما زالت ترافق، تحقيقات انفجار المرفأ تشذُّ حتى عن ابسط قواعد المنطق. بل عن أبسط قواعد القضاء وهي اليقين!

فلنستمع الى ما قاله القاضي الفرنسي جان- لوي بيريه الذي ترأس محكمة التمييز الفرنسية في محاكمة الارهابيين الذي قاموا بتفجيرات باريس عام 2015 وهو يخاطب هيئة المحكمة والمحلفين حول مسألة افتراق المنطق واليقين، بقوله:

"تذكروا ان القانون لا يطلب من اي من القضاة والمحلفين ان يتقدم بتعليل مفصل حول كيفية وصوله الى قناعاته. انه لا يحدد قواعد معينة عليهم بموجبها تقويم اكتمال او كفاية الدليل. لكنه يطلب منهم ان يسألوا أنفسهم بصمت وتأمل، وان يبحثوا بإخلاص وصدق ضمائرهم، عن الانطباع حول الدليل المقدم ضد المتهمين، وعن الاثر الذي تركته مطالعاتهم الدفاعية في عقولكم. إن القانون يسألهم سؤالا واحدا فقط يشمل كامل مقدار واجباتهم: هل لديك قناعة عميقة وراسخة".

هذا السؤال البسيط يجب ان يوجه الى التحقيق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت، بل الى المجلس العدلي اللبناني بكامل اعضائه، قبل الافتراق الكبير بين المنطق... واليقين!

 

 

بيروتان

16 / 7 / 2022

لم يكن اي مطلب أساسي من المطالب الكبرى في لبنان محقًا وضروريًا مثل المطالبة ببلديتين للعاصمة بيروت.

اولا، لأن ما يسمونه الآن بلدية بيروت، اي بلدية جمال عيتاني، غير موجودة عمليًا، بل غائبة عن السمع والبصر من سنوات.

وثانيًا، لأنه يأتي في سياق المسار الدستوري المفترض انه مقبول من جميع المكونات اللبنانية، وهو مسار اللامركزية الادارية. وبالتالي، فإنه قطعًا ليس حالة تقسيمية.

بلدية بيروت التي كان اسمها في الزمن الجميل "بلدية بيروت الممتازة"، لم تعد حجر الرحى في تسيير شؤون المدينة كما كانت في الماضي، بل أصبحت مسربًا كبيرًا لهدر الأموال العامة، فسقطت عنها تلقائيا صفة "الممتازة"!

وقد ظهر ذلك جليًا في كارثة تفجير المرفأ الذي دمر قسما مهما من بيروت التاريخية، وادى الى سقوط مئات القتلى والجرحى، لكن البيارتة لم يجدوا اي أثرٍ يذكر لبلديتهم التي يُفترض ان تكون المعنيَّ الأول بالأمر، بينما رأوها تتحرك بحماس منقطع النظير لإطفاء حريق في مستودع غير شرعي للوقود تحت مبنى سكني في منطقة الطريق الجديدة!

ما يجري في بلدية بيروت هو نمط مصغر لما يجري على المسرح الحكومي، من حيث محاولة تجاوز وإضعاف رئاسة الجمهورية في سياق تشكيل الحكومات الجديدة. وقد بلغ ذلك ذروته في المماطلة الكبرى التي أرساها سعد الحريري وامتدت لتسعة أشهر، فشكلت سابقة يعتمدها اليوم نجيب ميقاتي على الرغم من أنه رأى ما حلَّ بسلفه سعد الحريري الذي نطح الصخرة فأوهى قرنَهُ ... وانسحب خائباً!

ولذلك لا يمكن تفسير هذه المناطحة العبثية، التي يعرف ميقاتي أن طريقها مسدود، سوى انه تنفيذ لأجندات خارجية تتحكم برؤساء الحكومات المكلفين، المفترض بهم ان يسهروا على تسيير أمور الدولة والناس، فإذا بهم مكلفون من مشغليهم في الخارج بالتعطيل وليس بالتشكيل.

ان تعطيل بلدية بيروت هو الوجه الآخر لتعطيل الحكومة بعدما استنفد تعطيل مجلس النواب اغراضه منذ ان سمح لحكومة السنيورة بالعمل سنوات عديدة من غير اي ميزانية نظامية للدولة في خرق دستوري فاضح لم يحدث مثله في العالم الا في المملكة السعودية في أواسط ثمانينات القرن الماضي زمن الملك فهد، فتعطلت الميزانية السعودية لسنة واحدة فقط، بينما الميزانية اللبنانية تعطلت لسنوات وما زالت متعثرة في ظل مجالس نيابية كاملة الشرعية.

وإلا كيف أصبح من مواصفات رئيس الحكومة ان يملك طائرة خاصة ويختا بعيدًا عن أعين اللبنانيين في موانئ جوية وبحرية بعيدة!

ويتردد في الوسط الصحافي ان نجيب ميقاتي طلب من صاحب مطبوعة فاخرة تعنى باليخوت وأصحاب اليخوت ألا ينشر صورة يخته خشية من الألسنة اللاذعة، والحقيقة لأن يخته يضاهي يخت الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي!

 

من المسؤول؟

15 / 7 / 2022

أسوأ ما في الأزمات المصيرية، ومنها الأزمة اللبنانية الراهنة، قول القائلين بأننا جميعًا مسؤولون عمًا حل بالبلاد. فإذا كنا جميعنا مسؤولين فهذا يعني انه لا أحد مسؤول، وتكون الغاية من هذا القول تجهيل الفاعل.

وحتى لو اعتبرنا أن الاعتراف بالمسؤولية الشاملة يمكن أن يكون مدخلًا صالحًا الى تحقيق العدالة بتوزيع مسؤولية الظلم على أكبر عدد من الناس، بما يشبه القاعدة الفقهية القائلة: "الظلمُ بالسوية عدلٌ في الرعية"، فإن ذلك يبقى توصيفًا خبيثًا من حيث اعتماده كتبرير لحالة الانهيار والإفلاس الراهنة وإظهارها كأنها "عادلة" لأنها تشمل الجميع بالسوية!

والأهم من ذلك أنها تطمسُ، أو حتى تُلغي المسؤولية السياسية.

وفي هذا تقول الأستاذة الراحلة للعلوم السياسية في جامعة شيكاغو، إيرس ماريون يونغ، وهي منظرة سياسية كانت ناشطة في الحركة النسائية الاشتراكية، مع تركيز خاص على موضوع العدالة والفروقات الاجتماعية، "إن المسؤولية السياسية، خلافًا لتوجيه الملامة او تقبل عبء مسؤوليَّة إنزال الظلم بالآخرين

(أي الذين يقومون بالأعمال القذرة او يستغلون الطبقات الشعبية الكادحة)، وتقع أيضًا على اولئك الذين يشاركون في وضع الإجراءات الاجتماعية التي تسمح بوقوع الظلم. فلا يكفي ان نعترف بمشاركتنا في الظلم، بل علينا ان نغير تلك الإجراءات الظالمة".

فمن يغير ماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ والى اي مدى؟ كلها اسئلة حائرة تحور وتدور وترجع الى مقولة المتنبي: "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم".

او كما تقول العامة في لبنان: "يا طالب الدبس من قفا النمس"!

 

كليبتوقراطية

14 / 7 / 2022

"كليبتوقراطية" كلمة يونانية الاصل في اللغة الإغريقية القديمة وتعني نظام حكم يقوده الحرامية. والحالة اللبنانية السائدة خلال الفترة الممتدة من بداية الحرب الاهلية الى اليوم، وأدت الى إفلاس الدولة والمجتمع، ينطبق عليها هذا التوصيف لكنها ليست فريدة من نوعها.

ويمكن بالملاحظة التاريخية تقسيم الانظمة الكليبتوقراطية في العالم الى ثلاث طبقات: الكليبتوقراطية العليا، والكليبتوقراطية الوسطى، والكليبتوقراطية الدنيا.

الطبقة العليا تضم الدول العدوانية التي تستولي على اوطان الاخرين وتبيدهم او تطردهم لتضع يدها على أرضهم وخيراتهم. ويأتي في رأس هذه الفئة في العصور الحديثة الولايات المتحدة الأميركية وربيبها الكيان الصهيوني في فلسطين المغتصبة.

في اميركا الشمالية والجنوبية ايضا قام المغامرون والفاتحون الأوروبيون باحتلال القارة الاميركية وأبادوا شعوبها الأصلية ودمَّروا حضاراتها التي ما زالت مطموسة الى اليوم.

أمًا في فلسطين فالقصة أكثر تعقيدًا لإنها في مكان قريب من اوروبا وفي وسط العالم القديم وليست مجهولة كالقارة الاميركية التي اكتشفها الأوروبيون بالصدفة. وفوق ذلك لديها تجربة مقاومة تاريخية مع المستعمرين الاوروبيين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "الصليبيين" لأنهم جاءوا تحت راية الصليب بحجة حماية الأماكن المقدسة، واطلق عليهم العرب اسم "الفرنجة" لتأكيد هويتهم الاستعمارية ونزع ذريعتهم الدينية.

ولذلك فإن المقاومة الفلسطينية للمستعمرين الاوروبيين الجدد الذين قدموا من انحاء العالم تحت راية اليهودية، استطاعت منذ بداية القرن العشرين ان تنزع عنهم الذريعة الدينية وتظهرهم بأنهم حرامية متنكرون بنجمة داوود كما تنكر اسلافهم في القرون الوسطى بشعار صليب المسيح!

أمًا الطبقة الوسطى من الكليبتوقراطية فتضم انظمة الحكم الرأسمالية القائمة أصلًا على السلب والنهب، وهي في غالبيتها تعمل لحساب الدول الرأسمالية الكبرى التي تحميها وترهن المنهوبات لديها، لتضمن استمرار الحكم الكليبتوقراطي الذي تحميه برعاية مصالح الكليبتوقراطية العليا. ولبنان يدخل في هذه الخانة، لكن عجز النظام الكليبتوقراطي اللبناني عن إزالة المقاومة اضطرهم الى تفليسه وتجويع شعبه وحرمانه من حقوقه الطبيعية، وهذه معركة أكبر من لبنان والشرق الأوسط حتى. انها معركة عالمية، نقطة ضعفها أنها ليست لها حتى الآن مضامين ايديولوجية، كما كأن الحال في زمن الشيوعية.

اما الطبقة الدنيا من الكليبتوقراطية فتشمل عموم المواطنين الذين يسرقون من بعضهم البعض ويسرقون من الدولة ويستولون على املاكها حيث تمكنوا من ذلك.

وقد أطلق الاغريق القدماء على حالات السرقة من هذا النوع اسم "كليبتومانيا"، اي التطبع على السرقة، حتى لو لم يكن السارق بحاجة الى ذلك، فتصبح السرقة طبعًا، بمعنى انه يصبح امراً عاديًا وكأنه شيء طبيعي.

وهذا الواقع السائد اليوم في معظم انحاء العالم، اعتبره المفكرون الاشتراكيون الاوائل بانه من صميم الرأسمالية التي اعتبروها "أم الكليبتوقراطية". بل ان المفكر الاشتراكي الفرنسي بيار-جوزيف برودون (1809 - 1865) اعتبر ان كل ملكية خاصة هي حالة جرمية لان أصلها قائم على الجريمة منذ ان قتل قايين شقيقه هابيل (كما في الأسطورة التوراتيَّة) ليستولي على قطيع غنمه.

وقد تأثر كثيرون من المفكرين الاشتراكيين الاوائل امثال كارل ماركس، وميخائيل بكونين ، وجورج سوريل، وجوزيف ديجاك، وكيفين كارسون، وسيلفيو جيسيل، وغيرهم بأفكار برودون الذي كان اول من اطلق على نفسه صفة "الانارشية" التي يترجمونها خطأً الى العربية بكلمة "فوضوية".

اما أنا فأقترح لها كلمة "مشاعية"، لإن برودون قصد ان جميع خيرات الارض والطبيعة وما ينتجه ويبتكره البشر يجب ان يستمتع به جميع بني البشر بالسواسية بدون اي تمييز.

لكن ما العمل والعدوانية البشرية معنا منذ الخليقة ممثلة بالقصة التوراتية للجريمة الأولى التي ارتكبها قايين بحق أخيه هابيل!

 

الحرب المستدامة

13 / 7 / 2022

ليست هناك حروب دائمة بين الدول حتى بطرق اخرى. لكن مجموع الحروب الصغرى يشكل على مدى زمني طويل حالة حرب تضاهي في نتائجها حربا عالمية.

فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، خاضت بعد الحرب العالمية الثانية عشرات الحروب الموضعية من الشرق الاقصى الى الشرق الاوسط، ومن البلقان الى افريقيا واميركا الجنوبية، ناهيك بحروب الوكالة.

وعلى قساوة تلك الحروب، تبقى الحروب الاهلية هي الأقسى والأصعب، وهي ايضا عالمية بوجهين: الوجه الأول يتمثل بتدخل دول وقوى خارجية فيها، إنْ بتأجيجها او بتمويلها، والوجه الثاني انها شملت دولًا عديدة حول العالم، كبيرها وصغيرها، من الولايات المتحدة (1861 - 1865) وروسيا (1918 – 1922)، واسبانيا (1936 – 1939) الى لبنان وراوندا وغيرهما كثير.

لكن معظم تلك الحروب الاهلية المدمرة حدث لمرة واحدة فقط، إلا في الحالة اللبنانية حيث الحرب الاهلية مستمرة من اربعينات القرن التاسع عشر الى اليوم، وما زالت تطلُّ برأسها كل يوم.

راوندا اليوم من أنجح الدول الأفريقية، وقد حظرت بشدة أي إشارة الى الانتماء القبلي او العرقي من أي كان تحت طائلة عقوبات قاسية. فقط الانتماء الوطني لا غير.

اما الحالة اللبنانية فهي فريدة من نوعها لكونها حرباً مستدامة بغير حل نهائي. ذلك ان التسويات التي تتم بعد كل جولة من هذه الحرب (وهي تسويات مدفوعة من الخارج) ممنوع عليها ان تكون جذرية ونهائية، مرة وإلى الأبد.

ففي كل تسوية من تلك التسويات الخبيثة، يؤول الحكم والسلطة الى قادة الحرب الاهلية أنفسهم، ويؤول النفوذ الفعلي الى القوى الخارجية الداعمة لهم.

فالشيء الذي يسميه بعض اللبنانيين "المنظومة" الحاكمة، دائمة ومستمرة في الحكم حتى على أنقاض دولة مفلسة، لأن الحرب الاهلية هي الحالة الدائمة والمستدامة، ومن المتعذر ان ينتصر فيها فريق وينتهي الامر كما حدث في الحرب الاهلية الاسبانية مثلاً.

صحيح ان لبنان فريد من نوعه!

 

 

"شجرة الدردار"

12 / 7 / 2022

إذا كان الانكليز قد ابتكروا تعبير "الجغرافيا النفسانية" لتبرير انفصامهم، فإن الفرنسيين في صراعهم القديم مع بريطانيا، ومع بعضهم البعض، منذ حرب المئة سنة بينهما (1337 - 1453)، ابتكروا تعبير "التاريخ النفساني".

ويقال إن اول دليل جغرافي داخلي لطرقات فرنسا وضعه المدعو شارل اتيان في عام 1557، وقد اشار الى وجود شجرة دردار ضخمة تقف في نقطة الوسط تماما داخل فرنسا عند منابع ستة أنهر فيه.  

ويقال أيضا إن تلك الشجرة المزعومة شكلت نقطة التلاقي، ونقطة الافتراق، بين المقاطعات الفرنسية في العهود الاقطاعية!

ولا أحد يعرف متى زالت تلك الشجرة. لكن في عام 1667، اي بعد مئة عام على صدور دليل اتيان، اقام الفرنسيون في عين المكان خط الوسط لقياس الوقت ولأغراض الملاحة لمنافسة خط الوسط الانكليزي للأغراض ذاتها في غرينيتش.

وبعد مئتي سنة تقريبا، في عام 1884، انعقد في العاصمة الأميركية واشنطن مؤتمر دولي بخصوص اعتماد خط وسط عالمي موحَّد، فقرر المؤتمر المذكور اعتماد خط غرينيتش الانكليزي. ومع ذلك ظل الفرنسيون متمسكين بخطهم حتى عشية الحرب العالمية الاولى عام 1914!

ولكي يتم تجليس الخريطة الفرنسية قام واضعو الخرائط الفرنسيون بنقل موقع شجرة الدردار المزعومة 24 كيلومترًا الى الشرق في عملية تحريف غايتها، في رأي بعض المؤرخين، "تطويع" الجغرافيا لتتوافق مع التاريخ النفساني للفرنسيين في تلك الحقبة، كما يفعلون اليوم في تغيير حدود الدوائر الانتخابية لأغراض سياسية.

وقس على ذلك!

 

خرائط ومرابط

11 / 7 / 2022

ليس لبنان وحده في هذا العالم من يعيش على وهم أن التاريخ شيء والجغرافيا شيء آخر. اي ان تكون جذور وجوده المادي في مكان وانتماؤه الفكري والثقافي في مكان آخر.

هذه هي حالة بريطانيا اليوم، وهي حالة متكررة منذ الاحتلال الروماني في القرن الاول الميلادي. ومنذ حركة الاصلاح الديني والانفصام عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر بعد نشوء البروتستانتية، إلى اليوم بعد قيام الاتحاد الأوروبي..

ان يكون الوجود المادي في مكان ممثلًا بالخرائط الجغرافية، وان تكون المرابط الفكرية والثقافية في مكان آخر، امر ليس جديدًا لكنه لم يكن شائعاً في الماضي كما هو اليوم بفعل تطور وسائل الاتصالات وقرب المسافات مع تقدم وسائل المواصلات.

لكن هذه الحالة تبقى مشوبة بالشذوذ، وقد شخصها المؤرخ البريطاني وليام كامدن في كتابه الصادر عام 1568 بعنوان "بريطانيا"، فوصفها بأنها "الجغرافيا النفسانية" واعتبرها بأنها "نوع جديد من العلم".

ومن اسباب الأزمة السياسية الراهنة في بريطانيا اليوم هذه الجغرافيا النفسانية التي بلغت مداها في خروجها من الإتحاد الأوروبي، وقد اعتبرها مناصرو البقاء في الاتحاد بأنها "قامت على أكذوبة كبرى".

قد يكون الانفصام بين الخرائط والمرابط حالة شاذة ومخالفة للطبيعة، لكنها حالة قائمة ومعاندة، ولو كانت أثمانها باهظة.

في المسألة الدستورية

19 / 1 / 2023

يتصرف السياسيون اللبنانيون منذ اتفاق الطائف تصرفات "دستورية" غريبة أو شاذة، فكأن الدستور وُجِدَ ليُخرق، أو هو لزوم ما لا يلزم. وفي الوقت الذي يجري فيه خرق الدستور وتجاهله أو تجاوزه، تجِدُهم يكثرون من الحديث عن الميثاق الوطني و"الميثاقية" وكأنه حالة منفصلة عن الدستور. لكن في جميع الدول الدستورية أو الديموقراطية، أو حتى شبه الديموقراطية، لا شيء يعلو فوق الدستور. أنت تستطيع أن تعدِّل الدستور لكنك لا تستطيع خرقَه أو تجاوزَه. فقد كان الرئيس الراحل فؤاد شهاب يصف الدستور بأنه "الكتاب"، فيسأل عند كل عقدة سياسية: "ماذا يقول الكتاب؟" ما يُضفي عليه هالة أو مسحة من القدسية. فكيف تستقيم الدولُ والأوطانُ من غير هذا الكتاب الموقَّر؟ ففي هذه المسألة لا تستطيع شطارة المتلاعبين ومناوراتهم السخيفة، مهما تمادت، أن تصمد أمام آراء أهل العلم الدستوري، وأمام رأي عام مستنير، لأن الشطارة والألعبانية حبلهما قصير كالكذب الذي هو من أركان الشطارة والفهلوية، وهما في اعتبار بعض اللبنانيين من قبيل الذكاء أو المهارة والحنكة.
يقول المُعلِّم الدستوري الراحل إدمون ربَّاط: "الميثاق وُجِد كوظيفة في خدمة الهدف الدستوري، وعليه أن يؤَدِّي الى الاندماج الوطني الذي يمتص الخصوصيَّات الدينية، والمناطقية، ويُغذِّي الحس الوطني، المندفع الى قيام الدولة -الأُمَّة". وأي مقارنة بين هذا التوصيف وبين ما يجري فعليَّاً على أرض الواقع، يظهر جليَّاً أن لبنان في حالته الراهنة، ومنذ عقود الوصاية، ليس دولة دستورية حتى في الشكل. بل يسير في عكس المسار الذي وصفه إدمون ربَّاط، سواء بوضع الميثاق فوق الدستور، أو تطويع الدستور ليكون في خدمة خادمه، والأمثلة كثيرة على ذلك ليس أقلها التمديد المتمادي للهيئة التشريعية وللهيئة التنفيذية، أو تسيير الدولة من دون ميزانية لسنوات عديدة، وإصدار ميزانيات بعد فوات مواعيدها الدستورية بأشهر ومن غير "قطع حساب" حسب الأصول القانونية. ووضع الميثاق فوق الدستور لا تفسير له غير الإصرار على التمسك بنظام الحصص الطائفية، وعلى رفض مبدأ الاندماج الوطني، وتبليد الحس الوطني لا تغذيته، وبالتالي منع قيام ما أسماه الأستاذ ربَّاط "الدولة – الأمَّة". وهذا التوجُّه معروفٌ وموصوفٌ، لأنه ليس هناك حتى الآن، ولم يكُنْ يوماً، مقاومة جَدِّيَّة للطائفية. وحتى في الإطار الطائفي، هناك تجاهل تام للأسباب الحقيقية لأزمة النظام الطائفي وأهمُّها الإخلال بالشراكة الوطنية. ولذلك أدَّى هذا التجاهل الى عدم الاكتراث حتى بتحسين النظام الطائفي نفسه لتكون له مقبولية أفضل في ذهن أتباعه على الأقل، ما جعل القائمين على السلطة الطائفية يستسهلون التلفيق والترقيع، كما شاهد العالم كله ما جرى وما يجري في مواضيع أساسية مثل مشكلة النفايات، ومشكلة الكهرباء، ومشكلة تلوث المياه والبيئة الطبيعية، والمشكلة الصحية بما فيها الطبابة والاستشفاء والأدوية، وأخيراً وليس آخراً المشكلة النقدية والمصرفية. فلولا النظام الطائفي لما كانت هناك في الأصل حاجة الى ما يُسَمَّى "الميثاق الوطني"، لكن يبدو أنَّ ذلك كان فعلاً متعمداً لطمس الفكرة الوطنية من خلال مفهوم "الوحدة الوطنية". وقد بدأ بعض اللبنانيين يُدركون الآن أن أيَّ مفهوم آخر لا يمكن أن يكون بديلاً عن الوطنية القائمة على اعتبار اللبنانيين شعباً واحداً، وهم حتى الآن ليسوا كذلك بفعل النظام الطائفي. كل المفكرين الوطنيين الكبار في العالم اعتبروا أنه لا بديل عن الوطنية غير الزوال. فالذين يتلاعبون اليوم بالمفاهيم الدستورية والوطنية، إنما يأخذون الوطن (ولو انه حتى الآن وطن افتراضي) الى طريق الزوال، يعلمون أو لا يعلمون، ولن تنفع أحداً من المواطنين عمليات الترقيع والتلفيق والفهلوية التي تُمارس عليهم اليوم باسمهم، كما يدَّعي المتبجحون بأنهم يفعلون ما يفعلون لانتشال الناس من المستنقع الذي هم أغرقوهم فيه. المتلاعبون بالمفاهيم الدستورية في لبنان لن يغيِّروا سلوكهم لأنهم يظنُّون أن التاريخ انتهت صلاحيته بوجودهم المؤبَّد في السلطة الطائفية. ولذلك تجدهم عند كل أزمة يكررون أخطاءهم، بل يعملون المستحيل لإعادة إنتاج سلطتهم وليس لديهم من حل غير تكرار ما اعتادوا عليه. إن توالد الأزمات أمرٌ حتمي، لأن أي معالجة بالتلفيق والترقيع كما نشاهد اليوم هو تأسيسٌ أو مدخلٌ لأزمة جديدة أخطر من سابقتها ... وهكذا دواليك!

في الديموقراطية التوافقية

23 / 1 / 2023

يكثر الحديث في الأوساط السياسية اللبنانية، خصوصاً في الأزمات المستعصية أو شبه المستعصية، عن شيء يسمُّونه "الديموقراطية التوافقية"، وهو تعبير أو مفهوم يحمل في كلمتيه تناقضاً جوهرياً. وكل ازدواجية، أو ثنائية، متناقضة من هذا النوع لا تكون في الواقع العملي لا بهذا المعنى ولا بذاك. أي إن المصطلح المتناقض، مثل "الديموقراطية التوافقية"، لا يصحُّ فيه وصف "الديموقراطية" ولا وصف "التوافقية"، بل هو خزعبلة ملفَّقة. فإذا كان المطلوب هو تلفيق التفاهم بين قوى سياسية لا يجمعَها جامعٌ، ولا يمنعَها مانعٌ، فإن ذلك، إن حدث، فإنه يعني أحد أمرين: إما أنه ممارسة غير ديموقراطية بالتفاهم غير المعلن بين الأضداد على اقتسام المنافع بين الأفرقاء المتضادين، أو أن الأوصياء الخارجيين على القوى الداخلية قد تفاهمت على تسويات فيما بينها لا علاقة لها لا بمصالح اللبنانيين ولا بالديموقراطية. وبهذا المعنى كتب جورج خضر، مطران جبل لبنان السابق للروم الأرثوذكس يقول: " الديموقراطية التوافقية، هاتان كلمتان متنافرتان في علم الدستور. فالديموقراطية قائمة على الاختلاف، والخلاف، والتنافس، الذي ينتهي الى قرارٍ يُذعن له مجلسُ النوَّاب، لأنَّ المجلسَ يؤلفُه القانون، ولا تؤلفُه اللُّحمة المرادفة للتوافق" (المطران جورج خضر، جريدة "النهار"، 8 كانون الثاني 2008). فالاختلاف في الجسم السياسي والشعبي هو من السمات المُميِّزة للممارسة الديموقراطية التي يحسمها التصويت على الخيارات. وهو الشيء الصحي، في المجتمعات الديموقراطية، لأنَّه يقوم على النقاش الحر والنشط الذي بدوره يحسِّن المجتمع من خلال توضيح القضايا التي تؤَمِّن مصالح الناس، خلافاً للتوافق الملفَّق الذي يؤَمِّن مصالح السياسيين على حساب الناس. فالمسلك السياسي الطليق، لكونه قائماً على حرية التعبير والنقاش، من شأنه أن يُعزِّزَ حرية المجتمع ويكملها. ومن دون حرية النقاش والنقد فإن الأكثريات المتجانسة في تفكيرها السلطوي تُصبح أقلَّ تسامحاً وتقبُّلاً للنقد، فتنحدر الديموقراطية باتجاه حكم الاستبداد. وهذا ما يجعل مقاومة الناس للأنماط الاجتماعية السائدة واجباً بحد ذاته (المفكر البريطاني في القرن التاسع عشر، جون ستيوارت ميل، من كتابه "في الحرية"). أما التحالفات بين القوى السياسية، فإنها تقوم بطبيعة الحال على القواسم والمبادئ المشتركة، ولا تكون ظرفية إلاَّ في حالة كون أسس التحالف أو الائتلاف غير واضحة وغير خاضعة للنقاش الحر، ليس فقط بين المتحالفين، بل أيضاً بين القوى المعارضة لهذا التحالف وبين الناس أجمعين، بالوسائل المتاحة للتعبير. فالجدب الفكري السائد حالياً في لبنان، ومن أبرز سماته المناداة بالديموقراطية التوافقية، نشأ وامتدَّ بفعل سلطة أو تسلُّط ميليشيات الحرب الأهلية على الدولة ومؤسَّساتها في الحرب وفي السلم أيضاً. ولذلك لم تعد الأحزاب اللبنانية بحكم مشاركتها في الحرب، وبعدها في اغتصاب السلطة بمساندة وصايات خارجية، أحزاباً مفكِّرة كما كانت الأحزاب القديمة المولِّدة للأفكار، فحيث تكون الهيمنة للسلاح، كما في الحرب الأهلية، أو في أي حرب، لا يعود هناك مكانٌ أو متَّسعٌ للأفكار الحرَّة، فيسود التسلُّط سواء باسم "القضية"، أو باسم "الأمن القومي"، أو أي اسم آخر من هذا القبيل. ذلك أنَّ من طبيعة الاحتكام الى السلاح أن تكون القوة المجرَّدة أو الغاشمة هي أداة الحسم، فتُلغي الأفكار والإنسان المفكِّر أيضاً. إن ما هو قائم في لبنان اليوم، وربما منذ تأسيسه في دولة لبنان الكبير، هو تنافر السلبيات، ومنها في المقام الأول تنافر السلبيات المسلَّحة. وقد عبَّر عن هذا الواقع السلبي في ثلاثينات القرن العشرين الصحافي اللامع جورج نقاش بقوله (باللغة الفرنسية التي كان يكتب فيها): "سلبيتان لا تصنعان أمَّة". ولهذا لم تنجح أي صيغة حتى الآن في جعل الاختلاف وحدة في الوطن، لا وحدة وطنية كما هو دارجٌ في أدبيات التلفيق. كلُّ ذلك جعل الشعب اللبناني خاسراً برمَّته، ليس فقط بما هو متداول اليوم من خسارته لودائعه ومدخراته في المصارف، بل بوضعه في الجانب الخاسر من التاريخ، بمعنى خسارة مستقبل أجياله في الوطن، وبالتالي حرمانه من مزايا التقدُّم والإبداع والإشعاع، حيث قابلياته التاريخية. إن إعادة تركيب الوضع اللبناني هي الآن بين مسارين: الاستمرار في التركيبة القائمة على الوصاية الدائمة، وهي التركيبة من فوق الى تحت، وهي تركيبة هدَّامة وفاشلة، كما أثبتت التجارب السابقة والراهنة، أو إعادة بناء الهيكل السياسي والفكري من تحت الى فوق في نظام سياسي بنَّاء بعيداً عن الفذلكات الملفَّقة، من أجل تحقيق "الوحدة في الوطن"، وليس "الوحدة الوطنية" بين المكونات الطائفية التي تتقاسم السلطة على حساب المواطنين باسم "الميثاقية" أو "الديموقراطية التوافقية"، وما الى ذلك من تلفيقات ممجوجة.

العدالة الافتراضية

26 / 1 / 2023

سقطَ القضاءُ اللبناني في الأيام الأخيرة في حالة غير مفهومة من الانفصام القانوني، ما يسمح بالقول إنها "حرب أهلية بين القضاة". ومع أن مثل هذه الحالة غريبة ومستهجنة، لكنها في بلد مثل لبنان حيث الدولة ومؤسساتها واقتصادها، والكيان السياسي والاجتماعي العام، في وضع من الفشل والشلل والانحلال، تبدو وكأنها "طبيعية". ففي الوضع اللبناني المتدهور منذ سنوات: كلُّ ما هو غير طبيعي (بالمفهوم الحضاري) يبدو طبيعياً. فالحربُ الأهليةُ القائمةُ بين القضاة على مسرح قصر العدل، بعد إضراب القضاة لأشهر طويلة، ما هي إلاَّ انعكاسٌ للحرب الأهلية السياسية، والحرب الأهلية الاقتصادية. فمن هذه الناحية هي ليست غريبة أو مستهجنة. فلو كان تحقيق العدالة هو التوجُّه الأساس للقضاة المتحاربين، لكان عليهم البتُّ في قضية انفجار المرفأ، وفي غيرها من القضايا النائمة في الأدراج منذ سنين عديدة، وخصوصاً البت في مصائر عشرات الموقوفين في السجون من غير أن ينظر في أمرهم أحد، خلال وقت معقول وليس على أساس "الوقت المفتوح" الى حين وقوع كارثة ما. لكن ما يثير الدهشة والقلق لدى اللبنانيين عموماً، ظالمين ومظلومين، أنَّ العدل اللبناني بات انتقائيَّاً أو استنسابيَّاً، حسب مؤثرات من خارجه. وهو ما سمح لوزير داخلية سابق أنْ يعلنَ على الهواء مباشرة، وعلى مسمع العالم كله أنَّ أكثر من تسعين في المئة من القضاة في لبنان فاسدون. وحتى هذا التصريح مرَّ وكأنَّه لا يعني أحداً، وقد عالج هذا الموضوع في القرن الخامس قبل الميلاد المؤرخ والمفكر الإغريقي ثوكوديدس في كتابه العظيم عن الحرب الأهلية بين أثينا واسبارطة ("حرب البيلوبونيز")، الذي قال في مقدمته إنه كتبه لجميع الأزمنة، بما فيه زماننا الحاضر بعد أكثر من ألفي سنة، وتحت عنوان "الطبيعة البشرية والسلطة والعدالة"، حيث قال إنَّ الطبيعة البشرية يمكن أن تنحدر الى "الفوضى العامة" عندما تصاب المؤسَّساتُ العامَّةُ بالفشل (في أوضاع من الحرب الأهلية وانتشار الأوبئة القاتلة للناس بصورة جماعية) . السيناريو الأول عندما تكون الدولة في أوج عظمتها، فتحقق الطبيعة البشرية، مع السلطة تحت ضوابط العدالة، إنجازات خارقة، والسيناريو النقيض أن ذلك يمكن بلحظة أن ينقلب الى أفعال جرمية شنيعة عندما تتهاوى مقومات المجتمع وتنحدر الى الفوضى. فعندما تنهار عظمة الدولة تنحلُّ أخلاقيات المجتمع، وتختفي القوانين والأنظمة، وتتوارى العدالة. وبالتالي تنحلُّ الديموقراطية، وتنشأ الفوضى، وتختفي الفضائل، ويسود حكم الرعاع، وتتشكل الجماعات أو العصابات العصيَّة. وعندما تسودُ عقليَّةُ الرعاع تسقط الفضائل المكتسبة من حالات التميُّز والتألُّق السابقة، فكأنها لم تكن. فالعدالة في لبنان الآن تبدو مهلهلة الى درجة تبدو معها أوضاعها أيام القاضي عدنان عضُّوم في مرحلة الوصاية السورية مشهداً لائقاً. ومن أوضح الأدلة على ذلك مسألة الموقوفين في سجن رومية لسنوات طويلة من غير محاكمة. وبعد أخذ ورد، ومداولات عقيمة، قرَّر القائمون على العدلية بناء قاعة للمحكمة داخل أسوار السجن (لئلا يهرب السجناء عند نقلهم الى محاكم خارج السجن) كلَّفت خزينة الدولة عدَّة ملايين من الدولارات، والى اليوم بعد أكثر من عشر سنوات لم تُدشَّنْ تلك القاعة بأي محاكمة علنية. ولذلك يمكن الجزم بدرجة عالية من اليقين بأن العدالة الانتقائية أو الاستنسابية لا تنطبق عليها مواصفات العدالة لبلد يزعم أنه تحت نظام ديموقراطي برلماني، حيث مفتاح البرلمان في جيب رئيسه المزمن يفتحه متى شاء ويغلقه متى شاء. فلا عجب، والحالة هذه، أن يُغلق المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت ملف تحقيقاته أكثر من سنة، ليعود ويفتح هذا الملف بما يُشبه العاصفة الهوجاء التي أطاحت هيبة القضاء، ومعها مستقبل العدالة في لبنان. وبالتالي لم يعد ممكناً لأي مواطن أن يحصل على حقه الطبيعي أمام أي محكمة. وهذا يعني أن مبدأ فصل السلطات في لبنان هو كلام وهمي، طالما أن الأقوياء من السياسيين (أي الذين يستندون الى ميلشيات أو قوى مسلَّحة خارج إطار القوى الأمنية النظامية)، يستطيعون أن يتحكموا بملفات القضاء، كما يتحكمون بملفات التشريع في البرلمان، وكما يتحكمون بعمل الإدارة العامة، بالإضافة الى مختلف أنواع التزوير والتبرير المخالفة أخلاقياً للانتظام العام. طبعاً، لا يمكن للبنانيين أن يجنوا من الشوك عنباً، لأن السلطة الميليشياوية المافيوزية لا تستطيع، ولا تريد، إقامة قضاءٍ مستقلٍّ وعادل، لأَنَّ ذلك يعطِّل مصالحها غير المشروعة. فالنظام الفاسد، بطبيعته، منافٍ لمبدأ القضاء النزيه، أو الإدارة النظيفة.
فالقضاء اللبناني يعمل اليوم (أو هو معطَّل عن العمل) خارج إطار العدالة، ولذلك يبدو ظالماً في وجه من أوجهه، كما حدث بالنسبة الى الموقوفين تعسُّفاً في قضية انفجار المرفأ، أو كما حدث بالنسبة الى موقوفين كثيرين حسب رغبات الميليشيات السياسية. ومن هذه الناحية فهو قضاء غير سوي، وإن كان في عداده قضاةٌ فوق الشبهات. ولذلك فإن مفهوم العدالة في لبنان حالياً هو مفهوم افتراضي، طالما أنه عاجز عن تحقيق العدالة للجميع كأفراد، وللجميع كمجتمع. فهو يحمي مصالح حقيقية غير شرعية للمتنفذين، لأنه عاجز عن الوقوف في وجههم. فالاستقواء على الضعفاء ليس عدالة.